شرح أبيات سيبويه - ج ١

أبي محمّد يوسف بن أبي سعيد السيرافي

شرح أبيات سيبويه - ج ١

المؤلف:

أبي محمّد يوسف بن أبي سعيد السيرافي


المحقق: الدكتور محمّد علي سلطاني
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار العصماء
الطبعة: ١
الصفحات: ٦١٠
الجزء ١ الجزء ٢

الشاهد (١) أنه جعل (مثلك) ـ وهو مضاف إلى معرفة ـ في معنى نكرة مفردة ، وجعله بمنزلة المضاف الذي فيه معنى الانفصال فأدخل عليه (رب).

والغريرة : التي هي في غرّة من العيش ، لم تلق بؤسا ولا شدة في عيشها ، قد متعتها بطلاق : جعلت تمتيعي لها الطلاق لأني لم أرض خلقها وطريقتها ، فلم أصبر على قبح فعلها وإن كانت حسنة الوجه.

[في تعدد وجوه الإعراب]

٢٩٣ ـ قال سيبويه (١ / ٢١٥) : «ومثل ما يجيء في هذا الباب : على الابتداء ، وعلى الصفة ، وعلى البدل ، قوله عز وجل : (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا ، فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ (٢). يريد أنه يرفع على ابتداء محذوف ، كأن التقدير : إحداهما فئة تقاتل في سبيل الله ، وفئة أخرى كافرة. والجملة وصف ل (فئتين).

ثم قال : (١ / ٢١٥) : «ومن الناس من يجرّ». يريد أنه يجر (فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة) قال : «والجر على وجهين : على الصفة ، وعلى البدل». يريد أن (فئة) بدل من (فئتين) والصفة جائزة كما تقول : مررت برجلين قاعد وقائم. وإنما جعل (فئة) صفة ل (فئتين) لأن (فئة) موصوفة ، فكان

__________________

هذا البيت ثقفي ، لكنه ليس بأبي محجن ، إنما هو غيلان بن سلمة الثقفي. وهما بيتان ، والثاني :

لم تدر ما تحت الضّلوع وغرّها

مني تجمّل عشرتي وخلاقي».

(فرحة الأديب ٤٩ / أ)

(١) ورد الشاهد في : سيبويه أيضا ١ / ٣٥٠ والنحاس ٥٦ / أوالأعلم ١ / ٢١٢ و ٣٥٠ وشرح ملحة الإعراب ص ٥ و ٢٥ والكوفي ١٣٦ / أو ٢٠١ / ب.

(٢) سورة آل عمران ٣ / ١٣

٥٤١

اعتماد الصفة في (فئتين) على صفة (فئة). كما تقول : مررت برجلين : رجل صادق ورجل كاذب.

وقال كثيّر (١) عزة :

فليت قلوصي عند عزّة قيّدت

بحبل ضعيف غرّ منها فضلّت

وغودر في الحيّ المقيمين رحلها

وكان لها باغ سواي فبلّت

(وكنت كذي رجلين : رجل صحيحة

ورجل رمى فيها الزمان فشلّت) (٢)

يقول : ليت قلوصي التي رحلت عليها إلى عزة ـ لما نزلت عندها ، وشددت قلوصي بحبل قيدتها به ـ كان الحبل الذي شددتها به ضعيفا ، حتى ينقطع وتذهب وتضلّ ، فلا يكون لي ما أركبه وأعود عليه إلى أهلي ، فأبقي مقيما عند عزة ، أستمتع بها وبحديثها.

وغرّ منها : يريد غرّ الحبل صاحبه من القلوص ، توهم أن الحبل جديد لا ينقطع ، فغفل عن القلوص فقطعته وذهبت. وغودر : ترك في الحي المقيمين رحلها وكان للناقة باغ يطلبها سوى كثيّر ، فبلّت (٣) ذهبت لا توجد. وكنت كذي

__________________

(١) كثيّر بن عبد الرحمن الخزاعي ، أبو صخر ، حجازي غزل من شعراء الدولة الأموية (ت ١٠٥ ه‍) ترجمته في : الشعر والشعراء ١ / ٥٠٣ والأغاني ٩ / ٣ وثمار القلوب ٤٦٤ وسرح العيون ٣٦٠ وشرح شواهد المغني للسيوطي ٦٤ والخزانة ٢ / ٣٨١

(٢) روى صاحب الأغاني ٩ / ٣٠ قصيدة كثير وليس فيها البيت الثالث. وجاء في عجز الأول (بان) بدل غرّ. وفي صدر الثاني (وأصبح في القوم المقيمين ..) كما أوردها الكوفي في شرحه ٢٠١ / ب وهي في الخزانة ٢ / ٣٨٠ من قصيدة طويلة. وروي الأول والثاني لكثير في : اللسان (بلل) ١٣ / ٧١ والثالث بلا نسبة في المخصص ١٧ / ١٨٩

(٣) بلت المطية على وجهها إذا ذهبت ضالّة. انظر اللسان (بلل) ١٣ / ٧١

ـ وقد ورد الشاهد في : النحاس ٥٦ / ب والأعلم ١ / ٢١٥ وشرح الأبيات المشكلة ١٥٣

٥٤٢

رجلين : إحداهما قد شلّت ، فلا يمكنني أن أبرح من عند عزة ، لأن قلوصي قد ذهبت ، ورجلي قد شلّت ، فلا يمكنني العود راكبا ولا راجلا.

تمنّى أن رجله قد شلّت لما حصل عندها ، وأن قلوصه ضلت ، حتى تكون / إقامته عندها بحجة.

وقوله : رمى فيها الزمان : أي أصابها ببلية.

[في إلغاء شبه الجملة]

٢٩٤ ـ قال سيبويه (١ / ٢٦٢) : «ومما جاء في الشعر أيضا مرفوعا» يريد ما جاء مثل (في أنيابها السم ناقع) (وعندي البرّ مكنوز) (١) يريد في جعل الصفة خبرا وإلغاء الظرف ـ قول ابن مقبل :

(لا سافر النّيّ مدخول ولا هبج

عاري العظام عليه الودع منظوم)

الني : الشحم ، والمدخول : الذي قد دخله سقم ، والمهبّج (٢) المورّم ، وسافر النّيّ ، قد سفر عنه النّي ، ذهب شحمه ، يصف ظبيا.

وقد وقع في الإنشاد اضطراب. وفي شعره :

١) كأنّها مارن العرنين مفتصل

من الظّباء عليه الودع منظوم

__________________

و ١٩٦ والكوفي ٤٩ / أو ٢٠١ / ب والمغني ش ٧٣٠ ج ٢ / ٤٧٢ والعيني ٤ / ٢٠٤ والأشموني ٢ / ٤٣٨ والخزانة ٢ / ٣٧٦ والبيت عند سيبويه على الوجهين : برفع (رجل) وجرها في الموضعين ، إشارة إلى جواز الرفع خبرا لابتداء محذوف ، والجر على البدل من (رجلين).

(١) يشير بذلك إلى بيتي النابغة الذبياني والمتنخل الهذلي. تقدم أولهما في الفقرة ٢٣٣ وسيرد ثانيهما في الفقرة ٢٩٩

(٢) التهبّج ورم الضرع ، وقد يستعار في غيره. المخصص ٧ / ١٦٧ واللسان (هبرج) ٣ / ٢٠٧ وجاء في المطبوع (المهيج) بالياء ، في الشرح والشاهد ..

٥٤٣

٢) مقلّد قضب الرّيحان ذو جدد

في جوزه من نجار الأدم توشيم

٣) مما تبنّى عذارى الحيّ آنسه

مسح الأكفّ وإلباس وتوسيم

٤) من بعد مانزّ تزجيه موشّحة

أخلى تياس عليها والبراعيم

٥) لا سافر النّيّ مدخول ولا هبج

كاسي العظام لطيف الكشح مهضوم (١)

كأنها : يعني المرأة ، ظبي مارن العرنين : لين الأنف ، مفتصل عن أمه : يريد أنه أخذ وهو صغير فرباه الناس ، وعنوا به ، وعمل عليه قلائد من ودع يركّب في عنقه ، وقلدوه : جعلوا له قلائد من الرياحين ، والجدد : الطرائق التي في جلده تخالف لونه ، والجوز : الوسط ، والنّجار : يريد به اللون فيما زعموا والأدم : الظباء البيض ، والتوشيم : خطوط مثل الوشم في اليد ، ويروى (تسويم) أي علامة والسيما : العلامة.

وتبنّى عذارى الحي : جعلته كالابن لهن يمسحنه ويطعمنه ، ونزّ (٢) نزا ونشط ، تزجيه : تسوقه ، موشحة وهي أمه. يريد أنه مشى مع أمه وهي الظبية. يريد أنه أخذ وربّي بعد ما مشى مع أمه. والموشحة : التي في لونها خطوط كالوشاح ، وقياس (٣) موضع بعينه وقيل جبل ، والبراعيم (٤) جبل ، أخلى لها :

__________________

(١) أورد سيبويه البيت الخامس ولم ينسبه ، والأبيات لابن مقبل في ديوانه ق ٣٥ / ١٠ ـ ١١ ـ ١٣ ـ ١٤ ص ٢٦٩ وجاءت قافية الثالث (وتنويم) وفي صدر الرابع (مرشّحة) بالراء. والترشيح أن ترشّح الأم ولدها باللبن فهي مرشح. انظر الصحاح (رشح) ١ / ٣٦٥

وروي الأول لابن مقبل في : اللسان (هبرج) ٣ / ٢٠٧ والخامس في (سفر) ٦ / ٣٣ والأخير بلا نسبة في : المخصص ٧ / ١٦٧

(٢) أورده المطبوع (برّ) بالباء والراء في الشعر والشرح. وليس بصالح هنا.

(٣) موضع في بلاد بني تميم. البكري ٢١١

(٤) وجاء في البكري ١٥٠ قوله : البرعوم موضع في ديار بني أسد ، وقد ورد في الشعر مجموعا ، قال ابن مقبل ..

٥٤٤

أي لم يكن فيه شيء من الوحش ولا غيره يرعى سواها ، لا سافر النّيّ : يريد الظبي ، وقد تقدم تفسيره ، والمهضوم : الأهضم الكشح الضامر الجنب.

[المضاف ، على نية الانفصال في الإضافة غير المحضة]

٢٩٥ ـ قال سيبويه : (١ / ٣٠٧) في النداء ، قال عبيد (١) :

(ياذا المخوّفنا بمقتل شيخه

حجر ، تمنّي صاحب الأحلام)

لا تبكنا سفها ولا ساداتنا

واجعل بكاءك لابن أم قطام (٢)

الشاهد (٣) فيه أنه جعل (المخوفنا) وصفا ل (ذا) وقد عمل في المفعول. ولم يكن لمّا عمل في المفعول من تمامه بمنزلة النعت المضاف إذا قلت : يا زيد غلام عمرو. جعلوا المفعول لمّا كان من صلته ـ كأنّ الصلة بما يتم الموصول ـ اسما بمنزلة بعض حروفه ، فلم ينصبوه كما نصبوا المضاف لمّا كان نعتا للمنادى.

و (ذا) من قوله (ياذا) اسم إشارة و (المخوفنا) مرفوع وإن كان قد عمل

__________________

الشاهد في البيت الأول أنه رفع (منظوم) خبرا (للودع). ولو نصب على الحال والاعتماد في الخبر على المجرور ، لجاز.

وقد ورد في : النحاس ٦٤ / ب والأعلم ١ / ٢٦٢ والكوفي ٢٠٢ / أ.

(١) عبيد بن الأبرص الأسدي أبو زياد. الشاعر الجاهلي المشهور ، عمّر طويلا ، قتله النعمان في يوم بؤسه. ترجمته في : أسماء المغتالين ـ نوادر المخطوطات ٦ / ٢١١ والمعمرون ٧٥ والشعر والشعراء ١ / ٢٦٧ والمؤتلف (تر ١١٣) ٥٠ و (تر ٤٩٦) ١٥٣ وثمار القلوب (يوم عبيد) ٢١٥ وسرح العيون ١١٣ وشرح شواهد المغني للسيوطي ٢٦٠ والخزانة ١ / ٣٢٣

(٢) ديوان عبيد ق ٤٧ / ٦ ـ ٧ ص ١٢٢ من قصيدة قالها يرد على تهديد امرىء القيس بعد أن قتل بنو أسد أباه حجرا وكان ملكا عليهم.

(٣) ورد الشاهد في : النحاس ٧٢ / ب والكتاب ١ / ٣٠٧ والكوفي ٦٠ / ب والخزانة ١ / ٣٢١ وذكر الأعلم أن (المخوفنا) نعت (لذا) لأنه في معنى مفرد مثله ، وإن كان في اللفظ موصولا بمفعوله.

٥٤٥

في المفعول ، وصار طويلا بنصبه المفعول ، وأراد : يا هذا الذي خوّفنا بأن يعاقبنا لأجل قتلنا شيخه. وعنى بشيخه أباه ، والمنادى : امرؤ القيس بن حجر ، وكانت بنو أسد قتلت حجرا أبا امرىء القيس ، فتوعدهم امرؤ القيس بأن يقتلهم.

وقوله (تمنّي صاحب الأحلام) يريد تتمنى أن تقتلنا وأنت لا تقدر على قتلنا ، وتمنيك يجري مجرى ما يراه صاحب الأحلام في منامه. و (تمنّي) منصوب بإضمار : تتمنى تمنيا مثل تمني صاحب الأحلام ، وهو من باب قولهم : شربت شرب الإبل. لا تبكنا أي لا تطلب بدمائنا إن قتلتنا ، ولا تندبنا. وهذا على طريق التهكم بامرىء القيس ، أي أنت لا تقدر على قتلنا ، فاجعل بكاءك على أبيك حجر ، وحجر هو ابن أم قطام.

[النصب على الحال المؤكّدة]

٢٩٦ ـ قال سيبويه (١ / ٢٥٧) في باب ما ينتصب لأنه خبر للمعروف : «هو الحق بيّنا ومعلوما ، لأن ذا مما يوضّح ويؤكّد به الحق» ، و (بيّنا ومعلوما) ينتصبان على الحال ، وهذه الحال هي حال مؤكّدة. يريد أنها تؤكد معنى الكلام ، لأن قولنا (هو الحق) فيه إعلام وتبيين أن الذي أخبرنا عنه بأنه الحق واضح بيّن معلوم ، فقد أكدنا إخبارنا عنه بأنه الحق بقولنا (بيّنا ومعلوما) يريد كونه حقا معلوم.

والعامل في الحال : فعل دل عليه معنى الجملة ، كأنه قال : أعرفه بيّنا وأتبينه معلوما وما أشبه ذلك ، وإذا قال : هو الحق فمعناه : أعرف أن الذي أخبرتك به حق ومعلوم ومعروف.

وقال سالم (١) بن دارة :

__________________

(١) سالم بن مسافع الغطفاني ودارة أمه ، شاعر مخضرم خبيث اللسان وبسببه قتل ، قتله زميل الفزاري نحو ٣٠ ه‍ ترجمته في : أسماء المغتالين ـ نوادر المخطوطات ٦ / ١٥٦ والشعر

٥٤٦

(أنا ابن دارة معروفا له نسبي

وهل بدارة يا للناس من عار)

من جذم قيس وأخوالي بنو أسد

أكارم الناس زندي منهم واري (١)

الشاهد (٢) في نصب (معروفا) / يريد : انتبه لي معروفا نسبي.

والجذم : الأصل وقوله : زندي منهم واري هو على طريق المثل ، والزند الواري : السريع الإخراج للنار. يعني أنه إن أراد تعديد مفاخرهم وأيامهم لم يتعب ووجدها مشهورة واضحة ، ووجد شرفهم معروفا عند الناس.

ودارة جد سالم (٣) ، وهو سالم بن مسافع بن سريح بن يربوع بن كعب ابن عديّ بن جشم بن عوف بن بهثة بن عبد الله بن غطفان. ويربوع بن كعب هو دارة ، وإنما سمي دارة : أنّ رجلا من بني الصادر بن مرّة يقال له كعب قتل ابن عم ليربوع بن كعب يقال له درص ، فقتل يربوع كعبا بابن عمه ، وأخذ بنت كعب ثم أرسلها. فلما أتت قومها نعت أباها كعبا ، فقالوا لها : من قتله؟ قالت : غلام من بني جشم بن عوف بن بهثة كأنّ وجهه دارة القمر. فسمي لذلك دارة.

__________________

(١) روي البيتان للشاعر في : فرحة الأديب ٦٧ / ب والتبريزي ١ / ٢٠٦ من قصيدة في هجاء بني فزارة ، وفيها فحش. ورويا في شرح الكوفي ٢٠٢ / ب والخزانة ١ / ٥٥٧ باختلاف طفيف في بعضها عن رواية ابن السيرافي. وروي الأول للشاعر في : اللسان (دبر) ٥ / ٣٥٤

(٢) ورد الشاهد في : النحاس ٦٣ / أوالأعلم ١ / ٢٥٧ والكوفي ١٥٥ / ب و ٢٠٢ / ب وابن عقيل ش ١٩١ ج ١ / ٤٦٣ والعيني ٣ / ١٨٦ والأشموني ٢ / ٢٥٥ والخزانة ١ / ٥٥٧

(*) عقب الغندجاني على قوله بأن دارة جد سالم بقوله :

«قال س : غلط ابن السيرافي في ذلك ، إنما دارة أم سالم وعبد الرحمن ابني دارة ، امرأة من بني أسد ، شبهت لجمالها بدارة القمر».

(فرحة الأديب ٥٠ / أ)

٥٤٧

[ترخيم (مي) في غير النداء]

٢٩٧ ـ قال سيبويه (١ / ١٤١) في باب النداء ، قال ذو الرمة :

(ديار ميّة إذ ميّ تساعفنا

ولا يرى مثلها عجم ولا عرب) (١)

الشاهد (٢) فيه أنه قال (إذميّ) فرخم في غير النداء.

وحكي أنه كان يسميها مرة ميّا ومرة ميّة. وتساعفنا : تدانينا وتقاربنا وتنيلنا.

[جواز ندب الاسم بترك علامة الندبة]

٢٩٨ ـ قال سيبويه (١ / ٣٢١) في الندبة : «وزعم (٣) أنه يجوز في الندبة (واغلامبه)» يعني أنه يجوز أن أترك علامة الندبة ولا أدخلها على المندوب ، وأندبه على اللفظ الذي هو له من قبل الندبة.

وقال سيبويه بعد ذلك : «من قبل أنه قد يجوز أن أقول (واغلامي) فأبيّن الياء كما أبيّنها في غير النداء». يعني أنه يجوز فتح الياء التي للمتكلم قبل أن تنادي الاسم المضاف إليك ، فإذا ناديته جاز فيه من فتح الياء ما كان يجوز فيه من قبل النداء.

وكأنّ الذين يفتحونها إذا وقفوا عليها ألحقوها هاء ليبيّنوا حركة الياء ، فنقول

__________________

(١) ديوان ذي الرمة ق ١ / ١٠ ص ٣ وروي البيت للشاعر في : اللسان (عجم) ١٥ / ٢٧٩

(٢) ورد الشاهد في : سيبويه أيضا ١ / ٣٣٣ والكامل للمبرد ٣ / ٤١ والنحاس ٤٣ / أوالسيرافي (خ) ١ / ٢٥٥ والأعلم ١ / ١٤١ و ٣٣٣ والكوفي ٣٨ / أو ٢٠٢ / ب والخزانة ١ / ٣٧٨

(٣) هو الخليل.

٥٤٨

في الوقف : هذا غلاميه وهذا صاحبيه وقال الله تعالى : (اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (١).

ثم قال سيبويه : «بيّنت الياء في النداء ـ يعني حركتها ـ كما بيّنتها في غير النداء ، فإن حرّكتها جاز فيها الوقف على الهاء (في النداء) (٢) كما جاز فيها إذا كانت غير نداء» (٣).

وقال ابن قيس (٤) الرقيات :

إنّ الحوادث بالمدينة قد

أوجعنني وقرعن مروتيه

ثم مضى في شعره إلى أن قال :

كيف الرّقاد وكلما هجعت

عيني ألمّ خيال إخوتيه

(تبكيهم أسماء معولة

وتقول سلمى : وارزيّتيه) (٥)

الشاهد (٦) فيه أنه جعل (رزيّتي) في الندبة بمنزلتها في غير الندبة ، ووقف على الهاء لأجل بيان حركة الياء ، كما تقول في غير الندبة والنداء : عظمت رزيّتيه.

__________________

(١) سورة الحاقة ٦٩ / ١٩

(٢) ما بين القوسين ساقط في المطبوع.

(٣) عبارة سيبويه في ١ / ٣٢١ «فإذا بينت الياء في النداء كما بينتها في غير النداء ؛ جاز فيها ما جاز إذا كانت غير نداء».

(٤) عبيد الله بن قيس العامري من أهل الحجاز ، شاعر قرشي الهوى ، مدح مصعبا وعبد الملك (ت نحو ٨٥ ه‍) ترجمته في : ألقاب الشعراء ـ نوادر المخطوطات ٧ / ٢٩٩ والشعر والشعراء ١ / ٥٣٩ والأغاني ٥ / ٧٣ وشرح شواهد المغني للسيوطي ١٢٧ و ٦٢٢ والخزانة ٣ / ٢٦٥

(٥) ديوانه ق ٤٠ / ٥ ـ ١٢ ـ ١٣ ص ٩٨

(٦) ورد الشاهد في : النحاس ٧٦ / أومجالس العلماء ١٨٨ والأعلم ١ / ٣٢١ والكوفي ٢٠٣ / أوالعيني ٤ / ٢٧٤

٥٤٩

والحوادث التي كانت بالمدينة وقعة (١) الحرّة ، وبكى ابن قيس على الذين قتلوا بالمدينة من أهله.

[إلغاء الظرف ، وجعل الحال خبرا]

٢٩٩ ـ قال سيبويه (١ / ٢٦١) وقال المتنخّل (٢) الهذلي :

(لا درّ درّي إن أطعمت نازلكم

قرف الحتيّ وعندي البرّ مكنوز) (٣)

الشاهد (٤) فيه أنه جعل (مكنوز) خبر (البرّ) ، وجعل (عندي) ظرفا ملغى.

__________________

(١) الحرّة هي حرة واقم إحدى حرّتي المدينة المنورة ، وبها كانت الوقعة المشهورة سنة ٦٣ ه‍ بين جيش يزيد بن معاوية بقيادة مسلم بن عقبة المرّي وبين أهل المدينة بعد أن قاموا بخلع يزيد.

انظر الكامل لابن الأثير ٣ / ٣١٠ والجبال والأمكنة ٦٢ والبكري ٦٠١ و ٨٤٥

(٢) اسمه مالك بن عويمر أبو أثيلة. جاهلي محسن من شعراء هذيل. تفرد ـ عند الأصمعي ـ بقصيدته الطائية. ترجمته في : الشعر والشعراء ٢ / ٦٥٩ وفي ديوان الهذليين أول القسم الثاني والعيني ٣ / ٥١٧ والخزانة ٢ / ١٣٥

(٣) أورده سيبويه ، واكتفى في نسبته ب (الهذلي) والبيت للمتنخل الهذلي في : ديوان الهذليين ـ القسم الثاني ص ١٥ والبيت فيه مطلع القصيدة. كما روي للشاعر في : اللسان (برر) ٥ / ١٢٠ و (كنز) ٧ / ٢٠٧ و (قرف) ١٨ / ١٧٨ وبلا نسبة في (درر) ٥ / ٣٦٥ وجاء في (قرف) الحتيّ : سويق المقل ، وقيل رديئه ويابسه.

(٤) ورد الشاهد في : النحاس ٦٤ / ب والأعلم ١ / ٢٦١ والكوفي ٢٠٣ / أ. كما أشار أبو سعيد السيرافي إلى أن الاسم عند سيبويه يرتفع بالابتداء تقدّم الظرف أو تأخر ، أما عند الكوفيين ، فإن الظرف إذا تقدم ارتفع الاسم بعده بضمير له مرفوع في الظرف. فكان من حجة سيبويه في ذلك أنّا إذا أدخلنا (إنّ) نصبنا الاسم وإن كان قبله ظرف كقولنا : إنّ عندي زيدا.

٥٥٠

وقوله : لا در دري دعاء على نفسه ، ويقال : لا درّ در فلان أي لا رزق حلوبة يدرّ لبنها ، ونازلكم : من نزل بي منكم ، والحتيّ : المقل (١) ، وقرفه : قشره وما قرب منه. وكانوا يجعلون من المقل سويقا يؤكل منه.

وكان المتنخل نزل بقوم فجفوه ؛ فقال : لا درّ دري إن أطعمت نازلكم ـ أي من نزل منكم ـ سويق المقل وعندي الحنطة. يريد أنه لا يمنع أضيافه أجود ما عنده من الطعام وأطيبه ، ولا يفعل بهؤلاء القوم الذين نزل بهم إذا نزلوا به ، مثل ما فعلوا به حين نزل بهم ، وعرّض بهم أنهم قروه سويق المقل ، وخبّأوا البرّ فلم يطعموه منه شيئا.

[إعرابه حالا إذا حمل على الضمير ـ لأن الضمير لا يوصف]

٣٠٠ ـ قال سيبويه (١ / ٢٤١) في باب إجراء الصفة فيه على الاسم في بعض المواضع أحسن. وتقول : «مررت برجل معه صقر صائد به ، إن جعلته وصفا» يعني إن جعلت صائدا وصفا ل (رجل). ثم قال : «وإن لم تحمله على الرجل». يريد إن لم تجعله وصفا ل (رجل) «وحملته على الاسم المضمر المعروف ، نصبته».

أراد بالمضمر ضمير الرجل الذي دخلت عليه (مع) وهو الهاء من (معه) وجعله عليه : أن يجعل حالا منه ، لأن المضمر لا يوصف. وجعل هذه المسألة ونظائرها يقع على وجهين :

إن شئت أجريت الصفة على الاسم النكرة المتقدم فجعلتها وصفا له ، وإن شئت حملتها على الضمير الذي يعود / إلى الاسم النكرة فجعلتها حالا منه.

ثم ذكر سيبويه (١ / ٢٤٢) مسائل هي نظيرة قوله : مررت برجل معه

__________________

(١) المقل : ثمر شجر الدّوم ، ينضج ويؤكل. القاموس (المقل) ٤ / ٥١

٥٥١

صقر صائد به وصائدا به ، حتى انتهى إلى أن قال : وأما قولهم ، فهذا لا يكون فيه وصف ولا يكون إلا خبرا فهو باطل. يعني أن قوما من النحويين يزعمون أن الوجه أن تقول : مررت برجل معه صقر صائدا به ، فتنصب (صائدا) على الحال ولا تجعل (صائدا) وصفا ل (رجل) (١).

وقالوا : الوصف يمتنع ، لأنّا لو قلبنا فقدمنا (صائدا) قبل قولنا (معه صقر) لم يصلح أن نقول : مررت برجل صائد به معه صقر ، نقدّم الإضمار قبل الذكر. يريدون : إضمار صقر قبل جري ذكره. ويحتج لمذهبهم فيقال : (معه صقر) وصف ل (رجل) و (صائد به) وصف آخر. والموصوف إذا كانت له صفتان ، فليست إحداهما بالتقديم أولى من الأخرى ، فنحن إن أجزنا الجرّ في (صائد) على الوصف ل (رجل) فالصفتان إذا اجتمعتا ، جاز أن تتقدم كل واحدة منهما صاحبتها.

فجائز على هذا أن يقدّم (صائد) على (معه صقر) وإذا قدمنا فسد الكلام للإضمار قبل الذكر. فأراهم سيبويه أنه قد ثبت في الكلام نظائر لما أنكروا ، من ذلك أنهم يقولون : مررت برجل حسن الوجه جميله ولا يقال : مررت برجل جميله حسن الوجه.

ومضى في الاحتجاج عليهم إلى أن قال : «فأما القلب فباطل». يريد اعتبارهم

__________________

(١) في المطبوع : لصقر. فغفل عن تصويب الناسخ على الهامش من جهة ، وعن فساد المؤدّى من جهة أخرى.

وأعجب من ذلك إقدام محقق المطبوع في هذا الموضع على ايراد نص يتعلق ببيت حسان التالي ؛ بلا سبب سوى اضطرار الناسخ إلى جعل ذلك النص في الحاشية .. مع أن في بعض ألفاظه دليل تبعيته للشاهد الآتي. وهو قول ابن السيرافي : «وأبو العباس لا يرى أن اعتبار القلب صحيح ، وإنما رد الاستشهاد بالبيت لأن عنده ؛ أن الضمير لا يجوز أن يعود إلى الوحي»!

٥٥٢

في الوصف الثاني أن يكون مما يجوز فيه القلب والتقديم على الأول. ثم قال : «وسمعناهم يقولون : هذه شاة ذات حمل مثقلة به» فرفعوا (مثقلة) وجعلوه وصفا ل (شاة) ، والضمير المجرور المتصل بالباء يعود إلى (الحمل) ولا يجوز أن يقال فيه : هذه شاة مثقلة به ذات حمل. وقد سمع منهم الرفع.

ثم أنشد بيت حسان :

(ظننتم بأن يخفى الذي قد صنعتم

وفينا نبيّ عنده الوحي واضعه) (١)

الشاهد (٢) فيه أن (واضعه) وصف ل (نبيّ) وهو مضاف إلى ضمير (الوحي) ، وقوله (عنده الوحي) وصف ل (نبي) و (واضعه) وصف آخر. ولو قدمه فقال : وفينا نبيّ واضعه عنده الوحي ، لم يجز. وقد أتى وصفا مرفوعا غير معتبر فيه القلب ، فدل هذا على صحة ما ذهب اليه سيبويه وفساد ما ذهب إليه أصحاب القلب.

وزعم أبو العباس أن الضمير المضاف إليه (واضع) يعود إلى (الذي) وليس يعود إلى (الوحي) ، (وأبو العباس لا يرى أن اعتبار القلب صحيح ، وإنما ردّ الاستشهاد بالبيت لأن عنده ؛ أن الضمير لا يجوز أن يعود إلى الوحي) (٣) لأن النبي عليه السلام لا يجوز أن يضع الوحي وإنما يضع ما صنع القوم ، أي يخبر

__________________

(١) ديوان حسان ق ٣٥ / ٤ ص ١٣١ من قصيدة قالها حسان يهجو طعمة بن أبيرق ، وكان سرق درعي حديد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. انظر خبر طعمة في : ديوان حسان ٢ / ١١٤ والمعارف ٣٤٣

(٢) ورد الشاهد في : النحاس ٥٩ / ب والأعلم ١ / ٢٤٢ والكوفي ٢٠٣ / ب.

(٣) ما بين القوسين ساقط في المطبوع هنا ليوضع عنده في غير موضعه (انظر حاشية الصفحة السابقة).

٥٥٣

به ويبيّنه (١).

والمعنى الذي أنكره على سيبويه قد فعل هو مثله ، لأنه إذا جاز أن يقال : وضعت فيكم ما صنع القوم ـ أي أخبرتكم به ـ جاز أن يقال : وضعت فيكم الوحي على معنى أخبرتكم ، وليس يراد الوضع الذي هو ابتداء عمل الكلام ؛ وإنما يريد وضع العلم بذلك الشيء في قلوبهم والإخبار عن صحته.

وسبب ذلك أن طعمة بن أبيرق سرق درعين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل رجال من الأنصار فعذروه عند النبي صلى الله عليه وسلم وحلفوا له ، فسمع ، فأنزل الله عز وجل : (وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ ، إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (٢) وكان ابن أبيرق طرح الدرعين في بيت يهودي ليبرأ منهما ويؤخذ بهما اليهودي. فلما أنزل الله سبحانه هذه الآية ، فرّ من النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيم عليه الحد ، ولحق بمكة.

يقول : ظننتم بأن يخفى سرقكم ، وفينا نبي ينزل عليه الوحي ، بصحة ما يذكره الصادق ، وبطلان ما يقوله الكاذب.

[جعل الشتم من طريق المعنى فلم ينصب]

٣٠١ ـ قال سيبويه (١ / ٢٥٤) وأما قول حسان :

حار بن كعب ألا أحلام تزجركم

عني وأنتم من الجوف الجماخير

(لا عيب بالقوم من طول ومن عظم

جسم البغال وأحلام العصافير) (٣)

__________________

(١) في المطبوع : وينبئه.

(٢) سورة النساء ٤ / ١٠٧

(٣) ديوانه ق ١٠١ / ١ ـ ٢ ص ٢١٩ من قصيدة قالها حسان في هجاء بني الحارث

٥٥٤

وقال بعد الإنشاد : «فلم يرد أن يجعله شتما».

ذكر سيبويه هذا الشعر بعد أبيات أنشدها ، وذكر فيها أسماء قد نصبت على طريق الشتم والتحقير. وأنشد هذا الشعر ، ورفع قوله (جسم البغال وأحلام العصافير).

وقوله : «ولم يرد أن يجعله شتما» يريد أنه لم يجعله شتما من طريق اللفظ ، وإنما هو شتم من طريق / المعنى ، وهو أغلظ من كثير من الشتم.

يهجو بني الحارث بن كعب ، من أجل أن النجاشي الحارثي هجا عبد الرحمن ابن حسان. وحار ترخيم.

يقول لهم : أما لكم أحلام تنهاكم عن سبّي والتعرض لي. والجوف : جمع أجوف وهو الفارغ الجوف ، يريد أنهم فارغون من العقل والحلم. والجماخير : الضعاف المسترخون ، الواحد جمخور.

وقوله : لا عيب بالقوم من طول ومن عظم ، يريد أن أجسامهم لا تعاب ، هي عظيمة طويلة ، ولكنها كأجسام البغال التي لا حلوم معها. وقوله : وأحلام (١)

__________________

ابن كعب بسبب امرأة من بني الحارث كان عبد الرحمن بن حسان يشبب بها ، حتى ضج الأنصار مما كان يلحقهم من شرار هذا الهجاء ، فاستغاثوا بحسان ، فقال هذه القصيدة التي جعلت وجوه بني الحارث يأتون إليه معتذرين ، ومعهم الشاعر النجاشي موثقا. حتى قال أحد سادتهم وهو ابن الديان : يابن الفريعة ، كنا نفتخر على الناس بالعظم والطول فأفسدته علينا.

وروي البيتان بلا نسبة في اللسان : الأول في (جوف) ١٠ / ٣٧٩ والثاني في (قوا) ٢٠ / ٧١

وقد ورد الشاهد ـ وهو رفع (جسم وأحلام) ولو نصب لجاز ـ في : النحاس ٦٢ / ب والأعلم ١ / ٢٥٤ والكوفي ٦٤ / أو ٢٠٣ / ب والعيني ٢ / ٣٦٢

(١) انظر المثل في : الدرة الفاخرة ١ / ١٧١

٥٥٥

العصافير ، أي أحلامهم حقيرة وأجسامهم عظيمة ، ويجوز أن يريد أنهم لا أحلام لهم كما أن العصفور ليس له حلم.

[لا يصح هنا غير النصب بإضمار فعل ـ للمعنى]

٣٠٢ ـ قال سيبويه (١ / ٣٥٣) وأما قول جرير :

(يا صاحبيّ دنا الرّواح فسيرا

لا كالعشيّة زائرا ومزورا) (١)

فلا يكون إلا نصبا (٢) ، من قبل أن العشية ليست بالزائر.

ذكر سيبويه هذا البيت بعد ذكره : «لا مثله أحد ولا كزيد أحد». وأجاز في (أحد) النصب والرفع أما الرفع فعلى أنه جعل (أحد) صفة ل (مثل) على الموضع ، لأن قوله (لا مثله) في موضع ابتداء فنعته على الموضع.

وأما النصب فلأنه نعت ل (مثل) على لفظه. وقوله : لا كزيد أحد ، هذه الكاف حرف ، وهي في موضع نعت ل (شيء) محذوف ، كأنه قال : لا شيء كزيد ، فحذف المنعوت وأقام النعت مقامه وأتي ب (أحد) على أنه نعت لذلك المحذوف المقدر. وجاز في نعته الوجهان ، كما جاز في قولنا : لا مثله أحد. ثم قال في بيت جرير : لا يكون إلا نصبا. وهذا الذي ذكره واضح.

لأنا إذا قلنا : لا مثله أحد ، ف (أحد) هو المثل ، كما تقول : لا رجل أفضل منك ، وكذا قولنا : لا كزيد أحد ، يريد به ، ولا شيء مثل زيد أحد. ف (أحد) هو الشيء و (الشيء) المثل ، ولو قدّرنا مثل هذا في قوله (لا كالعشية) لصار : لا كالعشية عشية زائر ، فجعلنا (زائر) وصفا ل (عشية) لم يصلح ،

__________________

(١) ديوان جرير ص ٢٩٠ من قصيدة قالها يهجو الأخطل.

(٢) ورد الشاهد في : المقتضب ٢ / ١٥٢ وتفسير عيون سيبويه ٣٧ / أوالأعلم ١ / ٣٥٣ والكوفي ٥٧ / أو ٢٠٤ / أوالخزانة ٢ / ١١٤

٥٥٦

لأن العشية ليست بزائر ولا مزور ، فهذا مردود من طريق المعنى ، ولا يصلح أن يكون (زائرا ومزورا) وصفا ل (عشية) لا على اللفظ ولا على المعنى ، لأنه فاسد أن تنعت العشية بما لا يجوز أن يكون نعتا لها ، وإنما نصب (زائرا ومزورا) بإضمار فعل مقدر بعد (لا) كأنه قال : لا أرى كزائر في هذه العشية زائرا.

[ذكّر الفعل وضميره يعود على مؤنث ـ لإرادة معنى المذكر]

٣٠٣ ـ قال سيبويه (١ / ٢٤٠) في أسماء الفاعلين (١) :

وجارية من بنات الملو

ك قعقعت بالخيل خلخالها

ككر فية الغيث ذات الصّبير

تأتّى السّحاب وتأتالها

(فلا مزنة ودقت ودقها

ولا أرض أبقل إبقالها) (٢)

__________________

(١) «لم يذكر شاعره» عبارة في الأصل ليست لابن السيرافي بطبيعة الحال ، ولا بد أنها لناسخ نصه. وفيها تأكيد على إغفال ابن السيرافي نسبة هذه الأبيات هنا ، مما يعد ردا على الغندجاني الذي ألصق بابن السيرافي نسبتها إلى الخنساء ، وأقام على هذا رده في نصه الآتي .. والشاعر هو عامر بن جوين الطائي كما قال : سيبويه والمبرد ٢ / ٢٧٩ والغندجاني ٣٣ / ب والأعلم ١ / ٢٤٠ واللسان (صبر) ٦ / ١٠٩ والسيوطي ٩٤٣ والبغدادي ١ / ٢٤ (تقدمت ترجمة عامر).

(٢) وردت الأبيات مجتمعة للشاعر في : فرحة الأديب ٢٥ / أوالكوفي ٢٠٤ / أوالخزانة ١ / ٢٤ وهي عند الغندجاني : في عجز الأول (بالرمح) بدل بالخيل وفي عجز الثاني (ترمي السحاب ويرمى لها). ورويت متفرقة للشاعر في اللسان : الأول والثاني معا في (كرفا) ١ / ١٣٢ و (صبر) ٦ / ١٠٩ والثاني فقط في : (كرشف) ١١ / ٢٠٦ و (أثل) ١٣ / ٨ و (أول) ١٣ / ٣٥ والثالث في : (أرض) ٨ / ٣٧٩ و (ودق) ١٢ / ٢٥٢ و (بقل) ١٣ / ٦٤ وهو بلا نسبة في : اللسان (خضب) ١ / ٣٤٥ والمخصص ١٦ / ٨٠

٥٥٧

الشاهد (١) فيه أنه ذكّر (أبقل) وفيه ضمير يعود إلى (الأرض) والأرض مؤنثة. أراد : وربّ جارية من بنات الملوك قعقعت خلخالها ، يعني أنه لما أغار عليهم هربت وعدت ، فسمع صوت خلخالها ، ولم تكن قبل ذلك تعدو. والقعقعة : الصوت الصلب نحو صوت الحديد وما أشبهه.

وقوله : قعقعت بالخيل أي بإرسال الخيل عليهم ، والكرفئة السحابة المتراكمة ، والصبير : السحاب الأبيض ، يعني أنها كالسحابة الكثيفة البيضاء ، وكأنه قال : ككرفئة الغيث ذات السحاب الأبيض. يريد أنها من السحاب الأبيض. ويجوز أن تجعل الصبير في معنى البياض ، كأنه قال : ككرفئة الغيث ذات لون الصبير.

تأتّى السحاب : تقصد إلى جملة السحاب ، تسير إلى السحاب برفق وتؤدة. وتأتال : تصلح السحاب بانضمامها إليها ، وتأتال تفتعل من آل الشيء يؤوله إذا أصلحه (٢) وقوّمه وسوّاه ، ويقال : آل القوم يؤولهم : إذا ساسهم واصلح أمورهم.

__________________

(١) ورد الشاهد في : الكامل للمبرد ٢ / ٢٧٩ و ٣ / ٩١ والنحاس ٥٩ / أوالأعلم ١ / ٢٤٠ وشرح الأبيات المشكلة ٤٢ وشرح ملحة الإعراب ٦٧ والكوفي ٢٠٤ / أوالمغني ش ٩١٢ ج ٢ / ٦٥٦ وأوضح المسالك ش ٢١١ ج ١ / ٣٥٤ وابن عقيل ش ١٤٦ ج ١ / ٣٢٦ وشرح السيوطي ش ٨٣٥ ص ٩٤٣ والأشموني ١ / ١٧٤ والخزانة ١ / ٢١

(*) قال الغندجاني معقبا على شرح ابن السيرافي لقوله (تأتّى السحاب وتأتالها) :

«قال س : هذا موضع المثل :

لليل خود بين ماشطاتها

وبين دايات وأمّهاتها

أهون من ليل معانداتها

لو ترك ابن السيرافي مثل هذا الشعر ـ الذي لم يعرفه ولم يعرف قائله ، وجاء به متفرقا لا متواليا ، ولم يفسر قوله (تأتالها) تصلح السحاب ، وتشاغل بإعراب ، وطرف من اللغة ـ كان أهدى سبيلا ، ليست هذه الأبيات للخنساء ،

٥٥٨

__________________

وقد سقط منها أيضا بيت وهو أجودها.

وقوله : (تأتالها) أي تصلح السحاب فضيحة ، لأنه لو كان كذلك ، أوجب أن يرفع اللام لأنه لا ناصب هاهنا للفعل. والأبيات لعامر بن جوين الطائيّ. ونظامها :

وجارية من بنات الملو ...

ك قعقعت بالرمح خلخالها

ككرفئة الغيث ذات الصّبي ...

ر ترمي السحاب ويرمى لها

تواعدها بعد مرّ النجو ...

م كلفاء تكثر تهطالها

فلا مزنة ودقت ودفها

ولا أرض أبقل إبقالها

وإنما نسب ١ ابن السيرافي هذا الشعر إلى الخنساء ، لأنه اغتر بكلمتها التي أولها :

ألا ما لعينيك أم مالها

 ...

وما كل سوداء تمرة ، وقد أدخل في كلمة الخنساء هذه بيتان من هذه الأبيات وهما : (وجارية ..) و (ككرفئة ..).

وجعل الخطاب فيهما بصخر ، ولا يخفى ذلك على البصير الناقد. وقوله : ترمي السحاب ويرمى لها ، تقول العرب : نشأت سحابة فجعل السحاب يرمى لها ، أي ينضم إليها. وقال جامع بن عمرو بن موحية الكلابي :

أسقى منازل من دهماء قد درست

بالرمل سارية خضر تواريها

__________________

(١) ابن السراني لم ينسب هذه الابيات الى احد كما اسلقت فإذا تقرمت بذلك نسخة الفندجاني فهو بالتأكيد من صنيع القاخ فقد شهرت نسبتها الى عامر بن جون دون خلاف

٥٥٩

ونصب (تأتالها) جعله على الجواب بالواو ، والمزنة : السحابة البيضاء ، وقيل : إنها لا تكون مزنة حتى يكون فيها ماء ، وقيل : المزن : السحاب الواحدة مزنة ، ولم يشرط فيه أن يكون فيه ماء ولم يوصف بشيء.

والودق : المطر يقال : ودقت السماء تدق إذا نزل منها المطر ، يقول : فلا مزنة مطرت مثل مطر هذه السحابة التي شبّه الجارية بها ، ولا أرض أخرجت بقلا مثل الأرض التي أصابها مطر هذه السحابة ، ومنهم من يرويه : (ولا أرض أبقلت ابقالها) على تخفيف الهمزة من (إبقالها) وإلقاء حركتها على التاء من (أبقلت) ولا شاهد فيه على هذه الرواية. وهذه الرواية من إصلاح بعض الرواة ، والذي أنشده الرواة هو الموجود في الكتب القديمة.

[إبدال الياء من الباء ـ ضرورة]

٣٠٤ ـ وقال سيبويه (١ / ٣٤٤) / قال أبو كاهل (١) اليشكري :

كأنّ رحلي على شغواء خاذرة

ظمياء قد بلّ من طلّ خوافيها

(لها أشارير من لحم تتمّره

من الثّعالي ، ووخز من أرانيها) (٢)

__________________

خضراء تحيي رميم الأرض قد بليت

يقصّ ساربها بالدّجن غاديها

بحريّة نشأت يرمى السّحاب لها

حتى تهلّل نجديّا تهاميها».

(فرحة الأديب ٢٥ / أوما بعدها)

(١) لم تذكره المصادر لدي.

(٢) أورد سيبويه ثانيهما حيث الشاهد ، ونسبه إلى رجل من بني يشكر. والبيتان لأبي كاهل في شرح الكوفي ٢٠٤ / ب وفي اللسان (رنب) ١ / ٤١٨ و (تمر) ٥ / ١٦١ وروي أولهما وحده في : (حدر) ٥ / ٢٤٤ و (شفى) ١٩ / ١٦٥ والثاني في : (ثعلب) ١ / ٢٣١ و (وزز) ٧ / ٢٩٥ و (ثعل) ١٣ / ٨٨ و (تمم) ١٤ / ٣٣٣

والشاهد في البيت الثاني إبدال الياء من الباء ضرورة ، إذ كان عليه لإقامة الوزن أن يسكن الباء وهو مما لا يسكن في الوصل. وقد ورد الشاهد في : المقتضب ١ / ٢٤٧ والنحاس ٧٩ / ب والأعلم ١ / ٣٤٤ والكوفي ٢٠٤ / ب والأشموني ٣ / ٨٢٤

٥٦٠