شرح أبيات سيبويه - المقدمة

شرح أبيات سيبويه - المقدمة

المؤلف:


الموضوع : اللغة والبلاغة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦١٠

١
٢

بسم الله الرحمن الرحيم

تقديم :

الحمد لله منزل الكتاب عربيا هدى للعالمين ، والصلاة والسلام على نبيه المعلم الأمين ، وعلى آله وأصحابه والآخذين بهديه إلى يوم الدين.

وبعد ، فإن علم النحو أقدم علوم العربية وضعا ، وقد سبقت البصرة إلى فتح بابه ، ووضع أسسه ، وتأليف الكتب فيه ، إذ بدأ أبو الأسود الدؤلي (ت ٦٩ ه‍) بضبط المصحف للتمييز بين حركات الإعراب المختلفة (١) ، كما نسب إليه وضع أول فصول النحو بتوجيه من علي بن أبي طالب رضي الله عنه (٢) ، ثم توالى من بعد أبي الأسود تلامذته .. إلى أن كان عيسى بن عمر الثقفي (ت ١٤٩ ه‍) فوضع في النحو كتابين هما : الجامع والإكمال ، أثنى عليهما تلميذه الخليل بن أحمد الأزديّ بقوله :

بطل النحو جميعا كلّه

غير ما أحدث عيسى بن عمر

ذاك إكمال وهذا جامع

فهما للناس شمس وقمر (٣)

__________________

(١) أخبار النحويين البصريين ص ١٢

(٢) المصدر السابق ، وبغية الوعاة ٢ / ٢٢ وخزانة البغدادي ١ / ١٣٦

(٣) أخبار النحويين البصريين ٢٥ وبغية الوعاة ٢ / ٢٣٧

٣

غير أن الزمن عوّض عن فقد هذين الكتابين بمعجزة القرن الثاني ، بالخليل نفسه (ت حوالي ١٧٥ ه‍) بعد أن قضى من عمره شطرا يشافه الأعراب ويحفظ عنهم ، يعمل في ذلك فكره ، يستقرىء ويستنبط ، يقيس ويعلل .. دون أن يضع في ذلك كتابا ، غير أن ثمار قياسه ونظراته وتعليلاته آتت أكلها في كتاب تلميذه النابه سيبويه (ت حوالي ١٨٠ ه‍) الذي سار في لقاء أبناء البادية والأخذ عن فصائحها سيرة شيخه الخليل ، الذي كان «يحفظ نصف اللغة» (١) حتى قال المبرد : «إن المفتشين من أهل العربية ، ومن له المعرفة باللغة تتبعوا على سيبويه الأمثلة ، فلم يجدوه ترك من كلام العرب إلا ثلاثة أمثلة : منها الهند لع وهي بقلة ، والدّرداقس وهو عظم القفا ، وشمنصير وهو اسم أرض» (٢).

ثم عكف على وضع كتابه ، ملتزما مراجعة الخليل ، ينقل أقواله ، ويستضيء برأيه في كثير مما جاء في كتابه من مسائل النحو ، مما يطالع المتصفح لكتاب سيبويه من أمثال قوله : (وسألته) أو (قال) أو ما أشبه ذلك (٣).

وقد أحدث كتاب سيبويه منذ حياة صاحبه أوسع الأصداء ، وأقبل عليه المشتغلون في إكبار وتعظيم ، بما تميز به من أمانة في النقل ، وغزارة في المادة ، وتنوع في الأساليب الفصيحة .. في حسن تقليب لها ، ونظر فيها ، وموازنة بينها .. ثم من ذوق في الاختيار ، وتوخ للمعنى والتزام جانبه بقوة فيما يختاره ويأخذ به من وجوه ، بعيدا عن الأحكام المسبقة والقواعد المطلقة .. مما يفتح ذهن القارىء ، ويأخذ بيده ليشارك في استنباط هذه القواعد التي تهتدي في دروبها ـ بين

__________________

(١) أخبار النحويين البصريين ٤١

(٢) رسالة مخطوطة لأبي جعفر النحاس فيما يتعلق بالكتاب ٢ / أ. وانظر المنصف لابن جني (البابي الحلبي) ١ / ٣١ و «شمنصير» في القاموس (شمر) ٢ / ٦٤ جبل لهذيل.

(٣) أخبار النحويين البصريين ٣١

٤

هذا الجم الغزير من الشواهد والنصوص ـ بالذوق ، ودقة النظر ، وحسن التمييز ، معتمدا في ذلك كله : نصوص القرآن الكريم ، وطرفا من الحديث الشريف ، والشعر العربي الموثوق به ، وما سمعه من كلام الأعراب وأقوالهم.

وهكذا نال هذا الكتاب في وقت مبكر أوسع ما يستحقه من اهتمام وإعجاب ، «حتى صار علما عند النحويين ، فكان يقال بالبصرة : قرأ فلان الكتاب ، فيعلم أنه كتاب سيبويه ، وقرأ نصف الكتاب ، فلا يشك أنه كتاب سيبويه» (١). وكان أبو عثمان المازني (ت ٢٤٨ ه‍) يقول : «من أراد أن يعمل كتابا كبيرا في النحو بعد سيبويه فليستح» (٢).

وسمع غير واحد من الجرمي قوله : «أنا مذ ثلاثون سنة أفتي الناس في الفقه من كتاب سيبويه .. إذ كان كتاب سيبويه يستعلم منه النظر والقياس» (٣) ورأى فيه المبرد عملا كاملا متفردا في قوله : «لم يعمل كتاب في علم من العلوم مثل كتاب سيبويه ، ذلك أن الكتب المصنفة في العلوم مضطرة إلى غيرها ، وكتاب سيبويه من فهمه لا يحتاج إلى غيره» (٤).

ولم يقتصر هذا الإدراك لأهمية «الكتاب» على علماء البصرة ، بل إن الكسائى رأس الكوفة (ت نحو ١٨٧ ه‍) وجد الفوز بأرومة هذا العلم أن يقرأ الكتاب ، إذ ورد للأخفش قوله : «جاءنا الكسائي إلى البصرة ، فسألني أن أقرأ عليه أو أقرته كتاب سيبويه ، ففعلت ، فوجه إليّ خمسين دينارا» (٥).

__________________

(١) أخبار النحويين البصريين ٣٩ وبغية الوعاة ١ / ٤٦٦

(٢) أخبار النحويين البصريين ٣٩

(٣) من رسالة أبي جعفر النحاس ١ / أ

(٤) المصدر السابق.

(٥) من رسالة أبي جعفر النحاس ٢ / ب والمبلغ عنده (مائتا دينار). وانظر كذلك : أخبار النحويين البصريين ص ٤٠

٥

وهذا الفراء وهو خليفة الكسائي «كان زائد العصبية على سيبويه ، وكتاب سيبويه تحت رأسه» (١).

ثم نسمع الجاحظ (ت ٢٥٥ ه‍) وهو يخاطب محمد بن عبد الملك الزيات بقوله : «أردت أن أهدي إليك شيئا ، ففكرت فإذا كل شيء عندك ، فلم أر أشرف من هذا الكتاب ، وقد اشتريته من ميراث الفراء» فقال الزيات : «والله ما أهديت إليّ شيئا أحب إليّ منه» (٢).

وحين يمضي على تأليف الكتاب أربعة قرون نسمع الزمخشري أحد كبار علماء القرن السادس وهو ينشد في «الكتاب» قوله :

ألا صلّى الإله صلاة صدق

على عمرو بن عثمان بن قنبر

فإنّ كتابه لم يغن عنه

بنو قلم ولا أبناء منبر (٣)

* * *

وازداد الاهتمام بالكتاب ، واتسعت دائرته بتقدم الزمن ، فعكف عليه الكثيرون من العلماء عبر العصور ، يشرحون نصه وعباراته ، أو يقتصرون على شرح أبياته ، أو يعنون بالأمرين معا.

فقد تعاور شرح نصه تسعة وعشرون عالما ، بدأوا بتلميذه الأخفش الأوسط في مطلع القرن الثالث ، حتى الباقلّاني أواخر القرن الهجري الثامن.

__________________

(١) بغية الوعاة ٢ / ٣٣٣

(٢) سيبويه إمام النحاة للأستاذ علي النجدي ناصف ص ١٩٣ والمدارس النحوية د. شوقي ضيف ٥٩

(٣) بغية الوعاة ٢ / ٢٣٠

٦

كما أقبل على شرح أبياته ما يربو على ثمانية عشر شارحا ، تقدمهم أبو العباس المبرّد (ت ٢٨٥ ه‍) وكان آخرهم حسبما وصل إلينا هو عفيف الدين ربيع بن محمد الكوفي (ت حوالي ٦٨٢ ه‍) (١).

ويأتي شرح أبي سعيد السيرافي (ت ٣٦٨ ه‍) أكمل شروح الكتاب على الإطلاق وأكثرها إحاطة وشهرة ، كما شهد بذلك كل من ترجم لأبي سعيد أو تحدث عنه ، حتى «حسده عليه أبو علي الفارسي» وغيره من معاصريه (٢). وقد أشار التوحيدي إلى شدة اهتمام أبي علي وتلامذته بهذا الشرح ، إلى أن ظفر بشراء نسخة منه بألفي درهم (٣).

كما كان ابنه يوسف من أبرز من عكف على شرح أبياته ، وقدم له جل همه ، وخالص علمه وجهده ، فوصفه ابن خلّكان بأنه «الغاية في بابه» (٤) مما جعل بعضهم ينسبه إلى أبي سعيد نفسه (٥) كما نسب إلى يوسف إتمام شرح أبيه لكتاب سيبويه (٦).

* * *

ولما كان «للكتاب» هذه الأهمية البالغة في صرح العربية وقواعدها ، وكانت

__________________

(١) انظر لهذا وتفصيلاته : تاريخ الأدب العربي ـ بروكلمان ٢ / ١٣٦ وكذلك : كتاب سيبويه وشروحه للدكتورة الحديثي ص ٢٤٣ وما بعدها.

(٢) معجم الأدباء ٨ / ١٤٧ وبغية الوعاة ١ / ٥٠٨

(٣) الإمتاع والمؤانسة ١ / ١٣١

(٤) وفيات الأعيان ٦ / ٧٠

(٥) معجم الأدباء ٨ / ١٤٩

(٦) البداية والنهاية ١١ / ٣١٩

٧

شواهده وأبياته هي الدعائم الأساسية التي تقوم عليها هذه القواعد وتتوثق ، وكانت اللغة العربية الأصيلة مما يقوم عليه وجودنا ـ إذ تشكل أقوى الروابط التي تشدنا إلى مجموعة خطيرة من القيم : فيما بيننا وبين تراثنا الروحي والعلمي من جهة ، وما بين أقطار أمتنا العربية والإسلامية من جهة أخرى ـ لكل هذه الأصول وغيرها .. رأيت من سديد العمل أن أسعى إلى جمهور هذه الشواهد ألمّ شتاتها ، وأجمع من الأنحاء شروحها ، لأخرج إلى النور أكمل ما رأيته منها ، مشفوعا بمعظم ما وصل الينا من هذه الشروح ، أو الردود عليها ، مخطوطة أو مطبوعة .. فيسهل بذلك حزنها ، ويقرب بعيدها ، ويتبسط لأذهان الأحفاد بعض أسمى ما تركه الأسلاف والأجداد ، وتتوثق بعد ذلك هذه الرابطة المصيرية بين أطراف تاريخ الأمة المجيد وأجيالها المتعاقبة.

وقد تم لي ذلك باختيار «شرح أبيات سيبويه» ليوسف بن أبي سعيد السيرافي أحد أعلام القرن الهجري الرابع. فنهضت بعبء تحقيقه أولا ، ثم بدراسته وصاحبته وبعض أندادهما من مختلف الوجوه .. مكتفيا من ذلك هنا بالقدر الذي يعرّف بابن السيرافي وناقده الغندجانيّ ؛ إذ لا يزالان مغيّبين إلى حد كبير عن أنظار المصريين.

٨

وقد منّ الله تعالى على هذا الشرح بطبعتين سابقتين :

 ـ نهض بالأولى مجمع اللغة العربية بدمشق بين عامي ١٣٩٦ ـ ١٣٩٧ ه‍.

 ـ وظهرت الطبعة الثانية في دار المأمون للتراث بدمشق عام ١٤٠٢ ه‍ وكان لا بد بعد نفاد الطبعتين واستمرار الحاجة إلى الكتاب ، من إخراج هذه الطبعة الثالثة بجهود دار العصماء بدمشق المخلصة.

ومما تجدر الإشارة إليه في جهود التحقيق ، ما عمدت إليه بفضل الله تعالى ـ من إغناء هذا الشرح بإيراد نقدات أبي محمد الأعرابي في كتابه" فرحة الأديب" في الحواشي ، مقابل مواضعها في صفحات ابن السيرافي مما يرقى بالكتاب في مدارج الكمال من جهة ويجعل الفائدة المنشودة قريبة ميسرة من جهة أخرى ، إضافة إلى جهود علمية نافعة كثيرة يلمسها القارئ في هذا الكتاب وحواشيه ، والله تعالى ولي العون والسداد والتوفيق

والحمد لله رب العالمين

 المحقق

٩
١٠

١ ـ حياة ابن السيرافي

اسمه ونسبه :

هو أبو محمد يوسف (١) بن أبي سعيد الحسن (٢) بن عبد الله بن المرزبان السيرافيّ. كان جد يوسف مجوسيا اسمه بهزاد ، ثم أسلم فسماه ابنه أبو سعيد عبد الله (٣).

أصله من فارس ، وحدّث عن أبيه فقال «أصل أبي من سيراف ، وبها ولد ، وبها ابتدأ بطلب العلم ، وخرج منها قبل العشرين ، ومضى إلى عمان وتفقه بها ، ثم عاد إلى سيراف .. ودخل بغداد ، وخلف القاضي أبا محمد بن معروف.» (٤).

هذا عن أبيه ، فما القول في أصوله الأولى قبل سيراف ..

يحدثنا في ذلك ابن حوقل فيقول :

__________________

(١) ترجمته في : المنتظم لابن الجوزي ٧ / ١٨٧ ووفيات الأعيان ٦ / ٧٠ ومعجم الأدباء ٢٠ / ٦٠ ومرآة الجنان ٢ / ٤٢٩ والبداية والنهاية ١١ / ٣١٩ والجواهر المضيّة في طبقات الحنفية ٢ / ٢٢٦ والبلغة للفيروزابادي (تر ٤١٧) ٢٩١ وبغية الوعاة ٢ / ٣٥٥ وكشف الظنون ١ / ١٠٨ وهدية العارفين ٢ / ٥٤٩ وتذكرة النوادر ١٢٧

(٢) ترجمته في : نزهة الألبّاء (تر ١١٨) ٣٠٧ وإنباه الرواة ١ / ٣١٣ ووفيات الأعيان ١ / ٣٦٠ ومعجم الأدباء ٨ / ١٤٥ والبلغة (تر ٩٩) ٦١ وتاج التراجم ٨٢ وبغية الوعاة ١ / ٥٠٧ وشذرات الذهب ٣ / ٦٥

(٣) وفيات الأعيان ١ / ٣٦٠ و ٦ / ٧٠

(٤) وفيات الأعيان ١ / ٣٦٠ ومعجم الأدباء ٨ / ١٤٩

١١

«وبفارس سنّة جميلة ، وعادة فيما بينهم كالفضيلة ، من تفضيل أهل البيوتات القديمة ، وإكرام أهل النعم الأولية» ثم أخذ في تعداد هذه البيوتات إلى أن قال :

«وأهل المرزبان بن فرابنداد أقدم أهل هذه البيوتات في العجم ، وأكبرهم عددا ، منهم أبو سعيد الحسن بن عبد الله ..» (١).

هذه الحقيقة الهامة ، قد تفسر لنا الكثير من جوانب حياة أبي سعيد وسلوكه ، وحرصه على أن يصل طريفه بتالده في حياته الخاصة والعامة ، انطلاقا من تمسك الفرس بهذه الأصول وتكريمها ، وكذلك تحوّل ولده عن حرفته للسير بتوجيه من والده (٢) على الطريق العلمي النبيل ، للحفاظ على السمعة النقية ، والمجد الذائع الذي حققه أبو سعيد في أوساط الدولة ومجالسها الراقية.

نقول هذا دون أن نغفل ما كان عليه أبو سعيد من تديّن وتقوى ، وأثر ذلك في قويم مسلكه ، ونقاء معاملاته.

مولده :

كان مولد يوسف في بغداد سنة ٣٣٠ ه‍ (٣) بعد أن استقر والده فيها ، وهذا تاريخ صحيح وإن لم يصرح به غير ابن خلكان ، إلا أنهم اتفقوا على أنه توفي سنة ٣٨٥ وعمره خمس وخمسون سنة (٤).

__________________

(١) المسالك والممالك ٢٠٩

(٢) نقل التوحيدي في : (المقابسات ١١٢) قول أبي سعيد السيرافي يوصي ولده بقوله : «تركت لك هذه الكتب تكتسب بها خير الأجل ، فإذا رأيتها تخونك فاجعلها طعمة للنار».

(٣) وفيات الأعيان ٦ / ٧١

(٤) وفيات الأعيان ٦ / ٧١ والمنتظم لابن الجوزي ٧ / ١٨٧ ومعجم الأدباء ٢٠ / ٦٠ وبغية الوعاة ٢ / ٣٥٥

١٢

ونقدّر أنه حين ولد في بغداد ، كان أبوه قد بزغ فيها نجمه ، فقد جاء لياقوت في أبي سعيد قوله : «أفتى في جامع الرصافة خمسين سنة على مذهب أبي حنيفة ، فما وجد له خطأ ، ولا عثر له على زلة» (١) كما اتفقت كتب التراجم على أنه توفي سنة ٣٦٨ ه‍ عن أربع وثمانين سنة ، فمولده إذن هو سنة ٢٨٤ ه‍ ورزق بولده يوسف وسنّه تجاوز الخامسة والأربعين.

سيراف :

أما سيراف التي ينتسب إليها أبو سعيد ـ وبقيت تلازم اسم ولده بالرغم من استقراره في بغداد .. ـ فهي ميناء صخري على الساحل الشرقي للخليج العربي ، وقد كان لها في تاريخ الفرس حرمة دينية قديمة ، وتروى عنها بعض الأساطير ، واسمها مركّب من (شير) بمعنى اللبن و (آب) أي الماء ، ثم عربت فقلبت الشين إلى السين ، والباء إلى الفاء (٢).

وتعد سيراف حتى قبيل منتصف القرن الرابع أكبر مدينة في إقليم فارس بعد شيراز ، وتأتي أهميتها وهي القاحلة ـ «لا زرع فيها ولا ضرع إلا ما يحمل إليها من البلدان» (٣) ـ من أنها كانت مركز التبادل التجاري الوحيد على الساحل الشرقي بين فارس والهند. «فهي مشتبكة البناء ، كثيرة الأهل ، يبالغون في نفقات الأبنية ، حتى إن الرجل من التجار لينفق على داره زيادة على ثلاثين ألف دينار ، ويعملون فيها بساتين ، وإنما سقيها وفواكههم وأطيب مائهم من جبل مشرف عليهم يسمى حم» (٤).

__________________

(١) معجم الأدباء ٨ / ١٥٠

(٢) معجم البلدان ٣ / ٢١١

(٣) معجم البلدان ٣ / ٢١٢

(٤) المسالك والممالك لابن حوقل ١٩٨

١٣

وحين مر بها ياقوت فيما بعد ، دهش إذ لم يجد فيها شيئا مما قرأه عند ابن حوقل ، فلم يسعه إلا أن يقول : «كذا كانت في أيامه» واضطربت نفسه بحثا عن السبب فيما أصابها .. إلى أن وجده فقال : «فمنذ أن عمّر ابن عميرة جزيرة قيس ، صارت فرضة الهند ، وإليها منقلب التجار ، خربت سيراف وغيرها. ولقد رأيتها ، وليس بها قوم إلا صعاليك ، ما أوجب لهم المقام إلا حب الوطن» (١).

ثم يمر بها في حديثه ثانية ، فيعرّفها بعبارة هادئة ، يستمدها من واقعها القائم بعيدا عن التأثر والانفعال فيقول : «سيراف ، بليد على ساحل البحر من أرض فارس ، رأيته أنا وبه أثر عمارة قديمة ، وجامع حسن ، إلا أنه الآن خراب» (٢).

ونعود إلى تعليله السالف لخرابها فنقول : إنه ـ على وجاهته ـ غير كاف ليجعل من المدينة الصخرية العامرة خرابا .. قد يصح أن يخلق جلتها ويذهب بروائها وبهجتها ، أما أن يخرب بنيانها فأمر يحتاج إلى مزيد من البحث ..

ويأتينا الجواب قائلا : «سيراف بلد على الخليج ، خربتها الزلازل سنة ٩٧٧ م» (٣) أي ٣٦٧ ه‍. ثم نجد رديفا لهذا الخبر في أمثالهم : «ولا كزلازل سيراف» (٤).

وهكذا يتبين ـ والمنطقة كما يبدو لم تألف الزلازل ـ أن زلزالا مدمرا لم يسمع بمثله قد اختارها فقوض عامرها بعيد منتصف القرن الهجري الرابع ، فباتت به مضرب الأمثال.

__________________

(١) معجم البلدان ٣ / ٢١٢

(٢) معجم البلدان ٨ / ١٤٥

(٣) المنجد ـ فردينان توتال (سيرجان) ٢٧٦

(٤) معجم البلدان ٣ / ٦٣١

١٤

غير أن هذا الزلزال لم يستطع أن يمس ذكر هذه البلدة التي «خرج منها جماعة من العلماء» (١) من مثل أبي سعيد وولده (٢) ، حفظوا وجودها نابضا على الأيام.

مصور توضيحي (٣)

__________________

(١) وفيات الأعيان ١ / ٣٦٠ ـ ٣٦١

(٢) انظر ـ على سبيل المثال ـ ابن أبي الفتح السيرافي. بغية الوعاة ١ / ١١٢

(٣) استعنت لتحديد أماكن هذه البلدان في إقليم فارس (الأهواز) بمصورات ومراجع :

١٥

نشأته وتحصيله :

نشأ يوسف في بغداد ، وبها قضى حياته ، ولم يعرف عنه رحلة إلى غيرها قط ، إذ كفاه أبوه مؤونة كل شيء ، فسارت حياته في طريق هادئة.

فقد بدأ تعليمه على يد والده ، وتوسع في ذلك في حلقاته فيما بعد ، فلم يسع إلى شيخ غيره .. ولا ضير في ذلك ، وأبو سعيد هو «شيخ الشيوخ وإمام الأئمة معرفة بالنحو واللغة والشعر والعروض والقوافي والقرآن والفرائض والحديث والكلام والحساب والهندسة» (١).

غير أن أبا محمد لم يعتكف في محراب العلم كوالده ، ولم يصرف همه إليه وحده ، كيف .. وهو يرى في أبيه مثلا لا يشجعه على هذا ، إذ كان أبو سعيد ـ مع غزارة علمه وسعة شهرته ، وكثرة أعماله ـ ـ يحيا بأسرته في عيش هو أقرب إلى الكفاف ، فلقد كان «زاهدا ورعا ، لم يأخذ على الحكم أجرا» (٢) «ولا يأكل إلا من كسب يده ، فلا يخرج من بيته إلى مجلس الحكم ، ولا إلى مجلس التدريس في كل يوم إلا بعد أن ينسخ عشر ورقات يأخذ أجرها عشرة دراهم تكون قدر مؤونته ، ثم يخرج إلى مجلسه» (٣) مما حدا بابنه إلى أن يحترف عملا آخر ،

__________________

أ ـ المصورات : (أطلس التاريخ الإسلامي). صنع : هاري رهازارد ، ترجمة خورشيد ورفاقه. (وخريطة المملكة الإسلامية). مستمدة من خريطة : واصف والخضري وأطلس سبرونر. (وبلدان الخلافة الشرقية) لمؤلفه ليسترنج الخارطة (٦) مقابل ص ٢٨٣

ب ـ المراجع : الأنساب للسمعاني. والمسالك والممالك لابن حوقل. ومعجم البلدان لياقوت.

(١) معجم الأدباء ٨ / ١٥٠

(٢) بغية الوعاة ١ / ٥٠٧

(٣) إنباه الرواة ١ / ٣١٣ ـ ٣١٤

١٦

فكان يحضر مجالس أبيه العلمية ، وخاصة مجالس النحو واللغة ، ثم ينصرف إلى دكانه التي كان يعمل فيها سمانا (١) يضمن لنفسه عيشا أفضل.

غير أن ميله إلى العلم سرعان ما غلبه على أمره ، واستحوذ على كل جهده واهتمامه ، وذلك في موقف كان يمكن أن يمر دون أن يترك أثرا ، روى خبره أبو العلاء المعري فقال :

«حدثني عبد السلام البصري خازن دار العلم ببغداد ـ وكان لي صديقا صدوقا ـ قال : كنت في مجلس أبي سعيد السيرافي ، وبعض أصحابه يقرأ عليه (إصلاح المنطق) لابن السكّيت ، فمضى ببيت حميد بن ثور ، وهو :

ومطويّة الأقراب أما نهارها

فسبت ، وأما ليلها فذ ميل

«فقال أبو سعيد : ومطوية ، أصلحه بالخفض ، ثم التفت إلينا فقال : هذه واو ربّ ، فقلت : أطال الله بقاء القاضي ، إن قبله ما يدل على الرفع .. فقال : وما هو؟ فقلت :

أتاك بي الله الذي أنزل الهدى

ونور وإسلام عليك دليل

ومطوية الأقراب ...

«فعاد وأصلحه. وكان ابنه أبو محمد حاضرا ، فتغير وجهه لذلك ، فنهض لساعته ووقته ـ والغضب يستطير في شمائله إلى دكانه ، فباعها واشتغل بالعلم إلى أن برع فيه وبلغ الغاية ، فعمل شرح [أبيات] إصلاح المنطق» (٢). نذكر هذا دون أن نغفل ما تقدم من قول في استعداد ابن السيرافي للاعتكاف العلمي ـ استمرارا لتاريخ

__________________

(١) وفيات الأعيان ٦ / ٧١

(٢) وفيات الأعيان ٦ / ٧٠

١٧

أسرته المعروف من جهة واقتداء بسيرة أبيه العلمية ومجالسه وتأثيره من جهة أخرى ـ ليكون حلقة أصيلة في هذه السلسلة العريقة بعد ذلك.

وبالنظر لسعة علم والده ، وتشعب معارفه ، وشهرة مجالسه ، فقد اكتفى ولده ـ كما تقدم ـ بالأخذ عنه دون غيره ، فكان من نتيجة ذلك أن بقي في دائرة معارف أبيه وطرائقه ، مما حدا ببعضهم إلى أن ينسب إلى أبي سعيد من مؤلفات ابنه ما ينم عن جودة وإتقان ، ومنه كتابه محور بحثنا «شرح أبيات كتاب سيبويه» (١) ، كما كان من نتائج ذلك تعمده إغفال ذكر أبيه في هذا الشرح على الأقل ، مكتفيا عند الضرورة بعبارة (قيل فيه ..) في محاولة للتأكيد على أنها ثماره الخاصة ، ونتاجه الشخصي.

وإغفال ذكر الشيوخ ممن سمع عنهم ، أمر لم نألفه في المؤلفات القائمة بذاتها ، فكيف بكتاب يشرح لغيره ، وينظر في الشروح المتقدمة. وقد سبقه أبوه إلى شرح كتاب سيبويه «من أوله إلى آخره ، بغريبه ، وأمثاله ، وشواهده ، وأبياته» (٢).

علومه :

وهكذا تحددت طريق أبي محمد في خلال تحصيله ، فقد برع في ميداني النحو واللغة فذكر بهما ، وأكدت ذلك دروسه ، ثم نطقت به تآليفه.

«فهو عالم بالنحو» وأتم بعد أبيه كتاب «الإقناع في النحو .. وإذا تأملته لم تجد بين اللفظين والقصدين تفاوتا كثيرا» وكذلك «كانت كتب اللغة تقرأ عليه مرة رواية ، ومرة دراية ، وقرىء عليه كتاب (البارع) للمفضل بن سلمة ، وهو

__________________

(١) معجم الأدباء ٨ / ١٤٩ وبغية الوعاة ١ / ٥٠٨

(٢) الإمتاع والمؤانسة ١ / ١٣١

١٨

كتاب كبير في عدة مجلدات ، هذب به كتاب (العين) المنسوب إلى الخليل بن أحمد ، وأضاف إليه في اللغة طرفا صالحا» (١).

هذا مع أن «بضاعته قوية في العلوم الباقية» (٢) بدليل أنه تصدّر في مجلس أبيه بعد موته ، و «خلفه في جميع علومه» (٣) بعد أن عرفنا غنى معارف أبيه ، وكثرة العلوم التي كانت تقرأ عليه. لهذا يبعد أن نسلّم بعبارة ياقوت على إطلاقها ، لأن حال أبي محمد لا يؤكد صحتها ، وهذه كتبه وما خلفه من آثار تبين أنه «رأس في العربية واللغة» (٤) وجاءت بضاعته في غيرهما موضع نقد وتجريح ، تناول الغندجاني في «فرحة الأديب» جانبا منها.

وبذلك نستطيع أن نفسر خلافته أباه في مجلسه على أنه ملأ فراغه في حلقات النحو واللغة ، مع المشاركة بمعارف قريبة فيما يعرض له أثناء ذلك من العلوم الأخرى.

أثره ومشاركاته :

تبين لنا مما تقدم ، مدى الأثر الذي تركه ابن السيرافي فيما فقهه من علوم ، ونستطيع الجزم بأن أثره كان محصورا فيما قدّمه من جهوده في علمي النحو واللغة في ميدانين بارزين :

أولهما : مجالس التدريس ، فقد «تصدر في مجلس أبيه بعد موته ، وكان يفيد الطلبة في حياته» (٥) ، «ولم يزل أمره على سداد واشتغال وإفادة إلى أن توفي» (٦).

__________________

(١) وفيات الأعيان ٦ / ٧٠ وما بعدها ، ومرآة الجنان ٢ / ٤٢٩

(٢) الجواهر المضيّة في طبقات الحنفية ٢ / ٢٢٦

(٣) معجم الأدباء ٢٠ / ٦٠

(٤) المصدر السابق

(٥) الجواهر المضيّة .. الموضع السابق.

(٦) وفيات الأعيان ٦ / ٧٠

١٩

وثانيهما : ميدان التأليف ، وقد كان أبو محمد ـ فيما يبدو ـ حريصا على أن يقدم فيه أكبر قدر ممكن من المؤلفات القيمة.

أما مجالس التدريس ، فهى على أهميتها ، ومواظبة ابن السيرافي على أدائها إلى أن وافته المنية سنة ٣٨٥ ه‍ ـ إلا أنّ أثره فيها لم يتضح ـ فيما وصل إلينا من أخبار ـ كما لم يكن له من تلامذته من كان نابه الذكر ، فلم يبلغ بذلك شأو أبيه الذي كان من تلامذته : في النحو أمثال ابن مجاهد وأبي بكر بن دريد ، وفي القراءات أمثال أبي بكر بن السراج والمبرمان (١) ، كما كان أبو حيان التوحيدي أحد تلامذته الذين اشتد إعجابهم به طويلا ، ونوّه بذكره في معظم كتبه «فمن ذا مثله ومن ذا يجري مجراه» (٢).

مؤلفاته :

فإذا قصّر أبو محمد عن أبيه في مجال التدريس ، فقد عوض عن ذلك في ميدان التأليف الفسيح ، فكان منه عدد من المؤلفات الثمينة ، الدالة على فضله وسعة اطلاعه.

ومما يلفت النظر في مؤلفاته انتماؤها إلى لون واحد ، فقد سخرها جميعا لشرح شواهد العربية في أبرز كتبها المشهورة المتداولة. وهذه الكتب هي :

(١) شرح أبيات إصلاح المنطق. ورد في : وفيات الأعيان ٦ / ٧٠ ومعجم الأدباء ٢٠ / ٦٠ ومرآة الجنان ٢ / ٤٢٩ والجواهر المضيّة ٢ / ٢٢٦ والبلغة للفيروز أبادي ٢٩١ وبغية الوعاة ٢ / ٣٥٥ وخزانة الأدب ١ / ٤٠٥ وكشف الظنون ١ / ٣٢٨ وهدية العارفين ٢ / ٥٤٩ وتذكرة النوادر ص ١٢٧ ومعجم المؤلفين ١٣ / ٢٩١ والأعلام

__________________

(١) إنباه الرواة ١ / ٣١٣ ومعجم الأدباء ٨ / ١٤٥

(٢) المقابسات ٥٤ ، ٥٨

٢٠