شرح أبيات سيبويه - ج ١

أبي محمّد يوسف بن أبي سعيد السيرافي

شرح أبيات سيبويه - ج ١

المؤلف:

أبي محمّد يوسف بن أبي سعيد السيرافي


المحقق: الدكتور محمّد علي سلطاني
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار العصماء
الطبعة: ١
الصفحات: ٦١٠
الجزء ١ الجزء ٢

بغضهم لنا : أي تقادم ، وهو مهموز. يقول : بغضهم لنا قديم (١).

وقد روي : ولكن ودّهم متماين : أي ودّ كذوب ليس بصحيح ، والمين : الكذب ، يقال منه : مان يمين مينا. وهو على هذا التفسير غير مهموز (٢).

[الرفع حملا على المعنى ، والمألوف النصب]

٤٤ ـ قال سيبويه (١ / ١٤٩) قال أبو الأسود الدّؤليّ :

جزى الله ربّ الناس خير جزائه

أبا ماعز من عامل وصديق

قضى حاجتي بالحقّ ثم أجازها

بصدق وبعض القوم غير صدوق

(إذا جئت بوابا له قال مرحبا

ألا مرحب واديك غير مضيق) (٣)

ويروى : (إذا ما رآني مقبلا قال مرحبا) ويروى. (مرحب) بالرفع والنصب في الموضعين.

__________________

(١) وقال الأعلم ١ / ١٢٤ في شرحه : أمهلهم حتى يؤوبوا إلينا بودهم ، ويرجعوا عما هم عليه من قطيعتهم لنا ، فبغضهم إيانا لا حقيقة له.

(٢) أشار اللسان إلى هاتين الروايتين في (مأن) ١٧ / ٢٨٢ ثم قال : ويروى متيامن.

أي مائل إلى اليمن.

ـ الشاهد فيه نصب (عليّا) ب (رويد) وقد ورد الشاهد في : المقتضب ٣ / ٢٠٨ و ٢٧٨ والأعلم ١ / ١٢٤ والأشموني ٢ / ٤٨٨

وقال المبرد ٣ / ٢٧٨ من أراد أن يجعل (رويد) مصدرا محذوف الزوائد قال رويدا زيدا. ومن جعله مصدرا صحيحا قال : رويدا زيدا ورويد زيد.

(٣) رويت الأبيات في ديوان أبي الأسود (آل ياسين) ص ٦٤ من مقطوعة في ستة أبيات. وجاء صدر الثالث : ولما رآني مقبلا قال مرحبا. ووردت كذلك في ديوانه ـ نفائس المخطوطات ص ٢٨ وديوانه للدجيلي ص ١٦٥ وروي البيت الثالث بلا نسبة في المخصص ١٢ / ٣١٢ وجاء ضرب الثالث في المطبوع (مضيّق ـ مفاعلن) ـ احتذاء برواية سيبويه الذي اقتصر على الشاهد ـ غافلا عما أصاب الشعر من الحذف (مفاعي ـ فعولن) الذي سرى في ضرب الأبيات كلها ..

١٠١

أبو ماعز : هو عبد الرحمن بن عبد الله الأسدي ، ثم أحد بني دودان (١) ، وكان عاملا لعبيد الله (٢) بن زياد على جندي سابور (٣) ، وكان كوفيا على رأي أبي الأسود ، فخرج أبو الأسود إليه في حاجة ، فلما رآه أبو ماعز رحّب به وأكرمه وألطفه وأحسن جائزته (٤).

والشاهد (٥) فيه على رفع (مرحب). (واديك) مبتدأ وخبره (مرحب) ، و (غير مضيق) وصف لمرحب وهو كقولك : ألا واسع واديك.

ومن روى (ألا مرحبا) ، نصبه بإضمار فعل ، وجعل (واديك) مبتدأ و (غير مضيق) خبره. ويجوز على نصب (مرحبا) أن يكون (واديك) فاعلا ل (مرحبا) وتنصب (غير مضيق) وتجعله نعتا لمرحب.

[الإضافة غير المحضة]

٤٥ ـ قال سيبويه (١ / ٨٥) قال المرّار :

__________________

(١) في المطبوع : دودان. وصوابه ما أثبتّ. انظر جمهرة الأنساب ص ١٩٢ وما بعدها.

(٢) وال أموي فاتح اشتهر بحزمه وقدرته الخطابية قتله إبراهيم بن الأشتر في أرض الموصل سنة ٦٧ ه‍ ، أخباره في : البيان والتبيين ٢ / ١٣٠ وعيون الأخبار ٢ / ٤٤ و ٢٥٨ والدرة الفاخرة ٢ / ٥٤٠ ورغبة الآمل ٥ / ١٣٤ و ٢١٠

(٣) مدينة بخوزستان ، وهي مثنّى مضاف إلى سابور اسم بانيها الأول فيقال : هذا جنداسابور ودخلت جنديسابور. انظر : البكري ٢٤٨ وياقوت ٣ / ١٤٩

(٤) ذكره شارح الديوان (تح آل ياسين) ص ٦٤

(٥) ورد الشاهد في : المقتضب ٣ / ٢١٩ والنحاس ٤٧ / أوالأعلم ١ / ١٤٩ وقال النحاس : هذا حجة في أنه رفع (مرحب) الثاني وهو قوله (ألا مرحب) وكان وجهه النصب ، ولكنه حمله على معنى : ألا هو مرحب.

١٠٢

(سلّ الهموم بكلّ معطي رأسه

ناج مخالط صهبة متعيّس)

أنف الزّمام كأنّ صفق نيوبه

صخب المواتح في عراك المخمس

مغتال أحبله مبين عتقه

في منكب زبن المطيّ عرندس (١)

الشاهد (٢) في أنه أضاف (معطي) إلى (رأسه) إضافة غير محضة ، وهو في تقدير انفصال ، واستدل على أن الإضافة غير محضة (٣) وأنه على حكم التنكير ؛ أنه نعته بنكرة فقال : ناج مخالط صهبة.

معنى معطي رأسه : يريد أنه منقاد ليس بصعب ، والمتعيّس (٤) : الذي

__________________

(١) روي البيت الأول للمرّار الفقعسيّ في : فرحة الأديب ٤٢ / ب وسيلي نصه. ورويت الثلاثة للشاعر في : شرح الكوفي ٤٣ / أ. وجاء في المطبوع في صدر الثالث : (مبين عنقه) وهو تحريف. وروي الأول والثالث بلا نسبة في : المخصص ٧ / ٦٣ واللسان (عردس) ٨ / ١٣

(٢) ورد الشاهد في : سيبويه أيضا ١ / ٢١٢ والنحاس ٣٧ / أوالإيضاح العضدي ١٤٣ وتفسير عيون سيبويه ٢٠ / أوالأعلم ١ / ٨٥ و ٢١٢ وأسرار العربية ١٨٨ والكوفي ٤٣ / أ.

وقال سيبويه (١ / ٨٥) «فهذه الإضافة على المعنى لا على الأصل. والأصل التنوين ؛ لأن هذا الموضع لا يقع فيه معرفة». والدليل على ذلك عند الأعلم (١ / ٨٥) هو إضافة (كل) إليه ، لأن (كل) هنا لا تضاف إلا إلى نكرة ، ونعته (بناج وما بعده) وهو نكرة.

(٣) جعل النحويون الإضافة على ضربين : محضة وغير محضة ، ففي غير المحضة يكون المضاف : وصفا بمعنى الحال أو الاستقبال ، وهي لا تفيد المضاف سوى التخفيف بحذف التنوين فهي على نية الانفصال ، وإذا كان المضاف مفردا ودخلت عليه (ال) وجب دخولها على المضاف إليه وتفاصيل أخرى ، أما الإضافة المحضة فهي على خلاف ذلك. انظر مغني اللبيب ٢ / ٥١١ وابن عقيل ٢ / ٥ والأشموني ٢ / ٣٠٥

(*) قال الغندجاني تعقيبا على رواية ابن السيرافي وشرحه لكلمة (متعيّس) : «قال س : الصواب : (مخالط صهبة وتعيّس ١) أي خلط الصّهبة بالتعيّس ، فعطف المصدر على المصدر».

(فرحة الأديب ٤٢ / ب)

١٠٣

يضرب إلى البياض ، والأعيس : الأبيض ، أنف الزمام : قيل فيه إنه يأنف من الزمام كأنه غضبان. وقيل فيه : إنه الذي يأذى بالبرة (١) التي يشدّ فيها الزمام. يقال : قد أنفت الإبل : إذا تأدّت بالبرات ، والصّفق : الصوت ، والمواتح : الذين يمدّون الدّلاء حين تخرج من الآبار ، والمخمس : الذي يورد إبله خمسا ؛ في اليوم الخامس من اليوم الذي شربت فيه ، والعراك : ازدحام الإبل على الماء.

شبّه وقع صوت أنيابه بعضها على بعض بأصوات المواتح الذين يستقون ، فبعضهم يضاغن بعضا ، والأحبل : هي الحبال التي تشد على وسطه ، فكأنه لمّا لم يفضل منها شيء قد استهلكها. والعتق (٢) : الكرم وجودة الأصل. يقول : إذا رآه الرائي علم أنه كريم. وقوله : في منكب : يريد مع منكب له عظيم يدفع بها المطيّ إذا زاحمته ، والزّبن : الدفع ، وفي (زبن) ضمير يعود إلى المنكب. يريد أنّ منكبه دفع المطيّ عنه ، والعرندس (٣) : الشديد.

[الاسم المرفوع بعد : قلّما]

٤٦ ـ قال سيبويه (١ / ١٢) قال المرّار (٤) : /

صرمت ولم تصرم وأنت صروم

وكيف تصابي من يقال حليم

__________________

(١) البرة : حلقة تكون في أنف البعير أو في لحمة أنفه. جمعها برات وبرين وبرين.

القاموس (البرة) ٤ / ٣٠٣

(٢) في المطبوع : العنق ؛ وكذا عنده في الأبيات.

(٣) مؤنثه العرندسة. وتستعمل كذلك في صفة الأسد. المخصص ٧ / ٦٣ واللسان (عردس) ٧ / ١٣

(٤) في سيبويه : لعمر بن أبي ربيعة.

١٠٤

(وصدّت فأطولت الصّدود وقلّما

وصال على طول الصّدود يدوم) (١)

يقول : صرمت هذه المرأة قبل أن تصرمك ، يخاطب نفسه. ثم قال : وكيف تصابي من قد كبر وحلم ، وأراد : من يقال هو حليم. وصدت هذه المرأة فأطولت أنت الصدود ، ومع طول الصدود لا يبقى من المودة والمحبة شيء (٢).

__________________

(١) روي البيتان للمرّار بن سعيد الفقعسي في الأغاني ١٠ / ٣١٥ وفيه (عزفت) بدل (صرمت) وفي الثاني : (صددت فأطولت الصدود ولا أرى وصالا ..) وروي البيتان للمرّار في : فرحة الأديب ٤ / ب وسيلي نصه. والأول بلا نسبة في : اللسان (صرم) ١٥ / ٢٢٧ والثاني كذلك في : (طول) ١٣ / ٤٣٧ و (قلل) ١٤ / ٨٢ وفيه : قال ابن الأعرابي في شرح (صرمت ولم تصرم وأنت صروم) إنك لم تصرم صرم بتات ولكن صرمت صرم دلال وأنت قوي على الصرم. وهذا الشرح تناسبه رواية الأغاني للبيت الثاني (صددت) وجاء في اللسان (طول) ١٣ / ٤٣٧ والقاموس (طال) ٤ / ٩ «أطاله وأطوله بمعنى طوّله» أي أنه استعمل (أطولت) على الأصل لا على القياس.

(*) قال الغندجاني بعد أن أورد رواية ابن السيرافي للبيتين وشرحه لهما : «قال س : هذا موضع المثل :

يا أهل ذي المروة خلّوها تمرّ

فإنما أنتم نبيط وحمر

هذا من أفضح ما جاء به ابن السيرافي ، وذلك أن هذا الشعر ليس من الغريب الذي يشتبه على أحد. والصواب : صددت فأطولت الصدود.

ونظام الأبيات :

صرمت ولم تصرم وأنت صروم

وكيف تصابي من يقال حليم

يقول : صرمت ولم تصرم صرم ثبات ، ولكن صرم دلال.

صددت فأطولت الصدود ولا أرى

وصالا على طول الصّدود يدوم

كأنه يخاطب نفسه ويلومها على طول الصدود ، أي لا يدوم وصال الغواني

١٠٥

والشاهد (١) على أنه أخّر الفعل الذي كان ينبغي له أن يقع بعد (قلّما) وأوقع بعده (وصال) وهو مرفوع بإضمار فعل يفسره (يدوم) هذا الظاهر.

[حالة من عطف البيان ـ إذ لا يجوز البدل]

٤٧ ـ قال سيبويه (١ / ٩٣) قال المرّار :

(أنا ابن التّارك البكريّ بشر

عليه الطير ترقبه وقوعا)

__________________

إلا لمن يلازمهن ويخضع لهن. وفسر ذلك بالبيتين بعدهما. وهما :

وليس الغواني للجفاء ولا الذي

له عن تقاضي دينهنّ هموم

ولكنّما يستنجز الوعد تابع

مناهنّ ، حلّاف لهنّ أثيم».

(فرحة الأديب ٤ / ب)

(١) ورد الشاهد في : سيبويه أيضا ١ / ٤٥٩ والمقتضب ١ / ٨٤ والنحاس ٩٦ / ب والأعلم ١ / ١٢ و ٤٥٩ والإنصاف ٨٥ والكوفي ٤٦ / أوالمغني ش ٥١٤ ج ١ / ٣٠٧ وشرح السيوطي ش ٤٩٣ ص ٧١٧ والخزانة ٤ / ٢٨٧

وتتعدد آراء النحويين في هذا الشاهد. فعند سيبويه (قلما) كافة و (وصال) مبتدأ. ويرى المبرد أن (ما) زائدة و (وصال) فاعل ، والتقدير : قل وصال يدوم.

أما الأعلم فالشاعر عنده قدّم وأخّر لإقامة الوزن ، وإنما أراد : (وقلما يدوم وصال) فوصال فاعل مقدم. وقيل (ما) مصدرية ، والمصدر المؤوّل فاعل الفعل. واعترض ابن خلف بأنه لا يجوز أن تكون (ما) مصدرية لأنها معرفة و (قل) تطلب النكرة ؛ تقول : قلّ رجل يفعل ذلك. وقال الكوفي : (وصال) فاعل لفعل مضمر دلّ عليه الظاهر ، والتقدير : قلما يدوم وصال يدوم.

قلت : وعلى الجملة فإن (قلما) وأشباهها لا يليها إلا الفعل ، وإنما أدخلت عليها (ما) ليسوغ دخولها على الأفعال ، ولن يكون مقبولا أن ندخل (ما) لغاية في المعنى ، ثم نلغي وجودها فنعدها زائدة ، فهي إلى المصدرية أقرب.

١٠٦

علاه بضربة بعثت بليل

نوائحه وأرخصت البضوعا (١)

عنى بشر (٢) بن عمرو بن مرثد وقتله رجل من بني أسد ، ففخر المرّار بقتله. وبشر : هو من بكر بن وائل. وأرخصت البضوعا أي : أرخصت الضربة اللحم على الطيور ، والبضوع جمع بضعة ، وهو مثل مأنة ومؤون (٣).

وقد جاء بدرة وبدور. قال (٤) الفرزدق (٥) :

فيحبوه الأمين بها بدورا (٦)

ويروى : (البضيعا) مكان (البضوعا). والبضيع : اللحم. وزعم بعض الرواة أنه يريد بالبضوع بضوع نسائه أي نكاحهن.

يقول : لما قتلوه سبوا نساءه ، فنكحوهنّ بلا مهر. والبضوع : النكاح.

__________________

(١) روي البيتان للمرّار في : فرحة الأديب ٦ / أوسيلي نصه ، وهما للشاعر في : الخزانة ٢ / ١٩٣ ـ ١٩٤ وعنده (بشرا) بالنصب. والثاني بلا نسبة في : اللسان (بضع) ٩ / ٣٦١

(٢) سيد بني مرثد وهو زوج الخرنق أخت طرفة. قتله بنو أسد حين أغار عليهم يوم القلاب. انظر : الاختيارات ٣ / ٧٠ والمؤتلف ٦٠ ومراثي شواعر العرب ١ / ٢٢

(٣) المأنة : السّرّة أو ما حولها ، وجمعها مأنات ومؤون. القاموس (المأنة) ٤ / ٢٦٩ وهي في المطبوع : مائة.

(٤) في المطبوع : وقال.

(٥) الفرزدق همّام بن غالب التميميّ ، أبو فراس ، الشاعر المشهور ، أثره كبير في اللغة ت بالبصرة سنة ١١٠ ه‍. ترجمته في : الشعر والشعراء ١ / ٤٧١ والأغاني ٩ / ٣٢٤ ومعجم الأدباء ١٩ / ٢٩٧ وسرح العيون ٣٨٨ وشرح شواهد المغني للسيوطي ١٤ والخزانة ١ / ١٠٥

(٦) لا وجود لهذا الشطر في ديوان الفرزدق.

١٠٧

والتفسير الأول أعجب إليّ (١).

__________________

(*) وهنا ينبري الغندجاني للرد بإسهاب ، فيقول بعد أن أورد شرح ابن السيرافي للبيتين :

«قال س هذا موضع المثل :

أصبحت من ذكر أرجوانة كال ...

مرسل ماء فأمسك الزّبدا

ما أكثر ما يرجّح ابن السيرافيّ الرديء على الجيد ، والزائف على الجائز.

وذلك أنه مال إلى القول بأن البضوع هنا اللحم ، ولعمري إنها لو كانت لحوم المعزى والإبل لجاز أن يقع عليها اسم الرّخص والغلاء ، وهذه غباوة تامة.

والصواب أنهم لما قتلوه عرّضوا نساءه للسّباء ، لأنه لم يبق لهن من يحميهن ويذود عنهن. ثم إنه لم يذكر قاتل بشر من أي قبائل بني أسد كان ، وإذا لم تعرف حقيقة هذا ؛ لم يدر لأي شيء افتخر المرّار بذلك.

وقاتله سبع بن الحسحاس الفقعسي ، ورئيس الجيش جيش بني أسد ذلك اليوم خالد بن نضلة الفقعسي ، وهو جدّ المرّار بن سعيد بن حبيب بن خالد ابن نضلة.

وكان من حديث هذا اليوم وهو يوم قلاب ؛ أن حيأ من بني الحارث ابن ثعلبة بن دودان غزوا ، وعليهم خالد بن نضلة بن الأشتر بن جحوان بن فقعس ، فقالوا لكاهن لهم : انظر هل يخبرك صاحبك عن الماء؟ فتسجّى بثوبه ، فأتاه شيطانه فقال : اركبوا شنخوبا وطبلالا ، فاقلسوا الأرض أميالا ، فإنكم سترون قارات طوالا : وإن بينهن بلالا.

فحملوا رجلا منهم على أحد الفرسين ، فأجراه ، فوجد قارات بينهن غدير من ماء السماء ، فاستقى القوم وسقوا وأكلوا تمرا من زادهم ، فاعترض بشر ابن عمرو لآثارهم فقال : هذه آثار بني أسد. فلما وردوا الماء قال : انظروا

١٠٨

__________________

ما يصنعون بالنوى ، إن كان بني أسد فإنهم يطرحون النّوى من خلفهم ، وإن كانت تميم فإنهم يرمون النّوى من بين أيديهم.

فلما وجدوا مطرح نواهم قال : هذه بنو الحارث بن ثعلبة ، يأسر أحدهم عقاص المرأة ، ويفدي بالمائة. عليكم القوم. قال له ابنه : إن في بني الحارث ابن ثعلبة بني فقعس ، وإن تلقهم تلق القتال! فقال : اسكت فإن وجهك شبيه بوجه أمك عند البناء. فنفذ القوم ، فلما التقوا هزم جيش بشر فاتّبعته الخيل.

وهو مجيد ؛ أي صاحب أفراس جياد ، حتى توالى في أثره ثلاثة فوارس ، وما بينهم قريب. فكان أولهم سبع بن الحسحاس الفقعسي ، وأوسطهم عميلة بن المقتبس الوالبيّ ، وآخرهم خالد بن نضلة.

فأدركت نبل الوالبي الأوسط فرس بشر بن عمرو برمية رماه بها فعقرته ، ولحقه سبع فاعتنقه ، وجاء خالد وقال : يا سبع لا تقتله فإنا لا نطلبه بدم ، وعنده مال كثير وهو سيّد من هو منه. فأجلساه بينهما واعتزل الوالبي.

وأتتهم الخيل ، فإذا مرّ به رجل أمرهم بقتله ، حتى جعل بعض القوم يوعده فيزجر عنه خالد ، ثم إن رجلا همّ أن يوجه إليه السنان ، فنشز خالد على ركبتيه وقال : اجتنب إليك أسيري.

فغضب سبع أن يدّعيه خالد ، فدفع سبع في نحر بشر فوقع مستلقيا ، فأخذ برجله ، ثم أتبع السيف فرج الدرع حتى خاض به كبده. فقال بشر : أجيروا سراويلي فإني لم أستعن. ثم أرسله ، وعمد إلى فرسه فاقتاده. فقال حين قتله وهو غضبان : أسيرك وأسير أبيك.

فقالت الخرنق تعيّر عبد عمرو بن بشر حين حضّض على طرفة والمتلمّس :

١٠٩

[حذف الفعل لكثرته في كلامهم]

٤٨ ـ قال سيبويه (١ / ١٤٥) قال الحارث بن ضرار النّهشليّ يرثي يزيد بن نهشل (١) :

سقى جدثا أمسى بدومة ثاويا

من الدّلو والجوزاء غاد ورائح

(ليبك يزيد ضارع لخصومة

ومختبط مما تطيح الطّوائح) (٢)

__________________

هلّا ابن حسحاس قتلت وخالدا

هنالك لم تقتل هناك ولم تشر

هم طعنوا أباك في فرج درعه

وولّيت لا تلوي على محجر تجري».

(فرحة الأديب ٥ / أوما بعدها)

وقد ورد الشاهد ـ وهو جر (بشر) بإجرائه على لفظ البكري وليس فيه الألف واللام ـ في : الأعلم ١ / ٩٣ وشرح الأبيات المشكلة ٩١ والكوفي ٤٦ / أوأوضح المسالك ش ٤١١ ج ٣ / ٣٦ وابن عقيل ش ٧١ ج ٢ / ١٧٠ والأشموني ٢ / ٤١٤ والخزانة ٢ / ١٩٣ وشرح البلبل المليح ٣٧

وقد خطّأ المبرد رواية سيبويه ، وعنده بنصب (بشر) لأنه لا يصح القول (أنا ابن التارك بشر) بالجر بدلا من (البكري). وحجة سيبويه أنه سمعه ممن يرويه عن العرب ، ولبعد الاسم المضاف ، وكذلك لأن (بشر) تابع ، عطف بيان ، يقوم مقام الصفة وليس بدلا ، ويجوز في الصفة ما لا يجوز في الموصوف فتقول : يا زيد الظريف ولا يجوز يا الظريف.

(١) عبارة سيبويه : «وإنشاد بعضهم للحارث بن نهيك».

(٢) أورد سيبويه ثانيهما حيث الاستشهاد ونسبه إلى الحارث بن نهيك ، ووجدته منسوبا إلى ضرار النهشلي يرثي يزيد بن نهشل في : شرح أبيات المفصل ورقة ١٩٦ / أوقال العيني ٢ / ٤٥٤ عند ذكره للشاهد :

«أقول : قائله هو نهشل بن حريّ بن ضمرة بن جابر النهشلي .. وقال البعلي هو الحارث بن نهيك النهشلي ، وقال النيلي في شرح الكافية هو ضرار النهشلي ، ونسبه بعضهم لمزرّد ، ونسبه أبو إسحاق الحربي عن أبي عبيدة إلى المهلهل ، ولم يقع في كتاب المجاز

١١٠

الشاهد (١) في أنه رفع (ضارع) فعل ، كأنه قال بعد قوله : ليبك يزيد : ليبكه ضارع.

__________________

لأبي عبيدة منسوبا إلا لنهشل يرثي أخاه. وهو من قصيدة حائية وأولها قوله :

لعمري لئن أمسى يزيد بن نهشل

حشا جدث تسفى عليه الرّوائح».

اه وأورد عدة أبيات ، وجاء في عجز الثاني :

ومستمنح مما أطاح الطوائح

ومن الغريب أن تكون روايته مخالفة ؛ وعند الشرح يقول : «ومختبط من قولهم اختبطني فلان إذا جاءك يطلب معروفك من غير أجرة. وعند الجوهري من غير معرفة بينكما. والمختبط هنا المحتاج ، وأصله من الخبط وهو ضرب الشجر ليسقط ورقها للإبل».

وفي الخزانة ١ / ١٥٠ روي البيتان في أبيات نسبها إلى نهشل بن حريّ تبعا لابن خلف في شرح أبيات الكتاب ، في مرثية يزيد. ثم توهم أن النحاس نسب الشاهد في شرح أبيات الكتاب إلى لبيد ، والحال أن الشاهد السابق له كان للبيد ، وحين وصل النحاس إلى هذا الشاهد قال (وقال) فظن تابعا لما قبله ، ثم تبعه شاهد ثالث اكتفى معه الشارح بعبارة (وقال) ؛ وعلى هذا استند محقق (شرح ديوان لبيد) فألحق الأبيات بشعره ص ٣٦١ ثم ختم البغدادي عبارته بتأكيد نسبة البيت إلى نهشل بن حريّ مستندا الى ابن خلف في : شرح أبيات الكتاب وكذا شرح أبيات الإيضاح.

ـ وهو نهشل بن حريّ بن ضمرة الدارميّ التميمي ، شريف مخضرم كان مع علي في حروبه ، وبقي إلى أيام معاوية. انظر الخزانة ١ / ١٥١

وروي الثاني بلا نسبة في اللسان (طيح) ٣ / ٣٦٩. وجاء في المطبوع في صدر الثاني : (لخصومه) بالهاء.

(١) ورد الشاهد في : سيبويه أيضا ١ / ١٨٣ و ١٩٩ والمقتضب ٣ / ٢٨٢ والنحاس ٤٥ / أوالإيضاح العضدي ٧٤ والأعلم ١ / ١٤٥ وشرح الأبيات المشكلة ٧٦ وشرح أبيات المفصل ١٩٦ / أوالكوفي ٤٧ / أو ٦٦ / أوالمغني ش ٨٧٠ ج ٢ / ٦٢٠ وأوضح المسالك ش ٢٠٤ ج ١ / ٣٤٢ والعيني ٢ / ٤٥٤ والأشموني ١ / ١٧١ والخزانة ١ / ١٤٧

وأورد الفارقي تعليلا مقبولا لتفضيل رفع (ضارع) خدمة للمعنى ، لأن الضارع يبكي يزيد لفقده إياه ويأسه من نصير بعده من جهة ؛ ولأن الفعل قد يخلو من المفعول ولا يخلو من الفاعل من جهة أخرى.

١١١

دومة : اسم موضع معروف ، والثاوي : المقيم ، والضارع : الذي قد ذلّ وضعف ، والمختبط : السائل ، وتطيح : تهلك. يقال : طاح الشيء يطيح : هلك ، وأطحته أنا. والغادي : الذي يأتي بالغداة ، والرائح : الذي يأتي بالعشيّ.

وقوله : من الدلو والجوزاء : أراد المطر الذي يجيء عند سقوط هذين النجمين. وقوله : مما تطيح ، و (ما تطيح) : مصدر بمنزلة الإطاحة ، كما تقول : يعجبني ما صنعت ، أي يعجبني صنيعك. وأراد : مختبط من أجل ما قد أصابه من إطاحة الأشياء المطيحة ، أي من أجل الأشياء المهلكة.

يريد أنه احتاج وسأل من أجل ما نزل به. والطوائح في البيت بمنزلة المطيحات ، وهو كما قال عزّ وجلّ : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ (١).

ويروى : (ليبك يزيد) بفتح حرف المضارعة ونصب (يزيد) ويرتفع (ضارع) ب (يبك) (٢).

[الفصل بالظرف بين اسم الفاعل ومعموله]

٤٩ ـ قال سيبويه (١ / ٨٩) في باب جرى مجرى الفاعل الذي يتعداه فعله إلى مفعولين ، في اللفظ لا في المعنى» (٣). قال الأخطل :

جواد إذا ما أمحل الناس ممرع

كريم لجوعات الشتاء قتولها

ثم ذكر الأخطل بعد هذا البيت بيتين ، ثم عطف فقال :

(وكرّار خلف المجحرين جواده

إذا لم يحام دون أنثى حليلها) (٤)

__________________

(١) سورة الحجر ١٥ / ٢٢

(٢) فلا شاهد فيه.

(٣) تقدمت الإشارة إلى هذا الباب في الفقرة الثالثة ، وعبارة سيبويه : «.. الذي يتعدى فعله ..».

(٤) ديوانه ص ٢٤٤ من قصيدة له يمدح همّام بن مطرّف التغلبي. وجاء في عجز الأول (لجوعات النساء) ورواية الثاني :

١١٢

يمدح بهذه القصيدة همّام بن مطرّف (١) التغلبيّ ، وكان سيد بني تغلب.

أمحل الناس : أجدبوا ، والممرع : المكان المعشب. يريد أنه للناس ؛ بمنزلة البلد الذي فيه عشب ، فالانتفاع به عام كالانتفاع بالبلد المعشب. وهم يصفون الجواد بأنه يقتل الجوع ، يعنون أنه يزيل جوع الجياع بالإطعام. فإذا أبطل الجوع بالإشباع / فهو بمنزلة القاتل له لأنه أبطله ، والمجحرون : المتأخرون.

يقول : الذين قد تأخروا في الهزيمة ، ولحقتهم الخيل فقاربت أخذهم ؛ يحميهم هو ويمنع منهم حتى ينجوا. وقوله : (إذا لم يحام دون أنثى حليلها) يريد أنه شجاع يحمي قومه ويمنع منهم إذا بلغ الخوف من الناس أشدّ مبلغ ، حتى يفرّ الرجل ، ويترك زوجته لا يدافع عنها. والحليل الزوج.

ويروى (خلف المرهقين) وهو مثل معنى المجحرين. ويروى :

حفاظا إذا لم يحم أنثى حليلها

يريد : محافظة على حسبه أن يعاب بأنه ترك قومه وانصرف عنهم.

والشاهد فيه أنه أضاف (كرّار) إلى (خلف) وجعل (خلف المجحرين) مفعولا على السعة (٢).

__________________

وكرار خلف المرهقين جواده

حفاظا إذا لم يحم أنثى حليلها

وجاء في المطبوع في صدر الثاني (وكرار) بالكسر. هذا مع تذكير المؤلف بأن الشاعر قد عطف. وفيه كذلك (جواده) بالضم. مع أنه موضع الشاهد ..

(١) في المطبوع : مطرف.

(٢) ونصب (جواد) لأنه المفعول به في الحقيقة. هذا عند سيبويه ، أما عند الفراء فاسم الفاعل (كرار) مضاف إلى معموله (جواد) وقد فصل بينهما بالظرف. أي يصح عنده القول : يا سارق الليلة أهل الدار. انظر تفصيل ذلك في الفقرة (٣)

١١٣

[الفصل بين المتضايفين]

٥٠ ـ قال سيبويه (١ / ٩١). «ومما جاء مفصولا به بينه وبين المجرور قول الأعشى» :

ولا نقاتل بالعصيّ

ولا نرامي بالحجاره

إلا علالة أو بدا ...

هة قارح نهد الجزاره

هذا إنشاد الكتاب ، والبيتان في شعره متفرقان ، والترتيب على ما وجدته :

وهناك يكذب ظنّكم

أن لا اجتماع ولا زياره

ولا براءة للبري ...

ء ولا عطاء ولا خفاره

(الا بداهة أو علا ...

لة قارح نهد الجزاره)

ثم مضى الأعشى في قوله إلى أن قال :

ولا نقاتل بالعصيّ

ولا نرامي بالحجاره

ولا تكون مطيّنا

عند المباهاة البكاره (١)

يخاطب شيبان بن شهاب يقول : إذا غزوناكم علمتم أن ظنكم بأننا

__________________

وقد ورد الشاهد في : معاني القرآن ٢ / ٨١ والنحاس ١٦ / أوالأعلم ١ / ٩٠ والكوفي ٩ / أو ٤٣ / ب والخزانة ٣ / ٤٧٤ وقال النحاس : أضاف إلى الظرف الذي أحلّه محل الاسم فقال : وكرار خلف.

(١) ديوان الأعشى ق ٢٠ / ٤٧ ـ ٤٨ ـ ٤٩ و ٥٤ ـ ٥٥ ص ١٥٩ من قصيدة قالها يهجو شيبان بن شهاب الجحدري ، من أبناء عمومة الشاعر. وجاء في عجز الثالث (سابح) بدل (قارح) وفي صدر الرابع (لسنا نقاتل) أما الأخير فهو مجهول في الديوان ، وليس منه سوى كلمة القافية (البكاره). وروي الثالث والرابع للشاعر في : اللسان (بده) ١٧ / ٣٦٨ والثالث في (علل) ١٣ / ٤٩٧

١١٤

لا نغزوكم كذب ، وأنّا لا نجتمع ولا نزوركم بالخيل والسلاح غازين لكم. ولا براءة للبريء ، يقول : من كان بريئا منكم لم تنفعه براءته ، لأن الحرب إذا عظمت وتفاقمت لحق شرها البريء ؛ كما يلحق غيره. وأراد أننا ننال جماعتكم بما تكرهون ، ولا نقبل منكم عطاء (١) ولا خفارة تفتدون بها منا حتى نترك قتالكم.

وأراد لا قبول عطاء لكم ولا خفارة ، (إلا بداهة) استثناء منقطع.

يقول : نحن لا نقبل منكم عطاء ولا خفارة ، لكن نزوركم بالخيل. والبداهة (٢) : أول جري الفرس ، والعلالة : جري بعد جريه الأول. والقارح من الخيل : الذي قد بلغ أقصى أسنانه (٣). ويروى : سابح. والسابح : الذي يدحو بيديه في العدو ، والجزارة من الفرس : رأسه وقوائمه ، والنهد : العظيم ، ولم يرد أنّ على قوائمه لحما كثيرا ؛ وإنما يريد أن عظامه غليظة. والمطيّ : جمع مطيّة وهي الراحلة التي يركب مطاها : وهو ظهرها ، والمباهاة : المفاخرة والمعاظمة. يريد (٤) أنهم لا يركبون من الإبل إلا البزل والجلّة ، وكانوا يعيّرون من ركب (٥) بكرا (٦) أو بكرة. وقوله : لا نقاتل بالعصيّ ، يريد أنهم ليسوا

__________________

(١) اختار محقق الديوان العطاء بكسر العين وشرحها بمعنى الانقياد ، من : عاطى بيده إذا انقاد ، والخفارة الذمام. أي : لا براءة لبريء ولا إسجاح ولا انقياد ولا حرمة ولا جوار.

(٢) كذا شرح اللسان للبداهة والعلالة في بيت الأعشى (علل) ١٣ / ٤٩٧ و (بده) ١٧ / ٣٦٨ وقال شارح الديوان : العلالة البقية من الشيء ، والبداهة المفاجأة ، أي : لن يكون بيننا إلا مفاجأة فرس طويل العنق والقوائم يستنفد القتال العلالة الباقية من نشاطه. أقول : وماذا ينفع الفرس حين يصل إلى هذه المرحلة من استنفاد القوة! وشرح ابن السيرافي أليق بمراد الشاعر.

(٣) ذكر البغدادي أن ذلك عند إكماله خمس سنين ١ / ٨٤ والقارح من ذي الحافر بمنزلة البازل من الإبل. القاموس (القرح) ١ / ٢٤٢

(٤) في الأصل والمطبوع : يريدون.

(٥) في المطبوع : يركب.

(٦) وهو الفتيّ من الإبل. الصحاح (بكر) ٢ / ٥٩٥

١١٥

برعاء ولا من السّفلة الذين لا سلاح معهم ، فإذا تقابلوا تراموا بالحجارة وتضاربوا بالعصيّ.

ويروى :

ولا نلاطم بالأكفّ

والشاهد (١) في البيت الثانى ، على أنه فصل بين المضاف والمضاف إليه. كذا مذهب سيبويه ، وعنده أنّ (علالة) مضاف إلى (القارح) و (بداهة) مضاف إلى شيء محذوف. كأنه قال : إلا علالة قارح أو بداهته.

ومذهب أبي العباس (٢) : أن (علالة) مضاف إلى شيء محذوف. و (بداهة) مضاف إلى (قارح) (٣). فعلى ما ذهب إليه أبو العباس لا يكون في البيت فصل بين المضاف والمضاف إليه ، وإنما يكون حذف المضاف إليه من الاسم الأول وهو يراد ، كأنه قال : إلا علالة قارح أو بداهة قارح ، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه.

ولقائل أن يقول : إن قول سيبويه جار على ما يوجبه نظم الكلام ، وذلك أن الاسم إذا احتيج إلى تكرير ذكره ذكر بلفظه (٤) الظاهر في أول الكلام ، ثم أعيد بلفظ الضمير إلى أن تتم الجملة. كقولك : هذا أخو زيد وصديقه وجاره ، ولا تقول : هذا أخو زيد وصديق زيد (٥) وجار زيد.

فنحن إذا قدّرنا الأول مضافا إلى الظاهر ، وقدّرنا الثاني مضافا إلى ضمير الاسم المتقدم ؛ فقد أتينا بالشيء على أصله.

__________________

(١) ستلي الإشارة إلى ورود الشاهد بعد.

(٢) هو المبرد محمد بن يزيد الأزدي الثّمالي ، إمام العربية المشهور. ت بغداد ٢٨٥ ه‍.

ترجمته في : أخبار النحويين البصريين ص ٧٢ وبغية الوعاة ١ / ٢٦٩ والبلغة ٢٥٠

(٣) في المطبوع : القارح.

(٤) في المطبوع : بلفظ الظاهر.

(٥) في الأصل والمطبوع : (هند) وهو سهو.

١١٦

قال : فإن قال قائل : مذهب أبي العباس أولى ؛ لأن / البيت على مذهب سيبويه فيه قبح من وجهين :

أحدهما أنه فصل بين المضاف والمضاف إليه في الاسم الأول ، وحذف المضاف إليه في الثاني. قيل له : قول أبي العباس فيه قبح من جهة أنه حذف المضاف إليه من الاسم [الأول](١) والاسم الثاني على ما توجبه العربية (٢).

قيل له : إن المضاف إليه قد يحذف في الكلام ولا يكون حذفه ضرورة ، نحو : يا رب اغفر لي ، ويا غلام أقبل ، يريد يا غلامي. قال الله عز وجل : (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ (٣) يريد به من قبل كل شيء ، ومن بعد كل شيء. فحذف المضاف إليه.

فإن قال : هذا لا يشبه ما ذكرت ؛ لأن المضاف إليه إذا حذف جرى المضاف (٤) في اللفظ مجرى الاسم الذي ليس بمضاف ، وتغيّر عن اللفظ الذي كان عليه في حال (٥) الإضافة.

وقوله (أو بداهة) قد بقي مفتوحا على ما كان عليه في حال الإضافة ، غير منوّن. وهذا لا يكون إلا في الضرورة.

قيل له : إنه ولي (بداهة) اللفظ ب (قارح) لم يغيّروه ، لأنه قد وليه ما كان يجوز أن يضاف إليه ، فجعلوا اللفظ على لفظ إضافة البداهة إلى القارح. والتقدير على خلاف ذلك (٦).

__________________

(١) زيادة يقتضيها السياق ، ليست في المطبوع.

(٢) أشار إلى الوجهين وأغفل الثاني.

(٣) سورة الروم ٣٠ / ٤

(٤) في الأصل والمطبوع (المضاف إليه) وهو سهو.

(٥) في المطبوع : حالة.

(٦) ورد الشاهد في : سيبويه أيضا ١ / ٢٩٥ ومعاني القرآن ٢ / ٣٢١ وسر صناعة

١١٧

[وجوب اتصال الفعل المتأخر بضمير يعود على معموله المتقدم]

٥١ ـ قال سيبويه (١ / ٦٤) في : «باب من الاستفهام يكون الاسم فيه رفعا» : «أكلّ يوم قميص تلبسه. فإذا كان وصفا ، فأحسنه أن يكون فيه الهاء ، لأنه ليس موضع إعمال ، ولكنه يجوز كما جاز في الوصل ، لأنه موضع ما يكون من الاسم» (١).

ذكر سيبويه أن الفعل الذي يقع موقع الوصف ؛ أحسنه أن يكون فيه الهاء ، لأنه بالمضمر (٢) يصير وصفا للأول ويلتبس ، ولو لم يكن فيه ضمير من الموصوف ؛ لم يصلح أن يكون صفة له ، فلذلك كان الأحسن ثبات الهاء.

وقوله : «لأنه ليس موضع إعمال» يريد أن الاسم المتقدم في أول الكلام ، لا يجوز أن يعمل فيه الفعل الذي هو وصف. وقد مثّل ذلك سيبويه بأن قال : «أزيدا أنت رجل تضربه» لو حذفت الهاء لم يعمل (تضرب) في (زيد) ولا في (رجل) لأن الفعل الذي هو وصف لا يعمل في الموصوف ولا فيما قبله.

__________________

الإعراب ١ / ٢٩٧ والأعلم ١ / ٩١ والكوفي ٤٤ / أوالخزانة ١ / ٨٣ و ٢ / ٢٤٦ وقال ابن جني : أي : إلا بداهة سابح أو علالة سابح.

أما الأعلم فالشاهد عنده إضافة (بداهة) إلى القارح مع الفصل (بالعلالة) ضرورة.

وسوّغ ذلك أنهما يقتضيان الإضافة إلى القارح اقتضاء واحدا ، والتقدير قبل الفصل : إلا بداهة قارح أو علالته ، فلما اضطر إلى الاختصار والتقديم حذف الضمير ، وقدم العلالة وضمها إلى البداهة.

(١) عبارة سيبويه (١ / ٦٥): «أكل يوم ثوب تلبسه .. لأنه ليس بموضع إعمال .. لأنه في موضع ما يكون من الاسم».

(٢) في المطبوع : لو أضمر.

١١٨

وقوله : «ولكنه يجوز كما جاز في الوصل» يريد أنه يجوز حذف الضمير من الصفة كما يجوز حذف الضمير من صلة (الذي) ، إذا قلت : الذي ضربت زيد. فالصفة تابعة للموصوف ولا تعمل فيه ، فجاز حذف الضمير من الصفة ؛ كما جاز حذفه من الصلة.

وقال قيس (١) بن حصين بن زيد الحارثي :

(أكلّ عام نعم تحوونه)

يلقحه قوم وتنتجونه

أربابه نوكى فلا يحمونه

ولا يلاقون طعانا دونه

هيهات هيهات لما يرجونه (٢)

__________________

(*) لم تذكره المصادر لدي. وقد رد الغندجاني ـ في : (فرحة الأديب ٤٢ / ب) ـ هذه النسبة بقوله :

«قال س : قائل هذا البيت رجل من بني ضبة ، قاله يوم الكلاب الثاني».

وعلى الهامش عبارة تقول : (هنا كلام ساقط).

(١) رويت الأبيات في : الأغاني ١٦ / ٣٣٠ ، ونسبها الأصفهاني إلى رجل من بني ضبّة ، وجاء في مناسبتها أن أهل اليمن من بني الحارث وفيهم أشرافهم ، يزيد بن عبد المدان.

ويزيد بن مخرّم بن قضاعة ومذحج ، وكان رئيس مذحج عبد يغوث بن صلاءة ، أغاروا على تميم ، وانتهت المعركة بانتصار تميم ، وهو يوم الكلاب الثاني. وأسر عبد يغوث ، وقال وهو أسير شعرا. وذكر الأصفهاني قبل البيت الأخير :

أنعم الأبناء تحسبونه

ورويت في : الكامل لابن الأثير ١ / ٣٨٠ لقيس بن عاصم المنقري. والأول والثاني بلا نسبة في : المخصص ١٧ / ١٩ واللسان (نعم) ١٦ / ٦٥

١١٩

الشاهد (١) فيه أنه جعل (تحوونه) وصفا ل (نعم) (٢) و (نعم) مبتدأ و (أكلّ عام) خبره.

وجعل ظرف الزمان خبرا عن النعم ، وظروف الزمان لا تكون أخبارا للجثث لتأويل فيه ، وهو أنه يقدّر أن الكلام فيه حذف ، وأصله : أكلّ عام أخذ نعم أو تحصيل نعم أو ما أشبه ذلك.

يلقحه قوم : أي يحملون الفحولة (٣) على النوق ، فإذا حملت أغرتم عليها فأخذتموها وهي حوامل ، فنتجتموها : أي ولدت عندكم. ويقال : أنتجت الناقة إذا ولدت عندي.

والنّوكى : جمع أنوك وهو الأحمق ، الضعيف العمل والتدبير ، فما تحمونه : لا تمنعون من أراد الإغارة عليه. هيهات هيهات لما يرجونه : أي رجوا أن يدوم لهم هذا الفعل في الناس ، فمنعناهم منه وحمينا ما ينبغي أن نحميه (٤).

وقال زيد (٥) الخيل :

__________________

(١) ورد الشاهد في : النحاس ٣٣ / أوالأعلم ١ / ٦٥ والإنصاف ٤٥ والكوفي ٤٧ / أوالأشموني ١ / ٩٥ والخزانة ١ / ١٩٦ وعند النحاس : كأنه قال : أكلّ عام نعم محويّ.

(٢) في المخصص ١٧ / ١٩ أن (النعم) يذكر ويؤنث. وكذلك الأنعام.

(٣) في المطبوع : الفحول.

(٤) إذا صح شرح ابن السيرافي للبيت الأخير هنا ، فقد أفسد نسبته إلى حارثيّ ، وهم ممن قام بالإغارة ، ولكن معنى هذا البيت يتّضح بذكر البيت المحذوف قبله ، وقد أورده الأصفهاني. وهو قوله :

أنعم الأبناء تحسبونه

أي أن هذه الغنيمة التي تستحوذون عليها كلّ عام ؛ هيهات أن تدوم لكم كما ترجون.

(٥) زيد بن مهلهل الطائي ، أبو مكنف ، شاعر خطيب من أعلام الجاهلية ، أدرك الإسلام سنة ٩ ه‍ في وفد طيّىء. وسماه الرسول (ص) زيد الخير. توفي في العام نفسه ٩ ه‍

١٢٠