شرح التّسهيل المسمّى تمهيد القواعد بشرح تسهيل الفوائد - ج ٨

محمّد بن يوسف بن أحمد [ ناظر الجيش ]

شرح التّسهيل المسمّى تمهيد القواعد بشرح تسهيل الفوائد - ج ٨

المؤلف:

محمّد بن يوسف بن أحمد [ ناظر الجيش ]


المحقق: علي محمّد فاخر [ وآخرون ]
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٩٢

.................................................................................................

______________________________________________________

سيبويه : فإذا انقضى الكلام ثم جئت بـ «ثمّ» فإن شئت جزمت وإن شئت رفعت ، وكذلك «الواو» و «الفاء» ، إلا أنه يجوز النصب بالفاء والواو ، وبلغنا أن بعضهم قرأ (١) : (يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشآء ويعذّب من يشآء).

وروي بالأوجه الثلاثة «ونأخذ» من قول الشاعر :

٣٨٩٦ ـ فإن يهلك أبو قابوس يهلك

ربيع النّاس والبلد الحرام

ونأخذ بعده بذناب عيش

أجبّ الظّهر ليس له سنام (٢)

وجاز النصب بعد «الفاء» و «الواو» إثر الجزاء ؛ لأن مضمونه لم يتحقق وقوعه فأشبه الواقع بعده الواقع بعد الاستفهام.

قال : وأنشد الفراء في كتاب «المعاني» (٣) :

٣٨٩٧ ـ فإن يهلك النّعمان تعر مطيّه

وتخبأ في جوف العياب قطوعها

وتنحط حصان آخر اللّيل نحطة

تقضّب منها أو تكاد ضلوعها (٤)

فنصب «تخبأ» وجزم «تنحط». ـ

__________________

(١) هي قراءة ابن عباس والأعرج وأبي حيوة. انظر : الإتحاف (ص ١٦٧) ، والبحر المحيط (٢ / ٣٦٠).

(٢) هذان البيتان من الوافر وهما للنابغة الذبياني ، ديوانه (ص ١٠٥).

الشرح : قوله : أبو قابوس : هو كنية النعمان ، وقابوس معرب كاووس كطاووس : اسم أحد ملوك الفرس ، وقوله : ربيع الناس والبلد الحرام : يريد أنه كان كالربيع في الخصب لمجتديه ، وكالشهر الحرام لجاره أي لا يوصل إلى من أجاره كما لا يوصل في الشهر الحرام إلى أحد ، وقوله بذناب عيش : ذناب كل شيء ـ بكسر الذال ـ عقبه وما يأتي في أواخره ، وأجب الظهر : مقطوع الظهر كأنه جمل قطع سنامه ، ويقال : بعير أجب وناقة جباء : إذا كان قد قطع سنامها ، والسنام : حدبة البعير.

والشاهد : في «ونأخذ» فإنه يجوز فيه الرفع على الاستئناف ، والنصب بتقدير «أن» والجزم بالعطف على «يهلك» ، ويروى «ونمسك بعده» وهي رواية الديوان ، والبيتان في معاني الفراء (٣ / ٢٤) ، والأشموني (٤ / ٢٤) ، والكتاب (١ / ١٩٦) (هارون) ، والمقتضب (٢ / ١٧٩) ، والإنصاف (ص ١٣٤) ، وابن يعيش (٣ / ٥٧٩) ، والخزانة (٤ / ٩٥).

(٣) انظر : معاني القرآن (١ / ٨٧).

(٤) هذان البيتان من الطويل قالهما النابغة الذبياني ، ديوانه (ص ١٠٧) من قصيدة يمدح بها النعمان بن الحارث الأصغر الغساني ، وكان قد خرج إلى بعض متنزهاته.

الشرح : العياب : جمع عيبة وهو ما يوضع فيه الثياب ، والقطوع : أداة الرحل وهو جمع قطع كالطنفسة ونحوها ، يقول : إن هلك النعمان ترك كل وافد الرحلة ولم يستعمل مطيته وخبأ في جوف العياب الطنفسة

٥٤١

.................................................................................................

______________________________________________________

ثم قال (١) : وإن خلا الفعل المتوسط بين الشرط والجزاء من الفاء والواو جزم ، وجعل بدلا من الشرط ، أو رفع وكان في موضع نصب على الحال ، فمثال المجزوم المجعول بدلا (٢) قول الشاعر :

٣٨٩٨ ـ متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا

تجد حطبا جزلا ونارا تأجّجا (٣)

ومثال المرفوع [٥ / ١٣٠] المقدر في موضع الحال قول الآخر :

٣٨٩٩ ـ متى تأته تعشو إلى ضوء ناره

تجد خير نار عندها خير موقد (٤)

__________________

التي توضع على الرحل استعدادا للرحيل ، وقوله : «وتنحط حصان» أي تزفر حزنا لفقده ، وتذكرا لمعروفه وفضله ، وقوله : «تقضب» أي تزفر حتى تكاد ضلوعها تكسر من شدة الزفير ، والتقضب التكسّر ، و «الحصان» : المرأة العفيفة ، وهي ذات الزوج أيضا ، وإنما خص آخر الليل ؛ لأنه وقت هبوبها من نومها ، فعند ذلك تتذكره ، وتزفر من أجله ، وأيضا فإنه وقت يرغب فيه العدو الغارة ، فتذكر النعمان لذبه عنها ونصره لها.

والشاهد فيهما : نصب «تخبأ» بإضمار «أن» ، وجزم «تنحط» عطفا على محل «تخبأ» ؛ لأن «تخبأ» يصح جزمه عطفا على ما قبله وهو «تعر» الواقع جوابا للشرط ، فكان المجزوم بعده معطوفا على محله.

والبيتان في معاني القرآن (١ / ٨٧) ، والتذييل (٦ / ٦٦٨) ، واللسان «نحط».

(١) أي : ابن مالك.

(٢) قال سيبويه في الكتاب (٣ / ٨٦): «وسألت الخليل عن قوله :

متى تأتنا تلمم بنا ... البيت

قال : «تلمم» بدل من الفعل الأول».

(٣) هذا البيت من الطويل نسب للحطيئة وليس في ديوانه ، الشرح : تلمم : مضارع مجزوم من الإلمام وهو الزيارة ، والجزل : غلاظ الحطب ، يريد أنهم يوقدون الجزل من الحطب لتقوى نارهم فينظر إليها الضيفان على بعد فيقصدونها ، وقوله : نارا تأججا : مأخوذ من التأجج وهو التوقد والالتهاب ، وفي «تأجج» ضمير يعود إلى النار فكان ينبغي أن يقول : تأججت ، وإنما ذكر لأنه في تأويل الشهاب كأنه قال : وشهابا تأجج.

والشاهد فيه : جزم «تلمم» لأنه بدل من قوله : «تأتنا» وتفسير له : لأن الإلمام إتيان ، ولو أمكنه رفعه على تقدير الحال لجاز والبيت في الكتاب (٣ / ٨٦) ، والمقتضب (٢ / ٦١) ، والإنصاف (ص ٥٨٣) ، وابن يعيش (٧ / ٥٣) ، والخزانة (٣ / ٦٦٠).

(٤) هذا البيت من الطويل من قصيدة طويلة للحطيئة مدح بها بغيض بن عامر ، وقوله : تعشو : أي : تنظر ببصر ضعيف ، يريد أنه ابتدأ بالنظر إلى النار على بعد شديد فقصدها بذلك النظر حتى قرب منها فأضاءت له.

والشاهد فيه : رفع «تعشو» وتقديره في موضع الحال أي : متى تأته عاشيا ، والبيت في الكتاب (٣ / ٨٦) ، والمقتضب (٢ / ٦٣) ، وابن يعيش (٢ / ٦٦) ، والعيني (٤ / ٤٣٩) ، والخزانة (٣ / ٦٦٠) ، وديوان الحطيئة (ص ٢٥).

٥٤٢

.................................................................................................

______________________________________________________

انتهى.

وإنما ذكرت حكم الفعل الخالي من «الفاء» و «الواو» هنا قبل الدخول في فصل «الجوازم» لتعلقه بما ذكر قبله ، ولا يخفى أننا استفدنا من جزم «تنحط» بعد نصب «تخبأ» أن الفعل المعطوف على فعل منصوب واقع بعد فعل الجزاء يجوز فيه ثلاثة الأوجه : النصب والرفع والجزم ؛ لأن الجزم إذا جاز كان النصب والرفع أجوز ؛ لأن النصب بالعطف على لفظ ما قبله ، والرفع على الاستئناف ، وأما الجزم فإنما هو على الموضع ؛ لأن «تخبأ» مثلا في البيت يجوز فيه الجزم عطفا على ما قبله ، فكان المجزوم بعده معطوفا على محله.

وإذا عرف ذلك فلنرجع إلى ألفاظ الكتاب ونقول :

قوله : بين مجزومي أداة شرط أراد به الجزم لفظا أو محلّا ، فلو كان الفعلان ماضيين كان حكم الفعل الواقع بينهما كذلك ثم إنه لا يلزم ذكرهما معا ، فقد يكون الجزاء محذوفا لدليل ، ويكون حكم النصب باقيا ، قال الشاعر :

٣٩٠٠ ـ فلا يدعني قومي صريحا لحرّة

لئن كنت مقتولا ويسلم عامر (١)

فقوله «ويسلم» واقع بين مذكور ومحذوف ، التقدير : لئن كنت مقتولا ويسلم عامر فلا يدعني قومي ، وإنما حذف لدلالة ما قبل عليه كقولهم : أنت ظالم إن فعلت.

وقوله : أو بعدهما أي : بعد فعلي الشرط ، ولا يريد خصوصية الفعل ، بل لو كان الجزاء جملة اسمية كان الحكم كذلك ، قال الله تعالى : (وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ)(٢) قرئ (٣) ـ

__________________

(١) هذا البيت من الطويل نسب لقيس بن زهير بن جذيمة ، ويعني بقوله : ويسلم عامر أي : عامر بن الطفيل والمراد به القبيلة كما ذكر ابن السيرافي ، والشاعر يقول : لئن قتلت وعامر سالم من القتل فلست بصريح النسب حر الأم ، ويعني بذلك أنه إن لم يثأر من العامري الذي قتل أباه فلا يدعه قومه صريحا لحرة.

والشاهد في البيت : نصب «يسلم» لوقوعه بين الشرط والجزاء مع كون الجزاء محذوفا لدلالة ما قبله عليه ، ويجوز الرفع على الاستئناف ، قال سيبويه : «والرفع أيضا جائز حسن». انظر : الكتاب (٣ / ٤٦) ، والمقتضب (٤ / ٩٣) ، والهمع (٢ / ١٦) ، وانظر : الدرر اللوامع (٢ / ١٠).

(٢) سورة البقرة : ٢٧١.

(٣) في (ج): «قرأ». وقد قرأ نافع وحمزة والكسائي بالجزم ، وقرأ الباقون بالرفع ، ولم يقرأ بالنصب في السبعة. انظر الكشف (١ / ٣١٧) والحجة لابن خالويه (ص ١٠٢).

٥٤٣

.................................................................................................

______________________________________________________

(ويكفّر) بالرفع والنصب والجزم على موضع (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)(١) ، على أن الجزم في هذه الآية الشريفة وفي مثلها كقوله تعالى : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ)(٢) قد أشار إليه المصنف بقوله : وقد يجزم المعطوف على ما قرن بالفاء اللازم لسقوطها الجزم ، وأما النصب في نحو هاتين الآيتين الشريفتين فقد يقال : ليس في كلام المصنف ما يدل على جوازه ، لأنه قيّد الكلام أولا بقوله : بين مجزومي أداة شرط وأشار آخرا إلى الجزم بقوله : وقد يجزم المعطوف على ما قرن بالفاء ولم يتعرض إلى ذكر النصب.

وفي شرح الشيخ بعد أن مثّل بالآيتين الشريفتين (٣) : ولم يذكر سيبويه (٤) النصب هنا فلعله منعه لضعفه في الأصل وهو أن يكون فعل الجزاء مجزوما فأجري هنا ، قال : والرفع وجه الكلام ؛ لأن المعطوف عليه ليس مجزوما. ولا يقبل لفظه الجزم. انتهى.

وبعد : فإذا كان النصب ثابتا في إحدى القراءات السبع تعيّن الاعتراف بصحته ، وارتفع الإشكال (٥).

ومما نبّه عليه الشيخ (٦) : أن فعل الجزاء لو كان معمولا لغير الشرط فالرفع يحسن نحو : إن تأتني فلن آتيك وأجفوك ، وإن أتيتني لم آتك وأجفوك ، ويجوز الجزم والنصب ، والذي نبه عليه واضح.

وأما نصب الفعل بعد الحصر بـ «إنما» فقد عرفت قول المصنف : أو بعد حصر بـ «إنّما» اختيارا.

وقال في شرح الكافية بعد أن ذكر إجراء التقليل مجرى النفي في إيلائه جوابا منصوبا (٧) : وكذلك أجروا الحصر بـ «إنما» كقولهم : إنما هي ضربة من الأسد ـ

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٧١.

(٢) سورة الأعراف : ١٨٦.

(٣) انظر : التذييل (٦ / ٦٦٧).

(٤) استشهد سيبويه بالآيتين الشريفتين ولم يذكر النصب كما أشار إلى ذلك الشيخ أبو حيان. وانظر : الكتاب (٣ / ٩٠ ، ٩١).

(٥) لم يثبت أن أحدا من القراء السبعة قرأ بالنصب حتى يقول المؤلف ذلك ، اللهم إلا أن يريد نفي ثبوت النصب في إحدى القراءات السبع ، كأنه يريد أن يقول : فإذا كان النصب ثابتا في إحدى القراءات السبع تعين الاعتراف بصحته وارتفع الإشكال ولكنه لم يثبت. والله أعلم.

(٦) انظر : التذييل (٦ / ٦٦٧).

(٧) انظر : شرح الكافية الشافية (٣ / ١٥٥٥).

٥٤٤

.................................................................................................

______________________________________________________

فتحطم ظهره ، وعليه قراءة ابن عامر : فإنما يقول له كن فيكون (١).

وقد عرفت أن بدر الدين خرّج قولهم : إنما هي ضربة من الأسد فيحطم ظهره ، على أنه من النصب بإضمار «أن» جوازا لعطف مصدر مؤول على مصدر صريح ، والذي قاله حق ، وأنه قال بعد أن ذكر قراءة ابن عامر : وهو نادر لا يكاد يعثر على مثله إلا في ضرورة من الشعر. وهذا من بدر الدين رحمه‌الله تعالى ليس إنكارا لقراءة ابن عامر إذ لا يمكن إنكارها ، وإنما هو إنكار أن يكون مقتضى النصب هو الحصر بـ «إنما» فإن ذلك لم يكن مجمعا عليه ، إذ ذكر النحاة للنصب مسوغا غير ذلك ، فمنهم من قال : إنه جاء على النصب في الواجب ، ونسب ذلك إلى الشلوبين (٢) ، وردّ هذا القول بأن النصب في الواجب إنما بابه الشعر (٣). وقراءة ابن عامر ثابتة بالتواتر ، ومنهم من قال (٤) : إن مسوغ النصب وقوع الفعل جوابا للأمر ، وردّ (٥) ذلك أيضا بأن (كُنْ) هنا ليس أمرا على الحقيقة ؛ لأن المعدوم لا يصح خطابه ، إنما جرى ذلك على معنى سرعة التكوين كأنه قال تعالى : إنما شأننا مع المقدورات أن تتعلق قدرتنا بها فتكون بغير تأخير ، ولا لفظ هناك ولا نطق ، فعبّر بالقول عن التعلق.

والحاصل : أن القول في الآية الشريفة كناية عن سرعة الخلق والتمكن من إيجاد ما يريد الله تعالى إيجاده ، إذ المعدوم لا يؤمر ، وخرّج الشيخ (٦) ذلك على أن يكون من المنصوب بعد الفاء بعد جواب الشرط ؛ لأنه تقدّمه : (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) فـ «إذا قضى» شرط ، و «فإنما» جوابه وصار نظير قوله تعالى : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ) في قراءة من نصب (٧).

وقد يقال للشيخ : المسوغ للنصب بعد «الفاء» إثر الجزاء كون مضمونه لم يتحقق وقوعه كما تقدم ، حتى يشبه الواقع بعد الجزاء الواقع بعد الاستفهام ، ـ

__________________

(١) سورة البقرة : ١١٧ ، وسورة آل عمران : ٤٧ ، وسورة مريم : ٣٥ ، وسورة غافر : ٦٨.

(٢) انظر : التذييل (٦ / ٦٠٩).

(٣) الراد هو الشيخ أبو حيان. انظر : المرجع السابق.

(٤) انظر : التذييل (٦ / ٦٠٨).

(٥) هذا كلام الشيخ أبي حيان. انظر : التذييل (٦ / ٦٠٩).

(٦) انظر : التذييل (٦ / ٦٠٩).

(٧) هي قراءة ابن عباس والأعرج وأبي حيوة. انظر الإتحاف (ص ١٦٧) ، والبحر المحيط (٢ / ٣٦٠).

٥٤٥

.................................................................................................

______________________________________________________

ولا شك أن الشرط والجزاء في قوله تعالى : (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) محققا الوقوع ، وإذا كانا بهذه الحيثية انتفت مشابهة الاستفهام ، وإذا انتفت مشابهة الاستفهام انتفى المسوغ للنصب ، والأولى أن يقال : اكتفى في النصب بصورة الأمر ، والأمر ينصب جوابه ، فلما اشتمل هذا التركيب على صورة أمر وجواب في اللفظ عومل بما يعامل به الأمر والجواب الحقيقيان.

وعلى هذا يقال : مجموع الكلام من الأمر والجواب هو الكناية عن سرعة الخلق والإيجاد ، لا القول وحده (١) ، وهذا النوع هو الذي يقال فيه عند أصحاب [٥ / ١٣١] علم «البيان» : إنه التمثيل على سبيل الاستعارة. وهو «المجاز المركب» عندهم.

وقال الشيخ (٢) : قول المصنف : (اللّازم لسقوطها الجزم) ، يشمل صورتين ، ويحترز به من صورتين : أما المشمولتان : فأن تكون «الفاء» دخلت على ما لا يقبل الجزم ، لكن لو حلّ مكانه ما يقبل الجزم لجزم نحو ما تقدم من قوله تعالى : (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ)(٣) وأن تكون «الفاء» قد دخلت على نفس المضارع فارتفع ، فلو حذفت الفاء لا يجزم الفعل على الجواب.

وأما الصورتان المحترز عنهما : فإحداهما : لا يلزم لسقوطها الجزم بل يجوز ، والثانية : لا يلزم بل يمتنع.

فالصورة الأولى : إذا نصبت ما قرن بالفاء بعد فعل الشرط قبل فعل الجزاء ، وكان الفعل المنصوب بعد «الفاء» قريبا من معنى الشرط ، فإنك إذا حذفت «الفاء» جاز الجزم على البدل من فعل الشرط ، وجاز الرفع على أن يكون الفعل في موضع الحال ، مثال ذلك : إن تأتني فتمشي إليّ وتحسن إلى خالد أحسن إليك ، فلا يجوز في «وتحسن إلى خالد» الجزم لأنه لو سقطت «الفاء» من : «فتمشي إليّ» لما تعين الجزم في : تحسن ؛ إذ يجوز فيه الجزم على البدل كما قلنا ، ويجوز الرفع على الحال.

والصورة الثانية : إذا كان ذلك الفعل ليس قريبا من معنى فعل الشرط ، فإنه إذا ـ

__________________

(١) في هذا الكلام رد من المؤلف على الشيخ أبي حيان الذي ذهب إلى أن القول في الآية كناية عن سرعة الخلق والتمكن من إيجاد ما يريد الله تعالى إيجاده معللا ذلك بأن المعدوم لا يؤمر.

(٢) انظر : التذييل (٦ / ٦٧٢ ، ٦٧٣) وقد تصرف فيما نقله عنه.

(٣) سورة البقرة : ٢٧١ ، وانظر : التذييل (٦ / ٦٦٦).

٥٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

حذفت «الفاء» لا يجوز الجزم فيه ، مثال ذلك : إن تركب إليّ فتضحك وتقرأ أحسن إليك ، فلا يجوز الجزم في : «وتقرأ» ؛ لأنك لو حذفت الفاء من : فتضحك لم يجز الجزم ، بل يرتفع الفعل على أنه في موضع الحال. كأنك قلت : إن تركب إليّ ضاحكا وقارئا أحسن إليك. انتهى.

وأما قول المصنف : والمنفيّ بـ «لا» الصّالح قبلها كي جائز الرّفع والجزم سماعا عن العرب فقد عرفت معناه ومثاله من كلام بدر الدين.

قال المصنف في شرح الكافية (١) : وحكى الفراء عن العرب في المضارع المنفي بـ «لا» الجزم والرفع إذا حسن تقدير «كي» قبله ، وأنهم يقولون : ربطت الفرس لا ينفلت ولا ينفلت وأوثقت العبد لا يفرّ ولا يفرر ، قال : وإنما جزم ؛ لأن تأويله : إن لم أربطه فرّ ، فجزم على التأويل ، قال : وأنشدني بعض بني عقيل :

٣٩٠١ ـ وحتّى رأينا أحسن الفعل بيننا

مساكتة لا يقرف الشّرّ قارف (٢)

وقال :

٣٩٠٢ ـ لو كنت إذ جئتنا حاولت رؤيتنا

أتيتنا ماشيا لا يعرف الفرس (٣)

بجزم : يقرف ، ويعرف ، ورفعهما. انتهى.

قال الشيخ (٤) : لم يذكر المصنف ولا ابنه خلافا في هذه المسألة وادّعيا أن العرب تجيز الجزم والرفع في مثل هذا ، وقد خالفا في ذلك الخليل وسيبويه (٥) وسائر البصريين ، فكان ينبغي أن ينبه على خلاف هؤلاء ، وإذا كان خلاف هؤلاء لا ينقل ، ويزعم أن العرب تقول مثل هذا اغترّ بذلك من ليس له اطلاع على مذاهب العرب ، ولا على خلاف أئمة العرب ، ولكن الظن يسعهما ، أما ابن المصنف فلقلة محفوظه ، وأما أبوه المصنف فلقلة اعتنائه بكتاب سيبويه ، قال سيبويه (٦) رحمه‌الله تعالى : وسألته ـ يعني الخليل ـ عن : آتي الأمير لا يقطع اللّصّ ، فقال (٧) : الجزاء ها هنا خطأ ، لا يكون الجزاء أبدا حتى يكون الكلام الأول غير واجب ، إلا أن ـ

__________________

(١) انظر : شرح الكافية الشافية (٣ / ١٥٥٦) وقد سبق أن أورد المؤلف هذا الكلام عن شرح التسهيل لبدر الدين.

(٢ ، ٣) تقدم.

(٤) انظر : التذييل (٦ / ٦٧٤ ـ ٦٧٧).

(٥) ليست في التذييل.

(٦) انظر : الكتاب (٣ / ١٠١).

(٧) في النسختين : قال.

٥٤٧

.................................................................................................

______________________________________________________

يضطر الشاعر ، ولا نعلم هذا جاء في الشعر ألبتة.

يعني لا يكون الجزاء أي : لا يكون الجزم ، وذكر أن الجزاء خطأ فصرح بأنه خطأ ثم قال : إلا أن يضطر الشاعر ثم قال : ولا نعلم هذا جاء في الشعر ، ونفى عن نفسه أن يحفظ مثل هذا في الشعر ، هذا على سعة علم الخليل وحفظه ومعرفته ، فكيف يدّعي مدّع أن العرب تجزم مثل هذا؟

ثم نقل عن ابن عصفور : أنه تعرض إلى ذكر المسألة في كتبه ، وأنه ذكر عن الكوفيين أنهم أجازوا ذلك ، وأنه قال بجوازه في الضرورة ، وذكر أنه استدل بالبيتين اللذين ذكرهما المصنف ، ثم قال : ـ أعني الشيخ ـ ويمكن تخريج هذين البيتين على أن تكون «لا» في كل منهما ناهية ، ويكون ذلك من باب قولهم : لا أرينّك هاهنا ، وقول النابغة :

٣٩٠٣ ـ لا أعرفن ربربا حورا مدامعه (١)

فكأنه قال : لا تتعرض فأراك هاهنا ، وكذلك لا تتعرضوا للقتال فأعرف ربربا فكذلك يقدر هاهنا : لا تتعرض لغير المجاملة فيقرف الشرّ قارف ، أي : فيكتسب الشر مكتسب ، ولا تتعرض للركوب فيعرف الفرس فتفتضح ، وإذا احتمل أن يكون من باب ما صورته النهي ، ويراد به النهي عن غيره وانتفاؤه هو لم يكن في ذلك دليل على جواز الجزم على المعنى الذي ذهب إليه الفراء والكوفيون ، ووافقهم المصنف وابنه عليه ، وحمله ابن عصفور عليه ، ويؤيد هذا التأويل قول الخليل : ولا نعلم هذا جاء في الشعر ألبتة.

فانظر تفاوت ما بين كلام المصنف وكلام الناس ، هو يقول : العرب تقول كذا ، والخليل يقول : هو خطأ ، والأستاذ أبو الحسن يقول : هو ضرورة لا يقاس عليها في ـ

__________________

(١) هذا صدر بيت من البسيط وهو للنابغة ، ديوانه (ص ٧٥) وعجزه كما في التذييل (٦ / ٦٧٧).

مردّفات على أعقاب أكوار

الشرح : الربرب : القطيع من البقر ، شبه النساء به في حسن العيون وسكون المشي ، وقوله : مدامعه : رواية الديوان والتذييل : مدامعها ، وهي مواضع الدمع ، وقوله : حورا : جمع حوراء من الحور وهو : شدة بياض العين مع شدة سوادها ومردفات : متتابعات بعضها وراء بعض ، وأعقاب : جمع عقب. وعقب كل شيء آخره ، وأكوار : جمع كور وهو الرحل بأداته ، ويروى : على «أحناء» جمع حنو وهو السرج.

والشاهد : في «لا أعرفن» فإن «لا» ناهية ، وهي نهي للمتكلم ، وهو قليل جدّا.

والبيت في المغني (ص ٢٤٦) ، وشرح شواهده (ص ٦٢٥) ، والعيني (٤ / ٤٤١) ، وشرح التصريح (٢ / ٢٤٥) ، والأشموني (٤ / ٣).

٥٤٨

.................................................................................................

______________________________________________________

الشعر. انتهى.

ولقد تحامل الشيخ على المصنف في قوله : إنه ادّعى أن العرب تجيز الجزم والرفع في مثل هذا ، فإن المصنف لم يدّع ذلك ، بل قال كما علمت : وحكى الفراء عن العرب في المضارع المنفي بـ «لا» الجزم والرفع إذا حسن تقدير «كي» قبله إلى آخر كلامه ، ولم يسند إلى نفسه شيئا ، ولم يثبت ولم ينف ، وأما كونه ينسب المصنف إلى قلة اعتنائه بكتاب سيبويه ظنّا منه أنه لم يطلع على ما قاله الخليل وسيبويه في المسألة ، فلا يرتضي من الشيخ أن يقول في حق المصنف ذلك مع شهادة المعتبرين له بالتبريز ومن يدرك غوامض الكتاب كيف تخفى عليه ظواهره؟ بل يقال : إن المصنف تأدب مع الخليل وسيبويه غاية التأدب ، وذلك أنه لما رأى كلامهما يقتضي عدم جواز الجزم في هذه المسألة ، ورأى الفراء ـ مع جلالة قدره في العلم ـ وحفظه ـ حكى الجزم عن العرب ذكر ما حكاه الفراء مقتصرا على ذلك ، ولم يحكم من قبل نفسه بشيء ، ولا شك أن العرب نطقت بذلك في البيتين اللذين تقدم إنشادهما ، ويؤيد ذلك ذكر ابن عصفور [٥ / ١٣٢] أيضا المسألة المذكورة وإنشاده البيتين المذكورين ، فلم يكن المصنف هو المنفرد بهذا الأمر ، فقد ذكره غيره كما ذكره هو ، والخليل رحمه‌الله تعالى لم ينف مجيئه إنما نفى العلم بمجيئه. ثم إن الخليل لما قال : إن الجزاء خطأ لا يكون الجزم أبدا ، لم يقل المصنف هو مجزوم على الجواب كي لا يناقض كلامه كلام الخليل ، بل قال : إن فيه الجزم سماعا عن العرب ، ولا شك أنه مسموع نثرا ونظما.

وأما كونه جائزا اختيارا أو ضرورة فلم يتعرض إليه المصنف ، وأما كونه ضرورة أو غير ضرورة فلم يتعرض المصنف إلى ذكر ذلك ، بل قال : حكي عن العرب ، ولم يسند الحكاية إليه بل أسند ذلك إلى الإمام الكبير الذي عرفت ، وبعد أن ذكر الشيخ ما ذكر قال (١) : ويمكن تخريج البيتين اللذين استدل بهما المصنف وابنه على جواز الجزم في السعة ، وابن عصفور على مجيئه في الضرورة على وجه غير ما ذكروه وهو أن تكون «لا» فيه ناهية ، ويكون ذلك من باب قولهم : لا أرينّك ها هنا ، وقول النابغة :

٣٩٠٤ ـ لا أعرفن ربربا حورا مدامعه (٢)

__________________

(١) انظر : التذييل (٦ / ٦٧٦ ، ٦٧٧) ، وقد سبق أن نقل المؤلف هذا الكلام عن شرح الشيخ.

(٢) تقدم.

٥٤٩

.................................................................................................

______________________________________________________

كأنه قيل : لا تتعرض فأراك هاهنا ، ولا تتعرضوا للقتال فأعرف ربربا ، وهكذا يقدر هنا : لا تتعرض لغير المجاملة فيقرف الشر قارف أي : فيكتسب الشر مكتسب ، ولا تتعرض للركوب فيعرف الفرس فتفتضح ، قال : وإذا احتمل أن يكون من باب ما صورته النهي ويراد به النهي عن غيره وانتفاؤه هو لم يكن في ذلك دليل على جواز الجزم على المعنى الذي ذهب إليه الفراء والكوفيون ، ووافقهم المصنف وابنه عليه ، وحمله ابن عصفور عليه ، ثم قال (١) :

وقوله :

٣٩٠٥ ـ ... لا يعرف الفرس (٢)

من باب :

٣٩٠٦ ـ على لاحب لا يهتدى بمناره (٣)

أي : لو جئت ماشيا لم يكن معك فرس فيعرف ، فنفى عرفان الفرس ، والمقصود نفي الفرس ، قال : وقول المصنف : (والمنفيّ بـ «لا» الصّالح قبلها «كي») لا يختص ذلك بأن يكون منفيّا بـ «لا» عند الكوفيين بل متى كان الفعل الموجب سببا للمجزوم ، والمجزوم أعم من أن يكون منفيّا بـ «لا» أو مثبتا نحو : يأتي زيد الأمير يفلت اللّصّ ، أي : إن يأته يفلت اللص ، قال (٤) : لكن المصنف لما رأى تمثيل الفعل منفيّا بـ «لا» والشاهد الذي أنشده منفيّا بـ «لا» أيضا اعتقد أن شرط جواز الجزم أن يكون منفيّا بـ «لا» وليس ذلك بشرط عندهم (٥) ، قال (٦) : فقوله : (الصّالح قبلها «كي») ، ينبغي أن يقول فيه : الصالح قبل الفعل «كي» ، وهو معنى قول الكوفيين : أن يكون الفعل الموجب سببا للمجزوم ، إلا أن يكون المصنف أحدث قولا ثالثا خالف فيه البصريين والكوفيين ؛ لأن البصريين قالوا : ذلك خطأ (٧) ، والكوفيون أجازوه (٨) ، ولم يشترطوا فيه أن يكون ـ

__________________

(١) أي : الشيخ أبو حيان في التذييل (٦ / ٦٧٧).

(٢) تقدم.

(٣) سبق شرحه والتعليق عليه في باب نوني التوكيد.

(٤) أي : الشيخ أبو حيان.

(٥) أي : عند الكوفيين وهو ما حكاه الفراء.

(٦) أي : الشيخ أبو حيان.

(٧) يشير بذلك إلى مذهب الخليل.

(٨) يشير بذلك إلى ما حكاه الفراء عن العرب.

٥٥٠

.................................................................................................

______________________________________________________

منفيّا بـ «لا» والمصنف شرط ذلك ، فهو قول ثالث لم يتقدمه إليه أحد. انتهى.

ويا للعجب!! قد عرفت أن المصنف لم يحكم في المسألة المذكورة بشيء من قبل نفسه حتى يقال إنه أحدث قولا ثالثا ، ولم ينسب إجازة ذلك إلى بصري ولا كوفي حتى يحتاج أن يشترط في المسألة شيئا أو لا يشترط ، وإنما نقل عن الفراء أن العرب تقول : كيت وكيت ، والفراء إمام كبير ، رأس الكوفيين بعد الكسائي ، فمن أجل ذلك قال في التسهيل : والمنفيّ بـ «لا» الصّالح قبلها «كي» جائز الرّفع والجزم سماعا عن العرب مقتديا في ذلك بنقل الفراء.

ثم قال الشيخ (١) : ولم يبين المصنف وجه جواز الرفع ولا وجه جواز الجزم في هذه المسألة ، وقد ذكرنا وجه جواز الجزم على مذهب من أجازه ، وأنه لوحظ فيه على قولهم معنى الشرط والجزاء وإن لم يكن بأداة ذلك ، ولا من الأشياء التي تقدم ذكرها ، وأما وجه الرفع فلم أر أحدا تعرض له ، ومعنى الكلام يقتضي أنه متعلق بما قبله تعلقا لا يمكن انفصاله منه ؛ لأن الكلام في قوة الجملة الواحدة ، وليس جملتين مستقلتين ؛ لأن المعنى ليس على الإخبار بأنه يأتي الأمير زيد ، ثم أخبر بعد ذلك أن الأمير لا يقطع اللص ، وإذا لم يكن الكلام جملتين مستقلتين فالجملة الثانية هي في قوة المفرد ، وإذا كانت كذلك فلا يمكن أن تكون في موضع الحال لفساد المعنى ؛ لأنه لا يريد : ربطت الفرس غير منفلت ، ولا : زيد يأتي الأمير غير قاطع اللص ، وإنما المعنى : أني ربطت الفرس لئلا ينفلت ، وإنّ زيدا يأتي الأمير لئلا يقطع اللص ، فهو مفعول من أجله حذفت منه اللام فبقي : ربطت الفرس أن لا ينفلت ، وزيد يأتي الأمير أن لا يقطع اللص (٢)، ثم اتسعت العرب في ذلك فحذفت «أن» فارتفع الفعل على حد ارتفاعه بعد حذف «أن» في قول الشاعر:

٣٩٠٧ ـ ألا أيّهذا الزّاجري أحضر الوغى (٣)

__________________

(١) انظر : التذييل (٦ / ٦٧٨).

(٢) بعده في النسختين : وزيد يأتي الأمير أن يفلت اللص. وهذه الزيادة لم أر لها معنى هنا.

(٣) هذا صدر بيت من الطويل وهو لطرفة بن العبد البكري ، ديوانه (ص ٣٢) وعجزه :

و أن أشهد اللذات هل أنت مخلدي

وهو من معلقة طرفة بن العبد البكري التي أولها :

لخولة أطلال ببرقة ثهمد

وقفت بها أبكي وأبكي إلى الغد

٥٥١

[جواز إظهار «أن» وإضمارها بعد عاطف

على اسم صريح وبعد لام التعليل]

قال ابن مالك : (تظهر «أن» وتضمر بعد عاطف الفعل على اسم صريح ، وبعد لام الجرّ غير الجحوديّة ما لم يقترن الفعل بـ «لا» بعد اللّام فيتعيّن الإظهار ، ولا تنصب «أن» محذوفة في غير المواضع المذكورة إلّا نادرا ، وفي القياس عليه خلاف).

______________________________________________________

وقولهم : مره يحفرها (١) ، وقد روي : يحفرها بالجزم على الجواب ، وبالنصب على إضمار «أن» ، وبالرفع على ما ذكرناه.

قال ناظر الجيش : قد تقدم أن «أن» الناصبة لها أحوال ثلاث : وجوب إضمار ، وجواز إظهار وإضمار ، ووجوب إظهار ، ولما انتهى الكلام على الحالة الأولى حصل الشروع الآن في ذكر الحالتين الأخريين وهما جواز الأمرين ، ووجوب الإظهار ، فجواز الأمرين يكون بعد الحرفين اللذين تقدم ذكرهما وهما : لام الجر غير الجحودية ما لم يلها «لا» ، وحرف العطف الواقع قبله اسم وبعده فعل ووجوب الإظهار إذا ولي لام الجر المذكورة «لا» النافية.

قال الإمام بدر الدين (٢) : اطرد نصب [٥ / ١٣٣] المضارع بإضمار «أن» جائزة الإظهار في موضعين :

أحدهما : أن يكون الفعل معطوفا على اسم صريح كقول الشاعر :

٣٩٠٨ ـ ولبس عباءة وتقرّ عيني

أحبّ إليّ من لبس الشّفوف (٣)

أراد : ولبس عباءة وأن تقر عيني ، فحذف «أن» وأبقى عملها ، ولو استقام الوزن بإظهار «أن» لكان أقيس ، ولا يختص هنا الإضمار بالمعطوف بـ «الواو» بل يجوز ـ

__________________

الشرح : الزاجري : أي الذي يكفني ويمنعني ، ورواية الديوان : ألا أيهذا اللائمي : أي الذي يلومني ، والوغى : الحرب ، وقوله : وأن أشهد يروى في مكانه : وأن أحضر ، والشاعر يقول : أنا لست خالدا ولا بد أن يأتيني الموت يوما ، فليس مما يقتضيه العقل أن أقعد عن شهود الحرب ومنازلة الأقران مخافة أن أموت.

والشاهد في قوله : «أحضر الوغى» حيث رفع «أحضر» بعد حذف «أن» المصدرية ، ويروى «أحضر» بالنصب ، بـ «أن» المصدرية المحذوفة ، قال الأعلم : (وقد يجوز النصب بإضمار «أن» ضرورة وهو مذهب الكوفيين). والبيت في الكتاب (٣ / ٩٩) ، وابن يعيش (٢ / ٧) ، والعيني (٤ / ٤٠٢).

(١) انظر : الكتاب (٣ / ٩٩).

(٢) انظر : شرح التسهيل لبدر الدين (٤ / ٤٨).

(٣) تقدم.

٥٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

في المعطوف بغيرها كـ «الفاء» و «ثم» و «أو» فمثاله بالفاء قول بعض الطائيين :

٣٩٠٩ ـ لو لا توقّع معتر فأرضيه

ما كنت أوثر أترابا على ترب (١)

ومثاله بـ «ثم» قول الآخر :

٣٩١٠ ـ إنّي وقتلي سليكا ثمّ أعقله

كالثّور يضرب لمّا عافت البقر (٢)

ومثاله بـ «أو» قراءة السبعة إلّا نافعا : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً)(٣) بنصب (يرسل) عطفا على (وحيا ،) وأصله : أو أن يرسل رسولا.

ومثله قول القائل :

٣٩١١ ـ ولو لا رجال من رزام أعزّة

وآل سليم أن أسوءك علقما (٤)

والثاني : أن يكون بعد لام الجر غير المؤكد للنفي وهي لام التعليل كما في نحو : جئت لتحسن ، ولام العاقبة كما في قوله : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً)(٥) والزائدة كما في قوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ)(٦) فإن الفعل إذا وقع بعد إحدى هذه اللامات كان نصيبا بإضمار «أن» لأن اللام حرف جر فهي كسائر عوامل الأسماء في امتناع دخولها على الأفعال فإذا وليها الفعل وجب أن يكون مقدرا بـ «أن» ليكون معها اسما مجرورا باللام فنصبوه بها وإن ـ

__________________

(١) هذا البيت من البسيط ولم يعلم قائله إلّا ما ذكره الإمام بدر الدين من أنه لبعض الطائيين ، الشرح : المعتر : المعترض للمعروف ، والأتراب : جمع : ترب ـ بكسر التاء وسكون الراء ـ وترب الرجل : لدته وهو الذي يولد في الوقت الذي ولد فيه.

والشاهد فيه في قوله : «فأرضيه» حيث نصب بعد «الفاء» التي عطف بها على اسم غير شبيه بالفعل.

وانظر البيت في شرح التصريح (٢ / ٢٤٤) ، والهمع (٢ / ١٧) ، والدرر اللوامع (٢ / ١١).

(٢) البيت من البحر البسيط وهو لأنس بن مدركة الخثعمي.

اللغة : سليك : اسم رجل من الصعاليك. أعقله : أدفع دينه. عافت : كرهت الشرب وغيره.

الشاهد فيه : نصب «أعقله» بأن مضمرة جوازا بعد «ثم» المسبوقة باسم خالص وهو «قتل».

(٣) سورة الشورى : ٥١.

(٤) البيت من بحر الطويل وهو للحصين بن الحمام المري ، ورزام : حي من تميم. وعلقما : منادى مرخم.

الشاهد فيه : نصب «أسوءك» بإضمار «أن» جوازا بعد «أو» المسبوقة باسم خالص وهو كون المقدر بعد «لو لا».

(٥) سورة القصص : ٨.

(٦) سورة النساء : ٢٦.

٥٥٣

.................................................................................................

______________________________________________________

شئت أظهرت «أن» نحو : جئت لئلّا يجيء ، ولا يجوز إضمار «أن» بعد غير اللام من حروف الجر ، خصوها بذلك لكثرة دور معناها في الكلام.

وقد تحذف «أن» قبل المضارع في غير المواضع فتلغى غالبا كقولهم : «تسمع بالمعيديّ خير من أن تراه» (١) ، وقول الشاعر :

٣٩١٢ ـ ألا أيّهذا الزّاجري أحضر الوغى

وأن أشهد اللّذّات هل أنت مخلدي (٢)

وقول الآخر :

٣٩١٣ ـ وما راعني إلّا يسير بشرطة

وعهدي به قينا يفشّ بكير (٣)

تقديره : أن تسمع ، وعن أن أحضر ، وإلّا أن يسير ، ولكنهم رفعوا ؛ لأنهم ألغوا «أن» لما ضعفت بالحذف على غير القياس ، وقد لا يلغونها فينصبون بها المضارع كقوله :

٣٩١٤ ـ فلم أر مثلها خباسة واحد

ونهنهت نفسي بعد ما كدت أفعله (٤)

قال سيبويه (٥) : أراد بعد ما كدت أن أفعله ، وهو قليل لا يقاس عليه ، ورآه ـ

__________________

(١) هذا مثل يضرب لمن خبره خير من مرآه ، و «المعيديّ» : تصغير معدي بتخفيف الدال ، وقال ابن السكيت : هو تصغير معدّي إلّا أنه إذا اجتمعت تشديدة الحرف وتشديدة ياء النسبة خففت ياء النسبة».

(٢) تقدم.

(٣) هذا البيت من الطويل لقائل مجهول.

الشرح : قوله : إلا يسير : يسير : فعل مضارع من السير ، ووقع فاعلا لـ «راعني» بتقدير «أن» المصدرية أي : وما راعني إلّا أن يسير ، أي سيره ، وقوله : بشرطة متعلق بـ «يسير» وهو بضم الشين ، وفتح الطاء ، بمعنى : الشرطي ، والعين : الحداد ، ويفش : من فش الكير نفسه : إذا أخرج ما فيه من الريح ، و «الكير» بكسر الكاف : كير الحداد وهو زق أو جلد غليظ ، والمعنى : أتعجب منه.

وقد كان أمس حدادا ينفخ بالكير واليوم رأيته صار والي الشرط.

والشاهد في قوله : «إلا يسير» حيث رفع حين حذفت «أن» المصدرية قبله ، والبيت في الخصائص (٢ / ٤٣٤) ، وابن يعيش (٤ / ٢٧).

(٤) هذا البيت من الطويل نسب لعامر بن جوين الطائي أو لعامر بن الطفيل.

الشرح قوله : فلم أر : الفاء للعطف. وخباسة : بضم الخاء : المغنم. ونهنهت : زجرت ، وما في «ما كدت» مصدرية والتقدير : بعد قربي من الفعل.

والشاهد فيه : «أفعله» ؛ حيث نصب لأن أصله : أن أفعله فحذفت «أن» وبقي عملها وهو النصب ، قاله سيبويه والبيت في الكتاب (١ / ٣٠٧) (هارون) والإنصاف (٥٦١) ، والمقرب (١ / ٢٧٠) ، والهمع (١ / ٥٨) ، (٢ / ١٨) والدرر (١ / ٣٣) ، (٢ / ١٣).

(٥) قال في الكتاب (١ / ٣٠٧) (هارون): (فحملوه على «أن» ؛ لأن الشعراء قد يستعملون «أن» ها هنا مضطرين كثيرا).

٥٥٤

.................................................................................................

______________________________________________________

الكوفيون مقيسا (١) ، وحكوا : خذ اللصّ قبل يأخذك (٢) ، وأنشدوا :

٣٩١٥ ـ ألأ أيّهذا الزّاجري أحضر الوغى (٣)

انتهى كلام الإمام بدر الدين رحمه‌الله تعالى (٤).

ولما كان الملفوظ به العاطف إذا لم تذكر «أن» فعلا قال المصنف : بعد عاطف الفعل ، وإن كان العاطف في الحقيقة إنما عطف اسما مقدرا على الاسم الذي قبله.

وقوله : (على اسم) يشمل ما كان مصدرا ، وما كان اسما غير مصدر كما في الأمثلة التي ذكرت.

وأما قوله : صريح فقال الشيخ (٥) : احترز به من العطف على المصدر المتوهّم ، فإن ذلك يجب فيه إضمار «أن» ، وما قاله الشيخ غير ظاهر ، فإن هذا الكلام يقتضي أن المصدر المتوهم كان مقدرا قبل العطف ، فلما جاء العاطف عطف عليه ، وليس الأمر كذلك ، وإنما لما حصل العطف ونصب الفعل بـ «أن» مقدرة تعين أن يقدر قبل العاطف مصدرا متوهّما ليصح عطف الاسم المقدر عليه ، وإذا كان كذلك فلا يتجه القو بأنه احترز بـ (صريح) من العطف على المصدر المتوهم ، والذي يظهر بل ربما يتعين أنه احترز بقوله : (صريح) عما احترز عنه بقوله في الألفية : (خالص) حيث قال :

وإن على اسم خالص فعل عطف

تنصبه أن ثابتا أو منحذف

وفسر ولده بدر الدين ذلك بأن يكون غير مقصود به معنى الفعل ، قال (٦) : واحترز بذلك من نحو : الطائر فيغضب زيد الذّباب ، فإن : «يغضب» معطوف على اسم الفاعل ، ولا يمكن أن ينصب ؛ لأن اسم الفاعل مؤول بالفعل ؛ لأن التقدير : الذي يطير فيغضب زيد الذباب.

ثم إننا نشير بعد هذا إلى أمرين :

أحدهما : أنك قد عرفت من كلام بدر الدين أن «لام الجر» التي يجوز إظهار «أن» بعدها وإضمارها وهي غير التي للجحود ثلاثة أقسام : لام التعليل ، ولام العاقبة ، والزائدة. ـ

__________________

(١) انظر : الإنصاف (٥٥٩) وما بعدها مسألة رقم (٧٧).

(٢) انظر : الأشموني (٣ / ٣١٥).

(٣) سبق شرحه والتعليق عليه ، والشاهد فيه هنا نصب «أحضر» بـ «أن» المصدرية المحذوفة على مذهب الكوفيين.

(٤) انظر : شرح التسهيل (٤ / ٥٠).

(٥) انظر : التذييل (٦ / ٦٨١).

(٦) انظر : شرح ابن الناظم (٢٦٩).

٥٥٥

.................................................................................................

______________________________________________________

فأما لام التعليل فهي الأصل ، وأما لام العاقبة وهي التي تسمى : لام الصيرورة ، ولام المآل أيضا (١) كالتي في قوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً)(٢) ، وفي قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها)(٣) ، ومنه قول العرب :

٣٩١٦ ـ لدوا للموت وابنوا للخراب (٤)

فالمنقول أن المثبت لها الكوفيون (٥) ، وعزي إلى الأخفش أيضا (٦) ، وأن البصريين لا يخرجونها عن التعليل فيجعلونها في مثل ذلك لام السبب على جهة المجاز ؛ لأنه لما كان ناشئا عن التقاط موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كونه صار عدوّا ، صار كأنه التقط لذلك ، وإن كان التقاطه في الحقيقة إنما كان ليكون لهم حبيبا وابنا (٧) ، وكذلك يقال في الآية الشريفة التي هي (وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها ،) وكذا يقال في قولهم :

لدوا للموت وابنوا للخراب

قال الزمخشري في تفسير قوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ ...) الآية (٨). ـ

__________________

(١) لام العاقبة ولام المآل من تسميات البصريين ، والصيرورة من تسميات الكوفيين.

انظر : البيان في غريب إعراب القرآن (٢ / ٢٢٩) ، والمغني (ص ٢١٤) ، وشبه الجملة واستعمالاتها في القرآن الكريم (رسالة) (ص ٢٤٤).

(٢) سورة القصص : ٨.

(٣) سورة الأنعام : ١٢٣.

(٤) أورد المؤلف هذا القول على أنه منثور ، والحق أنه قول منظوم فهو صدر بيت من الوافر وعجزه :

فكلكم يصير إلى ذهاب

وقد نسب إلى الإمام علي بن أبي طالب ـ كرم الله وجهه ـ واستشهد به على أن «اللام» في «للموت» وكذا «للخراب» تسمى لام العاقبة ولام المآل أيضا ، وهو مذهب الكوفيين. والبصريون يجعلونها لام العلة على جهة المجاز. والبيت في شرح الكافية للرضي (٢ / ٣٢٨) ، وشرح التصريح (٢ / ١٢).

(٥) انظر : التذييل (٦ / ٦٨٦).

(٦) انظر : المرجع السابق ، وشرح التصريح (٢ / ١١) ، والهمع (٢ / ٣٢) ، ومنهج الأخفش الأوسط (ص ٢٢٣) وشبه الجملة واستعمالاتها في القرآن الكريم (ص ٢٤٤).

(٧) انظر : التذييل (٦ / ٦٨٧) ، والمغني (ص ٢١٤) ، وشبه الجملة (ص ٢٤٤).

(٨) يوجد بياض في جميع النسخ وإتماما للفائدة أنقل تعليق الزمخشري على الآية من الكشاف (٣ / ٣٠٩) يقول : «اللام في : (لِيَكُونَ) هي لام «كي» التي معناها التعليل كقولك : جئتك لتكرمني سواء

٥٥٦

.................................................................................................

______________________________________________________

وأما «اللام» في قوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ)(١) فهي ثالثة الأقسام ، وقد حكم بدر الدين بزيادتها كما عرفت ، لكن قال الشيخ (٢) : دعوى الزيادة على خلاف الأصل. ثم ذكر في نحوها أقوالا ثلاثة :

أحدها : للفراء قال (٣) : زعم الفراء (٤) أن العرب تجعل [٥ / ١٣٤] لام «كي» في موضع «أن» في أردت وأمرت ، قال الله تعالى (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ ، يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا)(٥) و (أَنْ يُطْفِؤُا)(٦) ، (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ)(٧).

وقال الشاعر (٨).

٣٩١٧ ـ أريد لأنسى ذكرها فكأنّما

تخيّل لي ليلى بكلّ طريق (٩)

وقال تعالى : (وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ)(١٠) ، (وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ)(١١) ، وإلى ما ذهب إليه الفراء ذهب الكسائي. ـ

__________________

بسواء ، ولكن معنى التعليل فيها وارد على طريق المجاز دون الحقيقة ؛ لأنه لم يكن داعيهم إلى الالتقاط أن يكون لهم عدوّا وحزنا ولكن المحبة والتبني ، غير أن ذلك لما كان نتيجة التقاطهم له وثمرته ، شبه الداعي الذي يفعل الفاعل الفعل لأجله وهو : الإكرام الذي هو نتيجة المجيء ، والتأدب الذي هو ثمرة الضرب في قولك : ضربته ليتأدب ، وتحريره : أن هذه اللام حكمها حكم الأسد ، حيث استعيرت لما يشبه التعليل كما يستعار الأسد لمن يشبه الأسد» اه.

(١) سورة النساء : ٢٦.

(٢) انظر : التذييل (٦ / ٦٨٥).

(٣) انظر : التذييل (٦٨٣ ـ ٦٨٦) وقد نقله عنه بتصرف.

(٤) انظر : معاني القرآن (١ / ٢٢١ ، ٢٦١).

(٥) سورة الصف : ٨.

(٦) سورة التوبة : ٣٢.

(٧) سورة الأحزاب : ٣٣.

(٨) هو كثير عزة كما ذكر السيوطي في شواهد المغني (ص ٥٨١).

(٩) هذا البيت من الطويل ، قائله كثير عزة شرح شواهد المغني (ص ٥٨١).

تمثل لي ليلى بكل سبيل

والشاهد في قوله : أريد لأنسى فإن اللام فيه لام «كي» ووضعت في موضع «أن» بعد «أريد» وأصله : أريد أن أنسى وهذا مذهب الفراء والكسائي كما قال الشيخ أبو حيان. والبيت في المغني (ص ٢١٦) ، وشرح شواهده (ص ٦٥ ، ٥٨٠) والمغني بحاشية الأمير (١ / ١٨٠) ، وحاشية الدسوقي (١ / ٢٢٧).

(١٠) سورة الأنعام : ٧١.

(١١) سورة غافر : ٦٦.

٥٥٧

.................................................................................................

______________________________________________________

ثانيها : ذهب سيبويه (١) وأصحابه إلى أن اللام دخلت هنا لإرادة المصدر ، كأنه قيل : الإرادة للبيان وإرادتي لهذا.

قال (٢) : وكلا المذهبين ضعيف ، أما مذهب الفراء فمبناه على أن اللام عاملة النصب لوقوعها موقع «أن» وقد علم أن اللام حرف جر ، وليس من شأنها أن ينصب بها ، قال : وقد قال أبو إسحاق (٣) : لو كانت اللام بمعنى «أن» لم يجز اجتماعها مع «كي» لأن «أن» لا تدخل على «كي» ، وأما مذهب سيبويه فلوجهين :

أحدهما : أنه سبك مصدرا من غير حرف سابك مع الفعل.

والثاني : أنه لو كان كما ذهب إليه لجاز : ضربت لزيد على معنى : الضرب لزيد ، وهذا لا يجوز.

ثالثها : القول بالزيادة ، قال (٤) : والصحيح أن اللام في هذين الفعلين كهي مع غيرهما من الأفعال ، قال : وإنما حمل الفراء وسيبويه وابن المصنف على ما ذهبوا إليه كونهم لم يجدوا مفعولا لـ «أراد» فجعلوا ما دخلت عليه اللام منصبّا عليه الفعل السابق ، فادعى الفراء أن اللام وقعت موقع «أن» ولا سيما وقد وجد ذلك مصرحا به في نحو : (وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ)(٥) و (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا)(٦) فتأول الحرف.

وسيبويه تأول الفعل بأن جعله بمعنى المصدر وأنه في موضع رفع بالابتداء ، قال (٧) : والذي نختاره ما اختاره بعض أصحابنا من أن مفعول «يريد» محذوف ، ومتعلق «أمر» محذوف والتقدير : يريد الله ما يريد ليبين لكم ، وأمرنا بما أمرنا لنسلم ، وأما قوله تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا ، وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ) فلا يتعين أن تكون «أن» والفعل متعلق الفعل السابق ؛ إذ يحتمل أيضا حذف المفعول وأن «أن» مضمر قبلها حرف الجر ؛ لأن حرف الجر يضمر قبلها كثيرا ، والتقدير : يريدون ما يريدون من الكفر والمكر أن يطفئوا أي : ليطفئوا ، فتكون إذ ذاك لام العلة ، وكذلك (وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ) أي : أمرت بما أمرت أن أسلم أي : ـ

__________________

(١) قال في الكتاب (٣ / ١٦١): «وسألته ـ يعني الخليل ـ عن معنى قوله : أريد لأن أفعل ، فقال :

إنما يريد أن يقول : إرادتي لهذا».

(٢) أي : أبو حيان.

(٣) انظر : معاني القرآن للزجاج (٢ / ٤٣).

(٤) أي : أبو حيان.

(٥) سورة غافر : ٦٦.

(٦) سورة التوبة : ٣٢.

(٧) أي : أبو حيان.

٥٥٨

.................................................................................................

______________________________________________________

لأن أسلم ، قال : فيكون المعنيان في ذكر اللام وحذفها سواء ، وحذف المفعول لدلالة المعنى عليه. انتهى.

وهذا الذي ذكره من التخريج في (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا ، وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ) يبعد وإذا كان ما بعد «يريدون» و «أمرت» صالحا لتسلطهما عليه استغنى عن تقدير مفعول محذوف ، ويدل على أن (أَنْ يُطْفِؤُا ،) و (أَنْ أُسْلِمَ) متعلقان بما قبلهما قوله تعالى : (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها)(١) فإن المقصود من هذه الآية الشريفة الحصر ، إذ المعنى : ما أمرت إلا بعبادة الله تعالى ، وإذا جعل التقدير : إنما أمرت بما أمرت لأن أعبد فات معنى الحصر مع أنه هو المقصود ، وإذا ثبت في ذلك في هذه الآية الشريفة تعيّن أن يثبت في ما هو نظيرها ، والمحوج إلى تقدير مفعول محذوف في نحو قوله تعالى (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ ،) و (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا ،) و (وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ) إنما هو عدم صلاحية مدخول «اللام» للمفعولية ، فإذا كان ما بعد (يُرِيدُونَ») أو (أُمِرْتُ) صالحا لأن يكون مفعولا انتفى الاحتياج إلى التقدير (٢).

الأمر الثاني : أن الشيخ ذكر في شرحه فروقا بين اللامين ـ أعني لام الجحود ولام «كي» ـ فقال (٣) : «ولما كان بين لام الجحود ولام «كي» قدر مشترك من كونهما حرفي جر ، وكونهما تضمر «أن» بعدهما ـ وإن اختلفت جهتا الإضمار ـ فإنه واجب مع لام الجحود جائز مع لام «كي» ، أردنا أن نذكر ما بينهما من الفرق :

فمنها : ما ذكر من حكم الإضمار (٤).

ومنها : أن فاعل لام الجحود لا يكون غير مرفوع «كان» فلا يجوز : ما كان زيد ليذهب عمرو. ـ

__________________

(١) سورة النمل : ٩١.

(٢) أي انتفى الاحتياج الى تقدير مفعول محذوف وإضمار حرف الجر قبل «أن» وثبت أن قوله تعالى : (أَنْ يُطْفِؤُا) و (أَنْ أُسْلِمَ) متعلقان بما قبلهما ، وهذا رد على أبي حيان الذي ذهب إلى احتمال حذف المفعول وإضمار حرف الجر قبل «أن» وما ذهب إليه المؤلف أولى لبعده عن التكلف بعدم التأويل لأن ما بعد «يريدون» و «أمرت» صالحا لتسلطهما عليه.

(٣) انظر : التذييل (٦ / ٦٨٧ ـ ٦٨٩) وقد نقله المؤلف عنه بتصرف.

(٤) أي إضمار «أن» من حيث وجوبه مع لام الجحود وجوازه مع لام «كي».

٥٥٩

.................................................................................................

______________________________________________________

ومنها : أنه لا يقع قبلها فعل مستقبل فلا تقول : لن يكون زيد ليفعل ، ويجوز ذلك في الفعل قبل لام «كي» فتقول : سأتوب ليغفر الله لي.

ومنها : أن الفعل المنفي لا يكون مقيدا بظرف فلا يجوز : ما كان زيد أمس ليضرب عمرا ، أو يوم كذا ليفعل ، ويجوز ذلك في الفعل قبل لام «كي» فتقول : جاء زيد أمس ليضرب عمرا.

[ومنها : أنه لا يوجب الفعل معها فلا يجوز : ما كان زيد إلا ليضرب عمرا] ويجوز ذلك مع لام «كي» فتقول : ما جاء زيد إلا ليضرب عمرا.

[ومنها : أنه لا يقع موقعها «كي» لا تقول : ما كان زيد كي يضرب عمرا].

ويجوز ذلك في لام «كي» فتقول : جاء زيد كي يضرب عمرا.

ومنها : أن المنصوب بعدها لا يكون سببا فيما قبلها ، وهو كذلك بعد لام «كي».

ومنها : أن النفي متسلط مع لام الجحود على ما قبلها وهو المحذوف الذي تتعلق به اللام ، فيلزم من نفيه نفي ما بعد اللام ، وذلك على مذهب البصريين (١) ، وفي لام «كي» يتسلط على ما بعدها نحو : ما جاء زيد ليضربك ، فينتفي الضرب خاصة ولا ينتفي المجيء إلا بقرينة تدل على انتفائه.

ومنها : أن لام الجحود لا تتعلق إلا بمعنى الفعل الواجب حذفه ، فإذا قلت : ما كان زيد ليقوم فكأنك قلت : ما كان زيد مستعدّا للقيام ، يقدّر في كل موضع ما يليق به على حسب مساق الكلام ، ففي قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ)(٢) تقديره : مريدا لإطلاعكم على الغيب ، وأما لام «كي» فإنها متعلقة بالفعل الظاهر الذي هو معمول للفعل الذي دخلت عليه.

ومنها : أن لام الجحود تقع بعد ما لا يستقل أن يكون كلاما دونها ، ولام «كي» لا تقع إلا بعد ما يستقل كلاما ، فأما قول الشاعر : ـ

__________________

(١) الذين يرون أن ما بعد اللام ليس خبرا لـ «كان» وإنما الخبر محذوف وقدروه في : ما كان زيد ليفعل : ما كان زيد مريدا ليفعل ، واللام متعلقة بذلك المحذوف على مذهبهم ، وذهب الكوفيون إلى أن ما بعد اللام هو الخبر واللام للتوكيد ، وانظر : الأشموني (٣ / ٢٩٢ ، ٢٩٣).

(٢) سورة آل عمران : ١٧٩.

٥٦٠