شرح التّسهيل المسمّى تمهيد القواعد بشرح تسهيل الفوائد - ج ٨

محمّد بن يوسف بن أحمد [ ناظر الجيش ]

شرح التّسهيل المسمّى تمهيد القواعد بشرح تسهيل الفوائد - ج ٨

المؤلف:

محمّد بن يوسف بن أحمد [ ناظر الجيش ]


المحقق: علي محمّد فاخر [ وآخرون ]
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٩٢

.................................................................................................

______________________________________________________

٣٧٩٦ ـ كادوا بنصر تميم كي ليلحقهم

فيهم فقد بلغوا الأمر الّذي كادوا (١)

فلا محيص في كل من البيتين عن أحد أمرين :

إما الحكم بأن «كي» مصدرية وأن «لام» الجر أتي بها مؤخرة عنها.

وإما الحكم بأنها جارة و «اللام» بعدها مؤكدة ، قالوا : والحكم بالأمر الثاني متعين ؛ لأن توكيد حرف بمثله ثابت ، وتأخير حرف الجر الذي هو هنا عن الحرف المصدري غير ثابت فتعين كون «كي» إذا وجدت قبل «اللام» جارة (٢).

واعلم أن الاستدلال على تعيّن «كي» جارة بوجودها قبل «اللام» كما ذكره في التسهيل أحسن مما ذكره في شرح الكافية ؛ لأن كلامه هناك وإن أفاد ثبوت كونها جارة إنما يفيد أنها كذلك إذا باشرت الاسم الصريح ؛ لأنه إنما مثل بها داخلة على «ما» الاستفهامية ، ولا شك أن المقصود بيان ثلاثة الأحوال لـ «كي» حال مباشرتها الفعل لفظا فكان قوله هنا : والثّانية قبلها هو الواجب أي : وتتعين جارة قبل اللام المباشرة للفظ الفعل.

وفي شرح الشيخ (٣) : وقال ابن قيس الرقيات :

٣٧٩٧ ـ ليتني ألقى رقيّة في

خلوة من غير ما أنس

كي لتقضيني رقيّة ما

وعدتني غير مختلس (٤)

إن «كي» هنا بمعنى «أن» ولا تكون الجارة ؛ لأن حرف الجر لا يعلق. انتهى. ـ

__________________

(١) هذا البيت من البسيط.

والشاهد فيه قوله : «كي ليلحقهم» فإن «كي» فيه تتعين حرفا جارّا للتعليل بمعنى «اللام» لظهور «اللام» بعدها ، وقد جمع بينهما للتأكيد ، وهذا أيضا تركيب نادر.

والبيت في الهمع (٢ / ٥) ، والدرر اللوامع (٢ / ٥).

(٢) انظر : الهمع (٢ / ٥).

(٣) انظر : التذييل (٦ / ٥٥٢).

(٤) هذان بيتان من المديد.

والشاهد في قوله : «كي لتقضيني» فإن «كي» فيه تعليلية لتأخر اللام عنها ، و «غير مختلس» بالنصب صفة لمصدر محذوف أي : لتقضيني ما وعدتني قضاء غير مختلس ، وهو بفتح اللام مصدر ميمي بمعنى الاختلاس ، والبيتان في العيني (٤ / ٣٧٩) برواية «من غير ما يبس» ، والخزانة (٣ / ٥٨٧) ، والشطر الأول من البيت الثاني في شرح الكافية للرضي (٢ / ٢٣٩) ، والبيت الثاني في شرح التصريح (٢ / ٢٣١) ، والهمع (١ / ٥٣) ، والدرر (١ / ٣٠) والأشموني (٣ / ٢٨١) ، وأوضح المسالك (٣ / ١٦٢).

٤٤١

.................................................................................................

______________________________________________________

وهذا غير مرضيّ من أبي علي ؛ لأن حرف الجر هنا لم يعلق ، بل هو باق على عمله ، وكرر لفظه توكيدا كما في قول الآخر :

٣٧٩٨ ـ ولا للما بهم أبدا دواء (١)

وأما قول المصنف : غالبا مع قوله : وب «أن» بعدها مضمرة غالبا إن كانت الجارة فإنه يتعلق بقوله : مضمرة أي : أن «كي» إذا كانت جارة وباشرت الفعل تنصب حينئذ بـ «أن» مضمرة ولا يجوز إظهارها [٥ / ١٠١] إلا في الضرورة كقوله :

٣٧٩٩ ـ فقالت : أكلّ النّاس أصبحت مانحا

لسانك كيما أن تغرّ وتخدعا (٢)

وقد قال في شرح الكافية بعد إنشاد هذا البيت : والأظهر في «كي» هذه أن تكون بمعنى اللام. وقال هنا ـ أعني في التسهيل ـ : ويترجّح مع إظهار «أن» مرادفة الّلام على مرادفة «أن» ، وهذا الكلام منه رحمه‌الله تعالى محتمل لأمرين :

إما كون «كي» في مثل هذا التركيب مرادفة لـ «أن» وأتي بـ «أن» بعدها توكيدا ضرورة هو قول للنحاة فيكون هذا القول مقابلا لقول من يقول : إنها مرادفة اللام.

وإما كون «كي» مرادفة لـ «أن» أمر احتمالي يمكن أن يقال به ، وكلام الإمام بدر الدين يجنح إلى أنه أمر احتمالي فإنه قال (٣) : وإذا ظهرت «أن» بعد «كي» نظرت فإن لم يكن قبلها «اللام» كما في قوله :

 ....

كيما أن تغرّ وتخدعا

احتمل أن تكون الجارة ، وقد شذ إظهار «أن» بعدها للضرورة ، وأن تكون الناصبة للفعل وقد شذ توكيدها بـ «أن» للضرورة ، ثم قال : والراجح كونها جارة لأن توكيد الحرف بالحرف شاذ في الاستعمال دون القياس فكان القول به أولى ، ثم قال : وإن كان قبلها «اللام» كما في قوله :

٣٨٠٠ ـ ...

لكيما أن تطير بقربتي

__________________

(١) تقدم.

(٢) تقدم.

(٣) انظر : شرح التسهيل للإمام بدر الدين (٤ / ١٧).

٤٤٢

.................................................................................................

______________________________________________________

احتمل أيضا أن تكون جارة وقد شذ اجتماعها مع «اللام» كما اجتمع اللامان في قول الآخر :

٣٨٠١ ـ ولا للما بهم أبدا دواء

وكما اجتمع «ما» و «لا» في قول الآخر :

٣٨٠٢ ـ وما أن لا تخاط لهم ثياب (١)

واحتمل أن تكون الناصبة للفعل المضارع وقد شذ اجتماعها مع «أن» ، والراجح كونها جارة ؛ لأن توكيد الجار بمثله ثابت بيقين ، وتوكيد الناصب للفعل بمثله مشكوك فيه ، والحمل على المتيقن أولى ، ولأن حرف الجر أقرب إلى ما هو الأصل فيما يؤكد وهو الأسماء من الحرف المصدري ؛ لأن حرف الجر يدل على زائد على المفهوم من مصحوبه ، بخلاف الحرف المصدري ؛ لأنه لا فائدة له إلا بصحيح استعمال الفعل في موضع المصدر ، والإقدام على توكيد ما هو أقرب إلى الأصل فيما يؤكد أسهل من الإقدام على توكيد ما هو أبعد منه فلا يقاس عليه. انتهى.

وهذا الذي ذكر من أن «كي» مصدرية وجارة هو مذهب سيبويه (٢) وجمهور البصريين ، وبعض البصريين يرى أن النصب بعدها إنما هو بـ «أن» مضمرة ذكر ذلك الشيخ في شرحه (٣) ، والمشهور نسبة هذا القول إلى الكوفيين وكأنهم يرون أنها جارة فقط وأنها لا تكون مصدرية (٤).

وقد أطال الشيخ (٥) الكلام في ذلك ولم يتحصل لي من كلامه ما يقرب من الضبط.

ثم إن المصنف أشار بقوله أولا : ولا يتقدّم معمول معمولها ـ إلى أن معمول ـ

__________________

(١) هذا عجز بيت من الوافر نسب لأمية بن أبي الصلت وليس في ديوانه واستشهد به : على اجتماع «ما» و «لا» النافيتين وهو ضرورة وانظر الشاهد في الخصائص (٢ / ٢٨٢) ، (٣ / ١٠٨) ، والهمع (٣ / ١٥٨).

(٢) انظر : الكتاب (٣ / ٦).

(٣) انظر : التذييل (٦ / ٥٤٩) ، وانظر : الأشموني (٣ / ٢٨٠) ، وشرح التصريح (٢ / ٢٣٠).

(٤) فيما ذهب إليه المؤلف نظر ؛ لأن المنقول أن الأخفش هو الذي يرى أنها جارة دائما ، وأن الكوفيين يرون أنها ناصبة للفعل دائما ، وقد ردّ على المذهبين ، انظر : المغني (ص ١٨٣) ، وشرح التصريح (٢ / ٢٣٠) ، والأشموني (٣ / ٢٨٠ ، ٢٨١).

(٥) انظر : التذييل (٦ / ٥٤٩ ـ ٥٥٢).

٤٤٣

.................................................................................................

______________________________________________________

معمول «كي» لا يتقدم على «كي» ، وإنما ترك التقييد ؛ لأن الكلام إنما هو في «كي» نفسها ، فكل حكم يذكر في ذلك الكلام من تقديم أو تأخير أو فصل أو غير ذلك يتعين كونه راجعا إليها ، ومثال ذلك أن تقول : توضأت كي أصلّي الظّهر ، فلا يجوز أن يقال : توضأت الظّهر كي أصلّي ، وأجاز ذلك الكسائي والجمهور على المنع (١) ، والعلة ظاهرة فيه ، لأن «كي» إن كانت المصدرية فهي حرف موصول وما هو من تمام الصلة لا يتقدم على الموصول ، وإن كانت الجارة فالنصب بعدها بـ «أن» مضمرة ، و «أن» حرف موصول وما هو من تمام الصلة لا يتقدم على الموصول.

وأشار بقوله ثانيا : ولا يبطل عملها الفصل إلى أنه قد يفصل بينها وبين معمولها ومع ذلك يكون النصب باقيا ، قال الإمام بدر الدين (٢) : وقد يفصل به ـ أي بمعمول المعمول ـ أو بجملة شرطية فيبقى النصب ، وقال : قال الشيخ ـ رحمه‌الله تعالى ـ يعني والده ـ : من كلامهم : جئت كي فيك أرغب ، وجئت كي أن تحسن أزورك بنصب «أرغب» و «أزورك» ، والكسائي يجيز الكلام برفع الفعلين دون نصبهما. انتهى.

قال الشيخ بعد إيراده هذا الكلام (٣) : وهذا الذي اختاره المصنف وشرحه ابنه موافقا هو مذهب ثالث لم يتقدم إليه على ما نبينه فنقول : أجمعوا على أنه يجوز الفصل بينها وبين معمولها بـ «لا» النافية كقوله تعالى : (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً)(٤) وب «ما» الزائدة كقول قيس بن سعد بن عبادة (٥) :

٣٨٠٣ ـ أرادت لكيما يعلم النّاس أنّها

سراويل قيس والوفود شهود (٦)

__________________

(١) انظر : التذييل (٦ / ٥٥٣) ، والأشموني (٣ / ٢٨١).

(٢) انظر : شرح التسهيل للإمام بدر الدين (٤ / ١٨).

(٣) انظر : التذييل (٦ / ٥٥٤ ، ٥٥٥).

(٤) سورة الحشر : ٧.

(٥) قيس بن سعد بن عبادة بن وليم الأنصاري الخزرجي المدني ، وال صحابي : من دهاة العرب ذوي الرأي والمكيدة في الحرب والنجدة ، وأحد الأجواد المشهورين ، له (١٦) حديثا ، انظر ترجمته في صفة الصفوة (١ / ٧١٥) والنجوم الزاهرة (١ / ٨١) والأعلام (٥ / ٢٠٦).

(٦) هذا البيت من الطويل ، واستشهد به : على جواز الفصل بين «كي» ومعمولها بـ «ما» الزائدة وهذا بإجماع النحاة ، وقد ذكر الشنقيطي في الدرر اللوامع (٢ / ٥) أن الإمام التبريزي استشهد بهذا البيت في شرح الكافية على اتفاق النحويين على جواز الفصل بين «كي» ومعمولها بـ «لا» الزائدة وانظر : الخزانة (٣ / ٥٩٧).

٤٤٤

.................................................................................................

______________________________________________________

وقول الآخر :

٣٨٠٤ ـ تريدين كيما تجمعيني وصاحبي

[وهل يجمع السّيفان ويحك في عمد](١)

وقد يفصل بهما معا ، أنشد ثعلب :

٣٨٠٥ ـ أرادت لكيما لا ترى لي عثرة

ومن ذا الّذي يعطى الكمال فيكمل (٢)

وقد يجعل العرب «ما» اللاحقة لها كافة كهي في نحو (رُبَما يَوَدُّ)(٣) وذلك نحو قول الشاعر :

٣٨٠٦ ـ يرجّى الفتى كيما يضرّ وينفع (٤)

وأما الفصل بغير ذلك فمذهب البصريين وبعض الكوفيين أنه لا يجوز ، وذهب الكسائي إلى جواز الفصل بينهما بمعمول الفعل الذي دخلت عليه ، وبالقسم (٥) ، فيبطل عملها فتقول : أزورك كي والله تزورني ، وأكرمك كي غلامي تكرم ، ويبطل عملها أيضا عند الكسائي إذا لاصقها الشرط نحو قولهم : أزورك كي إن تكافئني أكرمك ، فلا عمل لـ «كي» في الشرط وجوابه ، والصحيح أن الفصل بينهما في حال الاختيار لا يجوز كما لا يجوز ذلك في «أن» (٦) ، والعلة المانعة من الفصل بينهما هي العلة المانعة من الفصل بين «أن» ومعمولها ، فإن فصل بينها وبين معمولها في حال الاضطرار لم يبطل عملها ؛ لأن عملها هو الاختصاص وهو باق لم يبطل ، وما ذهب إليه الكسائي من ملاصقة الشرط وإبطال عملها غير محفوظ [٥ / ١٠٢] من كلام العرب. انتهى.

وهذا الذي ذكره من أن الفصل لا يبطل العمل عند غير الكسائي هو الذي قاله المصنف ، أما كون الفصل لا يجوز في الاختيار وإنما يجوز في الاضطرار فلم يتعرض المصنف إلى ذكره ، وإذا كان كذلك فكيف يقول الشيخ : إن الذي اختاره وشرحه ابنه موافقا عليه هو مذهب ثالث؟ ـ

__________________

(١) هذا البيت من الطويل وهو لأبي ذؤيب الهذلي كما في الدرر (٢ / ٥) واستشهد به : على جواز الفصل بين «كي» ومعمولها بـ «ما» الزائدة ، وانظر : الخزانة (٣ / ٥٩٧) ، والهمع (٢ / ٥).

(٢) هذا البيت من الطويل وقد أنشده ثعلب ولم ينسبه لقائل وأنا لم أهتد إليه ، واستشهد به : على جواز الفصل بين «كي» ومعمولها بـ «ما» الزائدة و «لا» النافية. وانظر : البيت في الخزانة (٣ / ٥٨٦) ، وانظر الهمع (٢ / ٥).

(٣) سورة الحجر : ٢.

(٤) تقدم.

(٥) انظر : الهمع (٢ / ٥).

(٦) في (ج) ، (أ) : لن ، والتصويب من التذييل.

٤٤٥

.................................................................................................

______________________________________________________

ثم إن الذي يفهم من قولهم : إن الفصل قد يكون بجملة شرطية ، أن جملة الشرط يفصل بها بين «كي» ومعمولها كما قيل في نحو : جئت كي إن تحسن أزورك : إنه ينصب «أزورك».

وكلام الشيخ يقتضي أن جملة الشرط يذكر معها جوابها ولا يذكر لـ «كي» معمول ؛ لأنه بعد أن مثل بقوله : أزورك كي إن تكافئني أكرمك ـ بجزم أكرمك ـ قال : فلا عمل لـ «كي» في الشرط ، وهذا عجب فإن الشرط إذا ذكر له جواب ولم يؤت لـ «كي» بمعمول فكيف يقال : إن ثمّ فصلا؟ ثم مقتضى ذلك أن تكون «كي» في هذا التركيب ملغاة لا معنى لها.

وحاصل الأمر : أني لم أتحقق كون «أكرمك» في المثال الذي ذكره جواب الشرط ، والظاهر بل المتعين (١) أن يكون منصوبا بـ «كي» إذ المعنى : أزورك كي أكرمك إن تكافئني ، وجواب الشرط محذوف دل عليه الكلام الذي قبل الشرط ، كما أن المعنى في المثال الذي ذكره ابن المصنف عن والده : جئت كي أزورك إن تحسن.

واعلم أنه لا يخفى جواز تأخر معمول «كي» عنها فيقال : كي تكرمني جئتك ، سواء أكانت «كي» الناصبة بنفسها أم الجارة والنصب بعدها بـ «أن» مضمرة ، وذلك أنها في المعنى مفعول من أجله فكما يجوز التقديم في نحو : ابتغاء إحسانك زرتك ، كذلك يجوز ذلك مع «كي» وهذا واضح (٢).

ثم إن المصنف قال في شرح الكافية (٣) : وإن ولي «كي» اسم ، أو فعل ماض أو مضارع مرفوع علم أن أصلها : «كيف» حذفت فاؤها ومنه قول الشاعر :

٣٨٠٧ ـ كي تجنحون إلى سلم وما ثئرت

قتلاكم ولظى الهيجاء تضطرم (٤)

__________________

(١) هذا الكلام يدل على أن المؤلف يوافق المصنف وولده على جواز الفصل بين «كي» ومعمولها بجملة الشرط أو بغيرها اختيارا.

(٢) انظر : الهمع (٢ / ٥).

(٣) انظر : شرح الكافية الشافية (٣ / ١٥٣٤).

(٤) هذا البيت من البسيط ، وهو لقائل مجهول.

والشرح : قوله : تجنحون أي : تميلون ، وقوله : سلم : بالكسر والفتح أي : صلح ، وقوله : وما ثئرت قتلاكم جملة حالية وثئرت مبني للمجهول من ثأرت القتيل بالقتيل ثأرا وثؤرة أي : قتلت قاتله ، وقوله : ولظى الهيجاء تضطرم أي : ونار الحرب تشتعل ، وهذه الجملة حالية أيضا.

٤٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

قال : وزعم أبو علي (١) أن أصل «كما» في قول الشاعر (٢) :

٣٨٠٨ ـ وطرفك إمّا جئتنا فاصرفنه

كما يحسبوا أنّ الهوى حيث تنظر (٣)

«كيما» محذوفة الياء ونصب بها تنصب لو لم ينلها حذف. انتهى.

وكأن المصنف لم يرفض قول أبي علي في هذه المسألة. وأشار إلى المسألة في باب «حروف الجر» لما ذكر أن «ما» تزاد بعد الكاف ، وأنها قد تحدث في الكاف معنى التعليل فقال : وربما نصبت حينئذ مضارعا لا لأن الأصل : «كيما» وقال في شرحه لذلك : (٤) وإذا حدث فيها ـ يعني في الكاف ـ معنى التعليل ووليها مضارع نصبته تشبيها بـ «كي» كقول الشاعر :

وطرفك إمّا جئتنا فاصرفنه

كما يحسبوا أنّ الهوى حيث تنظر

وزعم الفارسي أن الأصل : «كيما» فحذف الياء ، وهذا تكلف لا دليل عليه ولا حاجة إليه. انتهى. ـ

__________________

والشاهد في قوله : «كي تجنحون» فإن «كي» فيه بمعنى : «كيف» كما يقال : «سو» في «سوف» ، أي : كيف تجنحون؟ والبيت في المغني (ص ١٨٢) ، والعيني (٤ / ٣٧٨) ، والهمع (١ / ٢١٤) ، والدرر (١ / ١٨٤).

(١) انظر : المغني (ص ١٧٧) ، والأشموني (٣ / ٢٨١).

(٢) هو عمر بن أبي ربيعة ، انظر ديوانه (ص ٦٦) ، وقد ذكر العلامة الأمير في حاشيته على المغني (١ / ١٥١) أن السيوطي وجد البيت في قصيدة لجميل بن معمر العذري ، وانظر ديوان جميل (ص ٦٢) وقد نسبه العيني (٤ / ٤٠٧) للبيد العامري.

(٣) هذا البيت من الطويل.

الشرح : الطرف ـ بفتح فسكون ـ العين وإمّا مركبة من «إن» الشرطية و «ما» المؤكدة ، قوله :

فاصرفنه أراد : حوله إلى جهة أخرى غير جهتنا.

والشاهد في قوله : «كما يحسبوا» حيث ذهب الفارسي إلى أن «كما» أصلها : «كيما» فحذفت الياء ونصبت الفعل المضارع بعدها كما تنصب إذا لم ينلها حذف ، وقد زعم أبو محمد الأسود أن أبا علي الفارسي حرّف هذا البيت وأن الصواب روايته على هذا الوجه :

إذا جئت فامنح طرف عينيك غيرنا

لكي يحسبوا أن الهوى حيث تنظر

والرواية في ديوان عمر بن أبي ربيعة كما ذكر أبو محمد الأسود ومع هذا فلا نقبل الطعن في أبي علي الفارسي بأنه صحف البيت ليستشهد به ، والبيت في الإنصاف (ص ٥٨٦) ، والمغني (ص ١٧٧) ، والعيني (٤ / ٤٠٧) ، والهمع (٢ / ٦) ، والدرر (٢ / ٥).

(٤) انظر : التسهيل (ص ١٤٧) وشرحه لابن مالك (٣ / ١٧٣) تحقيق د / عبد الرحمن السيد.

٤٤٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وفي شرح الشيخ (١) : أن البصريين لا يجيزون نصب الفعل بعد «كما» وأن الكوفيين يجيزون ذلك مع أنهم يجيزون الرفع أيضا.

وبعد فكلام الإمام بدر الدين يخالف كلام والده فإنه قال (٢) : وقد تحذف ياء «كي» ويبقى عملها كقول عدي بن زيد (٣) :

٣٨٠٩ ـ اسمع حديثا كما يوما تحدّثه

عن ظهر غيب إذا ما سائل سألا (٤)

أراد : كيما تحدثه ، وأنشد أبو علي :

٣٨١٠ ـ وطرفك إمّا جئتنا فاصرفنه

كما يحسبوا أنّ الهوى حيث تنظر (٥)

انتهى.

ولا شك أن دعوى «كما» المنصوب بعدها الفعل أصلها : كيما وحذفت الياء أسهل من دعوى أن «كما» نصبت تشبيها بـ «كي» ويقال للمصنف : كما ادّعيت أن «كي» في قول الشاعر :

٣٨١١ ـ كي تجنحون إلى سلم

 ... (٦)

أصلها «كيف» وحذفت «الفاء» هكذا يدّعى في «كما» أن أصلها : كيما وحذفت الياء واعلم أن الشيخ أنشد في شرحه (٧) هذا البيت وهو :

اسمع حديثا كما يوما تحدّثه

 ...

وقال : فإن قلت : هذا يدل على أن الفصل بين «كي» والفعل يبطل عملها ألا ترى أن المعنى : كيما يوما تحدثه ؛ فالجواب من وجهين : ـ

__________________

(١) انظر : التذييل (٦ / ٥٤٧ ، ٥٤٨) وانظر : الإنصاف (ص ٥٨٥) مسألة رقم (٨١).

(٢) انظر : شرح التسهيل للإمام بدر الدين (٤ / ١٨).

(٣) هو عدي بن زيد بن حمّاد بن زيد العبادي التميمي ، شاعر من دهاة الجاهليين ، كان يسكن الحيرة.

انظر الشعر والشعراء (ص ٢٣١ ـ ٢٣٩).

(٤) هذا البيت من البسيط وهو لعدي بن زيد ديوانه (ص ١٥٨). واستشهد به : على أن «كي» قد تحذف ياؤها ويبقى عملها ، فأصل «كما» في البيت «كيما» ولذلك نصب الفعل بعدها. والبيت في الإنصاف (ص ٥٨٨) ، واللسان «كيا».

(٥) تقدم.

(٦) تقدم.

(٧) انظر : التذييل (٦ / ٥٤٨).

٤٤٨

[إذن الناصبة للمضارع وأحكامها]

قال ابن مالك : (وينصب غالبا بـ «إذن» مصدّرة إن وليها ، أو ولي قسما وليها ولم يكن حالا ، وليست «أن» مضمرة بعدها خلافا للخليل ، وأجاز بعضهم فصل منصوبها بظرف اختيارا ، وقد يرد ذلك مع غيرها اضطرارا ، ومعناها الجواب والجزاء ، وربّما نصب بها بعد عطف أو ذي خبر).

______________________________________________________

أحدهما : أن تكون «كما» ليس أصلها : «كيما» بل هي «كما» التي بمعنى «لعل» مركبة من الكاف و «ما» فصارتا بمنزلة حرف واحد ، ومنه قول العرب : انتظرني كما آتيك ، أي : لعلّي آتيك.

ثانيهما : أن يكون أصلها «كيما» فحذفت الياء لكن رفع الفعل بعدها لأن «ما» كافة لها عن العمل كما في قول الآخر :

٣٨١٢ ـ ...

كيما يضرّ وينفع (١)

قال ناظر الجيش : لما انتهى الكلام على الأحرف الثلاثة الناصبة شرع في ذكر الناصب الرابع وهو : «إذن» (٢).

ولما لم تكن هذه الكلمة مختصة بالأفعال انحطت رتبتها في العمل عن أخواتها فاشترط في عملها ما لم يشترط في غيرها ، وجاز فيها أن تلغى أيضا وإن استكملت الشروط ، والمصنف ذكر شروط عملها أولا ثم ثنّى بذكر خلاف في جواز الفصل في الاختيار بينها وبين منصوبها بالظرف ، ثم ثلّث بذكر معناها وأشار مع ذلك إلى جواز إلغائها مع استكمال الشروط وإلى ذكر خلاف الخليل في قوله : إن «أن» مضمرة بعدها ، وإلى جواز إعمالها وإن وقعت حشوا. ـ

__________________

(١) تقدم.

(٢) في شرح الجمل لابن عصفور (٢ / ١٣٣) (رسالة): «اختلف النحويون في صورة إذن في الخط ، فمذهب المازني أنها تكتب بالنون ، والفراء يفصل فيقول : لا يخلو أن تكون ملغاة أو معملة ، فإن كانت ملغاة كتبت بالألف لأنها قد ضعفت ، وإن كانت معملة كتبت بالنون ؛ لأنها قد قويت ، والصحيح أنها تكتب بالنون لأمرين : أحدهما : أن كل نون يوقف عليها بالألف تكتب بالألف ، وما يوقف عليه من غير تغيير يكتب على صورته وهذه يوقف عليها من غير تغيير فينبغي أن تكتب على صورتها بالنون ، وأيضا فإنها ينبغي أن تكتب بالنون فرقا بينها وبين إذا».

وانطلاقا مما ذهب إليه ابن عصفور رأيت أن أكتبها بالنون فرقا بينها وبين «إذا» وانظر الأشموني (٣ / ٢٩١).

٤٤٩

.................................................................................................

______________________________________________________

وبعد : فأنا أورد كلامه في شرح الكافية ثم كلام ولده ثم أشير إلى ما لا بد منه مما يتعلق بالكلمة المذكورة أعني «إذن».

أما ما ذكره هو فإنه قال (١) : إن «إذن» تنصب المضارع المراد استقباله لا المراد به الحال لأن المراد به الحال لا بد من رفعه بعدها نحو قولك لمن قال : أحبّك : إذن أصدقك ، ولا تنصبه وهو مستقبل إلا إذا صدّرت [٥ / ١٠٣] الجملة بها ، أو كانت في حكم المصدر بها واتصل بها الفعل أو توسط بينهما يمين نحو قولك لمن قال : أزورك : إذن أكرمك ، أو : إذن والله أكرمك ، فالقسم لا يعدّ هنا حاجزا كما لم يعدّ حاجزا بين المضاف والمضاف إليه كقول بعض العرب : هذا غلام والله زيد ، حكاه الكسائي (٢) ، واغتفر ذلك في «إذن» ؛ لأنها غير ممتزجة بما تعمل فيه امتزاج غيرها.

فلو توسطت «إذن» بين ذي خبر وخبر ، أو بين ذي جواب وجواب ألغيت ، ولو قدم عليها حرف عطف جاز إلغاؤها وإعمالها وإلغاؤها أجود وهي لغة القرآن العزيز التي قرأ بها السبعة (٣) في قوله تعالى : (وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً)(٤) ، وفي بعض الشواذ (لا يلبثوا) بالنصب (٥) ، وشذ أيضا النصب بـ «إذن» بين خبر وذي خبر في قول الشاعر :

٣٨١٣ ـ لا تتركنّي فيهم شطيرا

إنّي إذن أهلك أو أطيرا (٦)

__________________

(١) انظر : شرح الكافية الشافية (٣ / ١٥٣٥).

(٢) انظر : الهمع (٢ / ٥٢) والأشموني (٢ / ٢٧٧).

(٣) انظر : القراءة في السبعة لابن مجاهد (ص ٣٨٢) ، والحجة لابن خالويه (ص ٢٢٠) ، والكشف (٢ / ٥٠).

(٤) سورة الإسراء : ٧٦.

(٥) انظر : مختصر شواذ القرآن (ص ٢٧ ، ٧٧) وهي قراءة عبد الله بن مسعود وأبيّ بن كعب ، وانظر : البحر المحيط (٦ / ٦٦).

(٦) هذا بيت من الرجز ينسب لرؤبة وليس في ديوانه ، الشرح : الشطير : البعيد وقيل : الغريب ، وانتصابه على الحال ، وأهلك معناه : أموت. والشاهد في قوله : «إني إذن أهلك» حيث أعملها مع أنها معترضة بين «إنّ» وخبرها ، وهو ضرورة ، وخرج على حذف خبر «إنّ» أي لا أقدر على ذلك ثم استأنف ما بعده. وانظر البيت في الإنصاف (ص ١٧٧) وابن يعيش (٧ / ١٧) ، والمغني (ص ٢٢) ، وشرح شواهده (ص ٧٠).

٤٥٠

.................................................................................................

______________________________________________________

وحكى سيبويه (١) عن بعض العرب الفصحاء إهمال «إذن» مع استيفاء شروط العمل. انتهى.

وقد عرف من كلامه أن الشروط لعملها ثلاثة : كون الفعل الذي تعمل فيه مستقبلا ، وكونه متصلا بها غير مفصول بينها وبينه إلا بقسم ، وكونها صدر الجملة ، وهي التي أشار إليها في التسهيل بقوله : مصدّرة إن وليها أو ولي قسما وليها ولم يكن حالا.

أما اشتراط استقبال الفعل : فلأن أخوات «إذن» من النواصب يتخلص الفعل معها للاستقبال ، فعرفنا أن الناصب يخلص المضارع للاستقبال فوجب أن لا يكون لها عمل في ما هو حال (٢).

وأما اشتراط عدم الفصل : فلأن نواصب الفعل لا يفصل بينها وبين منصوبها (٣) ، وإنما جاز الفصل بالقسم ؛ لأن القسم هو تأكيد لمضمون الجملة ، وإذا كان الفاصل يفيد التأكيد فكأنه يعدّ غير فاصل ، ويدل على الاعتداد به في الفصل الفصل به بين الجار والمجرور في النثر نحو : اشتريته بو الله ألف درهم وبين المضاف والمضاف إليه نحو قولهم : هذا غلام والله زيد ، حكاه الكسائي عن العرب (٤).

ولم يفصلوا بالظرف بين المتضايفين ولا بين الجار والمجرور إلا في الضرورة ، وذكر ابن أبي الربيع أن الفصل بين «إذن» والفعل بالنداء أو بـ «لا» كالفصل بالقسم فلا يبطل عملها (٥).

وأقول : أما كون الفصل بـ «لا» غير معتد به فظاهر ؛ لأنها لم يعتد بها فاصلة ـ

__________________

(١) قال في الكتاب (٣ / ١٦): «وزعم عيسى بن عمر أن ناسا من العرب يقولون : إذن أفعل ذاك في الجواب».

(٢) انظر : الهمع (٢ / ٦) ، والصبان (٣ / ٢٨٧).

(٣) انظر : الكتاب (٣ / ١٣) وشرط اتصالها بالمضارع لضعفها مع الفصل عن العمل فيما بعدها. انظر شرح التصريح (٢ / ٢٣٥).

(٤) انظر : شرح الكافية (٣ / ١٥٣٦) ، وشرح التصريح (٢ / ٢٣٥).

(٥) لعل كلام ابن أبي الربيع هذا في شرح الإيضاح له ولم أعثر عليه ، وذهب ابن بابشاذ إلى جواز الفصل بين «إذن» والفعل بالنداء والدعاء. انظر شرح الألفية للأبناسي (٢ / ٢٧٢) ، وشرح التصريح (٢ / ٢٣٥) ، والأشموني (٣ / ٢٨٩).

٤٥١

.................................................................................................

______________________________________________________

مع «أن» فكذا لا يعتد بها فاصلة مع «إذن» ، وأما الفصل بالنداء فلا يبعد القول به إن ورد به سماع.

وذهب الكسائي وهشام (١) إلى جواز الفصل بمعمول الفعل ، لكن الاختيار حينئذ عند الكسائي النصب ، وعند هشام الرفع (٢) نحو : إذن فيك أرغب ، وإذن صاحبك أكرم.

فلو قدم معمول الفعل على «إذن» نحو : زيدا إذن أكرم ، فعند الفراء يبطل العمل (٣).

وأجاز الكسائي الرفع والنصب ، قال الشيخ (٤) : ولا نص أحفظه عن البصريين في ذلك بل يحتمل قولهم : إنه يشترط في عملها أن تكون مصدرة أن لا تعمل والحالة هذه ؛ لأنها لم تتصدر ، ويحتمل أيضا أن يقال : إنها تعمل لأنها وإن لم تتصدر لفظا فهي مصدرة في النية ؛ لأن النية بالمفعول التأخير ، قال : ولقائل أن يقول : لا يجوز تقديم معمول الفعل بعد «إذن» لأنها إن كانت مركبة فظاهر ؛ لأن «أن» لا يكون معها ذلك ـ أعني التقديم ـ وإن لم تكن مركبة فلا يجوز أيضا ؛ لأن ما فيها من الجزاء يمنع أن يتقدم معمول ما بعدها عليها.

قال : ولما كان من مذاهب الكوفيين جواز تقديم معمول فعل الشرط على أداة الشرط أجازوا ذلك في «إذن» كما أجازوا ذلك في «إن» نحو زيدا إن يضرب أضربه. انتهى.

وما قاله من أن ما فيها من الجزاء يمنع أن يتقدم معمول ما بعدها عليها ، غير ظاهر ؛ لأن معمول فعل الجزاء يجوز تقديمه على الجزاء ، ولا يمنع ذلك إلا الفراء (٥) ، وقد أنشدوا على ذلك قول القائل :

٣٨١٤ ـ وللخيل أيّام فمن يصطبر لها

ويعرف لها أيّامها الخير تعقب (٦)

__________________

(١) هذا كلام أبي حيان في التذييل (٦ / ٥٦٤ ، ٥٦٥).

(٢) انظر : شرح التصريح (٢ / ٢٣٥) ، والأشموني (٣ / ٢٨٩).

(٣) انظر : الهمع (٢ / ٧).

(٤) انظر : التذييل (٦ / ٥٦٥) وقد نقله بتصرف.

(٥) انظر : الإنصاف (ص ٦٢١) مسألة رقم (٨٦) ، وشرح الكافية للرضي (٢ / ٢٥٦).

(٦) هذا البيت من الطويل وهو لطفيل الغنوي كما في الإنصاف (ص ٦٢١) وانظر ديوانه (ص ١٦).

٤٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

والممتنع عند البصريين إنما هو تقديم معمول فعل الشرط على أداة الشرط (١).

وأما اشتراط كونها صدر الجملة : فقد قال المصنف في شرح الكافية (٢) : إن «إذن» أشبهت «أن» من وجه وهو : أن الفعل حدث فيه بها أمران وهما : كونه جوابا وجزاء ، وكونه بها مرجح الاستقبال على الحال وكان أمره دون «إذن» بالعكس كما حدث فيه بـ «أن» أمران : وهما : كونه بها في تأويله بمصدر ، وكونه بها غير محتمل للحال ، وباينتها من وجه وهو : عدم اختصاصها بالأفعال وتقدم اختصاصها بالمستقبل إذ قد يليها الحال ، قال : فلشبهها بـ «أن» من وجه ، ومباينتها من وجه افتقرت في إعمالها إلى ما يقويها من تصدير وغيره. انتهى.

ثم ليعلم أنه ليس المراد بكونها مصدرة التصدير اللفظي بل قد يتقدمها كلام وتأتي هي بعده ، ولكنها صدر جملتها فيحكم لها بحكم المتصدرة أول الكلام ولهذا قال في شرح الكافية (٣) : ولا تنصبه وهو مستقبل إلا إذا صدرت الجملة بها ، أو كانت في حكم المصدر بها. وسيأتي الكلام على ذلك مفصلا مبسوطا إن شاء الله تعالى.

وأما قوله : غالبا بعد قوله : وينصب فإشارة منه إلى ما ذكره عن سيبويه أنه حكى عن بعض فصحاء العرب إهمالها مع استيفاء الشروط.

وعرف من قوله : (فلو توسّطت «إذن») إلى آخره ـ معنى ما أراده في التسهيل بقوله : وربّما نصب بها بعد عطف أو ذي خبر. ـ

__________________

واستشهد به : على جواز تقديم معمول فعل الجزاء على الجزاء في قوله : «الخير تعقب» فـ «الخير» منصوب بـ «تعقب» وتقديره : تعقب الخير ، و «تعقب» مجزوم ، وإنما كسرت الباء ؛ لأن القصيدة مجرورة ، وإنما كان هذا في المجرورة دون المرفوعة والمنصوبة لوجهين : أحدهما : أن الجزم في الأفعال نظير الجر في الأسماء ، فلما وجب تحريكه حركوه حركة النظير ، والثاني : أن الرفع والنصب يدخلان هذا الفعل ولا يدخله الجر ، فلو حركوه بالضم أو الفتح لالتبس حركة الإعراب بحركة البناء ، بخلاف الكسر فإنه ليس فيه لبس. انظر الإنصاف (ص ٦٢٢ ، ٦٢٣) وانظر البيت في شرح الكافية للرضي (٢ / ٢٥٦) ، والخزانة (٣ / ٦٤٢).

(١) انظر : الإنصاف (ص ٦٢٣) مسألة رقم (٨٧) ، وشرح الكافية للرضي (٢ / ٢٥٦).

(٢) انظر : شرح الكافية الشافية (٣ / ١٥٢١) وقد نقله بتصرف.

(٣) انظر : شرح الكافية الشافية (٣ / ١٥٣٥).

٤٥٣

.................................................................................................

______________________________________________________

وأما ما ذكره ولده فإنه قال (١) : «إذن» حرف معناه الجواب والجزاء فلا يصحب إلا جملة هي جواب شرط مذكور كقولهم : إن تأتني إذن آتيك ، أو مقدر بـ «إن» إلا في ما بعدها اللام ، قال الفراء (٢) : إذا أتت بعد «إذن» اللام فقبلها «لو» مقدرة نحو : (وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ)(٣) ، (وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً)(٤) ، و (إِذاً لَأَذَقْناكَ)(٥) التقدير : لو كان معه إله لذهب ، ولو فعلت لاتخذوك خليلا ، ولو ركنت لأذقناك.

ولا تلزم صدر الجواب بل قد تأتي وسطا [٥ / ١٠٤] وآخرا نحو : أنا إذن أفعل ، وأنا أفعل إذن ، ولا تختص بالأفعال وكان حقها أن لا تعمل ولكنهم شبهوها بـ «أن» لغلبة استقبال الفعل بعدها ولأنها تخرج الفعل عما كان عليه إلى جعله جوابا كما تخرج «أن» الفعل عما كان عليه إلى جعله في تأويل المصدر ، وعملت عمل «أن» فنصبت المضارع وإن لم تختص به كما عملت «ما» عمل «ليس» وإن لم تختص بالأسماء ، هذا مذهب أكثر النحويين ، وما عزاه إلى الخليل من أن الفعل بعد «إذن» منصوب بـ «أن» مضمرة إنما مستنده فيه قول السيرافي في أول شرح الكتاب (٦) : روى أبو عبيدة عن الخليل أنه قال : لا ينصب شيء من الأفعال المضارعة إلا بـ «أن» مظهرة أو مضمرة و «كي» و «لن» و «إذن» وغير ذلك (٧).

وليس في هذا نص على انتصاب المضارع بعد «إذن» عند الخليل بـ «أن» مضمرة لجواز أن تكون «إذن» مركبة من «إذ» التي للتعليل و «أن» محذوفا همزتها بعد ـ

__________________

(١) انظر : شرح التسهيل للإمام بدر الدين (٤ / ١٩ ، ٢٠).

(٢) انظر : معاني القرآن (١ / ٢٧٤) ، (٢ / ٢٤١) ، وانظر : المغني (ص ٢١).

(٣) سورة المؤمنون : ٩١.

(٤) سورة الإسراء : ٧٣.

(٥) سورة الإسراء : ٧٥.

(٦) انظر : شرح كتاب سيبويه للسيرافي (رسالة) (١ / ٦١).

(٧) قال سيبويه في الكتاب (٣ / ١٦): (وقد ذكر لي بعضهم أن الخليل قال : «أن» مضمرة بعد «إذن» ، ولو كانت مما يضمر بعده «أن» فكانت بمنزلة «اللام» و «حتى» لأضمرتها إذا قلت : عبد الله إذن يأتيك ، فكان ينبغي أن تنصب إذن يأتيك ؛ لأن المعنى واحد ولم يغير فيه المعنى الذي كان في قوله : إذن يأتيك عبد الله كما يتغير المعنى في «حتى» في الرفع والنصب فهذا ما ردوا ، وأما ما سمعت منه فالأول). فقد نص سيبويه على أن بعضهم ذكر ذلك عن الخليل.

٤٥٤

.................................................................................................

______________________________________________________

النقل على نحو ما رآه في انتصابه بعد «لن» والقول به على ضعفه أقرب من القول بأن «إذن» غير مركبة وانتصاب الفعل المضارع بعدها بـ «أن» مضمرة لأنه لا يستقيم إلا على أن يكون ما بعد «إذن» في تأويل مبتدأ لازم حذف خبره و «إذن» قبله ليست حرفا بل ظرفا مخبرا به عن المبتدأ ، وأصلها : إذا قطعت عن الإضافة وعوض عنها التنوين ، وكلاهما في غاية من التكلف ، والقول بأن «إذن» مركبة من «إذ» و «أن» أسهل منه ، وإنما تنصب «إذن» المضارع بشرط كونها مصدرة والفعل مستقبل متصل بها أو منفصل بقسم كقولك لمن قال : أزورك غدا : إذن أكرمك ، أو إذن والله أكرمك ، فالقسم هنا لا يعدّ حاجزا كما لا يعدّ حاجزا بين المضاف والمضاف إليه.

والمراد بالمصدّرة : ما لم يكن ما بعدها من تمام ما قبلها ؛ إما لأنها لم يتقدمها شيء ، وإما لأنها تقدمها كلام فيجوز أن يستأنف وينصب الجواب كما لو لم يتقدمها شيء ، وذلك نحو قول ابن عنمة (١) :

٣٨١٥ ـ اردد حمارك لا تنزع سويّته

إذن يردّ وقيد العير مكروب (٢)

فهذا نصب لأن ما قبله من الكلام فقد استغنى وتمّ ، ألا ترى أن قوله :

اردد حمارك لا تنزع سويّته

كلام قد تم ، ثمّ استأنف كأنه أجاب من قال : لا أفعل ذلك فقال :

إذن يردّ وقيد العير مكروب

وإذا وجدت الشروط المذكورة فالمعروف في كلامهم نصب الفعل بعدها ، وزعم ـ

__________________

(١) ابن عنمة : عبد الله بن عنمة بن حرثان بن ثعلبة بن ذؤيب بن السيد بن مالك بن بكر بن سعد بن ضبة شاعر إسلامي مخضرم. انظر : خزانة الأدب للبغدادي (٣ / ٥٨٠).

(٢) هذا البيت من البسيط ، ويروى الشطر الأول منه هكذا : اردد حمارك لا يرتع بروضتنا.

الشرح : السوية : شيء يجعل تحت برذعة الحمار كالحلس للبعير ، يهدده بذلك ، والمكروب : المدانى المقارب ، كناية عن تقييد حركته ، وفي اللسان «كرب» : كربت القيد : ضيقته على المقيد.

والمعنى : يقول : انته عنا وازجر نفسك عن التعرض لنا وإلا رددناك مضيقا عليك.

والشاهد في قوله : «إذن يرد» حيث نصب ما بعد «إذن» لأنها مصدرة في الجواب. والبيت في الكتاب (٣ / ١٤) ، والمقتضب (٢ / ١٠) ، والأصول لابن السراج (٢ / ١٢٣).

٤٥٥

.................................................................................................

______________________________________________________

عيسى بن عمر (١) أن ناسا يقولون : إذن أكرمك ـ بالرفع ـ وإليه الإشارة بقوله : (غالبا) ، فلو وقعت بين «واو» العطف و «فائه» وبين الفعل المستقبل كنت فيها بالخيار ؛ إن شئت أعملتها وشاهده قول سيبويه (٢) : وبلغنا أن هذا الحرف في بعض المصاحف (وإذا لا يلبثوا خلفك إلّا قليلا) ، وقرأ بعضهم (٣) : (فإذا لا يؤتوا النّاس نقيرا) ، وإن شئت ألغيتها وهو الأكثر وبه قرأ القرّاء (٤).

وإن وقعت بين شرط وجزاء ، أو بين مخبر عنه وخبره أو منصوب وناصبه ألغيت ، نحو : إن تأتني إذن آتك وأنا إذن اكرمك ، وزيدا إذن أضرب ، كما تلغى «رأى» و «حسب» إذا توسطت الكلام ، وربما نصب بها بين مخبر عنه وخبره كقول الراجز أنشده ابن كيسان :

٣٨١٦ ـ لا تتركنّي فيهم شطيرا

إنّي إذن أهلك أو أطيرا (٥)

ولو كان الفعل الذي بعدها حالا ألغيت كقولك لمن قال : أحبّك : إذن أصدقك ، بالرفع ؛ لأنه موضع لا يعمل فيه أخوات «إذن» فلم تعمل هي فيه.

وكذلك لو كان منفصلا بغير قسم كقولك : إذن زيد يكرمك ، وإذن طعامك تأكل ، وإذن فيك أرغب ؛ فليس في هذا ونحوه إلا الرفع لوجود الفصل ، وأجاز ابن عصفور (٦) نصب المضارع بـ «إذن» مع الفصل بالظرف وشبهه ، وبالقسم ولم يجز مثل ذلك في غير «إذن» إلا في الضرورة كقوله :

٣٨١٧ ـ لن ما رأيت أبا يزيد مقاتلا

أدع القتال وأشهد الهيجاء (٧)

وأجاز الكسائي (٨) الفصل بالظرف وغيره بين الفعل وناصبه نحو : جئت كي زيدا تضرب ، وأنشد : ـ

__________________

(١) انظر : الكتاب (٣ / ١٦).

(٢) انظر : الكتاب (٣ / ١٣).

(٣) هي قراءة عبد الله بن مسعود. انظر : مختصر شواذ القرآن (ص ٢٧) ، وقرأ بها أيضا عبد الله بن عباس رضي‌الله‌عنهما. انظر : البحر المحيط (٣ / ٢٧٣).

(٤) هي قراءة السبعة.

(٥) تقدم.

(٦) انظر : شرح التصريح (٢ / ٢٣٥) وأضاف في الهمع (٢ / ٧) الأبذي.

(٧) تقدم.

(٨) انظر : خزانة الأدب للبغدادي (٣ / ٥٦٤).

٤٥٦

.................................................................................................

______________________________________________________

٣٨١٨ ـ وشفاء غيّك خابرا أن تسألي (١)

وحمله الفراء (٢) على أن «خابرا» حال من «الغي».

انتهى كلام الإمام بدر الدين رحمه‌الله تعالى وهو حسن إلا أنني لم ينتظم لي قوله : إلا على أن يكون ما بعد «إذن» في تأويل مبتدأ لازم حذف خبره ، مع قوله : و «إذن» قبله ليست حرفا بل ظرفا مخبرا به عن المبتدأ ؛ لأن قوله : و «إذن» قبله مخبر به عن المبتدأ يناقض قوله : على أن يكون ما بعد «إذن» في تأويل مبتدأ لازم حذف خبره ؛ إلا أن يكون قوله : و «إذن» قبله ليست حرفا بل ظرفا مخبرا به عن المبتدأ ـ ليس من تتمة الكلام الذي هو متصل به بل يكون قد قصد به إبطال أن يكون الخبر لازم الحذف إذا أولنا ما بعد «إذن» بمبتدأ ؛ فكأنه يقول : كيف يدعى لزوم حذف الخبر و «إذن» قبل المبتدأ الذي ذكرتم أنه مؤول ليست حرفا بل هي ظرف مخبر به؟ فكأن مراده أن دعوى أن الخبر لازم الحذف باطلة ، على أن غرضه إبطال المسألة من أصلها فلا مبتدأ ثمّ ولا خبر.

وأما قوله : في ما رواه أبو عبيدة عن الخليل أن النصب بعد «إذن» بـ «أن» مضمرة (٣) ـ

__________________

(١) هذا عجز بيت من الوافر وصدره :

هلّا سألت وخبر قوم عندهم

وهو من قصيدة لربيعة بن مقروم شاعر مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام.

الشرح : قوله : غيك : الغي : مصدر غوى غيّا من باب ضرب أي : انهمك في الجهل وهو خلاف الرشد والاسم الغواية بالفتح ، وخابرا : اسم فاعل من خبرته أخبره من باب نصر خبرا بالضم إذا. علمته ، فالخابر : العالم ، واستشهد به الكسائي على جواز الفصل بين الفعل وناصبه بمعمول الفعل ، والفراء لا يجيز ذلك ويحمل «خابرا» على أنه حال من «الغي» وانظر البيت في شرح الكافية للرضي (٢ / ٢٣٥) والخزانة (٣ / ٥٦٤).

(٢) انظر : الخزانة (٣ / ٥٦٤) وقال البغدادي : فلا يمكن تخريج البيت إلا على ما ذكره الشارح المحقق أو الكسائي ، ولا يصح جعل «خابرا» حالا من «الغي» ولا من الكاف فإن الغي لا يتصف بالخبر إذ هو ضده وكذلك المخاطبة لا تتصف به ؛ لأنها متصفة بالغي ولعد قوله خابرة بالتأنيث.

(٣) عبارة الإمام بدر الدين في شرح التسهيل لا تحتمل ما ذكره المؤلف ، بل إن الإمام بدر الدين نقل عبارة السيرافي في أول شرحه للكتاب وقد احتج بها على أن الخليل لم ينص على ذلك ، كما أن الإمام بدر الدين ذكر أن القول بأن «إذن» مركبة أقرب من القول بأنها غير مركبة وانتصاب الفعل بعدها بـ «أن» مضمرة ، وخلاصة القول : فإن العبارة التي نقلها الإمام بدر الدين عن السيرافي لا تشير إلى أن أبا عبيدة نقل عن الخليل القول بأن النصب بعد «إذن» بـ «أن» مضمرة.

٤٥٧

.................................................................................................

______________________________________________________

أنه ليس فيه نص على أن «أن» مضمرة لجواز أن تكون «إذن» مركبة من «إذ» التي للتعليل و «أن» ـ فكلام صحيح لو لم يكن نقل عن الخليل القول الآخر ، لكن القولان منقولان عنه ، منهم من نقل عنه أنها مركبة من «إذ» و «أن» (١) ، ومنهم من نقل أن «أن» مضمرة بعدها وهو أبو عبيدة ، والمنقول عن الثقات لا يدفع ولو لا أن المصنف علم أن ذلك قول للخليل لما قال : وليست أن مضمرة بعدها خلافا للخليل.

وبعد : فلنذكر مذاهب النحاة في الكلمة المذكورة فنقول (٢) :

ذهب جمهورهم إلى أنها حرف بسيط ، وشذ بعض الكوفيين فذهب إلى أنها اسم بسيط [٥ / ١٠٥] ظرف وهو «إذا» فنوّن واستعمل في الجزاء فحدث فيه معنى الربط والسبب قال : والأصل : إذا جئتني أكرمتك فحذف المضاف إليه «إذا» وهو الجملة وعوض منها التنوين كما في «حينئذ» وحذفت الألف لالتقاء الساكنين.

وأما الخليل فنقل عنه (٣) أنها حرف مركب من «إذ» و «أن» وغلب عليها حكم الحرفية ونقلت حركة الهمزة إلى «الذال» وحذفت وصار هذا النقل ملتزما ، فإذا قيل : أزورك فقلت : إذن أزورك فكأنك قلت : حينئذ زيارتي واقعة ، ونقل عنه أبو عبيدة أن «أن» مضمرة بعدها ، لكن الذي حكاه سيبويه عنه ـ أعني عن الخليل ـ أنها تنصب بنفسها (٤).

وقد ذهب بعض المتأخرين (٥) إلى أنها مركبة من «إذا» و «أن» فحذفت همزة «أن» ثم ألف «إذا» لالتقاء الساكنين ، قال : فيدل على الربط بـ «إذا» ويكون النصب بـ «أن».

وإذ قد عرف هذا فلنشر إلى أمور : ـ

__________________

(١) انظر : شرح الكافية للرضي (٢ / ٢٣٨) ، والهمع (٢ / ٦).

(٢) انظر : شرح الكافية للرضي (٢ / ٢٣٨) ، والهمع (٢ / ٦).

(٣) انظر : الهمع (٢ / ٦).

(٤) ذكر ذلك الرضي في شرح الكافية (٢ / ٢٣٨): (ويبدو لي أنه قد فهم هذا من كلام سيبويه ضمنا فلم أستطع العثور عليه صراحة في كتاب سيبويه والذي رأيته صراحة في كتاب سيبويه أنه ذكر أن بعضهم روى عن الخليل أن انتصاب الفعل بعد «إذن» بـ «أن» بعدها مضمرة وقد ضعفه سيبويه). انظر : الكتاب (٣ / ١٦).

(٥) هو أبو علي عمر بن عبد المجيد الرندي. انظر : الهمع (٢ / ٦).

٤٥٨

.................................................................................................

______________________________________________________

منها : أن هذه الكلمة التي هي «إذن» تلتها الجملة الاسمية فيقال لمن قال : أزورك : إذن أنا مكرم لك ، وتتوسط بين المبتدأ وخبره فيقال : أنا إذن مكرم لك ، وبين معمول الناسخ وخبره قال الله تعالى : (إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ)(١) ، ويليها المضارع فتنصبه بالشروط المذكورة وهي : أن تكون مصدّرة ، وأن يكون الفعل مستقبلا ، وأن لا يكون مفصولا بينها وبينه بغير قسم ، وكذا إن كان الفصل بنداء أو بـ «لا» فإنه كالفصل بالقسم كما تقدم ، ومتى كان الفصل بغير ذلك بطل عملها كقولك : إذن سوف أكرمك ، وإذن سأحسن إليك ، وكذا إن كان الفعل غير مستقبل بأن يكون حالا كما تقدم.

وأما إذا كانت غير مصدرة فإما أن تتأخر وإما أن تتوسّط ، فإن تأخرت بطل عملها نحو أن تقول في الجواب : أكرمك إذن ، وإن توسطت فقد عرفت من كلام المصنف في شرح الكافية : أنها إذا توسطت بين خبر وخبر أو بين ذي جواب وجواب ألغيت وأن النصب بها شذ بين ذي خبر وخبر ، وأنها إذا قدّم عليها حرف عطف جاز إلغاؤها وإعمالها وأن الإلغاء أجود وأن القرآن العزيز جاء به.

وإلى ذلك الإشارة بقوله في التسهيل : (وربّما نصب بها بعد عطف أو ذي خبر) ، وقد فهم من قول المصنف : وربّما نصب بها بعد عطف أو ذي خبر ـ أنها قد تنصب متوسطة في هذين الموضعين ، وأنها إن توسطت في غيرهما وجب إلغاؤها كما لو توسطت بين الشرط وجوابه نحو : إن تكرمني إذن أكرمك ، ونحو : والله إذن لأكرمنّك ، ومنه قول الشاعر :

٣٨١٩ ـ لئن عاد لي عبد العزيز بمثلها

و أمكنني منها إذن لا أقيلها (٢)

__________________

(١) سورة النساء : ١٤٠.

(٢) هذا البيت من الطويل قاله كثير عزة ، ديوانه (٢ / ٧٨) من قصيدة يمدح بها عبد العزيز بن مروان والد الخليفة عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه.

الشرح : الضمير في «بمثلها» و «منها» و «لا أقيلها» إلى خطة الرشد في قوله أول القصيدة :

عجبت لتركي خطة الرشد بعد ما

بدا لي من عبد العزيز قبولها

وأراد بها : خصلة الهداية ، وقوله : «لا أقيلها» من أقال إقالة أي : لا أتركها.

والشاهد فيه : إلغاء «إذن» لوقوعها بين القسم وجوابه ، قال العيني فالقسم قوله في البيت الذي قبله :

٤٥٩

.................................................................................................

______________________________________________________

فـ «لا أقيلها» جواب القسم المحذوف الذي دلت عليه «اللام» الموطئة في «لئن».

وقد ذكر الجماعة ـ أعني المغاربة ـ ما دل عليه كلام المصنف بمنطوقه وبمفهومه بصورة تقسيم فقالوا (١) : إذا كانت «إذن» متوسطة فإما أن يفتقر ما بعدها إلى ما قبلها أو لا ، فإن افتقر فإما أن يكون افتقار الشرط لجزائه ، أو افتقار القسم لجوابه ، أو افتقار الخبر للمخبر عنه ، فإن كان افتقار الشرط أو افتقار القسم فالإلغاء ولا يجوز العمل ، وإن كان افتقار الخبر نحو : أنا إذن أكرمك ، وزيد إذن يكرمك فالإلغاء أيضا ولكن قد ينصب بها حينئذ ، قالوا : وإنما يجيز النصب الكوفيون ، وأما البصريون فيلغونها حتما ، وإن لم يفتقر ما بعدها لما قبلها وذلك بأن يتقدمها حرف عطف فما بعدها إما أن يكون معطوفا على ما له محل من الإعراب أو على ما لا محل له ، فإن كان الأول فالإلغاء نحو قولك : إن تزرني أزرك وإذن أحسن إليك ـ بجزم أحسن ـ ولا يجوز غير ذلك إذا قدّرت أنها مع ما بعدها عطف على جواب الشرط ، وكذلك : زيد يقوم وإذن يكرمك إن عطفت على الخبر ألغيت إذ يصير مثل : زيد يكرمك ؛ لأن المعطوف على الخبر خبر ، وإن كان الثاني بأن يكون قد عطف على الجملة المتقدمة من الشرط والجزاء ومن المبتدأ والخبر جاز إذ ذاك الإلغاء ، رعيا لحرف العطف ، والإعمال لأن المعنى على استئناف ما بعد حرف العطف حتى قال بعضهم : إن عطفت على الجملة المتقدمة أعملت وصار لها حكمها إذا صدرت. انتهى ما ذكروه ، وهذا الذي قالوه قد قلنا : إن كلام المصنف يعطيه بالمنطوق والمفهوم.

فإن قلت : كيف تستفيد وجوب الإلغاء من كلامه في نحو : إن تزرني أزرك وإذن أحسن إليك وهو قد أجاز الأمرين بعد حرف العطف؟

قلت : لم يجز الأمرين وإنما قال : وربّما نصب بها بعد عطف ـ فأفاد أن الإلغاء هو المعمول به وأن الإعمال موقوف على السماع. ـ

__________________

حلفت برب الراقصات إلى منى

يغول البلاد نصلها وذميلها

وجواب القسم «لا أقيلها». اه. فليس القسم محذوفا كما ذكر المؤلف. والبيت في الكتاب (٣ / ١٥) (هارون) وابن يعيش (٩ / ١٣ ، ٢٢) ، وشرح الكافية للرضي (٢ / ٢٣٩).

(١) انظر ملخص هذا الكلام في الهمع (٢ / ٢٧) والأشباه والنظائر (١ / ٨٨).

٤٦٠