شرح التّسهيل المسمّى تمهيد القواعد بشرح تسهيل الفوائد - ج ٦

محمّد بن يوسف بن أحمد [ ناظر الجيش ]

شرح التّسهيل المسمّى تمهيد القواعد بشرح تسهيل الفوائد - ج ٦

المؤلف:

محمّد بن يوسف بن أحمد [ ناظر الجيش ]


المحقق: علي محمّد فاخر [ وآخرون ]
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٤

.................................................................................................

______________________________________________________

٢٦٠٤ ـ لا تظلموا النّاس كما لا تظلموا (١)

وأنشدوا أيضا :

٢٦٠٥ ـ اسمع حديثا كما يوما تحدّثه

عن ظفر غيب إذا ما سائل سألا (٢)

بالنصب ، والبصريون يرفعون. وأنشد المبرد :

٢٦٠٦ ـ وطرفك إمّا جئتنا فاصرفنّه

كما يحسبوا أنّ الهوى حيث تنظر (٣)

ومنها :

أنك قد عرفت ما ذكره المصنف من أن الكاف تزاد عند أمن اللبس وتقدم ذكر الأدلة على ذلك. وقد نص النحاة على جواز زيادتها كابن هشام الخضراوي ، وابن أبي الربيع وابن عصفور وغيرهم (٤). قال ابن عصفور : إلا أن ذلك ليس بمطرد فيها ، ولا منقاس. قال : وزيادتها على وجهين :

أحدهما : أن تزاد توكيدا للتشبيه نحو قوله :

٢٦٠٧ ـ [ولعبت طير بهم أبابيل]

فصيّروا مثل كعصف مأكول (٥)

فزاد الكاف لتأكيد التشبيه الذي يعطيه «مثل» ، وجرّ «عصفا» بها ، والكاف مع ما جرته في موضع خفض بـ «مثل» وكقول الآخر :

٢٦٠٨ ـ وصاليات ككما يؤثفين (٦)

فزاد إحدى الكافين تأكيدا لما تعطيه الأخرى من معنى التشبيه.

ثانيهما : أن تزاد ، وتخرج عن معنى التشبيه جملة كقوله : ـ

__________________

(١) رجز لرؤبة ، ملحقات ديوانه (ص ١٨٣) برواية : «لا تشتم» وانظر : الخزانة (٣ / ٥٩١) ، (٤ / ٢٧٦) وأمالي الشجري (١ / ١٨٦).

(٢) من البسيط لعدي بن زيد. راجع ديوانه (ص ١٥٨) ، والإنصاف (٢ / ٥٨٨) ، واللسان «كيا».

(٣) سبق تخريجه.

(٤) ينظر التذييل (٤ / ٣٢ ، ٣٥).

(٥) عجز بيت من الرجز ذكرنا صدره وهو لحميد الأرقط ، وينسب ـ كذلك ـ لرؤبة ، ملحقات ديوانه (ص ١٨١) ، وانظر : التصريح (١ / ٢٥٢) ، (٢ / ١٧٢) ، والكتاب (١ / ٢٠٣) ، والمقتضب (٤ / ١٤١ ، ٣٥٠).

(٦) رجز من كلمة لخطام المجاشعي أولها :

حي ديار الحي بين الشهبين

وانظر الكتاب (١ / ١٣ ، ٢٠٣) ، (٢ / ٣٣١) ، والمقتضب (٢ / ٩٧) ، (٤ / ١٤٠ ، ٣٥٠).

٤٠١

.................................................................................................

______________________________________________________

٢٦٠٩ ـ لو أحق الأقراب فيها كالمقق (١)

المعنى : فيها مقق ، أي طول ؛ لأنه يقال : في الشيء طول ولا يقال فيه [٤ / ٢١] كالطول.

ومنها :

أن الكاف تكون اسما فتجر إما بالحرف ، أو بالإضافة ، وينسد إليها فتكون فاعلة ومبتدأ ، وقد تقدم تقرير ذلك وأمثلته في كلام المصنف.

وذكر ابن أبي الربيع أنها تجيء مفعولة أيضا ، وأنشد على ذلك قول القائل :

٢٦١٠ ـ لا يبرمون إذا ما الأفق جلّله

برد الشّتاء من الأمحال كالأدم (٢)

قال : فالكاف بمنزلة مثل ، وهي اسم ومفعولة بـ «جلل». قال : وكذلك بيت النابغة أيضا :

٢٦١١ ـ كما لقيت ذات الصّفا من حليفها

[وما انفكّت الأمثال في النّاس سائره] (٣)

فإن الكاف مفعولة لقوله «لألقى» قبله ، وقد تقدم أيضا الإعلام بأن سيبويه إنما يثبت اسميتها في الضرورة وأن الأخفش يثبت ذلك في الكلام. ولا شك في ثبوت اسميتها في الجملة وقد كثر ورود ذلك. فمن أجازه في الكلام كان مستنده كثرة ما ورد منه ، ومن لم يجزه في الكلام جعل مستنده أن الوارد من ذلك إنما ورد في الشعر خاصة ولم يرد في نثر ، ومن النحويين (٤) من تأول ما ورد من ذلك على حذف الموصوف وإقامة المجرور الذي هو صفته مقامه.

وقال ابن عصفور في قول القائل :

٢٦١٢ ـ أتنتهون ولن ينهى ذوي شطط

كالطّعن يذهب فيه الزّيت والفتل (٥)

الكاف فاعلة «ينهى» ؛ لأنه لا يجوز أن يقدر الفاعل محذوفا ويكون التقدير : ـ

__________________

(١) شرح الجمل لابن عصفور (١ / ٣٣٥ ، ٣٣٦).

(٢) من البسيط للنابغة الذبياني ، ديوانه (ص ٧٤) ، والدرر (٢ / ٢٩) ، والهمع (٢ / ٣١).

(٣) من الطويل للنابغة الذبياني ، وهو في ديوانه (ص ٦٩) وذات الصفا : الحية التي تحدث عنها العرب وذكروها في أشعارهم ، وللبيت قصة ارجع إليها ـ في الديوان ـ إن شئت.

(٤) ينظر التذييل (٤ / ٣٢ ، ٣٣).

(٥) من هامش المخطوط والبيت من البيسط للأعشى وهو في ، ديوانه (ص ٦٣) : هل تنتهون ولا ، وانظره في الخصائص (٢ / ٣٦٨) والعيني (٣ / ٣٩١) والمقتضب (٤ / ١٤١) ويس (٢ / ١٨).

٤٠٢

.................................................................................................

______________________________________________________

ناه كالطعن ، والكاف مع ما جرّته في موضع الصفة لـ «ناه» ؛ لأنك إن لم تقم المجرور مقامه لزم أن يكون المجرور فاعلا ؛ لأن الصفة إذا قامت مقام الموصوف أعربت بإعرابه والمجرور الذي حرف الجر فيه غير زائد لا يكون فاعلا. فتعين أن تكون الكاف فاعلة وكأنك قلت : مثل الطعن (١) ، ثم قال : ولا حجة في البيت عندي ؛ لاحتمال أن يكون فاعل «ينهى» ضمير الوعيد الذي يدل عليه ما تقدم ، وكأنه قال : ولن ينهى الوعيد ذوي شطط كالطعن أي : كنهي الطعن ؛ فيكون المجرور صفة لمصدر محذوف ، والتقدير : ولن ينهاهم الوعيد نهيا كنهي الطعن.

قال : وإنما الحجة على استعمالها اسما قول الآخر :

٢٦١٣ ـ فيا عجبا إنّ الفراق يروعني

به كمناقيش الحليّ قصار (٢)

وقول امرئ القيس :

٢٦١٤ ـ وإنّك لم يفخر عليك كفاخر

ضعيف ولم يغلبك مثل مغلّب (٣)

ألا ترى أن الكاف من قوله : «كمناقيش» فاعلة «يروعني» ، والكاف من قوله «كفاخر» فاعلة [يفخر] (٤) ولا يكون الفاعل محذوفا ، والكاف مع ما جرته صفة له ؛ للدليل الذي تقدم ذكره (٥). قال : وممّا يقوّي أن الكاف فاعلة في قول امرئ القيس أنه قرنها بـ «مثل» في قوله :

... ولم يغلبك مثل مغلّب (٦)

قال : ومما يدل أيضا على استعمال الكاف اسما قول ذي الرمة (٧) :

٢٦١٥ ـ أبيت على ميّ كئيبا وبعلها

على كالنّقا من عالج يتبطّح (٨)

__________________

(١) من شرح الإيضاح لابن عصفور.

(٢) من الطويل ، وانظره في التذييل (٤ / ٣٢).

(٣) من الطويل ، وهو في ديوانه (ص ٤٤) يريد إذا فخر عليك الضعيف عظم عليك فخره واشتد.

(٤) في الأصل : «بفخر» ، وهو تحريف.

(٥) ينظر : شرح الجمل (١ / ٣٣٥).

(٦) المصدر السابق.

(٧) غيلان بن عقبة العدوي من مضر ومن فحول الطبقة الثانية في عصره ، صاحبته «ميّ بنت عاصم» وبه ختم الشعر (ت ١١٧ ه‍) راجع الخزانة (١ / ٥١).

(٨) من الطويل ديوانه (ص ٨٥) ، والخصائص (٢ / ٣٦٩). هذا ، وعالج : موضع بالبادية ، ويتبطح : يستلقي على وجهه ، وفي الديوان : «على مثل الأشافي» بدل «على ميّ كئيبا».

٤٠٣

.................................................................................................

______________________________________________________

وقول ابن عادية السلمي :

٢٦١٦ ـ وزعت بكالهراة أعوجي

إذا ونت الرّياح جرى وثابا (١)

وقول امرئ القيس :

٢٦١٧ ـ ورحنا بكابن الماء يجنب وسطها

تصوّب [فيه العين] طورا وترتقي (٢)

وقول سلامة العجلي :

٢٦١٨ ـ على كالخنيف السّحق يدعو به الصّدى

له قلب عفيّ الحياض أجون (٣)

وقول الآخر :

٢٦١٩ ـ قليل غرار النّوم حتّى تقلّصوا

على كالقطا الجوني أفزعه الزّجر (٤)

قال : فالكاف في جميع ذلك اسم ؛ بدليل دخول حرف الجر عليها ، وحرف الجر لا يدخل على مثله إلا في ضرورة بشرط أن يكون الحرفان في معنى واحد فيكون أحدهما تأكيدا للآخر. قال : ولا يتصور أن يجعل الكاف حرف جر في جميع ذلك ، وتكون مع ما جرته في موضع صفة لموصوف محذوف ، ويكون التقدير : على كفل كالنقا ، وبغرس كالهراوة ، وبفرس كابن الماء ، وعلى طريق كالخنيف ، وعلى خيل كالقطا الجوني ؛ لأنك إن لم تقدر المجرور بالكاف قائما مقام المحذوف لزم من ذلك أن يكون «على والباء» مقطوعين عن الاسم والمجرور بهما ، وقطع حرف الجر عن المجرور غير جائز ، وإن قدرته قائما مقام المحذوف لزم من ذلك أن يكون حرف الجر الذي هو الكاف مع الاسم المجرور به في موضع خفض بـ «على ، والباء» وذلك لا يجوز ؛ لأن حرف الجر إنما يجر الأسماء وحدها ، فلما تعذر أن تكون الكاف حرفا على التقديرين المذكورين لم يبق إلا أن تكون جعلت اسما حملا على ما هي في معناه ـ

__________________

(١) من الوافر ، وانظر : اللسان «ثوب» ، و «وثب» ، ومعاني الفراء (٣ / ٨٥) ، والمقرب (١ / ١٩٦).

(٢) من الطويل ، ديوانه (ص ١٧٦) ، وابن الماء : طائر ، ووسطها : بينها. وانظر : الاقتضاب (ص ٤٢٩) وشرح الجواليقي لأدب الكاتب (ص ٣٥٠) ورواية الديوان : «وسطنا».

(٣) من الطويل ، والخنيف : ثوب من أردأ الكتان ، والسحق : البالي ، والقلب : جمع قليب ، وهو البئر ، وعفي جمع عاف وهو الدارس ، وأجون : جمع أجن : الماء الذي تغير طعمه ولونه. وانظر : سر الصناعة (١ / ٢٨٨) ، واللسان «خنف».

(٤) من الطويل ، وانظره في : الخصائص (٢ / ٣٦٨) ، والمقتضب (٤ / ١٤٢).

٤٠٤

.................................................................................................

______________________________________________________

وهو «مثل» للضرورة وإن جاء شيء من مثل هذا في الكلام كان شاذّا (١). انتهى.

وفي كلامه نظر. أما قوله : إن لم يقدر المجرور بالكاف قائما مقام المحذوف لزم قطع «على والباء» عن الاسم المجرور بهما وقطع حرف الجر عن المجرور غير جائز ، فيقال فيه : الممتنع إنما هو قطع حرف الجر عن المجرور لفظا. أما قطعه عنه تقديرا فكيف يمتنع؟ ولا شك أن كل حرف زائد [إنما] (٢) هو مقطوع عن مجروره معنى بدليل جعلك : «حسبك درهم» من قولهم : بحسبك درهم مبتدأ ، وجعلك الاسم المعظم فاعلا في (كَفى بِاللهِ شَهِيداً)(٣) ، وكذلك جعلك «زيد» فاعلا في قولنا : أحسن بزيد. وأما قوله : وإن قدرته قائما مقام المحذوف لزم منه أن يكون الجر الذي هو الكاف مع الاسم المجرور به في موضع خفض بـ «على ، والباء» إلى آخره ؛ فيقال فيه : إن الكاف مع مجرورها ؛ والباء مع مجرورها. كل منهما في موضع الصفة فهو متعلق بمحذوف ، وإذا كان كذلك فالذي في موضع خفض بالحقيقة إنما هو ذلك المحذوف المتعلق به ، التقدير : على كائن كالنقا ، وبكائن كالهراوة.

ومنها :

أن «ما» تزاد بعد الكاف وبعد «ربّ» ، وبعد «الباء» كافة وغير كافة.

وحاصل الأمر : أن الكاف إذا [٤ / ٢٢] زيدت بعد [ها] «ما» كافة وليتها الجمل الاسمية ، وصارت حرف ابتداء وقد تقدم استشهاد المصنف على ذلك بقول القائل :

٢٦٢٠ ـ كما النّشوان والرّجل الحليم

واستشهد في غير هذا الكتاب بقول الآخر :

٢٦٢١ ـ أخ ماجد لم يخزني يوم مشهد

كما سيف عمرو لم تخنه مضاربه (٤)

ومن ذلك قول الشاعر : ـ

__________________

(١) نقل طويل ثالث ورابع من شرح الإيضاح المفقود لابن عصفور.

(٢) زيادة ليستقيم الكلام.

(٣) سورة الرعد : ٤٣.

(٤) من الطويل لنهشل بن جرير يرثي أخاه مالكا ، وانظر : الدرر (٢ / ٤٢) ، والعيني (٣ / ٣٣٤) والمغني (ص ١٧٨ ، ٣١٠) ، وفيه أن صاحب المستوفى زعم أن الكاف لا تكف بـ «ما» ورد عليه بهذا البيت ، والهمع (٢ / ٣٨).

٤٠٥

.................................................................................................

______________________________________________________

٢٦٢٢ ـ ألم تر أنّ البغل يتبع إلفه

كما عامر واللّؤم مؤتلفان (١)

وقول الآخر :

٢٦٢٣ ـ وإنّ بنا لو تعلمين لغلّة

إليك كما بالحائمات غليل (٢)

وقول الآخر :

٢٦٢٤ ـ لقد علمت سمراء أنّ حديثها

نجيع كما ماء السّماء نجيع (٣)

وقد عرفت أن المصنف قال في باب الموصول : إن «ما» الموصوفة الحرفية قد توصل بجملة اسمية على رأي ؛ فعلى هذا لا يتعين القول بكون «ما» كافة في هذه الأبيات إلا على قول من لا يجيز وصل المصدرية إلا بالجملة الفعلية. أما من يجيز وصلها بالجمل الاسمية فيجوز عنده أن تكون «ما» مصدرية ينسبك منها مع الجملة التي بعدها مصدر يكون في موضع جر بالكاف ، فلا تكون الكاف مكفوفة حينئذ. ولكن المصنف كأنه لم يقل بذلك هنا ؛ لأنه إنما ساق الكلام على أن «ما» كافة ، ولهذا بنى على ذلك فقال : وقد يحدث في الكاف معنى التعليل ، يعني أن الكاف تخرج بذلك عن التشبيه ، ولا تخرج الكاف عن التشبيه إلى التعليل إلا إذا كانت «ما» كافة. وأما زيادة «ما» بعد «ربّ» فسيأتي الكلام على ذلك عند الكلام على «رب» إن شاء الله تعالى.

وأما زيادة «ما» بعد الباء غير كافة : فقد اشتمل عليه القرآن العزيز. وأما زيادتها بعدها كافة فقد استدل عليه المصنف بقول القائل :

٢٦٢٥ ـ بما قد ترى وأنت خطيب

وبقول الآخر :

٢٦٢٦ ـ بما قد أرى تلك الدّيار وأهلها

وقال : إن «ما» هذه ـ أعنى الكافة ـ تحدث في الباء معنى التقليل أي : معنى «ربما». قال : فمعنى «لبما قد ترى» : لربما قد ترى ومعنى «[بما] قد أرى» : ربما قد أرى. لكن قال الشيخ : ما ذهب إليه ـ يعني المصنف ـ من أن «ما» في ما ذكر كافة وأنها أحدثت معنى التقليل ؛ غير صحيح ، بل «ما» في ذلك مصدرية والباء للسببية المجازية والمعنى على التكثير لا على التقليل ، ونظيره قول الآخر : ـ

__________________

(١) من الطويل ، وراجعه في الدرر (٢ / ٤٢) ، والهمع (٢ / ٣٨).

(٢ و ٣) تقدم.

٤٠٦

           

______________________________________________________

٢٦٢٧ ـ فلئن قلت هذيل شياه

لبما كان هذيلا يفل (١)

قال : والفعل الذي يتعلق به الباء مقدر [مما] قبلها ، والتقدير : لانتفاء إحارتك جوابا برؤيتك وأنت خطيب. وهنّ قديمات العهود دواثر ترويني تلك الديار ؛ لقلته بما كان نقلها ، والسببية ظاهرة في هذا البيت ، وأما في البيتين قبله : فسبب خرسه بالموت كونه كان خطيبا في الحياة ؛ إذ ينشأ عن الحياة الموت ، إذ مصير كل شيء إلى الممات ، وكذلك البيت الثاني : سبب دثور الديار كونها عامرة بأهلها ؛ إذ مصير العمران للخراب ؛ ولذلك جاء :

٢٦٢٨ ـ لدوا للموت وابنوا للخراب

[فكلّكم يصير إلى ذهاب] (٢)

انتهى. ولا يخفى أن ما قدره بعيد أن يكون مراد الشاعر ، ولكن قول المصنف : إن المراد التعليل ؛ غير ظاهر.

وأما قول المصنف : وربما نصبت حينئذ مضارعا ؛ فمراده حين يحدث في الكاف معنى التعليل ، وذلك إذا كانت «ما» كافة واقتضى كلام المصنف أن «كما» هي الناصبة وأنها إنما نصبت تشبيها لها بـ «كي» ولم يرتض قول الفارسي فيها ، وهو أن الأصل كيما ، وقول المصنف في المتن : وربّما نصبت حينئذ مضارعا يرشد إلى أن المراد بقوله في الشرح : وإذا حدث فيها معنى التعليل ، ووليها مضارع نصبته : أنّ المضارع قد ينصب بعدها ، أي : أن ذلك قليل ؛ فلا تتوجه على عبارته في الشرح مناقشة.

ثم اعلم أنه قد تقدم لنا قول ابن عصفور : وجعل الكوفيون «كما» في :

٢٦٢٩ ـ [كما] نغدّي القوم من شوائه

محذوفة من «كيما» ، و «نغدّي» في موضع نصب بها ، إلا أنه سكن للضرورة فقال : واستدلوا على ذلك بقوله :

٢٦٣٠ ـ كما يحسبوا أنّ الهوى حيث تنظر

فعلى هذا الذي ذكره المصنف في هذه المسألة عن الفارسي هو مذهب الكوفيين. ـ

__________________

(١) بنصه وبغير نسبة في التذييل والتكميل (٧ / ٧٢ / أ).

(٢) من الوافر لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه ـ ديوانه (ص ٧) وبرواية :

له ملك ينادي كل يوم

لدوا ... للخراب

وانظر : التصريح (٢ / ١٢) ، والخزانة (٣ / ١٦٣) ، والدرر (٢ / ٣١) ، والهمع (٢ / ٣٢).

٤٠٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وأقول : هذا الذي ذكر عن الكوفيين ، والفارسي أقرب وأولى مما ادعاه المصنف.

ولهذا قال الشيخ : قول المصنف : وهذا تكلف لا دليل عليه ، ولا حاجة إليه ـ ليس كما ذكر ، بل هو تأويل عليه دليل وإليه حاجة ؛ وذلك أنه لم يثبت النصب بـ «كما» في موضع خلاف هذا المختلف فيه فيحمل هذا عليه والنصب ثابت بـ «كيما» ، والعلة في «كيما» أصل ، وفي كاف التشبيه المكفوفة بـ «ما» ليس أصلا (١) ؛ فالأولى أن يعتقد أن أصلها «كيما» ؛ لظهور التعليل فيها ، ولثبوت النصب بـ «كيما» (٢). انتهى.

وما قاله هو الظاهر ، لكن قد تقدم لنا من كلام ابن هشام الخضراوي أنه لما تكلم على «كما» قال : وحكى الكوفيون أنها تكون بمعنى «كي» ، فينصب بها ووافقتهم المبرد وأنشدوا :

٢٦٣١ ـ اسمع حديثا كما يوما تحدّثه

وكذا :

٢٦٣٢ ـ كما يحسبوا أنّ الهوى حيث تنظر

وهذا الكلام بظاهره يعطي ما ادعاه المصنف من أن الناصب «كما» نفسها تشبيها لها بـ «كي». وأما قول المصنف أيضا : وإن ولي «ربما» اسم مرفوع فهو مبتدأ بعده خبر لا خبر مبتدأ محذوف و «ما» نكرة موصوفة ؛ خلافا لأبي علي ، وقوله في الشرح بعد ذكر المسألة : نصب المضارع بعد «كما» ، وأن الفارسي يزعم أن الأصل : «كيما» ، وكذلك أيضا زعم ـ يعني الفارسي ـ في قول الشاعر :

٢٦٣٣ ـ ربّما الجامل المؤبّل فيهم

أن «ما» نكرة موصوفة بمبتدأ مضمر وخبر مظهر. والصحيح أن «ما» فيه زائدة كافة هيأت «رب» للدخول على الجملة الاسمية كما هيأتها للدخول على الجملة الفعلية ـ فاعلم أنّ : المغاربة كالمطبقين على أن «ربما» لا تليها الجمل الاسمية عند الجمهور ، وهو مذهب سيبويه (٣).

قال ابن هشام : و «هل» عند سيبويه حرف يدخل على الفعل ، ويختص به ، ولا يدخل على الجملة الابتدائية ؛ ولهذا لما ذكر الحروف التي لا يليها إلا الفعل ـ

__________________

(١) بعده في التذييل ولذلك وقع الخلاف في «انتظرني كما آتيك» بين الخليل والفراء.

(٢) التذييل (٧ / ٧٤ / أ).

(٣) الكتاب (٣ / ١١٥).

٤٠٨

.................................................................................................

______________________________________________________

وذكر «قد» و «سوف» قال : ومن تلك الحروف «ربما» وقلما جعلوا «ربّ» مع «ما» بمنزلة كلمة واحدة وهيئوها ليذكروا بعدها الفعل ؛ لأنهم لم يكن لهم سبيل إلى : ربّ يقول ، ولا إلى : قلّ يقول ؛ فألحقوها وأخلصوها للفعل (١) ، والذي ذكره المصنف عن الفارسي في قول الشاعر :

٢٦٣٤ ـ ربّما الجامل المؤبل فيهم

هو الذي ذكره المغاربة فيه. قال ابن عصفور بعد [٤ / ٢٣] إنشاده (٢) هذا البيت على رواية من رواه بخفض «الجامل المؤبل» : والرواية الصحيحة «الجامل» بالرافع على أن تكون «ما» في موضع اسم نكرة مخفوض بـ «رب» و «الجامل» خبر مبتدأ مضمر والجملة في موضع الصفة كأنه قال : ربّ شيء هو الجامل المؤبل (٣).

ومن ثم قال الشيخ : هذا الذي قاله ـ يعني المصنف ـ عن الفارسي هو مذهب الجمهور ، وابن عصفور خرّج البيت تخريج أبي علي وهو الصحيح ؛ إذ لو كان الصحيح ما اختار المصنف لسمع من كلامهم : ربما زيد قائم بتصريح المبتدأ والخبر ولم يسمع ذلك فيما أعلم ، فوجب تخرج البيت على ما خرّجه الفارسي وابن عصفور (٤). قال : ومثل قوله : ربّما الجامل المؤبل» قول الآخر :

٢٦٣٥ ـ طالعات ببطن نقرة بدن

ربّما طاعن بها ومقيم (٥)

وقول الآخر :

٢٦٣٦ ـ أمّ الصّبيّين ما يدريك أن ربّما

عنظاء قلتها شمّاء قرواخ (٦)

قال : ويتأول هذان البيتان تأويل «ربما الجامل» ، والعنظاء : الهضبة ، وشماء : مرتفعة ، وقرواخ : جرداء. قال : والذي ذهب إليه المصنف هو مذهب المبرد ، وزعم أنه يليها الجملة الاسمية والفعلية نحو «إنما» تقول : ربما قام زيد ، وربما زيد قائم كما تقول ذلك في «إنما».

وأما زيادة «ما» بعد «من وعن» غير كافة : فقد تقدم الاستدلال عليه من ـ

__________________

(١) انظر : أوضح المسالك (٣ / ١٩) وما بعدها ، والمغني (ص ١٣٤) وما بعدها ثم الكتاب (٣ / ١٥).

(٢) في شرح الجمل له (١ / ٥٠٥).

(٣) المصدر السابق (١ / ٣٥٩).

(٤) التذييل (٧ / ٧٥ / ب).

(٥) من الخفيف وانظره في تذييل أبي حيان (٧ / ٧٥ / ب).

(٦) من البسيط وانظره في المصدر السابق.

٤٠٩

[مذ ، منذ ، رب : لغاتها ، ومعانيها ، وأحكامها]

قال ابن مالك : (ومنها : «مذ ، ومنذ» ، وقد ذكرا في باب الظروف.

ومنها : «ربّ» ويقال : رب وربّت ورب وربّت وربت وربّ ورب وربت وليست اسما خلافا للكوفيين والأخفش في أحد قوليه ، بل هي حرف تكثير وفاقا لسيبويه ، والتقليل بها نادر ولا يلزم وصف مجرورها خلافا للمبرد ، ومن وافقه ، ولا مضيّ ما تتعلّق به بل يلزم تصديرها وتنكير مجرورها ، وقد يعطف على مجرورها وشبهه مضاف إلى ضميريهما ، وقد تجرّ ضميرا لازما تفسيره بمتأخر منصوب على التّمييز مطابق للمعنى ولزوم إفراد الضمير وتذكيره عند تثنية التمييز وجمعه وتأنيثه أشهر من المطابقة).

______________________________________________________

الكتاب العزيز ، وأنشدوا شاهدا عليه أيضا قول الشاعر :

٢٦٣٧ ـ وأعلم أنّني عمّا قريب

سأنشب في شبا ظفر وناب (١)

قالوا : وإذا كانوا قد زادوا ما بين المضاف والمضاف إليه مع شدة الاتصال بينهما ؛ لأنه كالجزء منه فلأن يزيدوها بين حرف الجر والمجرور أولى ، ومنه قول القائل :

٢٦٣٨ ـ مساعير ما حرب وإيسار شتوة

إذا الريح ألوت بالكنيف المستّر (٢)

وقول الآخر :

٢٦٣٩ ـ من غير ما فحش يكون بهم

في منتج المهرات والمهر (٣)

قال ناظر الجيش : قال المصنف (٤) : قد بينت في باب المفعول فيه أن من جملة أسماء الزمان المبنية «مذ ، ومنذ» إذا وليهما مرفوع أو جملة ، وأنهما يكونان حرفي جر واستوفيت القول بما أغنى عن مزيد فليعلم ذلك.

ومن حروف الجر «ربّ» : وفيها عشر لغات : أربع بتشديد الباء ، وست ـ

__________________

(١) من الوافر لامرئ القيس ، يريد أنه سيموت كما مات أبوه وأجداده ، وشبا كلّ شيء : حدّه ـ ديوانه (ص ١٠٠) برواية «قليل» بدل «قريب» ، والدرر (٢ / ٤٠) ، والهمع (٢ / ٣٧).

(٢) البيت من الطويل وانظره في التذييل (٤ / ٣٥).

(٣) من الكامل للخرنق بنت بدر بن هفان ـ ديوانها (ص ٣١) والشاهد فيه : زيادة «ما» بين المضاف «غير» والمضاف إليه «فحش» كسابقه.

(٤) شرح التسهيل (٣ / ١٧٥).

٤١٠

.................................................................................................

______________________________________________________

بتخفيفها ، وقد ذكرت. وهي حرف عند البصريين ، واسم عند الكوفيين والأخفش (١) في أحد قوليه. وحرفيتها أصح ؛ لخلوها من علامات الأسماء اللفظية والمعنوية ولمساواتها (الحرف) (٢) في الدلالة على معنى في مسمى غير مفهوم جنسه بلفظها بخلاف أسماء الاستفهام والشرط فإنها تدل على معنى في مسمى مفهوم بلفظها. ومقتضى هذا التقدير أن تكون «كم» حرفا لكن اسميتها ثابتة بالعلامات اللفظية وهي الإضافة إليها ، ودخول حرف الجر عليها ، والابتداء بها ، وإيقاع الأفعال عليها ، وعود الضمير إليها. واستدل الكوفيون على اسميتها بقول الشاعر :

٢٦٤٠ ـ إن يقتلوك فإنّ قتلك لم يكن

عارا عليك وربّ قتل عار (٣)

فزعموا أن «رب» مبتدأ وعار خبره والصحيح أنه خبر مبتدأ محذوف والجملة صفة لـ «قتل» والتقدير : وربّ قتل هو عار ، وأكثر النحويين يقولون : معنى «رب» التقليل. قال أبو العباس : «رب» تبني عمّا وقعت عليه أنه قد كان ، وليس بالكثير ؛ فلذلك لا تقع إلا على نكرة ؛ لأن ما بعدها يخرج مخرج التمييز (٤).

وقال ابن السراج : النحويون كالمجمعين على أنّ «ربّ» جواب لما تقول : رب رجل عالم ، لمن قال لك : ما رأيت رجلا عالما ، أو قدرت أنه يقول ... ؛ فضارعت حرف النفي ؛ إذ كان يليه الواحد المنكور وهو يراد به الجماعة (٥). وقال ابن السراج أيضا : رب حرف جر وكان حقه أن يكون بعد الفعل موصّلا له إلى المجرور كأخواته ، ولكن لما كان معناه التقليل وكان لا يعمل إلا في نكرة صار مقابلا لـ «كم» إذا كانت خبرا فجعل له صدر الكلام كما جعل لـ «كم» (٦) ، وقال الزمخشري في المفصّل : «رب» للتقليل (٧) ، وجعلها في الكشاف للتكثير (٨). قلت : والصحيح أن معنى «رب» التكثير ، ولذا تصلح «كم» في كل موضع وقعت فيه غير نادر كقول الشاعر : ـ

__________________

(١) معاني القرآن له (١ / ٢٥٠) أول سورة الحجر.

(٢) الأصل : «الحروف».

(٣) من الكامل لثابت قطنة يرثي يزيد بن المهلب ، وانظر : الدرر (١ / ٧٣) والمقتضب (٣ / ٦٦) ، والمقرب (١ / ٢٢٠).

(٤) ينظر : المقتضب (٢ / ٤٨) ، (٤ / ١٣٩ ، ٢٨٩).

(٥) الأصول (١ / ٣٣٣).

(٦) السابق (١ / ٣٣٢).

(٧) المفصل بشرح ابن يعيش (٨ / ٢٦).

(٨) في الكشاف (١٠ / ١٥١) ، (٢ / ١٣) ، (٣ / ٢٠٥ ، ٢٠٦) أنها للتكثير وفي (٢ / ٤٤٣ ، ٤٤٤) للتقليل.

٤١١

.................................................................................................

______________________________________________________

٢٦٤١ ـ ربّ من أنضجت غيظا صدره

قد تمنّى لي موتا لم يطع (١)

وكقول الآخر :

٢٦٤٢ ـ ربّ رفد هرقته ذلك اليو

م وأسرى من معشر أقتال (٢)

وكقول الآخر :

٢٦٤٣ ـ ربّما تكره النّفوس من الأم

ر له فرجة كحلّ العقال (٣)

وكقول حسان رضي‌الله‌عنه :

٢٦٤٤ ـ ربّ حلم أضاعه عدم الما

ل وجهل غطّى عليه النّعيم (٤)

وكقول الآخر :

٢٦٤٥ ـ وربّ امرئ ناقص عقله

وقد يعجب النّاس من شخصه

وآخر تحسبه أحمقا

ويأتيك بالأمر من فصّه (٥)

وكقول ضابئ البرجمي :

٢٦٤٦ ـ وربّ أمور لا تضيرك ضيرة

وللقلب من مخشاتهنّ وجيب (٦)

وكقول عدي بن زيد :

٢٦٤٧ ـ ربّ مأمول وراج أملا

قد ثناه الدّهر عن ذاك الأمل (٧)

__________________

(١) من الرمل لسويد بن أبي كاهل ، وانظره في أمالي الشجري (٢ / ١٦٩) ، والخزانة (٢ / ٥٤٦) ، (٣ / ١١٩) ، والدرر (١ / ٦٩) ، (٢ / ١٩) برواية «قلبه» بدل «صدره» ، وشرح المفصل (٤ / ١١) ، والمغني (٣٢٨) ، والهمع (١ / ٩٢) ، (٢ / ٢٦) ، هذا : وفي الأصل : «يتمنى» ، وهو تحريف.

(٢) من الخفيف للأعشى ، والرفد : القدح الضخم ، ويكنى بإراقة الرفد عن الموت ، وأقتال : جمع قتل وهو العدو وانظر ديوانه (ص ١٣) وأمالي القالي (١ / ٩٠) ، والعيني (٢ / ٢٥١) ، والمغني (ص ٥٨٧) ، والهمع (١ / ٩).

(٣) من الخفيف لأمية بن أبي الصلت ديوانه (ص ٥٠) وانظر الأشموني (١ / ١٥٤) ، والخزانة (٢ / ٥٤١) وشرح المفصل (٤ / ٢) ، (٨ / ٣٠) ، والكتاب (١ / ٢٧٠ ، ٣٦٢) ، والهمع (١ / ٨ ، ٩٢).

(٤) البيت في ديوان حسان (ص ٣٧٨) ومعناه جليّ.

(٥) البيتان من المتقارب ، وروايتها في اللسان بغير نسبة ، وفيهما حكمة واضحة.

(٦) من الطويل ، وفي اللسان : وجب القلب يجب وجبا ووجيبا ووجوبا ووجبانا : خفق واضطرب ، وقال ثعلب : وجيبا فقط ، والبيت في الدرر (٢ / ٢٠١).

(٧) البيت من الرمل ، ومعناه وشاهده واضحان.

٤١٢

.................................................................................................

______________________________________________________

وهذا الذي أشرت إليه [٤ / ٢٤] من أن معنى «رب» التكثير هو مذهب سيبويه (١) رحمه‌الله تعالى ، وقال ابن خروف : وذكر سيبويه في باب «كم» أن «رب» للتكثير ، وذكر ذلك غيره من اللغويين. واستعمالها على ذلك موجود كثير (٢) ، قلت : فمن كلامه الدال على ذلك قوله في باب «كم» : اعلم أن لـ «كم» موضعين :

أحدهما : الاستفهام.

والآخر : الخبر.

ومعناها معنى «ربّ» (٣). ثم قال بعد ذلك في الباب : واعلم أن «كم» في الخبر لا تعمل إلا فيما تعمل فيه «رب» ؛ لأن المعنى واحد إلا أن «كم» اسم ، و «رب» غير اسم (٤). هذا نصه ولا معارض له في كتابه.

فعلم أن مذهبه كون «رب» مساوية لـ «كم» الخبرية في المعنى. ولا خلاف في أن معنى «كم» الخبرية التكثير ، والذي دلّ عليه كلام سيبويه من أن معنى «رب» التكثير هو الواقع غير النادر من كلام العرب نثره ونظمه. فمن النظم الأبيات التي قدمت ذكرها ، ومن النثر قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا ربّ كاسية في الدّنيا عارية يوم القيامة» (٥) ، و «ربّ أشعث أغبر لا يؤبه له لو (أقسم) (٦) على الله لأبرّ قسمه» (٧) ، ومنه قول الأعرابي الذي سمعه الكسائي يقول بعد الفطر : ربّ صائمه لن يصومه وربّ قائمه لن يقومه (٨) ، وقال الفراء : يقول القائل إذا أمر فعصي : أما والله لرب ندامة لك تذكر قولي فيها (٩). وقولي : والتعليل بها نادر ؛ أشرت به إلى قول الشاعر :

٢٦٤٨ ـ ألا ربّ مولود وليس له أب

وذي ولد لم يلده أبوان (١٠)

__________________

(١) الكتاب (٢ / ١٦١).

(٢) الارتشاف (ص ٧٣٥).

(٣) الكتاب (٢ / ١٥٦).

(٤) الكتاب (٢ / ١٦١).

(٥) عن ابن شهاب ، وانظر : البخاري : علم (٤٠) ، وفتن : (٦) ، وموطأ مالك : اللباس (٨).

(٦) من هامش المخطوط.

(٧) عن أبي هريرة ـ صحيح مسلم : الجنة ونعيمها وأهلها (٤٨) ، بر (١٣٨) ، والنهاية (٢ / ٤٧٨) «شعث».

(٨) ينظر : الأشموني (٢ / ٢٣٠) ، والتصريح (٢ / ١٨) ، وشواهد التوضيح (ص ١٠٦) ، والمغني (ص ١٣٤).

(٩) الأشموني (٢ / ٢٣١ ، ٢٣٢) والهمع (٢ / ٢٧ ، ٢٨).

(١٠) من الطويل لعمرو الجنبي ، أو رجل من أزد السراة ، وانظر : التصريح (٢ / ١٨) ، والخصائص (٢ / ٢٣٣) ، والعيني (٣ / ٣٥٤) ، والكتاب (١ / ٣٤١) ، (٢ / ٢٥٨) ، والمقرب (١ / ١٩٩).

٤١٣

.................................................................................................

______________________________________________________

يريد آدم وعيسى عليهما‌السلام ، ومثله قول عمرو بن الشريد أخي الخنساء (١) :

٢٦٤٩ ـ وذي إخوة قطّعت أقران بينهم

كما تركوني واحدا لا أخا ليا (٢)

ومثله :

٢٦٥٠ ـ ويوم على البلقاء لم يك مثله

على الأرض يوم في بعيد ولا دان (٣)

أراد بـ «ذي إخوة» زيد بن حرملة قاتل أخيه معاوية بن الشريد ، وأراد الآخر : يوما كان فيه وقعة بين غسان ومذحج في موضع يعرف بالبلقاء. وقول المبرد : ربّ تبني عما وقعت عليه أنه قد كان هذا هو الأكثر ، وأما كون ذلك لازما لا يوجد غيره فليس بصحيح ؛ بل قد يكون مستقبلا كقول جحدر اللص : (٤).

٢٦٥١ ـ فإن أهلك فربّ فتى سيبكي

عليّ مهذّب رخص البنان (٥)

وكقول هند أم معاوية (٦) رضي الله تعالى عنها :

٢٦٥٢ ـ يا ربّ قائلة غدا

يا لهف أمّ معاويه (٧)

وكقول سليم القشيري :

٢٦٥٣ ـ ومعتصم بالحيّ من خشية الرّدى

سيردى وغار مشفق سيؤوب (٨)

وقال الراجز :

٢٦٥٤ ـ يا ربّ يوم لي لا أظلّله

أرمض من تحت وأضحى من عله (٩)

__________________

(١) تماضر بنت عمرو بن الشريد من مضر من أهل نجد ، أدركت الجاهلية والإسلام وأسلمت ، كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعجبه شعرها (ت : ٢٤ ه‍) وراجع : الأعلام (٢ / ٦٩) ، والشعراء والشعراء (١ / ٣٢٣).

(٢) البيت من الطويل ، وانظره في : التذييل (٧ / ٨٠ / أ).

(٣) من الطويل ، والشاهد فيه كسابقه.

(٤) جحدر بن ضبيعة بن قيس البكري الجاهلي ، وقيل : اسمه ربيعة ولقبه جحدر ، وكان قبل الإسلام بنحو مائة سنة ، وراجع : الأعلام (٢ / ١٠٣) ، وجمهرة الأنساب (ص ٣٠١).

(٥) من الوافر وانظر السمط (ص ٦١٧) والمغني (١ / ١٢١) وله فيه قصة.

(٦) هند بنت عتبة بن ربيعة ، صحابية قريشية فصيحة ، لها رأي وحزم ، وحرضت على قتال الروم ، وأخبارها كثيرة (ت : ١٤ ه‍) وراجع : الروض الأنف (٢ / ٢٧٧).

(٧) من الكامل ، وانظره في : الدرر (٢ / ٢٢) ، والمغني (١ / ١٢٢) ، والهمع (٢ / ٢٨).

(٨) من بحر الطويل ، وشاهده : مجيء «ما» بعد «ربّ» مستقبلا ؛ بدليل قوله : «سيردى».

(٩) رجز لأبي ثروان ، وانظر : التصريح (٢ / ٣٤٦) ، وشرح المفصل (٤ / ٨٧) ، والمغني (ص ١٣٤) والهمع (٢ / ٢١٠).

٤١٤

.................................................................................................

______________________________________________________

وقال آخر :

٢٦٥٥ ـ يا ربّ غابطنا لو كان يطلبكم

لاقى مباعدة منكم وحرمانا (١)

ولا مبالاة بقول المبرد ولا بقول ابن السراج ؛ فإنهما لم يستندا في ذلك إلا إلى مجرد الدعوى ، ولو لم يكن غير ما ادعياه مسموعا لكان مساويا لما ادعاه في إمكان الأخذ به ، فكيف وهو ثابت بالنقل الصحيح في الكلام الفصيح؟! وقد يكون ما وقعت عليه «ربّ» حالا كقولك لمن قال : ما في وقتنا امرؤ مستريح: رب امرئ في وقتنا مستريح، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة :

٢٦٥٦ ـ فقمت ولم تعلم عليّ خيانة

ألا ربّ باغي الرّبح ليس برابح (٢)

ومثله :

٢٦٥٧ ـ ألا ربّ من تغتشّه لك ناصح

ومؤتمن بالغيب غير أمين (٣)

وقد هدي الزمخشريّ إلى الحق في معنى «ربّ» فقال في تفسير (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ)(٤) : (قَدْ نَرى) ربما نرى ، ومعناه : كثرة الرؤية (٥) وقال في (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ)(٦) بمعنى ربّما التي تجيء لزيادة الفعل وكثرته (٧) ، وقال في (قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ)(٨) : أدخل (قد) لتوكيد علمه بما هم عليه ؛ وذلك أن (قد) إذا دخلت على المضارع كانت بمعنى «ربما» ، فوافقت «ربما» في خروجها إلى معنى التكثير في قوله :

٢٦٥٨ ـ فإن تمس مهجور الفناء فربّما

أقام به بعد الوفود وفود (٩)

فكلامه هذا سديد أداه إليه ترك التقليد ، وقال في (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ

__________________

(١) من البسيط ، لجرير ، ديوانه (ص ٤٩٢) ، والعيني (٣ / ٣٦٤) ، والكتاب (١ / ٢١٢) ، والمقتضب (٣ / ٢٢٧) ، (٤ / ١٥٠ ، ٢٨٩) ، والهمع (٢ / ٤٧).

(٢) من الطويل ورواية الديوان (ص ٤٦٤): «فمتّ» بدل «فقمت».

(٣) من الطويل ، وانظر الأساس : غشش ، والأشموني (١ / ١٥٤) ، والدرر (١ / ٦٩) ، (٢ / ٢١ ، ٤٣) ، والكتاب (١ / ٢٧١) ، واللسان «غشش» ، والهمع (١ / ٩٢) ، (٢ / ٢٨ ، ٣٩).

(٤) سورة البقرة : ١٤٤.

(٥) الكشاف (١ / ١٥١).

(٦) سورة الأنعام : ٣٣.

(٧) الكشاف (٢ / ١٣).

(٨) سورة النور : ٦٤.

(٩) من الطويل ، وانظره في : الخزانة (٤ / ١٦٧) ، وشرح المرزوقي على الحماسة (٢ / ٨٠٠) ، والكشاف (٣ / ٢٠٥ ، ٢٠٦) ، ومراتب النحويين (ص ٩٣).

٤١٥

.................................................................................................

______________________________________________________

كانُوا مُسْلِمِينَ)(١) : فإن قلت : ما معنى التقليل هاهنا؟ قلت : هو وارد على مذهب العرب في قولهم : لعلك ستندم على فعلك ، وربما يندم الإنسان على ما فعل ولا يشكون في تندمه ولا يقصدون تقليله ، ولكنهم أرادوا لو كان الندم مشكوكا فيه أو كان قليلا لحق عليك أن لا تفعل هذا الفعل ؛ لأن العقلاء يتحرزون من التعرض للغم المظنون كما يتحرزون من الغم المتيقن ، ومن القليل منه كما يتحرزون من الكثير وكذلك المعنى في الآية الشريفة : لو كانوا يودون الإسلام مرة واحدة لكانوا حقيقين بالمسارعة إليه فكيف وهم يودونه في كل ساعة (٢). قلت : في هذا الكلام ما يناقض كلامه في (قَدْ نَرى)(٣) و (قَدْ نَعْلَمُ)(٤) و (قَدْ يَعْلَمُ)(٥) من دلالة «ربما» على التكثير ؛ لأنه نسب إليها هنا التقليل ، وتكلف في تخريجه ما لا حاجة إليه ، ولا دلالة عليه ، ثم اعترف بقول العرب : ربما يندم الإنسان على ما فعل ، وبأنهم لا يقصدون تقليله فهو حجه عليه ، وعلى من وافقه.

وأظنه في هذا التأويل قلّد ابن السراج فإنه قال : قالوا في قوله تعالى : (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) بأنه لصدق الوعدة كأنه قد كان (٦) كما قال تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ)(٧). والصحيح عندي : أن «إذ» قد يراد بها الاستقبال كما يراد بها المضي ؛ فمن ذلك قوله تعالى : (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٧٠) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ)(٨) ، وقوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها)(٩) فأبدل (يَوْمَئِذٍ) من «إذا» فلو لم تكن «إذ» صالحة للاستقبال ما أبدل «يوم» المضاف [٤ / ٢٥] إليها من «إذا» ؛ فإنها لا يراد بها إلا الاستقبال.

والمبرد ، وابن السراج ، والفارسي ، وابن خروف (١٠) يرون وجوب وصف المجرور بـ «ربّ» وقلّدهم في ذلك أكثر المتأخرين مع أنه خلاف مذهب سيبويه (١١). ـ

__________________

(١) سورة الحجر : ٢.

(٢) الكشاف (٢ / ٤٤٣ ، ٤٤٤).

(٣) سورة البقرة : ١٤٤.

(٤) سورة الأنعام : ٣٣.

(٥) سورة النور : ٦٤.

(٦) في الأصل : قال.

(٧) سورة سبأ : ٥١ ، وانظر : الأصول لابن السراج (١ / ٣٣٥).

(٨) سورة غافر : ٧٠ ، ٧١.

(٩) سورة الزلزلة : ٤.

(١٠) ينظر : الأصول (١ / ٣٣٤) ، والتذييل (٤ / ٣٧) ، والمقتضب (٤ / ١٣٩ ، ١٥٠ ، ٢٨٩).

(١١) راجع : الكتاب (١ / ٤٢٧) ، (٢ / ٢٧٤).

٤١٦

.................................................................................................

______________________________________________________

ولا حجة لهم إلا شبهتان :

إحداهما : أن «رب» للتقليل ، والنكرة بلا صفة فيها تكثير بالشياع والعموم ، ووصفها يحدث فيها التقليل بإخراج الحالي منه ، أي : من الوصف فلزم الوصف لذلك.

والشبهة الثانية : أن قول القائل : ربّ رجل عالم لقيت ، ردّ على من قال : ما لقيت رجلا عالما ؛ فلو لم يذكر الصفة لم يكن الرد موافقا ، وفي كلتا الشبهتين ضعف بيّن.

أما ضعف الأولى ؛ فلترتيبها على «ربّ» للتقليل ، وقد سبق أنها للتكثير ، وعلى تقدير أنها للتقليل فإن النكرة دون وصف صالحة أن يراد بها العموم فيكون فيها تكثير ، وأن يراد بها غير العموم فيكون فيها تقليل. فإذا دخلت عليها «ربّ» على تقدير وضعها للتقليل أزالت احتمال التكثير كما يزول احتمال التقليل بـ «لا ، ومن» الجنسيتين ، فإن وصفت بعد دخول «ربّ» ازداد التقليل ، فإن كان المطلوب زيادة التقليل لا مطلقه فينبغي أن لا يقتصر على وصف واحد ؛ لأن التقليل يزيد بزيادة الأوصاف.

وأما الشبهة الثانية ؛ فضعفها أيضا بيّن ؛ لأن مرتبه على أن «ربّ» لا يكون إلا جوابا ، وعلى أن الجواب يلزم أن يوافق المجاب وكلا الأمرين غير لازم بالاستقراء.

والصحيح : أنها تكون جوابا وغير جواب ، وإذا كانت جوابا فقد تكون جواب موصوف ، وجواب غير موصوف فيكون لمجرورها من الوصف وعدمه ما للمجاب فيقال لمن قال : ما رأيت رجلا : رب رجل رأيت ، ولمن قال : ما رأيت رجلا عالما : رب رجل عالم رأيت ، وإذا لم يكن جوابا فللمتكلم بها أن يصف مجرورها ، وأن لا يصفه.

ومن وقوعه غير موصوف قول أم معاوية رضى الله تعالى عنه :

٢٦٥٩ ـ يا ربّ قائلة غدا

يا لهف أمّ معاويه (١)

ومثله :

٢٦٦٠ ـ ألا ربّ مأخوذ بإجرام غيره

فلا تسأمن هجران من كان مجرما (٢)

ومثله :

٢٦٦١ ـ ربّ مستغن ولا مال له

وعظيم الفقر وهو ذو نسب (٣)

__________________

(١) تقدم.

(٢) من الطويل ، وانظره في : الدرر (٢ / ٢٢) ، والهمع (٢ / ٢٨).

(٣) البيت بغير نسبة في التذييل (٤ / ٣٨) وفي الأصل : «نشب».

٤١٧

.................................................................................................

______________________________________________________

والذي يدل على أن وصف مجرورها لا يلزم عند سيبويه تسويته إياها بـ «كم» الخبرية (١). ووصف مجرور كم الخبرية لا يلزم فكذا وصف ما سوّي بها.

ومن كلامه المتضمن استغناء مجرورها قوله في باب الجر : وإذا قلت : رب رجل يقول ذاك ؛ فقد أضفت القول إلى الرجل بـ «رب» (٢). فبصريحه يكون «يقول» مضافا إلى الرجل بـ «رب» مانع كونه صفة ؛ لأن الصفة لا تضاف إلى الموصوف وإنما يضاف العامل إلى المعمول فـ «يقول» إذا عامل في «رجل» بواسطة «رب» كما كان «مررت» من : مررت بزيد ؛ عاملا في «زيد» بواسطة الباء ، وكما كان («أخذت» من : أخذته من عبد الله) (٣) عاملا في «عبد الله» بواسطة «من» ، وهما من أمثلة سيبويه في باب الجر ، وقال فيهما : وإنما أضفت المرور إلى «زيد» بالباء ، وقال أيضا : فقد أضفت الأخذ إلى «عبد الله» بـ «من» فجعل نسبة «مررت» من «بزيد» ، ونسبة «أخذت» من «عبد الله» كنسبة «يقول» من «رب رجل».

وفي تمثيله بـ «رب» رجل يقول ذاك ، وجعله «يقول» معدى إلى «رجل» بواسطة «ربّ» دليل على أن مضمون ما دخلت عليه «رب» يجوز استقباله.

ولا يلزم مضيه ، وقد تقدمت شواهد ذلك ؛ إلا أن في هذا المثال إشكالا بيّنا ؛ وذلك أن ظاهره يقتضي جواز أن يقال : من زيد عجب ؛ إذا عجب من نفسه ، وهو غير جائز بإجماع ؛ لأن فيه إعمال فعل رافع ضمير متصل في مفسره ، وذلك ممتنع دون خلاف. وقد أخذ أكثر الناس هذا المثال على ظاهره فمنهم من خطأ فيه سيبويه ، ومنهم من صوبه وتكلف تأويله ، وأحسنهم مأخذا في التأويل أبو الحسن بن خروف ؛ فإنه قال : فقول سيبويه : فقد أضفت القول إلى الرجل بـ «رب» (٤) ؛ كلام حسن ، وهو كقوله : فقد أضفت الكينونة إلى الدار بـ «في» ، وكقوله : فقد أضفت إليه الرداءة بـ «في» (٥) يعني قوله : أنت في الدار ، وفيك خصلة سوء ؛ فـ «رب» أوصلت القول إلى قليل الرجال وكثيرهم ، كما أوصلت «في» الكينونة إلى الدار ، ـ

__________________

(١) ينظر : الكتاب (٢ / ١٥٦ ـ ١٦١).

(٢) الكتاب (١ / ٤٢١) ، وفي الأصل : «ذلك» بدل «ذاك».

(٣) في الأصل : «أحدث من أحدثه من عند الله» وهو تحريف بيّن.

(٤) الكتاب (١ / ٤٢١).

٤١٨

.................................................................................................

______________________________________________________

واستقرار الرداءة إلى المخاطب ، وموضع المخفوض بـ «رب» مبتدأ و «بقول» خبره ، فكأنه على تقدير : كثير من الرجال يقول ذلك. ولا يخفى ما في هذا من التكلف.

وقد يسر لي بحمد الله تعالى تخريجه بوجه لا تخطئة فيه ولا تكلف. وذلك بأن يجعل «يقول» مضارع «قال» بمعنى : فاق في المقاولة ، ويجعل ذلك فاعلا أشير به إلى مرئي أو مذكور ، كأنه قال : رب رجل يفوق ذلك في المقاولة ؛ فهذا التخريج يؤمن الخطأ والتكلف ، ويثبت استغناء مجرور «ربّ» عن الوصف ، وكون ما دخلت عليه لا يلزم مضيه بل يجوز كونه مستقبلا وحالا.

ومنع ابن السراج استقباله وأجاز حاليته ؛ فإنه قال : ولا يجوز : رب رجل سيقوم وليقومن غدا ، إلا أن تريد : رب رجل يوصف بهذا تقول : رب رجل مسيء اليوم محسن غدا ، أي : يوصف بهذا (١). والصحيح : جوازهما إلا أن المضي أكثر ، قال ابن خروف : والمتأخرون مختلفون في «ربّ» ؛ منهم من تبع المبرد على مذهبه كابن السراج والفارسي ، وهو فاسد ؛ لأنه ألزم مخفوضه [٤ / ٢٦] الصفة وحذف ما يتعلق به وأن لا يدل إلا على التقليل ولا يفتقر إلى الصفة كما زعموا ؛ لأن معنى التقليل والتكثير الذي دلت عليه يقوم مقام وصف مخفوضها كما كان ذلك في «كم» ، ولذلك قلت : كم غلام عندك ؛ فابتدأت بنكرة ؛ يعني أن ما دلت عليه «كم» من التكثير سوغ الابتداء بها مع أنها نكرة.

ونبهت بقولي : (وقد يعطف على مجرورها وشبهه مضاف إلى ضميريهما) على أنه قد يقال : رب رجل وأخيه رأيت ، وكم ناقة وفصيلها ملكت ؛ على تقدير : رب رجل وأخ له ، وكم ناقة وفصيل لها. ثم نبهت على أن المجرور بها قد يكون ضميرا لازما تفسيره بمميز مؤخر مطابق للذي يقصده المتكلم من إفراد وتذكير وغيرهما ، وأن الضمير على أشهر المذهبين لا يكون إلا بلفظ الإفراد والتذكير فيقال : ربّه رجلا ، وربّه رجلين ، وربه رجالا ، وربّه امرأة وربّه نسوة ، ومثال «ربه رجلا» قول الشاعر :

٢٦٦٢ ـ ربه امرأ بك نال أمنع عزّة

وغنى بعيد خصاصة وهوان (٢)

ومثال «ربه رجالا» قول الآخر : ـ

__________________

(١) الأصول لابن السراج (١ / ٥١١) تحقيق / عبد الحسين الفتلي (١٩٧٣).

(٢) من الكامل ، وانظره في الدرر (٢ / ٢٠) ، والهمع (٢ / ٢٧).

٤١٩

.................................................................................................

______________________________________________________

٢٦٦٣ ـ ربه فتية دعوت إلى ما

يورث المجد دائبا فأجابوا (١)

وحكى الكوفيون : ربهما رجلين ، وربهم رجالا ، وربها امرأة ، وإلى هذا الوجه والذي قبله أشرت بقولي : (ولزوم إفراد الضمير وتذكيره عند تثنية التمييز وجمعه وتأنيثه أشهر من المطابقة). انتهى كلام المصنف رحمه‌الله تعالى (٢).

وهو كما قيل وليعلم أن الكلام يتوجه في «رب» من عشر جهات :

الأولى : ذاتها ؛ أهي حرف ، أم اسم؟

الثانية : معناها ؛ هل للتكثير ، أو التقليل؟

الثالثة : وصف مجرورها ؛ أهو لازم ، أم غير لازم؟

الرابعة : معنى ما يتعلق بها ؛ أهو لازم أم غير لازم؟

الخامسة : تنكير مجرورها مع لزوم تصديرها.

السادسة : مباشرتها الضمير المجهول المفسر بتمييز بعده.

السابعة : حكم «ما» اللاحقة لها ، وحكم «رب» معها.

الثامنة : ما يليها من الجمل إذا لحقتها «ما» وكفّتها عن العمل.

التاسعة : عملها محذوفة.

العاشرة : متعلقها أي : ما تتعلق «ربّ» به ، وموضعها مع الاسم المجرور بها.

ثم إن الست الأول ذكرها المصنف هنا ـ أعني في فصل «رب» ـ والسابعة قد ذكرها آنفا عند ذكره زيادة «ما» بعد كاف الجر ، والتاسعة : وهي عملها محذوفة سنذكرها في الفصل بعيد ما نحن فيه ، وأما الثامنة وهي ما يليها من الجمل إذا كفتها «ما» فلم يحتج المصنف إلى ذكره ؛ لأنه يرى أن يليها كل من الجملة الفعلية والاسمية.

و [أما] العاشرة : وهي ما تتعلق به ، وموضعها مع المجرور بها ؛ فلم يتعرض المصنف إليها.

وبعد : فأنا أشير إلى الجهات المذكورة جهة جهة ، وأذكر ما يتعلق بها من المباحث التي لم يتضمنها كلام المصنف. ـ

__________________

(١) من الخفيف ، ودائبا : إيراثا دائما ، وانظره في : الأشموني (٢ / ٦٠ ، ٢٠٨) ، والتصريح (٢ / ٤) ، والدرر (٢ / ٢٠) ، وشرح شواهد الشذور (ص ٤٩) ، والهمع (٢ / ٤٧).

(٢) شرح التسهيل لابن مالك (٣ / ١٨٤).

٤٢٠