شرح التّسهيل المسمّى تمهيد القواعد بشرح تسهيل الفوائد - ج ٤

محمّد بن يوسف بن أحمد [ ناظر الجيش ]

شرح التّسهيل المسمّى تمهيد القواعد بشرح تسهيل الفوائد - ج ٤

المؤلف:

محمّد بن يوسف بن أحمد [ ناظر الجيش ]


المحقق: علي محمّد فاخر [ وآخرون ]
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٦

.................................................................................................

______________________________________________________

ومنها :

أن قول المصنف : (ولا جواب مجزوم) قد يوهم أنه إذا رفع هو جواب أيضا ، لكنه يجوز فيه ؛ لكونه مرفوعا ما لا يجوز في المجزوم ، وليس كذلك ؛ لأن المرفوع ليس جوابا عند سيبويه كما أفهمه كلام المصنف في الشرح ، إنما هو دليل الجواب ، والجواب محذوف ، ولما كان دليل الجواب كان مقدر التقديم فجاز أن يعمل فيما قبله ، فجاز أن يفسر عاملا (١). ثم من المعروف أن من النحاة من يجيز تقديم معمول فعل الشرط على أداته وكذا منهم من يجيز تقديم معمول الجواب أيضا كما هو مقرر في موضعه ، وعلى مذهب من يجيز التقديم يتصور الاشتغال إذا كان العامل في ضمير الاسم السابق فعل شرط مفصول بينه وبين الاسم بأداة الشرط ، وكذا إذا كان العامل جواب الشرط (٢).

ومنها :

أنك قد عرفت أن من موانع نصب الاسم السابق بالفعل المشغول وقوعه بعد إذا المفاجئة نحو : خرجت فإذا زيد يضربه عمرو ، وأنه قد تقدم نقل المصنف عن سيبويه أنه ألحقها «بأمّا» قياسا ، فأجاز نصب الاسم الذي يليها بفعل مضمر يفسره المشغول (٣) بعده والذي ذكره سيبويه هو أن قال : فإن قلت : لقيت زيدا وأما عمرو فقد مررت به ، ولقيت زيدا وإذا عبد الله يضربه عمرو ، فالرفع إلا في قول من قال : زيدا رأيته وزيدا مررت به ؛ لأن «أمّا» و «إذا» انقطع بهما الكلام وهما من حروف الابتداء يصرفان الكلام إلى الابتداء ، إلا أن يدخل عليهما ما ينصب ولا يحمل بواحد منهما آخر على أول كما يحمل بثمّ والفاء ، ألا ترى أنهم قرأوا : وأما ثمود فهدينهم وقبله نصب ؛ وذلك لأنها تصرف الكلام إلى الابتداء إلا أن يقع بعدها فعل نحو : أمّا زيدا فضربت (٤). هذا كلام سيبويه. ـ

__________________

(١) سبق شرحه.

(٢) ذكر السيوطي هذه المسألة وفصل القول فيها فقال : «وفي الشرط نحو : زيد إن زرته يكرمك والجواب نحو : زيد إن يقم أكرمه ، وتالي لا النافية من المعلقات ، أو تالي حرف تنفيس ـ خلاف مبني على تقدم معمولها ، فمن أجازه فيها جوز الاشتغال والنصب في الاسم السابق ، ومن منعه فيها منعه وأوجب الرفع ، والأصح في الشرط والجواب المنع وفي «لا» التفصيل .. إلخ». اه. همع الهوامع (٢ / ١١٢) بتصرف يسير.

(٣) سبق شرحه.

(٤) الكتاب (١ / ٩٥).

١٠١

.................................................................................................

______________________________________________________

وقد استشكله الناس ؛ لأن ظاهره يعطي ما ذكره المصنف من جواز النصب بعد إذا كما هو جائز بعد «أمّا» ، قالوا : والنحويون وسيبويه [٢ / ٢٧٦] يقولون : إن إذا الفجائية لا يقع بعدها فعل ألبتة لا ظاهرا ولا مضمرا ولا معمول فعل أصلا ، ثم منهم من خرج كلام سيبويه وأوله ، ومنهم من حمله على ظاهره (١) ، واختلف تخريج من خرجه ، فابن خروف خرجه على أنه مما خلط فيه حكم واحد بآخر على حد قوله تعالى : (نَسِيا حُوتَهُما)(٢) ، و (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ)(٣) ؛ وإنما الناسي أحدهما ، والذي يخرج منه أحدهما (٤) ، ولا يخفي أنه تخريج بعيد ، والشلوبين خرجه على أنه لما كانت «أمّا» و «إذا» الفجائية لابتداء الكلام وقطع ما تقدم ، وأنهما لا يقع بعدهما إلا الاسم ، وأنه لا يبقى معهما الحكم كما كان قبل ذكرهما هنا معا فقال : لأن «أمّا وإذا» انقطع بهما الكلام «أو يرجع قوله فالرفع إلى ما يليق وإلى ما يصح رجوعه إليه وذلك إلى «أمّا» (٥) لا إلى «إذا» (٦).

والذين حملوا كلامه على ظاهره قالوا : حكى الأخفش عن العرب أن الفعل إذا كان مقرونا بقد جاز أن يلي إذا الفجائية ؛ تقول : خرجت فإذا قد ضرب زيد عمرا ، فإن لم يكن مقرونا بقد ؛ فلا يجوز أن يليها الفعل (٧) ، وإنما أجري الفعل المقرون بقد مجرى الجملة الاسمية في أن ولي «إذا» الفجائية ؛ لمعاملة العرب له معاملة الجملة الاسمية في دخول واو الحال عليه تقول : جاء زيد وقد ضحك ، كما يقال : جاء زيد وهو يضحك ، وهذا هو الذي جنح إليه ابن عصفور وذكره في شرح ـ

__________________

(١) في شرح الألفية للمرادي (٢ / ٤٠): «أما إذا ففي اسم الاشتغال بعدها مذاهب : جواز نصبه وهو ظاهر كلام سيبويه ، ووجوب رفعه ؛ لأنها لا يليها فعل ولا معمول فعل وإنما يليها مبتدأ وخبر» اه.

(٢) سورة الكهف : ٦١.

(٣) سورة الرحمن : ٢٢.

(٤) ينظر : التذييل (٣ / ١٢ ، ١٣) ، وشرح التسهيل للمرادي (١ / ٥٦١).

(٥) ينظر : التوطئة للشلويين (ص ٢٠٨) تحقيق يوسف أحمد ، والتذييل (٣ / ١٣).

(٦) في (أ) بياض بعد ذلك وقد أشير إلى هذا في هامش (ب) حيث قال الناسخ في النسخة المقابل عليها : هنا بياض قدر ثلاثة أسطر.

(٧) في شرح قواعد الإعراب للشيخ خالد الأزهري : «وقد تليها الجمل الفعلية إذا كانت مصحوبة بقد نحو : خرجت فإذا قد قام زيد ، حكاه الأخفش عن العرب». اه. شرح قواعد الإعراب (ص ١٨٠) تحقيق أحمد عبد العزيز ، وينظر : التصريح (١ / ٣٠٢ ، ٣٠٣) ، ومع النحو والنحاة في سورة الأعراف (ص ٦٦) رسالة ماجستير بكلية اللغة العربية ، وينظر أيضا : البحر المحيط (٦ / ٢٥٩).

١٠٢

.................................................................................................

______________________________________________________

المقرب (١) ، ولا يخفى على الفطن أن حمل كلام سيبويه على ذلك فيه بعد كثير ، والذي يظهر تخريج كلامه على الوجه الذي ذكره الشلوبين ، فهو أقرب من غيره.

ومنها :

أن الشيخ استدرك على المصنف فقال : ونقص المصنف من الأشياء التي يرتفع فيها الاسم ولا يجوز نصبه مجيء الفعل المشغول غير مصحوب بقد لا لفظا ولا تقديرا ، والاسم يلي واو الحال نحو : جاء زيد وعمرو يضربه بشر ، فلا يجوز أن تقول : وعمرا يضربه بشر ، لأنه يكون التقدير : ويضرب عمرا يضربه بشر ، وواو الحال لا تباشر المضارع قال : ونقصه أيضا من المواضع التي يجب فيها رفع الاسم ما إذا فصل بين الاسم والفعل المشتغل بالضمير أو السببي بأجنبي نحو : زيد أنت تضربه وهند عمرو يضربها ، قال : فسيبويه وهشام لا يجيزان النصب ؛ للفصل بين العامل والمعمول بأجنبي فإن ذلك يمنع العمل ، وما لا يعمل لا يفسر عاملا ، قال : وذهب الكسائي إلى أنه يجوز النصب قياسا على اسم [٢ / ٢٧٧] الفاعل (٢). انتهى.

وأقول : أما المسألة الأولى : ففي منعها نظر ؛ لأن الفعل الذي يقدر ناصبا للاسم السابق لا يلزم كونه مضارعا فيجوز كونه ماضيا ، ولا ينافي ذلك تفسيره بمضارع ؛ لأن الماضي المقدر مصروف إلى الحضور بقرينة وقوعه حالا فيستوي مدلوله ومدلول المضارع حينئذ ، وإذا كان كذلك وجب نصب الاسم السابق ، ولا يتعين رفعه على أن في عبارة الشيخ مناقشة وهي : أنه قال : إن المانع من النصب مجيء الفعل المشغول غير مصحوب بقد لا لفظا ولا تقديرا ، وهذه العبارة يدخل تحتها ما إذا كان الفعل المشغول ماضيا نحو : جاء زيد وعمرو ضربه ، فإنه لا مانع من نصب عمرو هنا ؛ لأن التقدير : وضرب عمرا ضربه ، وواو الحال تباشر الفعل الماضي قطعا.

وأما المسألة الثانية : فمنع الاشتغال فيها مبني على أن خبر المبتدأ إذا كان فعلا وكان له معمول لا يتقدم ذلك المعمول على المبتدأ ، أي : لا يعمل الخبر إذا كان فعلا في شيء مقدم على المبتدأ ، ويلزم من عدم عمله جواز تفسيره بعامل كما عرفت ، وهذه المسألة ذكرها ابن عصفور (٣) ، وذكره لها عجيب فإنه إنما يذكر في كتبه ـ

__________________

(١) ينظر : المقرب (١ / ٨٩).

(٢) التذييل (٣ / ١٤).

(٣) ينظر : شرح الجمل لابن عصفور (١ / ٣٦٣).

١٠٣

.................................................................................................

______________________________________________________

المصنفة مذهب البصريين ، وإن ذكر شيئا من مذاهب الكوفيين نبه على ذلك بنسبته إليهم ، أما إذا أطلق القول في مسألة فذلك الذي يذكره فيها هو مذهب البصريين ، والمعروف في هذه المسألة من مذهب البصريين خلاف ما ذكره ابن عصفور (١).

وقد قال المصنف في باب المبتدأ : وتقديم المفسر إن أمكن مصحح خلافا للكوفيين إلا هشاما ، ووافق الكسائي في نحو : زيدا أجله محرز ، لا في نحو : زيدا أجله أحرز.

والعجب من الشيخ كيف قرر هذا في مكانه المذكور ، ولم ينازع المصنف في كون هذا مذهب البصريين؟ ثم إنه هاهنا تبع ابن عصفور ، والحق ما ذكره المصنف فعلى هذا لا يمتنع الاشتغال في مثل : زيد هند تضربه ، وإذا كان كذلك فلا استدراك على المصنف ، لا يقال : المسألة التي ذكرها الشيخ ـ وهي : زيد أنت تضربه ، وهند عمرو يضربها ـ الاسم الفاصل فيها بين الاسم والفعل أجنبي ، فلا يجوز نصب الاسم المتقدم بالعامل ؛ لكون الفاصل أجنبيّا من المبتدأ (٢) ، وأما نحو : زيد أجله أحرز ؛ فالفاصل فيه ليس بأجنبي ، فإذا نصبنا زيدا بالفعل الذي هو «أحرز» جاز ؛ لأنا نقول : لا فرق في هذه المسألة بين أن يكون الفاصل أجنبيّا أو غير أجنبي ؛ لأمرين :

أحدهما : أن مدار منع تقديم المعمول وجوازه على شيء وهو أن تقديم المعمول يؤذن بجواز تقديم العامل ، والعامل هنا لا يتقدم ؛ لأنه فعل مسند إلى ضمير من أخبر به عنه [٢ / ٢٧٨] ، وإذا كان كذلك ؛ فأي أثر لكون الفاصل يكون أجنبيّا أو غيره؟.

الثاني : أن كلام ابن عصفور يقتضي أن لا فرق ؛ وذلك أنه قال في شرح الجمل في باب «كان» : وأما قول الشاعر (٣) :

١٢٩٦ ـ بما كان إيّاهم عطيّة عوّدا (٤)

__________________

(١) تنظر هذه المسألة في : الهمع (٢ / ١١٢).

(٢) في الهمع (٢ / ١١٢): «والأصح منعه في مفصول من الفعل بأجنبي نحو : زيد أنت تضربه ، وهند عمرو يضربها ، فلا ينصب ؛ إذ المفصول لا يعمل فلا يفسر ، وجوزه الكسائي قياسا على اسم الفاعل أجازوا : زيدا أنت ضارب ، وفرق المانعون بأن اسم الفاعل لا يعمل حتى يعتمد ، فصار أنت ضارب بمنزلة ضربت فكأنه لم يفصل بين العامل والمعمول بشيء بخلاف الفعل» اه.

(٣) هو الفرزدق ، قاله في هجاء جرير ورهطه.

(٤) عجز بيت من الطويل وصدره :

قنافد هدّاجون حول بيوتهم

١٠٤

.................................................................................................

______________________________________________________

فضرورة يحفظ ولا يقاس عليه ؛ لأن أولى كان «إياهم» وهو مفعول عوّد ، ثم قال : ما معناه : ولا يجوز أن يكون في كان ضمير الأمر والشأن ؛ لأن ذلك يؤدي إلى ما لا يجوز ، وذلك أن خبر المبتدأ لا يتقدم معموله على المبتدأ إذا كان فعلا (١) ، فجعل علة منع التقديم ما ترى ، وقال في شرح المقرب (٢) في مسألة : كانت زيد الحمى تأخذه ، بعد أن حكم عليها بالمنع ؛ فإن جعلت الحمى مبتدأ ، وتأخذ في موضع خبره ، وزيدا منصوبا بتأخذ والجملة من المبتدأ والخبر في موضع خبر كان ، واسم كان ضمير قصة مستتر فيها فإن في ذلك خلافا بين النحويين ، منهم من أجاز ذلك ؛ لأنك إنما أوليت كان اسمها وهو ضمير القصة وهو قول الفارسي في الإيضاح (٣) ، ومنهم من منع لما يلزم فيه من الفصل بين العامل والمعمول بأجنبي منها (٤).

وإلى ذلك ذهب أبو علي في التذكرة فقال : إن قولك : زيد أجله أحرز ، وزيدا أبوه ضربت ، حكى أحمد عن الكسائي أنه كان يجيزه مع الدائم وهشام يجيزه مع الماضي والمستقبل والدائم «ثم» قال : ووجه إجازة الكسائي ذلك مع اسم الفاعل وامتناعه من إجازته مع الماضي والمستقبل أنه إذا كان «زيدا أجله محرز» لم يفصل بين الفاعل والمفعول بالأجنبي الذي هو «أجله» ، كما يفصل بين الماضي والمستقبل ألا ترى أن الأجل الذي هو مبتدأ لا ينزل منزلة الأجنبي ، وأنه مع الخبر الذي هو اسم الفاعل بمنزلة الفعل والفاعل ، وإنما كان كذلك ؛ لأن اسم الفاعل لا ينصب من غير أن ينضم إلى المبتدأ ، كما أن الفعل لا ينصب حتى ينضم إليه الفاعل ، فلما ـ

__________________

والبيت في المقتضب (٤ / ١٠١) ، وشرح الجمل لابن عصفور (١ / ٣٩٣) ، والخزانة (٤ / ٥٧) ، والمغني (٢ / ٦١٠) ، والعيني (٢ / ٣٤) ، والهمع (١ / ١١٨) ، والدرر (١ / ٨٧) ، والأشموني (١ / ٢٣٧) ، وديوان الفرزدق (ص ٢١٤).

وقد استشهد به ابن عصفور على إيلاء معمول الخبر لكان وذلك لضرورة الشعر.

(١) شرح الجمل لابن عصفور (١ / ٣٩٣) طبعة العراق.

(٢) مفقود ، بحثنا عنه كثيرا فلم نجده.

(٣) يقول الفارسي في الإيضاح (١٠٦): «فإن جعلت التأنيث في «كانت» للقصة ورفعت «الحمى» بالابتداء ، وجعلت «تأخذ» خبر المبتدأ جازت المسألة ؛ لأن زيدا حينئذ أجنبي وهو مفعول تقدم ولم تفصل به بين الفاعل وفعله» اه. ينظر : الإيضاح (ص ١٢٠) بتحقيق كاظم المرجان.

(٤) ممن ذهب إلى المنع في هذه المسألة أيضا ابن السراج حيث قال : «فأما الفعل الذي لا يجوز أن يفرق بينه وبين ما عمل فيه فنحو قولك : كانت زيدا الحمى تأخذ ، هذا لا يجوز ؛ لأنك فرقت بين كان واسمها بما هو غريب منها ، ولأن زيدا ليس بخبر لها ولا اسم» اه. أصول النحو لابن السراج (٢ / ٢٤٦).

١٠٥

.................................................................................................

______________________________________________________

كان كذلك صار المبتدأ مع اسم الفاعل كالفعل والفاعل ، فكما لا يمتنع : زيدا ضرب غلامه ؛ كذلك لا يمتنع : زيدا أجله محرز. ومما بين ذلك أن سيبويه (١) لا يرى النصب في قولك : أأنت زيد ضربته ؛ للفصل ، ولو قال : أأنت زيدا ضاربه غدا نصبه ، ونزل الفاعل في المعنى مع اسم الفاعل منزلة يفعل ، وكذلك يقول الكسائي : اسم الفاعل مع المبتدأ بمنزلة الفعل والفاعل فتقول : زيدا أجله محرز ، كما تقول : زيد يحرز الأجل ، وليس كذلك يحرز وأحرز ؛ لأن كل واحد منهما مستقل (٢) بفاعله ؛ فيصير المبتدأ الفاصل بين الفعل والمفعول أجنبيّا عنهما. هذا كلامه في التذكرة وهو يعطي أن الراجح [٢ / ٢٧٩] عنده أن تقديم معمول الفعل الواقع في موضع الخبر على المبتدأ لا يجوز ، وإذا كان ذلك عنده غير جائز فينبغي أن لا يجيز : كانت زيدا الحمى تأخذ ؛ جعلت في كان ضميرا لقصة ، أو لم تجعل ؛ لأنك في الوجه الواحد وهو : أن تجعل «الحمى» مرفوعا بـ «كانت» يلزمك الفصل بينها وبين اسمها بأجنبي عنها ، وفي الوجه الآخر وهو : أن تجعل في كان ضميرا لقصة يلزمك أن تقدم معمول الخبر ـ وهو فعل ـ على المبتدأ. انتهى كلام ابن عصفور.

وقد ظهر لك منه أولا وآخرا وبحثا وتعليلا : أن محط المنع ـ أعني منع التقديم ـ إنما هو كون المعمول معمول فعل واقع خبر المبتدأ ، لا ما تقتضيه عبارة الشيخ ، وإذا كان كذلك ؛ فقد تم البحث الذي بحثه وسلم من الخدش.

ومنها :

أن المصنف ذكر لوجوب النصب سببين وهما :

١ ـ أن يتلو الاسم ما يختص بالفعل نحو : إن زيدا ضربته عقل.

٢ ـ أن يتلوه استفهام بغير الهمزة نحو : هل مرادك نلته؟

فشمل قوله : (ما يختص بالفعل) أدوات الشرط العاملة ، وأدوات التّحضيض ، و «لو» شرطية كانت أو امتناعية ، و «إذا» الشرطية (٣) ، إلا أنه يجب التنبيه هنا على شيء وهو : أن أدوات الشرط يتعين أن يليها الفعل لفظا ، ولا يليها الاسم ـ

__________________

(١) ينظر : الكتاب (١ / ١٠٤).

(٢) في (ب): (يستقل).

(٣) ينظر : شرح المفصل لابن يعيش (٢ / ٣٨) وسبق شرحه.

١٠٦

.................................................................................................

______________________________________________________

متقدما على الفعل إلا في الضرورة نحو قوله (١) :

١٢٩٧ ـ فمتى واغل يزرهم يحيّو

ه وتعطف عليه كأس السّاقي (٢)

ونحو قول الآخر (٣) :

١٢٩٨ ـ صعدة نابتة في حائر

أينما الرّيح تميّلها تمل (٤)

ويستثنى من الأدوات المذكورة «إن» فإن الاسم يجوز أن يليها في الكلام ؛ لأنها أم الباب يعني أنها الأصل في إفادة معنى الشرط ، لكن يشترط أن يكون الفعل الواقع بعد الاسم الذي يليها ماضيا نحو : إن زيدا أكرمته أكرمك (٥) ، كما يقرر ذلك في باب جوازم الأفعال ، وعلى هذا : فالاشتغال يتصور في الاسم الواقع بعد أدوات الشرط ؛ إمّا في الكلام كأن يشترط كون الفعل الواقع بعد الاسم ماضيا كما تقدم ، وإما في الشعر كما في الأدوات.

وأما السبب الثاني ؛ وهو أن يتلو الاسم استفهاما بغير الهمزة نحو : هل مرادك نلته؟ فقد يقال : المعروف أن أدوات الاستفهام غير الهمزة إذا وقع بعدها الاسم والفعل تقدم الفعل على الاسم ؛ ولهذا إن ابن عصفور لما ذكر هذا الحكم قال : ـ

__________________

(١) هو عدي بن زيد العبادي من شعراء الحيرة ، وهو شاعر مقل.

(٢) البيت من الخفيف وهو في : الكتاب (٣ / ١١٣) ، ونوادر أبي زيد (ص ١٨٨) ، والمقتضب (٢ / ٧٦) ، وأمالي الشجري (١ / ٣٣٢) ، والإنصاف (١ / ٣٢٥) ، والارتشارف (٥١٩) ، والتذييل (٣ / ١٦) ، وأصول النحو لابن السراج (٢ / ٢٤٢) ، والخزانة (١ / ٤٥٦) ، (٣ / ٦٣٩) ، وشرح الجمل لابن عصفور (١ / ١٧٧) طبعة العراق ، والهمع (٢ / ٥٩) ، وديوانه (١٥٦).

اللغة : الواغل : الداخل في الشرب من غير دعوة. ينبهم : ينزل بهم.

والشاهد قوله : «فمتى واغل» ؛ حيث ولي الاسم أداة الشرط ، وهذا لضرورة الشعر ؛ وذلك لأن أدوات الشرط لا يليها إلا الفعل.

(٣) هو كعب بن جميل كما في الكتاب ، وقيل : الحسام بن ضرار الكلبي.

(٤) البيت من الرمل وهو في : الكتاب (٣ / ١١٣) ، ومعاني القرآن للفراء (١ / ٢٩٧) ، والمقتضب (٢ / ٧٥) ، والإنصاف (١ / ٣٢٥) ، وأمالي الشجري (١ / ٣٣٢) ، (٢ / ٣٤٧) ، وشرح الجمل لابن عصفور (١ / ٣٧٠) ، والخزانة (١ / ٤٥٧) ، وابن يعيش (٩ / ١٠) ، والعيني (٤ / ٤٢٤ ، ٥٧١) ، وشرح الدرة الألفية لابن القواس (ص ١٤٤) ، وأصول ابن السراج (٢ / ٢٤٢) ، والهمع (٢ / ٥٩) ، واللسان (حير). والشاهد فيه كالذي قبله.

(٥) ينظر : شرح الجمل لابن عصفور (١ / ٣٧٧) والتصريح (١ / ٢٩٨).

١٠٧

.................................................................................................

______________________________________________________

فلا تكون المسألة من باب الاشتغال (١) ، وعلى هذا يقال : كيف ذكر المصنف من باب الاشتغال ما لا يكون فيه اشتغال؟.

والجواب : أنهم نصوا على أنه يجوز تقديم الاسم على الفعل في الشعر ، وإذا كان التقديم جائزا في موضع جاء الاشتغال حيث جاز التقديم ؛ فالاشتغال متصور مع أدوات الاستفهام في الجملة ، وهذا كما قلناه في أدوات الشرط ، غير أن الاشتغال [٢ / ٢٨٠] يتصور معها ، وقد رأيت في كلام الشيخ ما يقتضي جواز الاشتغال مع أدوات الاستفهام مطلقا ، وذلك أنه قال بعد ذكر «هل مرادك نلته؟» فالنصب هنا واجب ؛ وذلك أن «هل» إذا جاء بعدها اسم وفعل وليها الفعل دون الاسم ، ولا يجوز أن يليها الاسم لو قلت : هل زيدا ضربت؟ لم يجز إلا في الشعر ، فإذا جاء في الكلام : هل زيدا ضربته؟ كان ذلك على الاشتغال ، والتقدير : هل ضربت زيدا ضربته؟ فتكون «هل» وليت الفعل ، هذا مذهب سيبويه ، وخالفه الكسائي وذهب إلى أنه يجوز أن يليها الاسم وإن جاء معه الفعل ، وأجاز أن يرتفع بالابتداء فنقول : هل زيد ضربته؟ فعلى رأيه يجوز رفع زيد ونصبه على الاشتغال (٢). انتهى. وهو مخالف لما قاله ابن عصفور ، والناظر يحتاج إلى أن يحقق المسألة على أن كلام ابن عصفور موافق لكلام الناس في المسألة (٣).

ثم قال الشيخ : ويشمل قول المصنف : (بغير الهمزة) أدوات الاستفهام نحو : هل ، ومتى ، وغيرهما ، تقول : من أمة الله تضربها؟ فإن وليت اسم الاستفهام الأفعال نحو : من رأيته؟ فيحتمل أن يقدر بوجهين :

أحدهما : تقدير الهمزة والاسم بعدها كأنك قلت : أزيدا رأيته ، فيكون في موضع نصب ، ويحتمل أن يقدر تقديم الاسم المقتدم على الاستفهام ، كأنك قلت : زيدا رأيته ؛ فلا يكون إلا الرفع ويظهر ذلك في «أي» إذا قلت : أيهم ضربته؟ نصبا ورفعا ، قال : وكذلك أسماء الشرط. وإذا اجتمع بعد اسم الاستفهام الاسم والفعل ؛ قدم الفعل ، كهو مع هل ، وقال سيبويه : إن قلت : أيهم زيدا ضرب؟ قبح .. انتهى كلام الشيخ (٤). ـ

__________________

(١) ينظر : المقرب (١ / ٩١).

(٢) التذييل (٣ / ١٦ ، ١٧).

(٣) تنظر هذه المسألة في : التصريح (١ / ٢٩٧).

(٤) التذييل (٣ / ١٧) ، وينظر : الكتاب (١ / ٩٩).

١٠٨

.................................................................................................

______________________________________________________

ومنها :

أنه قد عرف من قول المصنف : بعامل لا يظهر ، أن عامل النصب في الاسم المشتغل عنه شيء مقدر ، وهذا مذهب البصريين وعليه التعويل وهو الحق.

وللكوفيين في العامل مذهبان آخران :

أحدهما : قول الكسائي وهو : أن الناصب للاسم العامل الذي بعده على إلغاء العائد (١).

والآخر : قول الفراء وهو : أن العامل عامل في الاسم وفي الضمير معا (٢).

والمذهبان لا معول عليهما ، ويبطل مذهب الكسائي أن العامل قد يكون متعلقه السببي فلا يمكن أن يلغى ؛ لأنه في الحقيقة هو مطلوب العامل نحو : زيدا ضربت غلام رجل يحبه ، ويبطل مذهب الفراء أن الفعل المتعدي إلى واحد ، يصير متعديا في باب الاشتغال إلى اثنين ، والمتعدّي إلى اثنين يصير متعديا فيه إلى ثلاثة وهذا خرم للقواعد.

ويبطل المذهبين معا أن العامل قد يكون متعديا بحرف الجر فكيف يجوز أن يتعدى إلى الاسم السابق (٣) [٢ / ٢٨١] بنفسه ، وقد ردّ الفراء على البصريين بوجوه ثلاثة لكنها ضعيفة ، والجواب عنها أسهل ، وإنما تركت إيراد ذلك ؛ خشية الإطالة (٤).

ومنها :

أن الشيخ تعرض إلى ذكر المثال الذي مثّل به المصنف لما العامل فيه شبه الفعل ـ

__________________

(١) ينظر : شرح الدرة الألفية لابن القواس (ص ٦٢٤) ، والبهجة المرضية (ص ٥٢) ، والهمع (٢ / ١٤) ، والتصريح (١ / ٢٩٧).

(٢) صرح الفراء بقوله هذا في معاني القرآن له (١ / ٢٤٠ ، ٢٤١) في تفسير قوله تعالى : (يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) في سورة آل عمران ، حيث قال : «ترفع الطائفة بقوله : (أَهَمَّتْهُمْ) بما يرجع من ذكرها ، وإن شئت رفعتها بقوله : (يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِ) ولو كانت نصبا لكان صوابا» اه.

وينظر : (ص ٢٩٥) في تفسير قوله تعالى : (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ) من سورة النساء ، وينظر : الارتشاف لأبي حيان (ص ٩٨٨).

(٣) ينظر في رد هذين المذهبين وإبطالهما : شرح ابن عقيل وحاشية الخضري عليه (١ / ١٧٣ ، ١٧٤) ، والهمع (٢ / ١١٤).

(٤) في حاشية الشيخ يس على التصريح (١ / ٢٩٧): «وللفراء وشيخه الكسائي أن يجيبا عما أورد عليهما بالتزامهما أن هناك عاملا محذوفا موافقة لغيرها والمخالفة في ذلك» اه.

١٠٩

.................................................................................................

______________________________________________________

وهو : أزيدا أنت ضاربه؟ وأنّ التقدير : أضارب زيدا أنت ضاربه؟ فقال : لم يبين المصنف إعراب هذا الكلام ، وفي البسيط : إذا قلت : زيدا أنت ضاربه ، وأدخلت الحروف التي يعتمد عليها اسم الفاعل ؛ جاز في الاسم النصب بإضمار فعل ، وجاز أن يكون بتقدير اسم فاعل لصحة اعتماده ، قيل : ويجب أن يكون «أنت» مرتفعا (به) (١) ؛ لأنه إما يكون اسم الفاعل مبتدأ به أو خبرا متقدما، وهو في كل حال مفتقر إليه، ويرتفع ضارب الثاني بتقدير ابتداء آخر (٢).

ومنها :

أنك قد عرفت أن الاسم السابق قد يرتفع مع أن ضميره منصوب ، وذلك بأن يضمر فعل مطاوع للفعل الظاهر وعليه قول لبيد :

١٢٩٩ ـ فإن أنت لم ينفعك علمك فانتسب (٣)

وقول الآخر :

١٣٠٠ ـ أتجزع إن نفس أتاها حمامها (٤)

وكذا :

١٣٠١ ـ لا تجزعي إن منفس أهلكته (٥)

في رواية من رفع منفسا ، وقد تقدم تقرير ذلك في كلام المصنف (٦) ، ولكن المغاربة لم يجنحوا إلى ما جنح إليه المصنف من إضمار المطاوع ولهم في بيت لبيد تخريجات :

قيل : إن «أنت» مرفوع على الابتداء ، قال الشيخ : وهذا وجه ذكره سيبويه إذا كان الخبر فعلا نحو : إن الله أمكنني من فلان (٧) ، وذكره ابن جني عن الأخفش (٨) ، وقيل : إن هذا مما وضع فيه ضمير الرفع موضع ضمير النصب كما وضع ضمير المنصوب موضع المرفوع في قولهم : لم يضربني إلّا إيّاه ، وفي المحكي ـ

__________________

(١) التذييل (٣ / ١٩).

(٢) سبق شرحه.

(٣) تقدم ذكره.

(٤) تقدم ذكره.

(٥) تقدم ذكره.

(٦) سبق شرحه.

(٧) ينظر : الكتاب (١ / ١٠٠).

(٨) ينظر : معاني القرآن للأخفش (١ / ٢١٧).

١١٠

[مواضع ترجيح النصب في المشغول عنه]

قال ابن مالك : (ويرجّح نصبه على رفعه بالابتداء إن أجيب به استفهام بمفعول ما يليه ، أو بمضاف إليه مفعول ما يليه ، أو وليه فعل أمر أو نهي أو دعاء ، أو ولي هو همزة استفهام ، أو حرف نفي لا يختصّ أو «حيث» [٢ / ٢٨٢] أو عاطفا على جملة فعليّة تحقيقا أو تشبيها ، أو كان الرّفع يوهم وصفا مخلّا).

______________________________________________________

من كلام العرب : «فإذا هو إياها» (١) ، وفي الحديث : «من خرج إلى الصّلاة لا تنهزه إلّا إيّاها» (٢) ، وهذان التخريجان للسهيلي (٣).

وقيل : إنه مرفوع بإضمار فعل يفسره المعنى ولا يكون من باب الاشتغال ، التقدير : فإن ضللت لم ينفعك علمك ، فأضمر «ضللت» لفهم المعنى ، وبرز الضمير لما استتر الفعل ، وهذا التخريج هو الذي ذكره ابن عصفور (٤) ، واعلم أن الذي ذكره المصنف أسهل من هذا الذي ذكروه فالقول به أولى ؛ إذ لا مانع منه ، ثم إنه يتمشى مع الأبيات الثلاثة التي ذكرها ولا يحتاج فيها إلى تكلف.

قال ناظر الجيش : لما انقضى الكلام على تبيين موانع نصب الاسم وتبيين موجبات نصبه ؛ شرع في تبيين مرجحات نصبه على رفعه بالابتداء ، والأسباب المرجحة التي ذكرها سبعة (٥) : ـ

__________________

(١) هذه هي المسألة الزنبورية وهذا هو الوجه الذي أنكره سيبويه في هذه المسألة لما سأله الكسائي عنها في المناظرة التي جرت بينهما وسوف يتحدث عنها الشارح في الأبواب القادمة بالتفصيل. انظر هذه المسألة في : المغني (١ / ٨٨) ، وأمالي الزجاجي (ص ٢٣٩ ، ٢٤٠).

(٢) حديث شريف أخرجه الترمذي في باب ما ذكر في فضل المشي إلى الصلاة (٢ / ٤٩٩) ، وتتمة الحديث : «إذا توضّأ الرّجل فأحسن الوضوء ثمّ خرج إلى الصّلاة لا يخرجه ـ أو قال : لا ينهزه ـ إلّا إيّاها لم يخط خطوة إلّا رفعه الله بها درجة أو حطّ عنه بها خطيئة».

(٣) ينظر : أمالي السهيلي (ص ٤٣) فقد ذكر بيت لبيد وأشار فيه إلى الوجه الثاني فقط ؛ حيث قال : «فأوقعها موقع المنصوب» ، كما ذكر الحديث ثم قال : «فأوقع «إياها» موقع المرفوع» اه.

(٤) ينظر : شرح الجمل لابن عصفور (١ / ٣٧٣ ، ٣٧٤) ، والتذييل (٣ / ٢٠) ، وشرح التسهيل للمرادي (١ / ٥٤٧ ، ٥٤٨).

(٥) شرح التسهيل لابن مالك (٢ / ١٤٣).

١١١

.................................................................................................

______________________________________________________

الأوّل : أن يجاب به استفهام بمفعول ما يليه ، أو بمضاف إليه مفعول ما يليه ؛ فالأول كقولك : زيدا ضربته ؛ في جواب من قال : أيّهم ضربت؟ ، أو : من ضربت؟ ، والثاني : كقولك : ثوب زيد لبسته ؛ في جواب من قال : ثوب أيّهم لبست؟ (١) ، فلو كان الاسم المستفهم غير مفعول نحو : أيّهم ضربته؟ فالجواب : زيد ضربته ؛ بالرفع عند سبيويه ، ولا يجيز النصب إلا على حد : زيدا ضربته ؛ غير جواب (٢) ، ونقل الشيخ : أن الأخفش يجوز النصب على حد ما يجوز في العطف في الجملة ذات الوجهين (٣).

واعلم أنهم أجروا ما ليس جوابا لاسم استفهام مجرى ما هو جواب له ، فإذا قيل : هل رأيت زيدا؟ قيل : لا ، ولكن عبد الله لقيته ؛ قالوا : فهذا في حكم الجواب ، وإن لم يكن هو المسئول عنه ؛ لكنه لما كان جوابا في الجملة جرى مجرى الأول ، وكذا لو عطفت فقلت : لا ، بل عمرو لقيته ، أو نعم ، عمرا لقيته (٤).

ولم يظهر لي تقييد قوله : استفهام بمفعول ، بقوله : ما يليه ، ولا عرفت ما فائدته ، ولا عن أي شيء احترز به ، ويظهر أنه لو اقتصر على قوله : استفهام بمفعول كان كافيا ، فإن ذلك يخرج الاستفهام بغير مفعول ، كالاستفهام بمبتدأ كما تقدم.

الثاني : أن يلي الاسم السابق فعل ذو طلب ، وهو فعل : أمر ، أو نهي ، أو دعاء ؛ كقولك : زيدا ذره ، وعمرا لا تقربه ، وذنوبنا اللهمّ اغفرها ، وكذا إذا كان الأمر لغير مخاطب نحو : زيدا ليضربه عمرو ، فإن لام الأمر ليست من حروف الصدر ، فجائز لما بعدها أن يفسر عاملا فيما قبلها ، ولو كان الأمر بصيغة الخبر كان الحكم كذلك نحو : الأولاد يرضعهن الوالدات ، وكذا : زيدا رحمه‌الله ، وزيدا يعذبه الله (٥).

وأما قوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا)(٦) ، (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا)(٧) ؛ ـ

__________________

(١) ينظر : شرح الألفية للمرادي (٢ / ٤٣).

(٢) ينظر : الكتاب (١ / ٩٣).

(٣) ينظر : التذييل (٣ / ٢٢) وقد رد ابن عصفور ما جوزه الأخفش في هذه المسألة فقال : «وهذا الذي ذهب إليه أبو الحسن ليس بشيء ؛ لأن القياس يرد عليه ؛ لأن الاستفهام لا يتقدمه أداة تشبه الجزاء كما كان كذلك في : أزيدا ضربته؟» اه. شرح الجمل (١ / ٣٦٩).

(٤) ينظر : التصريح (١ / ٣٠٣) ففيه تفصيل لهذه المسألة.

(٥) ينظر : شرح الجمل لابن عصفور (١ / ٣٦٤) ، والتوطئة (ص ١٨٣ ، ١٨٤) ، وشرح الألفية لابن الناظم (ص ٩٢) وأوضح المسالك (١ / ١٥٠) ، وابن يعيش (٢ / ٣٧).

(٦) سورة النور : ٢.

(٧) سورة المائدة : ٣٨.

١١٢

.................................................................................................

______________________________________________________

فقد عرفت مذهب سيبويه والمبرد في الآيتين الشريفتين ما هو (١) ، وابن السيد حكم بأن نحو ذلك من باب الاشتغال ، وأجاب عن عدم النصب بأن المبتدأ في الآيتين الشريفتين المراد به العموم ، وحاصل كلامه أنه يفرق في الاسم الواقع بعده فعل ذو طلب بين أن يكون مقصودا به الخصوص ، فيختار فيه النصب أو مقصودا به العموم فيختار فيه الرفع ، وعلل ذلك بأن الذي يراد به العموم يشبه الشرط في العموم [٢ / ٢٨٣] والإبهام (٢).

وليعلم أن الاسم الذي في معنى فعل الأمر (٣) حكمه حكم الفعل نحو : زيدا ضربا إيّاه (٤) ، وهذا الحكم يستفاد من قول المصنف في ابتداء الباب : (إذا انتصب ضمير اسم بجائز العمل فيما قبله) فمن هنا يعلم أنه لا فرق بين الفعل والاسم إذا وجد الوصف الذي ذكره.

الثالث : أن يلي الاسم السابق همزة استفهام نحو : أزيدا ضربته؟ ، وخصصت الهمزة بذكرها مع مرجحات النصب ؛ لأن غيرها من أدوات الاستفهام من موجبات النصب كما عرفت ، واستفيد من قول المصنف : (أو ولي هو همزة استفهام) أنه إذا لم يل الهمزة بأن يكون بينهما فاصل فلا يختار الرفع ؛ لأن الهمزة مع الفاصل لا أثر لها إلا أن يكون الفاصل ظرفا نحو : أكلّ يوم عمرا تكرمه؟ ؛ لأن الظرف لا يعد فاصلا بالحقيقة ، وسواء أكان الاستفهام عن الفعل أم عن الاسم نحو : أزيدا ضربته؟ ونحو : زيدا ضربته أم عمرا (٥) ، وقال ابن الطراوة: إن كان الاستفهام عن الفعل؛ اختير الرفع (٦) ، وقد ـ

__________________

(١) سبق شرحه.

(٢) ينظر : إصلاح الخلل الواقع في الجمل لابن السيد (ص ١٣١) تحقيق د / حمزة النشرتي ، وعبارة ابن السيد فيه هي : «قسم يختار فيه الرفع وهو كل أمر يراد به العموم كقوله تعالى : (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما ،) وقوله : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ؛) فهذا القسم يختار فيه الرفع ؛ لشبهه بالشرط لما دخله من العموم والإبهام». اه.

وينظر : شرح الجمل لابن بابشاذ (١ / ٩٣ ، ٩٤) تحقيق د / مصطفى إمام.

(٣) المقصود به المصدر الموضوع موضع الأمر ، ومثال الشارح هنا يوضح ذلك.

(٤) ينظر : شرح الجمل لابن عصفور (١ / ٣٦٤) ، والمقرب (١ / ٨٨).

(٥) ينظر : التصريح (١ / ٣٠٠) ، وشرح ابن عقيل (١ / ١٧٦) ، والأشموني (٢ / ٧٨).

(٦) ينظر رأي ابن الطراوة في : شرح الصفار للكتاب ق (١٠٨ / أ) ، والتذييل (٣ / ٢٦) ، والتصريح (١ / ٣٠٠) ، والأشموني (٢ / ٧٨).

١١٣

.................................................................................................

______________________________________________________

استشهد بقول الشاعر (١) :

١٣٠٢ ـ أثعلبة الفوارس أم رياحا

عدلت بهم طهيّة والخشابا (٢)

وزعم ابن الطراوة أن سيبويه أخطأ (٣) ، قلت : وهذه مكابرة منه لسيبويه.

ومن كلام العرب : أزيدا ضربت أم عمرا؟ بالنصب وهو سؤال عن الاسم وفي شرح الشيخ : وينبغي أن يقدر الفعل متأخرا عن الاسم ، فيقدر في نحو : أزيدا ضربته أم عمرا؟ أزيدا ضربت ضربته أم عمرا؟ (٤).

الرابع : أن يلي الاسم السابق حرف نفي لا يختص نحو : ما عمرا أهنته ، ونحو : لا زيدا قتلته ولا عمرا (٥).

قال المصنف : وقيل : حرف نفي ؛ احترازا من النفي بليس ؛ فإنها فعل ، وإذا وليها الاسم السابق كان اسمها فيتعين رفعه نحو : ليس زيد أبغضه ، وقيد حرف النفي بكونه لا يختص ؛ احترازا من «لن» و «لم» و «لمّا» الجازمة ؛ لأن الاسم لا يلي واحدا منها إلا في ضرورة ، وحكمه حينئذ أن يضمر له على سبيل الوجوب فعل يفسره المشغول كما قال الشاعر :

١٣٠٣ ـ ظننت فقيرا ذا غنى ثمّ نلته

فلم ذا رجاء ألقه غير واهب (٦)

__________________

(١) هو جرير والبيت من قصيدة له يهجو فيها الفرزدق وأولها :

أقلّي اللوم عاذل والعتابا

وقولي إن أصبت لقد أصابا

(٢) البيت من الوافر وهو في : الكتاب (١ / ١٠٢) ، (٣ / ١٨٣) ، وأمالي الشجري (١ / ٣٣١) ، (٢ / ٣١٧) ، والتذييل (٣ / ٢٦) ، والغرة المخفية (ص ٣٩٨) ، والبحر المحيط (١ / ٤٣٨) ، (٨ / ١٤٠) ، والعيني (٢ / ٥٣٣) ، والتصريح (١ / ٣٠٠) ، والأشموني (٢ / ٧٨) ، وديوانه (ص ٦٦) ، واللسان (خشب).

والشاهد قوله : «أثعلبة» ؛ حيث نصب الاسم الواقع بعد همزة الاستفهام وهو «ثعلبة» مع أن الاستفهام عن الاسم.

(٣) خطّأ الصفار ابن الطراوة في رأيه هذا فقال : «وأما ابن الطراوة فتصفح الأماكن التي يكون فيها الاستفهام عن الفعل ، فاختار إضمار الفعل ، فإذا قلت : أزيد قام؟ فالسؤال هنا عن الفعل وهو القيام لا عن القائم ، وإذا قلت : أزيد قام أم عمرو؟ فالسؤال هنا عن الاسم ؛ فلا يرتفع على الفعل ، بل على الابتداء ، وهذا الذي قال باطل ، فإن سيبويه رحمه‌الله زعم أن قول جرير : «أثعلبة الفوارس» على الفعل وهو الكلام الصحيح ، فهذا الذي قاله ليس بشيء». اه. شرح الصفار للكتاب (ق ١٠٨ ب. خ).

(٤) التذييل (٣ / ٢٧).

(٥) ينظر : شرح الألفية للمرادي (٢ / ٤٢) ، وشرح المكودي (ص ٨٢).

(٦) البيت من الطويل لم أهتد إليه ولم أر أحدا نسبه إلى شاعر ، وهو في : شرح التسهيل للمصنف (٢ / ١٤٢) ، والتذييل (٣ / ٢٧) ، وشرح التسهيل للمرادي (١ / ٥٥٢) ، وتعليق الفرائد للدماميني (١٣٨٥) ،

١١٤

.................................................................................................

______________________________________________________

أراد : فلم ألقه ذا رجاء ألقه غير واهب (١). انتهى.

قال الشيخ : ما ذكره المصنف من أنه إذا ولي المشتغل عنه حرف نفي لا يختص يختار فيه النصب ، كحاله إذا ولي همزة الاستفهام مخالف لظاهر كلام سيبويه ، فإن سيبويه لما ذكر النصب فيه قال بعد ذلك : وإن شئت رفعت ، والرفع فيه أقوى ؛ إذ كان يكون في ألف الاستفهام ؛ لأنهن نفي واجب ، يبتدأ بعدهن ، ويبنى على المبتدأ [٢ / ٢٨٤] بعدهن ، ولم يبلغن أن يكن مثل ما شبهن به (٢). وأطال الكلام في المسألة ثم قال : فصار في المسألة ثلاثة مذاهب : استواء الرفع والنصب ، وأرجحية الرفع ، وأرجحية النصب (٣).

والحاصل : أنه ذكر عن النحاة نقولا مضطربة ، والذي يظهر أن النصب أقوى من الرفع (٤) ، قال ابن عصفور : وهو مذهب الجمهور (٥) ، قلت : ولا يلزم من قول سيبويه : والرفع فيه أقوى ؛ أنه أقوى من النصب ، بل يمكن أن يريد أن الرفع فيه أقوى منه في الاستفهام مع كون النصب راجحا عليه.

الخامس : أن يلي الاسم السابق «حيث» كقولك : حيث زيدا تلقاه يكرمك ، وعلّل ذلك بأن «حيث» في معنى حروف المجازاة ؛ فكان النصب أرجح (٦).

السادس : أن يلي الاسم السابق حرف عطف قبله جملة فعلية ، متعديا كان فعلها أو غير متعد ؛ فالمتعدي نحو : لقيت زيدا وعمرا كلمته ، وغير المتعدي نحو : جاء سعد وسعيدا زرته ، فنصب «عمرو» و «سعيد» راجح على رفعهما ؛ لأنك في نصبهما عاطف جملة فعلية على جملة فعلية ، وأنت في رفعهما عاطف جملة ابتدائية على جملة فعلية ، والمشاركة في عطف الجمل راجحة (٧) ؛ قال الله تعالى : ـ

__________________

ومغني اللبيب (١ / ٢٧٨) ، وشرح شواهده للسيوطي (٢ / ٦٧٩).

والشاهد قوله : «فلم ذا رجاء ألقه» ؛ حيث ولي الاسم «لم» الجازمة للضرورة ، ويرى ابن مالك أنه يجب حينئذ أن يضمر فعل يفسره المشغول كما بين في البيت.

(١) شرح التسهيل للمصنف (٢ / ١٤٢) تحقيق د / عبد الرحمن السيد ود / المختون.

(٢) الكتاب (١ / ١٤٦).

(٣) التذييل (٣ / ٢٧ ، ٢٨).

(٤) رأي ناظر الجيش هنا موافق لما قاله الشلوبين في التوطئة (ص ١٨٣ ، ١٨٤) ؛ فهو يرى أن النصب في هذه المسألة أولى.

(٥) ينظر : شرح الجمل لابن عصفور (١ / ٣٦٨) ، والمقرب (١ / ٨٨) بالمعنى.

(٦) ينظر : حاشية الخضري على شرح ابن عقيل (١ / ١٧٦) ، والبهجة المرضية (ص ٥٣).

(٧) ينظر : شرح الرضي على الكافية (١ / ١٧٢).

١١٥

.................................................................................................

______________________________________________________

(فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (٣٦) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ)(١) ، وقال تعالى : (فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ)(٢) التقدير : وأغرقنا قوم نوح وأضل فريقا ، ومنه قول الربيع (٣) :

١٣٠٤ ـ أصبحت لا أملك السّلاح ولا

أملك رأس البعير إن نفرا

والذئب أخشاه إن مررت به

وحدي وأخشى الرّياح والمطرا (٤)

وقول الآخر وهو امرؤ القيس :

١٣٠٥ ـ وأضحى يسحّ الماء من كلّ فيقة

يكبّ على الأذقان دوح الكنهبل

وتيماء لم يترك بها جذع نخلة

ولا أطما إلّا مشيدا بجندل (٥)

ف «تيماء» كالذئب في قول الربيع غير أن المقدر في لفظ الربيع لفظ المفسر ، والمقدر في قول امرئ القيس من معناه أي : «خرب تيماء ؛ لأنه إذا لم يترك بها جذع نخلة ولا أطما فقد خربها وهدمها.

قال المصنف : وليس الغرض في ترجيح نصب ما بعد العاطف إلا تعادل اللفظ ظاهرا ، ولو لا ذلك لم يرجح بعد «حتى» ؛ لأنها لا يعطف بها جملة بل مفرد على كل ، فإذا قلت : ضربت القوم حتى زيدا ضربت أخاه ؛ فـ «حتى» حرف ابتداء ، ولكن لما وليها في اللفظ بعض ما قبلها أشبهت العاطف فأعطي تاليها ما يعطى تالي ـ

__________________

(١) سورة الفرقان : ٣٦ ، ٣٧.

(٢) سورة الأعراف : ٣٠.

(٣) هو الربيع بن ضبع الفزاري ، من المعمرين ؛ فقيل : إنه نيّف على مائتي عام. ينظر : جمهرة أنساب العرب (ص ٢٥٥).

(٤) البيتان من المنسرح وهما في : الكتاب (١ / ٨٩ ، ٩٠) ، ونوادر أبي زيد (ص ٤٤٦) ، وجمل الزجاجي (ص ٥٢) ، والحلل في شرح أبيات الجمل لابن السيد (ص ٣٧ ، ٤٢) ، وابن يعيش (٧ / ١٠٥) البيت الأول فقط ، والتصريح (٢ / ٣٦) ، والعيني (٣ / ٣٩٧) ، والهمع (٢ / ٥٠) ، والدرر (٢ / ٦٠) البيت الثاني فقط.

والشاهد قوله : «والذئب أخشاه» ؛ حيث نصب «الذئب» بفعل مقدر يماثل الفعل المفسر ، والتقدير : أخشى الذئب.

(٥) البيتان من الطويل وهما في : التذييل (٣ / ٢٩) ، والبيت الأول في المنصف (٣ / ٢٠) ، وديوان امرئ القيس (ص ٢٤ ، ٢٥).

اللغة : الفيقة : ما بين الحلبتين. الكنهبل : ما عظم من شجر العضاة. الدوحة : الكثير الورق والأغصان.

تيماء : موضع. أطم : البيت المسطح.

والشاهد في قوله : «وتيماء» كالذي قبله. غير أن الفعل المقدر هنا من معنى الفعل المفسر وليس من لفظه.

١١٦

.................................................................................................

______________________________________________________

«الواو» فإن قلت : ضربتهم حتى زيدا ضربته ، فالأجود أن ينتصب «زيدا» بمقتضى العطف ، ويجعل «ضربته» توكيدا (١) ، فلو قلت : ضربت زيدا حتى عمرو ضربته ؛ تعين رفع [٢ / ٢٨٥] «عمرو» ، لزوال شبه حتى الابتدائية بالعاطفة ؛ إذ لا تقع العاطفة إلا بين كل وبعض .. (٢). انتهى.

وهذا الذي قرره في مسألة «حتى» هو المراد بقوله : «أو تشبيها» بعد قوله : «أو عاطفا على جملة فعلية تحقيقا» وقد ذكر سيبويه «حتى ولكن وبل» فقال : ومما يختار فيه النصب قوله : ما لقيت زيدا ولكن عمرا مررت به ، وما رأيت زيدا بل خالدا لقيت أباه ؛ تجريه على قولك : لقيت زيدا وعمرا لم ألقه (٣).

وقال أيضا : ومما يختار فيه النصب لنصب الأول ويكون الحرف الذي بين الأول والآخر بمنزلة الواو ، والفاء ، وثم ، قولك : قد لقيت القوم كلهم حتى عبد الله لقيته ، وضربت القوم حتى زيدا ضربت أباه ، وأتيت القوم أجمعين حتى زيدا مررت به ، ومررت بالقوم حتى زيدا مررت به.

وإنما اختير النصب ؛ لأنها حروف تشبه العاطفة من حيث إنها لا تكون إلا بعد كلام ولا تبتدأ أصلا ، ولأنها أيضا يعطف بها في المفردات ، فاختيرت المشاكلة لذلك ، كما اختير في حروف العطف (٤). انتهى.

ومن ثم قال الشيخ : كأن المصنف قصد بذكر «حتى» التمثيل لا الحصر ـ يعني في «حتى» ـ لكنه نازع المصنف في قوله : فالأجود أن ينتصب «زيدا» بمقتضى العطف ، ويجعل «ضربته» توكيدا ، يعني في قولك : ضربت القوم حتى زيدا ضربته ، قال : لأن التأسيس أولى من التأكيد (٥) ، وما قاله في هذا المثال غير ظاهر ، فإن التأسيس إنما يكون أولى إذا دار الحال بين الأمرين وهاهنا ليس كذلك ، فإنك إذا نصبت زيدا بمقتضى العطف على القوم حصل التأسيس ، ثم إذا أكد قوي أمره ، ولا شك أن الجمع بين تأسيس وتأكيد أولى من تأسيس دون توكيد ، ونازعه أيضا في قوله : فلو قلت : ضربت زيدا حتى عمرو ضربته ، تعين رفع «عمرو» ؛ لزوال شبه ـ

__________________

(١) ينظر : شرح الكافية للرضي (١ / ١٧١).

(٢) شرح التسهيل للمصنف (٢ / ١٤٢).

(٣) الكتاب (١ / ٩٠).

(٤) الكتاب (١ / ٩٦).

(٥) التذييل (٣ / ٣١).

١١٧

.................................................................................................

______________________________________________________

حتى الابتدائية بالعاطفة ؛ إذ لا تقع العاطفة إلا بين كل وبعض ؛ فقال : لم يتعرض سيبويه ولا غيره لهذا الشرط الذي شرطه المصنف في «حتى» هذه من أنه لا يحمل الاسم بعدها على إضمار فعل على سبيل الاشتغال «حتى» يكون فيها شرط حتى العاطفة من أن ما بعدها يكون خبرا مما قبلها (١). انتهى.

ولا شك أن الذي قاله المصنف هو الذي تقتضيه القواعد ، وتمثيل سيبويه يدل على ذلك ؛ فإنه لم يمثل في مسألة الاشتغال فيما بعد «حتى» إلا بما المذكور بعدها فيه جزء ممّا قبلها كما رأيت.

السابع : أن يكون نصب الاسم السابق مخلصا من إيهام غير الصواب ، والرفع بخلاف ذلك (٢) ، كقوله تعالى : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ)(٣) فإن نصب كل شيء يرفع توهم كون (خلقنه) صفة لـ (شىء) ؛ إذ لو كان صفة له لم يفسر ناصبا لما لقبله [٢ / ٢٨٦] وإذا لم يكن صفة كان خبرا ، فلزم عموم خلق الأشياء بقدر خيرا كان أو شرّا وهو قول أهل السنة ، ولو قرئ بالرفع احتمل أن يكون (خلقنه) صفة مخصصة وأن يكون خبرا ، فكان النصب لرفعه احتمال غير الصواب راجحا (٤) ، قال الشيخ : ما ذكره المصنف من ترجيح النصب بالسبب الذي ذكره هو قول أكثر النحويين ، وأما سيبويه فإنه ذكر أن الرفع أقوى في نحو : إني زيد لقيته وأنا عمرو ضربته ، وليئنني عبد الله مررت به ، ثم قال بعد : وأما قول الله تعالى : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) فإنما جاء على قولك : زيدا ضربته ، وهو عربي كثير ، وقد قرأ بعضهم : وأما ثمود فهدينهم (٥) إلا أن القراءة لا تخالف ؛ لأنها السنة (٦).

قال : فليس في كلام سيبويه إشارة إلى ترجيح النصب ، وإنما خرج ذلك على «زيدا ضربته» قال : وظاهر كلام سيبويه والمصنف أن الآية الشريفة لم تقرأ إلا بالنصب وليس كذلك ؛ بل قرئ بالرفع على الابتداء (٧) ، وقول سيبويه في نصب «زيدا ضربته» : وهو ـ

__________________

(١) التذييل (٣ / ٣٢).

(٢) ينظر : شرح الكافية للرضي (١ / ١٧٢).

(٣) سورة القمر : ٤٩.

(٤) ينظر : التصريح (١ / ٣٠٢) ، والهمع (٢ / ١١٣) ، وانظر نصه في : شرح التسهيل لابن مالك (٢ / ١٤٢).

(٥) سورة فصلت : ١٧.

(٦) الكتاب (١ / ١٤٨).

(٧) يرى ابن جني في المحتسب (٢ / ٣٠٠) ما يراه أبو حيان في هذه الآية ؛ حيث قال : قال أبو الفتح : الرفع

١١٨

[جواز الرفع والنصب على السواء في المشغول عنه]

قال ابن مالك : (وإذا (١) ولي العاطف جملة ذات وجهين أي اسميّة الصّدر فعليّة العجز ، استوى الرّفع والنصب مطلقا خلافا للأخفش ومن وافقه في ترجيح الرّفع إن لم يصلح جعل ما بعد العاطف خبرا ، ولا أثر للعاطف إن وليه «أمّا»).

______________________________________________________

عربي كثير (٢) ، يردّ قول من قال : إن النصب ضعيف (٣) ، وقال ابن الحاجب (٤) : [وعند خوف لبس المفسر بالصفة مثل : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ)(٥) ، وهي أيضا قرينة من قرائن النصب المختار ، ووجهه أنه لو رفع لكان المعنى المقصود غير متعين بنفس الإخبار ، ألا ترى أنه يجوز إذا رفعت أن يكون (خلقنه) خبرا فيفيد المعنى المقصود وصفه ، فيفيد غير المقصود لأن التقدير معه : كل مخلوق لنا بقدر ، وهو معنى غير المقصود ، فكان النصب أولى لما فيه من البيان للنصوصية على المعنى المقصود ؛ لأنك إذا نصبت ، نصبت بفعل يفسره (خلقنه) فيكون التقدير : خلقنا كل شيء خلقناه بقدر ؛ فيفيد العموم في المخلوقات وهو المعنى المقصود](٦). اه.

قال ناظر الجيش : لمّا أنهى الكلام على أقسام ثلاثة شرع في القسم الرابع ، وهو ما استوى فيه الأمران ، أعني : الرفع والنصب.

قال المصنف (٧) : تسمى الجملة ذات وجهين إذا ابتدئت بمبتدأ ، وختمت بمعمول ـ

__________________

هنا أقوى من النصب ، وإن كانت الجماعة على النصب ، وذلك أنه من مواضع الابتداء ، فهو كقولك : زيد ضربته ، وهو مذهب صاحب الكتاب والجماعة». اه. وينظر : معاني القرآن للأخفش (ص ٣٣٠ ، ٣٣١) ، والبحر المحيط (٨ / ١٨٣).

(١) في (ب) ونسخة المتن : (وإن). ينظر : التسهيل (ص ٨١).

(٢) التذييل (٣ / ٣٣).

(٣) هو قول ابن خروف ، وابن عصفور. ينظر : التذييل (٣ / ٣٣).

(٤) لم يذكر قول ابن الحاجب فهو ساقط من النسختين ، وقد أشار إلى ذلك كاتب النسخة (ب) ؛ حيث قال في الهامش : هنا بياض قدر سطرين. وما أثبته هنا من شرح ابن الحاجب على كافيتة (ص ٢٥٧ ، ٢٥٨).

(٥) سورة القمر : ٤٩.

(٦) ما بين المعقوفين ، وهو كلام ابن الحاجب ساقط من النسختين ، وما أثبته من شرح الكافية لابن الحاجب (٢ / ٤٦٩) ، تحقيق د / جمال مخيمر.

(٧) انظر : شرح التسهيل لابن مالك (٢ / ١٤٣).

١١٩

.................................................................................................

______________________________________________________

فعل ؛ لأنها اسمية من جهتها الأولى ، فعلية من جهتها الأخرى ، فإذا توسط عاطف بينهما وبين الاسم المشتغل عنه ، جاز رفعه ونصبه جوازا حسنا دون ترجيح ؛ لأنه إذا رفع كان مبتدأ مخبرا عنه بجملة فعلية معطوفا على مبتدأ مخبر عنه بجملة فعلية ، وإذا نصب كان معمول فعل معطوفا في [٢ / ٢٨٧] اللفظ على معمول فعل ، فمع كل واحد من العملين مشاكلة توجد عدم المفاضلة ، ولكل منهما ضعف وقوة ، فضعف الرفع لترتبه على أبعد المتشاكلين ، وقوته ؛ لصلاحية الثاني فيه لأن يسد مسد الأول ، وضعف النصب ؛ لعدم صلاحية الثاني منه أن يسد مسد المحمول عليه ، وقوته ؛ لترتبه على أقرب المتشاكلين ، فحصل بذلك تعادل في مراعاة التشاكل (١).

وشهد لحسن الوجهين قوله تعالى : (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ)(٢) قرأ الحرميان (٣) وأبو عمرو بالرفع ، والباقون بالنصب (٤) ، واتفقوا على نصب (٥)(وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ)(٦) وكلاهما من العطف على جملة ذات وجهين ، وفيهما رد على الأخفش ؛ لأنه يستضعف النصب بعد العاطف على جملة ذات وجهين ما لم تتضمن الجملة المعطوفة ذكرا يرجع إلى المبتدأ ، نحو : زيد لقيته وعمرو رأيته ؛ فلا يستحسن نصب ما بعد العاطف ؛ لأن ذلك يستلزم عطف جملة لا محل لها من الإعراب ، وهذا ساقط عند سيبويه ؛ لأن ما له المحل من الإعراب لما لم يظهر في اللفظ سقط حكمه ، وجرت الجملة ذات المحل والتي لا محل لها مجرى واحدا ، كما أن اسم الفاعل حين لم يظهر الضمير المرتفع به جرى مجرى ما لا ضمير فيه ، فقيل في تثنيته : قائمان ، كما قيل : فرسان ، وإذا كان اسم الفاعل قد يظهر ضميره إذا جرى على غير ما هو له ثم أجرى مع ذلك ما لا ضمير فيه لعدم ظهوره في بعض المواضع ؛ كان ما لا يظهر إعرابه أصلا أحق أن لا يعتدّ به (٧) ، وإن وقع بعد العاطف «أمّا» أبطلت حكم ـ

__________________

(١) ينظر : التوطئة (ص ١٨٤ ، ١٨٥) ، وشرح الألفية لابن الناظم (ص ٩٣) ، وشرح الألفية للمرادي (٢ / ٤٤) ، والتصريح (١ / ٣٠٤).

(٢) سورة يس : ٣٩.

(٣) الحرميان هما : نافع وابن كثير.

(٤) في الإتحاف (ص ٣٦٥): «واختلف في (وَالْقَمَرَ ،) فنافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وروح : بالرفع على الابتداء ، وافقهم الحسن واليزيدي والباقون : بالنصب بإضمار فعل على الاشتغال». اه.

وينظر : إملاء ما منّ به الرحمن (٢ / ٢٠٣) ، والحجة لابن خالويه (ص ٢٩٨) ، والكشاف (٢ / ٢٥٢).

(٥) ينظر : الحجة لابن خالويه (ص ٣٣٨) ، وإملاء ما منّ به الرحمن (٢ / ٢٥١).

(٦) سورة الرحمن : ٧.

(٧) ينظر : المحتسب لابن جني (٢ / ٣٠٢ ، ٣٠٣).

١٢٠