شرح الشّواهد الشعريّة في أمّات الكتب النحويّة - ج ١

محمّد محمّد حسن شرّاب

شرح الشّواهد الشعريّة في أمّات الكتب النحويّة - ج ١

المؤلف:

محمّد محمّد حسن شرّاب


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٣

قلبي وقصدتك طالبا جودك ، وربما أراد أن يقول : ليس في حياتي ما أقدّمه على ملاقاتك ، ولو كانت ألصق الذكريات بي ، وأحبّها إليّ. وللدلالة على صلة الأطلال والنسيب بموضوع المدح ، يربط الشعراء بين هذه المقدمة وما بعدها برباط فنيّ ، يسمونه «حسن التخلّص» ، وانظر مثال الربط القوي وحسن التخلص بين الأقسام ، المفضلية رقم (٢٥) للحارث بن حلزة اليشكري في مدح الملك قيس بن شراحيل.

والمفضلية رقم (١١٩) لعلقمة بن عبدة ، في مدح الحارث بن جبلة.

والخلاصة : أن كلام ابن قتيبة في المقدمة ، كان يصح لو قال : «إن مقصّد قصيد «المدح» إذا بدأ بوصف الديار ... الخ».

وقلت : قصيد المدح ؛ لأننا وجدنا أن المنهج الذي وصفه لا يعمّ القصيد كلّه. وقلت : «إذا» لأن قصائد المدح لا تتبع كلّها الخطوات التي وصفها : فقصيدة المدح قد تبدأ بالوقوف على الديار ، وقد تبدأ بالغزل بدون الوقوف على الأطلال. وقد يصف الشاعر الراحلة والطريق ، وقد يكون المدح بعد الوقوف على الأطلال .. فالذي قاله ابن قتيبة خاص بقصائد. ورأينا خيوطا فنيّة ومعنوية تربط بين أجزاء قصيدة المدح ، بل قل : بين خطوات قصيدة المدح. فهي قصة المادح منذ كان في دياره ، إلى أن يرتحل ويصل إلى الممدوح ، فيقول له ما قاله ، وينال عطاءه. ولم يقل أحد إن القصة ذات لون واحد ، فهي تصف الزمان والمكان والحدث ، ومع ذلك نعدّها وحدة متكاملة. وإذا وجدت قصيدة لا تربطها الروابط ، فليس ذلك من عيب فيها ، وإنما جاء العيب من الرواية ، فإذا أردت أن تحكم على الشعر ، فعليك بالقصائد الصحيحة الرواية التي لم تخلّ الروايات بشيء من عدد أبياتها ، أو ترتيبها كما سيأتي بيانه ، فقد كان العرب أهل ذوق فنيّ ، ولم يكونوا يخلطون بين الألوان المتنافرة. هذا ، وإذا عاندت ولم تقنع بما قدمت من تفسير خطوات قصيدة المدح ، فإنني أقول : إنّ قصائد المدح في الشعر الجاهلي لا تساوي ١ / ٣٠ من بقية الشعر ، فما كثر المدح إلا في زمن خلفاء بني أمية ومن بعدهم ، وسوف نرى تعاضدا أشد لا ينكر بين أجزاء القصيدة في الفنون الأخرى ، فيما يأتي من الكلام إن شاء الله.

* وأما جهة الوهم الثانية : فهي كثرة الأبيات السائرة التي تدلّ على معنى منفرد :

٤١

أقول : إن كلّ بيت من الأبيات السائرة يؤدي معنى منفردا ، ولكنك إذا حذفته ، أو غيرت ترتيبه اختل التسلسل المعنوي ، واقرأ قول الحطيئة في سياق هجاء الزبرقان ، ورفع مقام «بغيض» :

دع المكارم لا ترحل لبغيتها

واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

من يفعل الخير لا يعدم جوازيه

لا يذهب العرف بين الله والناس

وقول أبي ذؤيب في سياق رثاء أولاده :

والنفس راغبة إذا رغبتها

وإذا تردّ إلى قليل تقنع

وقول لبيد في سياق رثاء أخيه أربد :

وما المال والأهلون إلّا ودائع

ولا بدّ يوما أن تردّ الودائع

فمع أن هذه الأبيات من سوائر الأمثال ، إلا أن سياق القصيدة لا يستغني عنها.

بل إن البيت يكتسب معنى زائدا ، إذا قرىء في سياقه ، وهذا يدل على أن البيت مربوط بالقصيدة ، ودلالته على معنى منفرد ، مع ارتباطه ميزة فنية تحسب في محاسن القصيدة.

* وأما أبيات الشواهد النحوية : فإنها تنشد في كتب النحو لتكون حجة للقواعد النحوية ، فإذا أنشدتها في باب الأدب نقص معناها ، أو اختلّ. ولعلّ سائلا يقول : وهل ينفصم الأدب عن النحو ، أو ينفصل النحو عن الأدب؟ الجواب : إن الشعراء يعدّون النحو موجّها لأساليبهم ؛ لأنهم يقولون للإفهام والتأثير. والقارئون والسامعون موجّهون بما عهدوا من قواعد النحو ، ولكن مع ذلك ، ليست القواعد النحوية هي المتفرّدة بإحداث التأثير الأدبي ، بل هناك عوامل أخرى تدخل في باب البلاغة وعلم المعاني.

وأما النحويون : فإنهم لا يعيرون الناحية الأدبية كثيرا من الرعاية عند ما يستشهدون بأبيات الشعر ، وذلك راجع إلى طبيعة صنعتهم ، وما يرغبون فيه لبناء القواعد عليه. وقد سجّلت على حاشية الشواهد النحوية الملاحظات التالية :

٤٢

١ ـ إن مؤلفي كتب النحو يركزون عنايتهم على الكلمة المفردة ، أو الجملة ، أو الحرف من البيت ، ولم يكن يعنيهم أن يقرؤوا البيت في سياق القصيدة ـ في الغالب ـ إلا إذا كانت الكلمة محل الشاهد في قافية البيت ، أو كان محلّ الشاهد في بيتين :

مثال الأول : الاستشهاد لنصب المضارع بعد «أو» ببيت امرىء القيس :

فقلت له : لا تبك عينك إنّما

نحاول ملكا أو نموت فنعذرا

 ـ فقالوا : إنّ «نموت» منصوب ؛ لأن «فنعذرا» معطوف عليه بالنصب ، والقوافي في القصيدة منصوبة.

ومثال الثاني : قول عمر بن أبي ربيعة ، أو العرجيّ :

ليت هذا الليل شهر

لا نرى فيه عريبا

ليس إيّاي وإيّا

ك ولا نخشى رقيبا

[عريبا ـ بالعين المهملة ، بمعنى «أحد»]. فجاؤوا بالبيت الأول مع البيت الثاني لأن اسم «ليس» ضمير مستتر يعود على «عريبا» أو لأنّ ليس بمعنى «إلا».

٢ ـ قال أوس بن حجر :

فأمهله حتى إذا أن كأنّه

معاطي يد في لجّة الماء غامر

استشهد بهذا البيت ابن هشام في «المغني» والشيخ خالد في شرح التصريح لزيادة «أن» بعد «إذا» ، فنظروا إلى قوله : «إذا أن كأنّه» ولم يتدبروا بقية البيت ، ولم يقرؤوا البيت في القصيدة ، ولذلك وقعوا في الأوهام التالية :

أ ـ جاء البيت بقافية الراء «غامر» والحق أن القافية فائية وهي كلمة «غارف» لأن البيت من قصيدة فائية مطلعها :

تنكّر بعدي من أميمة صائف

فبرك فأعلى تولب فالمخالف

٤٣

مع العلم أن ابن هشام متوفى سنة ٧٦١ ه‍ ، والشيخ خالد متوفى سنة ٩٠٥ ه‍ وبين الاثنين حوالي القرن ونصف القرن.

ب ـ روي البيت في كتب النحو «في لجة الماء» والصحيح «من جمّة الماء» وقد أثّر هذا التحريف في فهم صانعي الحواشي على كتب النحو ، كما سيأتي في الملاحظات.

ج ـ صنع الشيخ ياسين ، المتوفى سنة ١٠٦١ ه‍ ، حاشية على كتاب «شرح التصريح» فشرح البيت كما نقله الشيخ خالد ، وأغرب في شرحه لأنه لم يرجع إلى قصيدة البيت. فقال : لجّة الماء : معظمه. والغامر ، بالمعجمة : المغطّي وهي مبني للفاعل (اسم فاعل) وأسند إلى المفعول ، كراضية في قوله تعالى : (عِيشَةٍ راضِيَةٍ) أي : مرضيّة. ونقل عن الدماميني (محمد بن أبي بكر) المتوفى سنة ٨٢٧ ه‍ من شرحه على «المغني» أنّ المعنى «أنّه ترك هذا الرجل وتمهّل في إنقاذه ، كما كان فيه ، إلى أن وصل إلى حالة أشبه فيها من هو مغمور في اللجة ، يخرج يده ليتناولها من ينقذه ، وهذه حالة الغريق» أه. وهذا الفهم بعيد كلّ البعد عن معنى البيت في سياق القصيدة.

د ـ والحقّ : أن البيت جاء في سياق أبيات يصف الشاعر فيها ناقته ، ويشبهها بحمار وحشيّ ، ثم يصف الحمار الوحشي ، ثم يقول : إن الحمار الوحشي كان في عطش شديد ، فورد عين ماء فصادف عليها صيّادا.

فقوله : فأمهله : فاعل أمهل ضمير الصيّاد ، والهاء : ضمير الحمار الوحشي. و «حتى» : غاية لما قبلها. والمعاطي : المتناول. وقوله : معاطي يد ، أي : معاطي في يد. وجمّة الماء ـ بفتح الجيم ـ مجتمعه. ومن جمة : متعلق بغارف ، و «إذا» في البيت ظرفية مجرّدة عن معنى الشرط ، وفعلها محذوف يفهم من المقام ، تقديره : حتى إذا صار الحمار من الماء في القرب مثل الرّجل الذي يتناول بيده غرفا. وفي الأبيات التالية يقول : إن الصيّاد هيّأ سهما ، فأرسله ليصيب من الحمار مقتلا ، فأخطأ السهم المقتل. [شرح أبيات مغني اللبيب للبغدادي ج ١ / ١٦٤].

٤٤

ه ـ إنّ قصة هذا البيت ، تدلّ دلالة قاطعة على وحدة القصيدة العربية ، وأنك لا تستطيع تقديم بيت على بيت ، وأن كثيرا من القصائد إذا حذفت منها بيتا اختل التسلسل المعنوي ، وقد رأيت أن النحويين ضلّوا طريق فهم البيت عند ما قرؤوه مفردا. ورحم الله عبد القادر البغدادي ، فإنه أول من نقد وقوّم أبيات الشواهد النحوية في كتابه «خزانة الأدب» و «شرح أبيات مغني اللبيب» ؛ لأنه كان عالما بالأدب ، وينظر في البيت بذوق الأديب الناقد. ولذلك نجده ينسب البيت إلى صاحبه ، ويرجع إلى قصيدة البيت في ديوان الشاعر ، ويرى أن البيت لا يفهم وحده ، فيقول : «ولا بدّ من شرح أبيات حتى يتضح المعنى» فذكر وشرح ما قبل البيت وما بعده ، فكان مجموع الأبيات ثلاثة وعشرين بيتا ، يظهر البيت حلقة منها ، لا يفهم إلا بها ، وتدرك بعد فهم الأبيات قوة ترابطها.

٣ ـ ومن أثر عناية النحويين بالكلمة المفردة ، أو الجملة من البيت المفرد ، أنهم قد يركّبون بيتا من بيتين لشاعرين. فقد أنشد ابن هشام في «المغني» هذا البيت ، شاهدا للفصل بين «قد» والفعل بجملة القسم :

أخالد قد والله أوطئت عشوة

وما قائل المعروف فينا يعنّف

 ـ والبيت مركب من شعري شاعرين : فالشطر الأول ، لأخي يزيد بن بلان البجلي ، من ثلاثة أبيات يخاطب بها خالد بن عبد الله القسري ، وهي بقافية القاف ، والبيت هكذا :

أخالد قد والله أوطئت عشوة

وما العاشق المسكين فينا بسارق

والشطر الثاني من قصيدة للفرزدق مطلعها :

عزفت بأعشاش وما كدت تعزف

وأنكرت من حدراء ما كنت تعرف

وصدر البيت الذي أخذ شطره الثاني :

وما حلّ من جهل حبا حلمائنا

وما قائل ...

٤٥

٤ ـ ومن الأدلة على أن النحويين يقنعون بالنظر في البيت المفرد ، دون البحث عن القصيدة التي ينتمي إليها البيت : أنهم قد يروون القافية المرفوعة منصوبة والقافية المجرورة منصوبة ، ويجعلون الشاهد في كلمة القافية المحرّفة. فقد أنشد سيبويه ، البيت التالي شاهدا لنصب المضارع بعد «أو» :

وكنت إذا غمزت قناة قوم

كسرت كعوبها أو تستقيما

وتوارد النحاة بعد سيبويه على روايته على الصورة التي رواها.

والبيت للشاعر زياد الأعجم ، من أبيات هجا بها المغيرة بن حبناء التميمي ، وهي ثمانية أبيات ، خمسة منها قافيتها مرفوعة ، ومنها البيت الشاهد ، وهو هكذا : «كسرت كعوبها أو تستقيم». وثلاثة أبيات قافيتها مجرورة ، للإقواء. وهذه الأبيات نقلها صاحب الأغاني في ترجمة المغيرة ، ونقلها عنه البغدادي في «شرح أبيات مغني اللبيب». وقال ابن منظور في «اللسان» : قال ابن بري : هكذا ذكر سيبويه هذا البيت ، بنصب «تستقيم» بأو. قال : وهو في شعره «تستقيم» بالرفع ، والأبيات ثلاثة لا غير. وأنشد بيتين مجروري القافية ، ومعهما البيت الشاهد مرفوع القافية ، للإقواء. وقال أهل العلم بالشعر : ولا يجوز أن ينشد بعض الأبيات منصوبا ، وبعضها مرفوعا أو مجرورا ، على طريق الإقواء ؛ لأن الإقواء في الغالب إنما يكون بين المرفوع والمجرور ، لما بينهما من المناسبة.

وأنشد سيبويه :

معاوي إننا بشر فأسجح

فلسنا بالجبال ولا الحديدا

 ـ بنصب «الحديدا» على أنه معطوف على محلّ الجار والمجرور ، وهو قوله : «بالجبال» وهو خبر ليس والباء زائدة. والشاهد أول بيت في قصيدة للشاعر عقيبة بن هبيرة الأسدي ، والأبيات التالية كلّها مخفوضة ، حيث يقول بعده :

فهبنا أمة ذهبت ضياعا

يزيد يسوسها وأبو يزيد

أتطمع في الخلود إذا هلكنا

وليس لنا ولا لك من خلود

٤٦

وقد ردّ ابن قتيبة رواية سيبويه وقال : وقد غلط على الشاعر ؛ لأنّ هذا الشعر كلّه مخفوض. [الشعر والشعراء / ٤٣]. وقال الحسن العسكري في كتاب «التصحيف / ٢٠٧» : ومما غلط فيه النحويون من الشعر ، ورووه موافقا لما أرادوه ، ما روي عن سيبويه (وذكر البيت).

قلت : ولكن النحويين فيهم عصبية وعناد ، وما رأيت فئة تتعصب لرئيسها تعصّب البصريين لسيبويه ، فإنّهم نزّهوا سيبويه وكتابه عن كل نقيصة أو عيب أو سهو ، ولم يعترفوا بقول القائل : «كفى المرء نبلا أن تعدّ معايبه» ولذلك فإنهم قد التمسوا له الأعذار لتكون روايته حجة : فقالوا : إنه سمع من العرب الذين يستشهد بقولهم من ينشد هذين البيتين بالنصب ، فكان إنشاده حجة. وهذا الاعتذار ليس مقبولا ، وبخاصة في هذين البيتين ؛ لأنّ الشاهد يكمن في القافية ، وكان الواجب أن يسأل الراوي عن أخ للبيت على الأقل ليعرف حركة القوافي. واعتذروا عن البيت الثاني ـ بيت عقيبة بن هبيرة ـ بأن للبيت أخا منصوب القافية ، وأن البيتين للشاعر عبد الله بن الزّبير ـ بفتح الزاي ـ الأسدي. وقالوا : وليس ينكر أن يكون بيت من قصيدتين معا ؛ لأن الشعراء قد يستعير بعضهم من كلام بعض.

وهذا الاعتذار غير مقبول أيضا. لأن وجود بيت واحد برمّته في قصيدتين يغلب أن يكون من خلط الرواة ، ثم إنّ عدم اطّلاع النحويّ على القافية الأخرى المجرورة عند الشاعر الآخر ، يجعل القاعدة النحوية المستنبطة غير مطردة ، فالقواعد المطردة القياسيّة يجب أن تبنى على الاستقراء.

* أما الجهة الرابعة التي جاء منها التوهم بأن القصيدة العربية القديمة غير مترابطة فهي الرواية. فالشعر العربيّ الجاهليّ ، والمخضرم ، بقي زمنا ـ الله أعلم به ـ تتداوله الألسنة ، وتتناشده العرب ، وينتقل من قاصّ إلى آخر ، إلى أن جاء زمن الرواية والتدوين في القرن الثاني الهجري ، فرأينا الرواة يختلفون في رواية البيت على وجوه مختلفة ، ورأينا القصيدة تطول عند بعضهم ، وتقصر عند آخر ، ويختلف ترتيب الأبيات في القصيدة باختلاف الراوي. ومع هذه الحال ، فإننا لسنا على يقين أنّ كل قصيدة منسوبة إلى شاعر ، هي كلّ ما قاله منها فلعلّ أبياتا قد فقدت منها ،

٤٧

فأخلّت بالتسلسل المعنوي ، ولعلّ الرواة قدّموا وأخّروا بين أبيات القصيدة ، فأخلّ ذلك بالسياق. فإنّ رواة الشعر ، كغيرهم من رواة الأخبار ، كان يعنيهم في المرحلة الأولى الجمع ثم تأتي مرحلة النّقد ، وهذه من عمل الناقد الأدبي ، كما أنّ المرحلة الثانية من قراءة الأخبار ونقدها من وظيفة نقّاد السّند والمتن ، ليقولوا : هل صحّ هذا الخبر أم لم يصحّ. وقد وصلتنا أخبار المؤرخين مدونة دون نقد ، فظنها مؤلفو التاريخ في العصر الحديث صحيحة فنقلوا منها وبنوا عليها الأحكام ، فضلّوا وأضلّوا غيرهم. وكذلك وصلتنا الأشعار كما رواها الرواة ، دون أن تهذبها نظرات الناقد الأدبي ، فأخذها بعض نقدة الشعر في العصر الحديث ، كما وصلت إليهم وبنوا عليها الأحكام النقدية ، فكان ما كان من الأحكام التي تحتاج إلى نقد على نقد. وقد وقع نظر هؤلاء النقاد على نماذج قليلة مما وصفنا من الروايات ، فعمّموا الأحكام على الشعر العربيّ كله ، فكان حكمهم الجائر ؛ لأنهم لم يصدروا حكمهم بعد استقراء النصوص جميعها ، وربما كان الذي أصدر هذه الأحكام واحدا ، وتبعه الآخرون دون تحقيق ، ولا يستبعد أن يكون المستشرقون هم أول من أصدر الأحكام النقديّة على الشعر العربي القديم ، لأن أكثر الشّبهات والمطاعن التي أثيرت حول الشعر والتراث العربي بعامة ، كان مصدرها الاستشراق. فالمستشرقون كانوا من السبّاقين إلى طباعة بعض دواوين ومجموعات الشعر العربي ، وتقديم الدراسات عنها ، وكانوا محلّ ثقة الرعيل الأول من مؤلفينا في العصر الحديث ، وقد جلب بعضهم للتدريس في جامعة القاهرة في عهدها الأول. وللمستشرق (نلّينو ١٨٧٢ ـ ١٩٣٨ م) «تاريخ الآداب العربية» يرجع إليه كثير من المؤلفين العرب ، وينهلون من مستنقعه الآسن. وكان قد ألقى محاضرات في جامعة القاهرة.

* والحقّ الذي لا مرية فيه ، أنه إذا وجدت قصائد قليلة ، يظهر التفكك بين أجزائها بسبب ما ذكرنا ، فإنه توجد عشرات القصائد المطولة ، يظهر الترابط الوثيق بين أجزائها ، وإليك بعض التفصيل :

١ ـ قلت إن من أسباب التفكك البادي على بعض القصائد القديمة الرواية ، حيث كانت عناية بعض الرواة تتّجه إلى الجمع دون التنسيق. وأمامي روايتان

٤٨

للمعلقات إحداهما رواية الزوزني مع شرحها ، ورواية التبريزي (القصائد العشر) مع شرحها. وقد قارنت بين معلقتين الأولى : لزهير ، والثانية : للبيد ، أما معلقة زهير فإنني وجدت اختلافا في الترتيب في أكثر من عشرة مواضع مع الاختلاف في عدد الأبيات. أما معلقة لبيد ، فإن تسلسل الأبيات في الروايتين وعددها ، يكاد يكون متفقا ، ولم أجد اختلافا في الترتيب إلا في موضع واحد. ولذلك فإن طه حسين اتخذ من معلقة لبيد مثالا ، للردّ على من يدّعون افتقار القصيدة الجاهلية إلى الوحدة المعنوية ، وأثبت من خلال عرضه القصيدة أنه لا يمكن تقديم بيت على بيت فيها. (حديث الأربعاء ١ / ٢٨ ـ ٣٩).

٢ ـ وليست قصيدة لبيد يتيمة ، فهناك عشرات القصائد المطولات التي رواها المحققون من أهل الرواية. ولعلّ كثيرا من قصائد «المفضليات» التي نشرها وحققها الأستاذان : أحمد شاكر ، وعبد السّلام هارون ، يعدّ نماذج للقصيدة العربية. فالمفضّل الضبي ـ راوي القصائد ـ كان موثقا في روايته ، وكان من العلماء بالشعر. قال فيه محمد بن سلام الجمحي في طبقات الشعراء : «وأعلم من ورد علينا من غير أهل البصرة ، المفضّل بن محمد الضبي الكوفي». ولكنّ الرواة والنساخ بعد المفضل لم يتركوا لنا مختاراته كما اختارها ورواها ، وإنما زادوا في عدد القصائد ، كما زادوا في أبيات القصائد ، فاختلطت بغيرها. فالمشهور أن المفضل اختار ثمانين قصيدة ، ولكنها وصلت في المطبوع إلى ثلاثين ومئة قصيدة. ومما يطمئن النفس أن المحققين قالوا : إن مختارات المفضل ، لم تخرج عن هذا المجموع ، ولكن الذي يصعب على القارىء التمييز بين مختارات الضبي والدخيل عليها. ومع ذلك فإن في هذا المجموع عشرات القصائد المطولة التي يظهر التلاحم بين أجزائها ؛ لأنها وصلت إلينا كما قالها شاعرها. وإذا لم تستطع أن تربط بين أجزاء هذه القصائد ، فإنني أوصي بقراءة الأجواء التي كتبها المحققان في حاشية هذه القصائد : قصيدة تأبط شرا ، وهي أولى المفضليات ، وعدد أبياتها ستة وعشرون بيتا ، وقصيدة الحصين بن الحمام المرّي ص ٦٤ ، وعدد أبياتها اثنان وأربعون بيتا ، وقصيدة المرّار بن منقذ ص ٨٢ ، وعدد أبياتها خمسة وتسعون بيتا ، وقصيدة الأسود بن يعفر ص ٢١٥ ، وعدد أبياتها ستة وثلاثون

٤٩

بيتا ، وقصيدة متمّم بن نويرة ص ٢١٥ وعدد أبياتها واحد وخمسون بيتا ، وقصيدة المثقّب العبدي ص ٢٨٧ ، وعدد أبياتها خمسة وأربعون بيتا ، وتعدّ هذه القصيدة ـ في بعض المصادر ـ مثالا لخلط الرواة بين القصائد المتشابهة في الوزن والقافية ، حيث خلطها بعضهم بمقطوعة سحيم بن وثيل الرياحي «الأصمعية» التي مطلعها :

أنا ابن جلا وطلّاع الثنايا

متى أضع العمامة تعرفوني

ثم قصيدة علقمة بن عبدة ص ٣٩١ ، وعدة أبياتها ثلاثة وأربعون بيتا ، قالها يمدح الحارث بن جبلة الغساني ، ومطلعها :

طحا بك قلب في الحسان طروب

بعيد الشباب عصر حان مشيب

تبدأ بالغزل ، ثم يصف الراحلة ، ثم يختمها بالمديح ، ولكن الشاعر أجاد الربط بين الأجزاء ، وتسلسلت معاني الأبيات ، كلّ بيت يسلمك إلى ما بعده بحيث لو قدّم بيت على الآخر ، لفسد المعنى.

وتليها المفضلية ص ٣٩٧ ، للشاعر نفسه ، ومطلعها :

هل ما علمت وما استودعت مكتوم

أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم

وعدة أبيات القصيدة سبعة وخمسون بيتا ، وهي أيضا قصيدة متماسكة الأجزاء متلاحمة الأبيات ، تنساب معانيها من البداية حتى النهاية في رونق جذب ؛ لأنها مشاعر وخواطر ذاتيّة فاضت على لسان الشاعر ، فقصّها علينا في تسلسل أخّاذ.

* وأقف عند رائعة أبي ذؤيب الهذلي (خويلد بن خالد) المخضرم. هلك بنوه الخمسة في عام واحد بالطاعون ، وكانوا رجالا ولهم بأس وشدّة. وكانوا هاجروا إلى مصر ، فبكاهم جميعا بهذه القصيدة الرائعة التي تعدّ الذروة العليا من الشعر. روى صاحب «الأغاني» أن المنصور لما مات ابنه الأكبر جعفر ، طلب من ينشده هذه القصيدة من أهل بيته حتى يتسلّى بها ، فلم يجد حاجبه في الحاضرين من بني هاشم من يحفظها ثم وجد له شيخا كبيرا مؤدّبا من غيرهم أنشده إيّاها ، وأجازه ،

٥٠

وقال : «والله لمصيبتي بأهل بيتي أن لا يكون فيهم أحد يحفظ هذا لقلّة رغبتهم في الأدب ، أعظم وأشدّ عليّ من مصيبتي بابني».

وقد جعل صدر القصيدة حديثا بينه وبين امرأة تسائله عن شحوبه وأرقه ، فيجيبها عن سبب حزنه وألمه. ثم رسم لنا ثلاث لوحات فنيّة لثلاثة أنماط من مظاهر القوة والحذر ، والحرص ، ومع ذلك لا تجدي شيئا أمام الموت ، فهو أقوى وأقدر.

ويبدأ كل لوحة بقوله : «والدهر لا يبقى على حدثانه» ... ويرسم لنا في اللوحة الأولى صورة الحمار الوحشي الذي بقي في معزل ثم ساقه القدر إلى عين ماء صادف عندها صيّادا ، كان مصرعه على يديه. ويصف في اللوحة الثانية صورة ثور وحشي لم ينفعه حذره ، ولم يمنعه من الوقوع في حبائل الصياد. وفي الصورة الثالثة يصف رجلا مدججا بالسلاح شجاعا جريئا ، ولكنه يخرّ صريعا أمام قرنه. والشاعر يتخذ من هذه الأنماط الثلاثة عزاء لنفسه وتسلية لها وحضا على الصبر.

وبعد : فإنّ ما أشرت إليه من القصائد المطولة ذات الوحدة المعنوية ، أو ذات الترابط النفسي والعاطفي ، هي نماذج قليلة من كثير مثبت في الدواوين والمجموعات الشعرية وإنّ استقصاءها لا يكون إلا في بحث مطوّل. والذي أردته من هذه النماذج أن أنبّه نقاد الشعر ودارسيه ، إلى أنّ نقد النص والحكم عليه يسبقه عمل أكثر خطرا من نقد النص وتذوقه ، وهو تخريج أبيات القصيدة من جميع المصادر الأدبية ، والموازنة بين الروايات ، والتأكد من أن هذه الأبيات هي كلّ ما قاله الشاعر منها ، أو أن الشاعر قد قال هذه القصيدة ، أي : صحة نسبة القصيدة إلى صاحبها ، وعصرها ، وأنها لم ينقص أو يزد فيها ، ولم يختلّ ترتيبها ، فليس كلّ شعر في ديوان أو مجموعة شعرية يصحّ جعله مثالا للحكم على العصر المنسوب إليه ، لأن القصائد القديمة لعبت بها أهواء الرواة وأذواقهم ومزقتها الاختيارات ، وأساء إليها النّسّاخ ، وشتت شملها أهل النحو والتفسير لاختيارهم البيت والبيتين من القصيدة ، بحسب الحاجة إلى الشواهد ، وربما وجدت عشرة الأبيات من القصيدة في كتاب التفسير أو كتاب النحو ، موزعة في مواطن متفرقة. ولا تغترنّ

٥١

بوجود القصيدة في ديوان شعر ، أو في مجموعة من المجموعات الشعرية. إلا إذا كان الديوان أو المجموعة مخرّجة وموثقة ، ومحققة ، على مثال التحقيق الذي سار على نهجه الأستاذان : أحمد محمد شاكر ، وعبد السّلام هارون ، في تحقيق مجموعات عيون الشعر ، وكما ظهر أنموذجه في «المفضليات» و «الأصمعيات». ومثل تحقيقات عبد القادر البغدادي ـ في خزانة الأدب ـ حيث حقق نسبة الأبيات والشواهد ، والمقطوعات ، وقدّم للنص نقدا توثيقيا لم يسبقه إليه أحد ، ولم يستطع أن يزيد عليه أحد في العصر الحديث ، لتوفّر المصادر في زمنه أكثر من توفرها في العصر الحديث ؛ لأنه أدرك مصادر الشعر قبل تبدّدها وتفرقها في أنحاء الكرة الأرضية الجديدة. وإنه ليذكر مصادر كثيرة كانت موجودة في عصره (١٠٣٠ ـ ١٠٩٣ ه‍) ولم تصل إلينا.

٣ ـ أشرت في التعليقة السابقة إلى نماذج من القصائد المطولة التي تجمعها وحدة عضوية معنوية ، مما يدحض شبهة تفكك القصيدة العربية القديمة. وأشير هنا إلى عشرات النماذج من المقطوعات الشعرية المنتزعة من قصائد مطولة ، أو المقطوعات التي كانت هي كل ما جادت به قريحة شاعر ، وفي «حماسة» أبي تمام (٨٨٢) مختارة ، وأكثرها من خمسة أبيات فما فوقها ، وقد تصل إلى العشرين بيتا ، وقد جرى فيها أبو تمام على تبويب معاني الاختيار ، وقسمها إلى أبواب هي : باب الحماسة ، وباب المراثي ، وباب الأدب ، وباب النسيب ، وباب الهجاء ، وباب الأضياف ، وباب المديح ، وباب السير والنعاس ، وباب الملح ، وباب مذمّة النساء. وقد صبّ أبو تمام ذوقه الفني على ما وصل إليه من أشعار العرب ، فاختار لكل باب من أبواب «الحماسة» ما ارتضاه ذوقه ، وأجمع العلماء على تزكية أبي تمام في «الحماسة» ، وعلى تزكية «الحماسة» ونصوصها. ألا ترى إلى قول العلماء : الدليل على هذا بيت «الحماسة» ، فيقنعون بذلك لوثوقهم بروايته وإتقانه؟.

وإن قراءة أبيات هذه المقطوعات ليبطل مزاعم القائلين بأن البيت وحدة القصيدة القديمة ، وأن تقديم بيت على بيت لا يفسد المعنى. وأمامك مئات من المختارات ، تتحدّى من يزعم أنه يستطيع تقديم بيت على أخيه ومجاوره دون أن

٥٢

يختل المعنى ويضطرب ، مع أنها من أبيات المعاني ، بل المشبعة بالمعاني التي تساعد على جعلها من الأمثال السائرة.

٤ ـ أما البيت وأخوه تلاحما ، وتتابعا ، فأمثلته لا حصر لها. وأخبرني كيف يمكن أن تقدّم وتؤخر بين هذه الأبيات التالية دون أن يفسد المعنى ، وهي لتأبط شرا أو لامرىء القيس من معلقته ـ على خلاف بين الرواة ـ [انظر شرح المعلقات للزوزني] :

وواد كجوف العير قفر قطعته

به الذئب يعوي كالخليع المعيّل

فقلت له لما عوى إنّ شأننا

قليل الغنى إن كنت لمّا تموّل

كلانا إذا ما نال شيئا أفاته

ومن يحترث حرثي وحرثك يهزل

وكيف يمكن تقديم البيت الثاني على الأول في قول امرىء القيس من معلقته :

وقد أغتدي والطير في وكناتها

بمنجرد قيد الأوابد هيكل

مكرّ مفرّ مقبل مدبر معا

كجلمود صخر حطّه السيل من عل

٥ ـ ولعلّ أكبر شبهة ينفذ منها الطعن في وحدة القصيدة العضوية : هي أبيات الحكمة التي تتخلل بعض القصائد. وهذه الأبيات تبدو للنظرة العجلى أنها معزولة عن موضوع القصيدة ، كما أنه يسهل التقديم والتأخير فيها. وإليك هذه النظرات ، لعلها تبدد شيئا من ظلمة هذه الشبهة ، وتنوّر الطريق أمام قارىء أبيات الحكمة ومتذوقها في سياق القصيدة العربية ، أو قارىء الحكمة منفردة عن القصيدة ، وبخاصة إذا كانت الحكمة موضوع قصيدة مستقلّة :

أ ـ يجب التأكّد من أن هذه الأبيات منسوبة إلى صاحبها ، وأنها قد وضعت في مكانها من سياق القصيدة كما أراده الشاعر ، وأنها متتابعة كما ساقها الشاعر. فقبل أن نعيب «القول» يجب أن نتأكد أن صاحبه قد قاله ، أو قاله بالصورة التي وصلت إلينا. وقد ألمحنا فيما سبق أن الرواية لعبت بالشعر ، بحسن نيّة ، أو لهوى ، أو لأسباب أخرى. وأنقل هنا موازنة بين روايتين لأبيات الحكمة في معلقة زهير بن

٥٣

أبي سلمى : فالشاعر بدأ معلقته بالغزل ، ثم مدح الحارث بن عوف وهرم بن سنان ، لإصلاحهما بين عبس وذبيان في حرب داحس والغبراء ، وذمّ الحرب ، وبغّضها إلى النفوس ، وذمّ من لم يدخل في الصلح ، ثم ختمت المعلقة بأبيات في الحكمة والنصح. وقد قارنت بين رواية الزوزني المتوفى سنة ٤٨٦ ه‍ في شرحه ، ورواية التبريزي ، المتوفى سنة ٥٠٢ ه‍ في شرحه أيضا ، فوجدت اختلافا بيّنا في عدد أبيات الحكمة ، وفي ترتيبها. فهي عند الزوزني سبعة عشر بيتا ، وعند التبريزي ثلاثة عشر بيتا. وعند الزوزني خمسة أبيات لم ترد في رواية التبريزي ، وعند التبريزي ، بيت لم يرد في رواية الزوزني. وإليك تسلسلها عند الزوزني ، مقابلا بتسلسلها عند التبريزي مع الإشارة إلى الأبيات التي لم ترد في كلتا الروايتين ، وجعلت لها أرقاما مستقلة عن القصيدة.

تسلسل البيت عند الزوزني ، ومطلع البيت التسلسل عند التبريزي ١. سئمت تكاليف الحياة ... العاشر

٢. وأعلم ما في اليوم والأمس قبله الثالث عشر / آخر القصيدة

٣. رأيت المنايا خبط عشواء الحادي عشر

٤. ومن لم يصانع في أمور الثامن

٥. ومن يجعل المعروف من دون عرضه التاسع

٦. ومن يك ذا فضل الرابع

٧. ومن يوف لا يذمم الثاني

٨. ومن هاب أسباب المنايا الثالث

٩. ومن يجعل المعروف في غير أهله لا يوجد عند التبريزي

١٠. ومن يعص أطراف الزّجاج الأول

١١. ومن لم يذد عن حوضه السابع

١٢. ومن يغترب يحسب السادس

١٣. ومهما تكن عند امرىء من خليقة الثاني عشر

٥٤

١٤. وكائن ترى من صامت لا يوجد عند التبريزي

١٥. لسان الفتى نصف لا يوجد عند التبريزي

١٦. وإنّ سفاه الشيخ لا يوجد عند التبريزي

١٧. سألنا فأعطيتم لا يوجد عند التبريزي

ويتفرد التبريزي بالبيت :

ومن لا يزل يسترحل الناس نفسه

ولا يعفها يوما من الذّلّ يندم

وقال في الشرح : قال المازني : قال لي أبو زيد : قرأت هذه القصيدة على أبي عمرو بن العلاء فقال لي : قرأت هذه القصيدة منذ خمسين سنة ، فلم أسمع هذا البيت إلا منك.

وقد يقول قائل : إن وجود هذا التباين في ترتيبها ، مع ظهور المعنى وجلائه ، يدلّ على أن البيت وحدة معنوية مستقلة ، وهذا يؤكد انفراط عقد القصيدة. قلت : ليس الأمر كذلك. نعم : قد يفهم البيت مستقلا ، ولكنك لو وضعت البيت في المكان الذي وضعه الشاعر فيه ، فإنك تجد له معنى زائدا ، وتجد أنه مرتبط بجسم القصيدة ، ومتناسق مع ما قبله ومع ما بعده. ولنقف عند نماذج من هذه الأبيات.

فقد جعل الزوزني أول بيت في الحكمة ، وبعد الانتهاء من الحديث عن الحرب ، قوله «سئمت تكاليف الحياة ...» وهو عند التبريزي البيت العاشر. أما أول أبيات الحكمة عند التبريزي فهو قوله : «ومن يعص أطراف الزّجاج ...». وقبل بيت الزوزني استطرد الشاعر في تقبيح الحرب ، ومدح من دفعوا ديات قتلى لم يجترموا بقتلهم. وهذا المقام لا يناسبه بيت «سئمت تكاليف الحياة» وإنما تناسبه رواية التبريزي :

ومن يعص أطراف الزّجاج فإنه

يطيع العوالي ركّبت كلّ لهذم

والزجاج : جمع زجّ ، وهو أسفل الرمح. والعوالي : جمع عالية ، وهي أعلى الرمح. واللهذم : الحادّ. ومعنى البيت : أن من لا يقبل الصلح ، وهو الزج الذي لا يقاتل به ، فإنه يطيع الحرب ، وهو السنان الذي يقاتل به ، وقيل : المعنى إنّ

٥٥

العرب كانوا إذا لقوا قوما لقوهم بالأزجّة ليؤذنوهم أنهم لا يريدون حربهم ، فإذا أبوا ، قلبوا لهم الأسنّة ، فقاتلوهم. قلت : وهذا المعنى يناسب ما قبله في القصيدة. وأما مكانه عند الزوزني ، فإنه يجعله قلقا ، لا صلة له بما قبله وبما بعده. ويناسبه في التسلسل أيضا ما جاء عند التبريزي في الدعوة إلى الوفاء بعقد الصلح :

ومن يوف لا يذمم ومن يفض قلبه

إلى مطمئنّ البرّ لا يتجمجم

ويناسبه في السياق بعد رواية التبريزي :

ومن هاب أسباب المنايا ينلنه

ولو رام أسباب السماء بسلّم

وربما كانت روايته الصحيحة :

ومن يبغ أطراف الرماح ينلنه

ولو رام أن يرقى السماء بسلّم

يريد : من تعرض للرماح نالته ..

قلت : ولعلّ بعض الأبيات التي تأخرت منظومة في قسم الحكمة ، تكون متقدمة في قلب القصيدة ، فقوله :

ومهما تكن عند امرىء من خليقة

وإن خالها تخفى على الناس تعلم

 ـ قد يناسب مكانه بعد البيتين اللذين يدعو فيهما الأحلاف ألّا يضمروا الغدر في نفوسهم ، حيث يقول :

فلا تكتمنّ الله ما في نفوسكم

ليخفى ومهما يكتم الله يعلم

يؤخر فيوضع في كتاب فيدّخر

ليوم الحساب أو يعجّل فينقم

ويناسب هذا المقام أيضا قوله :

وأعلم ما في الأمس واليوم قبله

ولكنني عن علم ما في غد عم

يريد أن يقول لهم : إذا كان أحد الفريقين أحرز نصرا فيما مضى ، فإنه لا يعلم ما يخبّىء له القدر. وربما أتى في نسقه قوله :

٥٦

رأيت المنايا خبط عشواء ... البيت.

ويناسب هذا المقام قوله :

ومن لم يصانع في أمور كثيرة

يضرّس بأنياب ويوطأ بمنسم

ففيه دعوة إلى مصانعة الناس ومداراتهم ، وهذا يناسب الدعوة إلى الصلح. وقوله :

ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله .. البيت.

يناسب مقامه بعد مدح من دفعوا ديات القتلى.

ولعلّ بعض الأبيات ، التي لا نجدها منسوقة مع المعاني العامة للقصيدة ، تكون زيادة من الرواة والله أعلم.

ب ـ وهكذا وجدنا من الملاحظة السابقة أن أبيات الحكمة تكون منسوقة مع المعاني العامة للقصيدة ؛ لأن الحكم نوع من النصح ، والنصح يناسب مقتضى حال الكلام ، فإن كانت القصيدة في الرثاء ، جاءت الحكمة مناسبة لمقام التعزية والصبر ، وإن كانت في قصيدة فخر فهي مناسبة لمعاني الفخر. فهذا طرفة بن العبد يقول :

ولو لا ثلاث هنّ من عيشة الفتى

وجدّك لم أحفل متى قام عوّدي

ويفصّل الثلاث التي جعلها هدف الحياة ثم يقول :

فذرني أروّي هامتي في حياتها

مخافة شرب في الحياة مصرّد

ثم يشرح لنا فلسفته هذه في صورة الحكمة المناسبة للمقام فيقول :

أرى قبر نحّام بخيل بماله

كقبر غويّ في البطالة مفسد

أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي

عقيلة مال الفاحش المتشدّد

أرى العيش كنزا ناقصا كلّ ليلة

وما تنقص الأيام والدهر ينفد

لعمرك إنّ الموت ما أخطأ الفتى

لكالطّول المرخى وثنياه في اليد

٥٧

... وعاتب ابن عمّه مالكا في أمر كان بينهما ثم قال :

وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة

على المرء من وقع الحسام المهنّد

وهو بيت مناسب للمقام ، ومنسوق مع ما قبله.

... ثم يفخر الشاعر ببعض مناقبه ، ويختم ذلك بقوله :

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا

ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

ويأتيك بالأنباء من لم تبع له

بتاتا ولم تضرب له وقت موعد

 ... فهو يقول : إنك لم تعرف كلّ شيء عن مفاخري ، وسوف تظهرها لك الأيام القادمة.

ج ـ على أنه إذا جاءت الحكمة في صورة أبيات يبدو عليها الاستقلال المعنوي ، فذلك لموافقته طبيعة هذا الفنّ. فالغزل ، والمدح ، والفخر ، والرثاء فنون تعتمد على الوصف ، والوصف يقترب من القصة ، والقصة تستجيب للترابط والتسلسل. أما فنّ الحكمة ، فإنه يقوم على مجموعة من النصائح تتعدد بتعدد مناحي الحياة ، وبخاصة إذا كانت الحكمة موضوع قصيدة مستقلّة كما في قصيدة يزيد بن الحكم الثقفي (ـ ١٠٥ ه‍) التي ينصح فيها ابنه ، ويبدؤها بقوله :

يا بدر والأمثال يض

ربها لذي اللّبّ الحكيم

دم للخيل بودّه

ما خير ودّ لا يدوم

 ... وفيها أبيات تجري مجرى الأمثال كقوله :

والناس مبتنيان محمود

البناية أو ذميم

وقوله :

والبغي يصرع أهله

والظّلم مرتعه وخيم

وقوله :

٥٨

كلّ امرىء ستئيم من

ه العرس أو منها يئيم

وقد يتلاحق البيتان والثلاثة في نسق فلا يؤخر المتقدم ولا يتقدم المتأخر ، كقوله :

والمرء يبخل في الحقو

ق وللكلالة ما يسيم

ما بخل من هو للمنو

ن وريبها غرض رجيم

ويرى القرون أمامه

همدوا كما همد الهشيم

[والكلالة : الوارث ليس فيه الوالد والولد].

وقل ذلك في الحكمة التي تتخلل القصائد المطولة ، فالحكمة لا تأتي دائما في بيت مفرد وإنما تكتمل في البيتين والثلاثة. قال معن بن أوس المزني (مخضرم) يعاتب صديقا :

وكنت إذا ما صاحب رام ظنّتي

وبدّل سوءا بالذي كنت أفعل

قلبت له ظهر المجنّ فلم أدم

على ذاك إلا ريث ما أتحوّل

إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكد

إليه بوجه آخر الدهر تقبل

فالبيت الأخير بمنزلة التذييل لما سبقه ، وفيه الحكمة السائرة ، ولكنه ذروة ما قبله. فهو يريد أن يقول : إنّي أمدّ نفس التصبّر ما أمكن ، فإذا أعجزتني الحال العارضة عن الاحتمال ، انصرفت مالكا عناني ، ثم لا يثنيني على ما أعرضت عنه شيء أبد الدهر ، أي : لم تكد نفسي تقبل إليه بوجه من الوجوه ، وعلى لون من الألوان. وفي قصيدة معن بن أوس ما يتمثل به الناس على أنه خطاب عام وبيت منفرد ، وهو قوله :

وفي الناس إن رثّت حبالك واصل

وفي الأرض عن دار القلى متحوّل

ولكن الخطاب في قوله : «حبالك» للصديق المذكور في القصيدة ، والبيت مربوط بما قبله ، وهو :

ستقطع في الدنيا إذا ما قطعتني

يمينك فانظر أيّ كفّ تبدّل

٥٩

د ـ ليست الحكمة قسما متميزا في القصيدة ، ولا تستطيع أن تعدها بمنزلة المقدمة الغزلية في قصيدة المدح ، بل هي من نسق القصيدة ومن سياقها المتّحد اللون والمذاق ، فالحكمة في قصيدة الفخر مجموعة من التجارب التي جلبت لصاحبها المفاخر. فالشاعر علقمة بن عبدة في القصيدة التي مطلعها :

هل ما علمت وما استودعت مكتوم

أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم

يفخر بحضوره مجلس الشراب ، وينعت الخمر والإبريق ، ويفخر بغلبته الأقران واشتراكه في الميسر ، واختراقه المفاوز ، وصبره على رديء الطعام والشراب ، وبسيره في الهواجر ... وهذه المفاخر يجمعها الكرم والشجاعة .. وهو يقدّم لهذه المفاخر بأبيات في الحكمة ، فيها دعوة إلى الشجاعة والكرم ، ونبذ البخل والخوف. وحضور مجالس الشراب من مظاهر الكرم عند طائفة من الجاهليين. ومما قاله في أبيات الحكمة :

والحمد لا يشترى إلّا له ثمن

مما يضنّ به الأقوام معلوم

والجود نافية للمال مهلكة

والبخل باق لأهليه ومذموم

ومن تعرّض للغربان يزجرها

على سلامته لا بدّ مشؤوم

وكلّ حصن وإن طالت سلامته

على دعائمه لا بدّ مهدوم

وفي قصيدة الرثاء يمزج الشاعر نظرته إلى الحياة بالرثاء في صورة حكم. استمع إلى لبيد بن ربيعة يرثي أخاه أربد حيث يقول :

بلينا وما تبلى النجوم الطوالع

وتبقى الجبال بعدنا والمصانع

وما الناس إلا كالديار وأهلها

بها يوم حلّوها وغدوا بلاقع

وما المرء إلا كالشهاب وضوئه

يحور رمادا بعد إذ هو ساطع

وما المال والأهلون إلا ودائع

ولا بدّ يوما أن تردّ الودائع

وما الناس إلا عاملان فعامل

يتبّر ما يبني وآخر رافع

فمنهم سعيد آخذ بنصيبه

ومنهم شقيّ بالمعيشة قانع

وفيما سبق من الملاحظات قدمنا أنموذجا للحكمة في قصيدة زهير ، ورأينا أنها متصلة بموضوع القصيدة ، وممتزجة مع معانيها.

٦٠