شرح الشّواهد الشعريّة في أمّات الكتب النحويّة - ج ١

محمّد محمّد حسن شرّاب

شرح الشّواهد الشعريّة في أمّات الكتب النحويّة - ج ١

المؤلف:

محمّد محمّد حسن شرّاب


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٣

(٢٧) نحن ـ بني جعدة أرباب الفلج

نضرب بالسيف ونرجو بالفرج

لا يعرف صاحب هذا الرجز. والفلج موضع. وقال ياقوت مدينة بأرض اليمامة ولعلها «الأفلاج» في يومنا. والشاهد : ونرجو بالفرج. وفيه أن الباء زائدة في المفعول به سماعا ، وربما ضمن نرجو معنى «نطمع» فتكون الباء أصليّة. وربما غيّر النساخ هذا الرجز ، فقالوا «نحن بني ضبة أرباب الفلج» ولكن الرجز الذي يذكر منه بنو ضبة ، قافيته لاميّة ، وهو «نحن بني ضبة أصحاب الجمل». ونحن : مبتدأ ، وأرباب : خبر ، وبني جعدة ، منصوب على الاختصاص [الإنصاف / ٢٨٤ ، والخزانة / ٩ / ٥٢٠ ، وشرح أبيات المغني / ٢ / ٣٦٦].

٢٤١
٢٤٢

حرف الحاء المهملة

(١) إذا غيّر النأي المحبّين لم يكد

رسيس الهوى من حبّ ميّة يبرح

البيت للشاعر ذي الرّمة : ورسيس الهوى : مسّه ، ويبرح : يزول وهو فعل تام لازم ، وميّة : اسم معشوقته ، يقول : إنّ العشاق إذا تعدوا عمّن يحبون دبّ السلوّ إليهم ، وزال عنهم ما كانوا يقاسون وأمّا أنا ، فلم يقرب زوال حبّها عني ، فكيف يمكن أن يزول.

والبيت شاهد : على أن بعضهم قال : إنّ النفي إذا دخل على «كاد» تكون في الماضي للإثبات ، وفي المستقبل كالأفعال ، وقوله : للإثبات ، أي : لإثبات الفعل الذي دخل عليه كاد ، في الماضي ، وقوله : في المستقبل كالأفعال ، أي : إن نفي فهو منفي وإن لم ينف فهو مثبت. والمسألة خلافية ، والخلاف نابع من تفاوت الأفهام في إدراك المعاني ، فقال قوم إن الإثبات حاصل بعد «كاد ويكاد» المنفيين. أما «كاد» الماضي ، فقد استدلوا له بقوله تعالى في سورة البقرة (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) [الآية : ٧١] وزعموا أن المراد ، أنهم فعلوا الذبح وأما المضارع ، فاستدلوا له بقول ذي الرّمة في البيت الشاهد «لم يكد رسيس الهوى يبرح» فزعموا أن ذا الرّمة أنشد قصيدته التي منها البيت ، في مجلس شعراء ، فقال له أحدهم : يا ذا الرّمة ، أراه قد برح ، يريد أنك أثبّت زوال الحب. قالوا : ففكّر ساعة ثم قال :

إذا غيّر النأي المحبين لم أجد .. البيت.

فأبدل «لم أجد» بـ «لم يكد» أقول : ربّما كانت القصة مصنوعة ، لأنهم رووها عن عبد الصمد بن المعذل (ـ ٢٤٠ ه‍) وهو شاعر فاسق خمير ، ما كان يفيق من سكره ، والصحيح أن النفي نفي ، والإثبات إثبات ، والمعنى في الآية ، أنّ بني إسرائيل ما قاربوا أن يفعلوا للإطناب في السؤالات ، وهذا التعنت دليل على أنهم كانوا لا يقاربون فعل الذبح فضلا عن نفس الفعل. ونفي المقاربة قد يترتب عليه الفعل ، وقد لا يترتب. وأما إثبات الذبح

٢٤٣

فمأخوذ من خارج النفي ، وهو قوله «فذبحوها».

أما البيت ، فمعناه أنّ حبها لم يقارب أن يزول فضلا عن أن يزول ، وهو مبالغة في نفي الزوال ، فإنك إذا قلت «ما كاد زيد يسافر» فمعناه أبلغ من «ما يسافر زيد» ، ومما أكّد معنى الإثبات في البيت قول الشاعر في القصيدة نفسها :

أرى الحبّ بالهجران يمحى فينمحي

وحبّك ميّا يستجدّ ويربح

أي : يزيد الحبّ كما يزيد الربح ، والبيت من قصيدة مطلعها وتابعه :

أمنزلتي ميّ سلام عليكما

على النأي والنائي يودّ وينصح

فلا القرب يبدي من هواها ملالة

ولا حبّها ـ إن تنزح الدار ـ ينزح

[الخزانة / ٩ / ٣٠٩ ، وشرح المفصل / ٧ / ١٢٤ ، والأشموني / ٣ / ٥٢ ، وديوانه / ١١٩٢].

(٢) أفي أثر الأظعان عينك تلمح

نعم لات هنّا إنّ قلبك متيح

البيت للراعي ، والمتيح : الذي يأخذ في كل جهة ، ورجل متيح : إذا كان قلبه يميل إلى كل شيء.

والبيت شاهد على أن «هنّا» ظرف زمان مقطوع عن الإضافة ، والأصل : لات هنّا تلمح ، فحذف تلمح لدلالة ما قبله عليه ، فهنّا ، في موضع نصب على أنه خبر «لات» واسمها محذوف والتقدير : ولات الحين حين لمح عينك.

ومعنى البيت : أن الشاعر خاطب نفسه لما رآها ملتفتة إلى حبائبها ناظرة إلى آثارها بعد الرحيل ، فاستفهمها بهذا الكلام ثم أجاب جازما بأنّ عينها ناظرة إلى أثرهن ، وسفهها في هذا الفعل ، بأن اللمح ليس صادرا في وقته ، لأنّ صاحبهن ملتزم أسفار ومقتحم أخطار ، شأنه الذهاب وعدم الإياب ، فلا ينبغي لها أن تكتسب من النظرة شدائد الحسرة. [الخزانة / ٤ / ٢٠٣ ، واللسان «تيح» ، «هنن».

(٣) كأن لم يمت حيّ سواك ولم تقم

على أحد إلا عليك النوائح

البيت للشاعر أشجع السلمي ، عباسي ، عاصر الرشيد ، وشعره لا يستشهد به ، وقوله : «كأن لم يمت» كأن مخففة ، واسمها ضمير شأن ، يقول : أفرط الحزن عليك حتى كأنّ

٢٤٤

الموت لم يعهد قبل موتك ، وكأن النياحة لم تقم على من سواك.

والبيت شاهد على أنه إذا وقع مرفوع بعد المستثنى في الشعر ، أضمروا له عاملا من جنس الأول ، أي : قامت النوائح.

والبيت من قطعة في حماسة أبي تمام برقم (٢٨٠) من شرح المرزوقي ، وهي في رثاء (ابن سعيد) حيث يقول في أول القطعة :

مضى ابن سعيد حين لم يبق مشرق

ولا مغرب إلا له فيه مادح

وما كنت أدري ما فواضل كفّه

على الناس حتى غيّبته الصفائح

فأصبح في لحد من الأرض ميّتا

وكانت به حيّا تضيق الصحاصح

سأبكيك ما فاضت دموعي فإن تغض

فحسبك منّي ما تجنّ الجوانح

وما أنا من رزء وإن جلّ جازع

ولا بسرور بعد موتك فارح

كأن لم يمت ... البيت.

لئن حسنت فيك المراثي وذكرها

لقد حسنت من قبل فيك المدائح

يرثي عمرو بن سعيد بن قتيبة الباهلي ولكنني أسأل : هل كانت لابن سعيد هذا مزارع ، ينفق على المحتاجين من ريعها ، وهل كانت له تجارة يديرها فتدر عليه ربحا ويتصدق على المحتاجين؟ فإذا لم يكن زارعا أو تاجرا ، وكان ذا مال وفير ، نسأله : من أين لك هذا؟ وليس عنده جواب إلا القول : إنه سرق حقوق الناس في بيت مال المسلمين ، ثم فرّقه على من لا يستحقه من المادحين الكاذبين!! [الحماسة / ٥٨٩ ، والخزانة / ١ / ٢٩٥ وشرح الحماسة للأعلم / ١ / ٤٧٣].

(٤) أتى دونها ذبّ الرّياد كأنّه

فتى فارسيّ في سراويل رامح

هذا البيت من قصيدة لتميم بن أبيّ بن مقبل ، يصف الثور الوحشي ، وضمير دونها ، لأنثاه ، ودون بمعنى «قدّام» والذبّ : الثور الوحشي ويقال له : ذب الرياد : لأنه يرود ، أي : يذهب ويجيء ، ولا يثبت في موضع ، شبه الشاعر ما على قوائم الثور الوحشي من الشعر ، بالسراويل ، وهو من لباس الفرس ، ولهذا شبهه بفتى فارسي ، وشبه قرنه بالرّمح ، ولهذا قال : رامح ، أي : ذو رمح. في سراويل : حال من ضمير «فارسي» إذ هو بمعنى منسوب إلى الفرس ، أو صفة لفارسي ، ورامح : صفة ثانية لفتى وجرّ سراويل بالفتحة لأنه

٢٤٥

لا ينصرف ، وهو مفرد ، لكنه جاء على وزن صيغة منتهى الجموع «قناديل».

والشاعر تميم : أدرك الجاهلية والإسلام ، وكان يهاجي النجاشيّ الشاعر ، وله مع عمر ابن الخطاب قصة. [الخزانة / ١ / ٢٣٢ ، وشرح المفصل / ١ / ٦٤].

(٥) سواء عليك اليوم أنصاعت النّوى

بصيداء أم أنحى لك السيف ذابح

البيت لذي الرمّة ، وقوله : أنصاعت : الهمزة للاستفهام ، وأصله : أإنصاعت حذفت الهمزة الثانية لأنها همزة وصل ، وانصاعت ، أي : انشقت وذهبت بها النيّة إلى مكان بعيد ، وعليك : متعلق بسواء ، والنوى ، والنية : الوجه الذي ينويه المسافر من قرب أو بعد ، وقوله : بصيداء : متعلق بانصاعت وصيداء : اسم امرأة شبب بها ذو الرمة ، وهي غير خرقاء ، لقب ميّة التي يشبب بها غالبا ، وأنحى : قصد نحوك.

والبيت شاهد على أن الفعل بعد همزة التسوية وأم يستهجن ألا يكون ماضيا. كما في البيت. [الخزانة / ١١ / ١٥٢ ، والديوان / ٨٧٣].

(٦) وإنّي لأكنو عن قذور بغيرها

وأعرب أحيانا بها فأصارح

البيت دون عزو ، وقذور : امرأة ، وأعرب : أبيّن ، وأكنو : أذكرها باسم غيرها.

والشاهد : أكنو ، يقال : كنوته ـ وكنيته ، بالواو والياء. [الخزانة / ٦ / ٤٦٥].

(٧) أخو بيضات رائح متأوّب

رفيق بمسح المنكبين سبوح

الرائح : الذي يسير ليلا ، والمتأوب : الذي يسير نهارا ، يصف ظليما وهو ذكر النعام ، شبه به ناقته ، فيقول : ناقتي في سرعة سيرها كظليم له بيضات يسير ليلا ونهارا ليصل إلى بيضاته ، وسبوح : حسن الجري ، وجعله أخا بيضات ليدل على زيادة سرعته في السير لأنه موصوف بالسرعة وإذا قصد بيضاته يكون أسرع.

والبيت شاهد على أن هذيلا تفتح عين «فعلة» الاسميّ في الجمع بالألف والتاء كبيضات ، بفتحات ثلاث. [الخزانة / ٨ / ١٠٢ ، وشرح المفصل / ٥ / ٣٠ ، والهمع / ١ / ٢٣ ، والأشموني / ٤ / ١١٨].

(٨) رمى الله في عيني بثينة بالقذى

وفي الغرّ من أنيابها بالقوادح

٢٤٦

البيت لجميل صاحب بثينة ، القوادح : جمع قادح ، وهو السواد الذي يظهر في الأسنان والبيت شاهد على أن الشيء إذا بلغ غايته ، يدعى عليه ، صونا عن عين الكمال ، لأن الناس يحسدون الشيء الكامل ، كقولهم : قاتل الله فلانا ما أشجعه.

ولكنهم اختلفوا في تفسير هذا البيت : فقيل : أراد بالعينين : رقيبيها ، وبالغرّ من أنيابها كرام ذويها وعشيرتها ، والمعنى : أفناهم الله وأراهم المنكرات ، فهو في الظاهر يشتمها وفي النية يشتم من يتأذى به فيها.

وقيل : أراد : بلغها الله أقصى غايات العمر حتى تبطل عواملها وحواسها ، فالدعاء على هذا لها ، لا عليها.

وقال قوم : إنه يدعو عليها حقيقة ، ويستدلون على ذلك ، بما رواه أبو الفرج في الأغاني (ج ٧ / ٧٩ ـ ٨٠) أن جميلا لقي بثينة بعد تهاجر بينهما طالت مدّته ، فتعاتبا فقالت له : ويحك يا جميل ، أتزعم أنك تهواني وأنت الذي تقول :

رمى الله في عيني بثينة .. البيت

فأطرق جميل طويلا يبكي.

وروى أبو الفرج قصة أخرى ، تدل على أن جميلا انصرف عن بثينة وهجرها وقال البيت.

قلت : تفسير البيت بأنه دعاء على بثينة حقيقة : ينافي قواعد الحبّ العذري العفيف ولعلّ الشاعر أراد من قوله ذاك ، أن تبدو كذلك في عيني زوجها فيكرهها ، ولا يستمتع بجمالها ، ولكنه لا يتمنى أن تكون كذلك في واقع الحال. والله أعلم. [الخصائص / ٢ / ١٢٢ ، والخزانة / ٦ / ٣٩٨].

(٩) وانضح جوانب قبره بدمائها

فلقد يكون أخا دم وذبائح

البيت لزياد الأعجم يرثي المهلب بن أبي صفرة ، وقبل البيت :

إنّ الشجاعة والسّماحة ضمّنا

قبرا بمرو على الطريق الواضح

فإذا مررت بقبره فاعقر به

كوم الجلاد وكلّ طرف سابح

٢٤٧

والبيت شاهد على أن المضارع (فلقد يكون) مؤول بالماضي ، أي : ولقد كان. [الخزانة / ١٠ / ٤] وانظر الشعر والشعراء ، ترجمة زياد الأعجم.

(١٠) يا لقومي من للعلا والمساعي

يا لقومي من للندى والسماح

يا لعطّافنا ويا لرياح

وأبي الحشرج الفتى النفّاح

من شواهد سيبويه المجهولة ، والبيت الثاني شاهد على أنّ اللام في المعطوف فتحت كـ «لام» المعطوف عليه لإعادة «يا» ، فأبي الحشرج معطوف على يا لعطّافنا ، وعطّاف ورياح وأبو الحشرج أعلام رجال ، والنفّاح : الكثير النفح ، أي : العطية.

رثى هذا الشاعر رجالا من قومه وقال : لم يبق للعلا والمساعي من يقوم بها بعدهم. [الخزانة / ٢ / ١٥٤ ، وسيبويه / ١ / ٣١٩ ، والمقتضب / ٤ / ٢٥٧].

(١١) وأنت من الغوائل حين ترمى

ومن ذمّ الرجال بمنتزاح

لإبراهيم بن هرمة يرثي ابنه ، وقوله : منتزاح مصدر ميمي فعله انتزح. ينتزح ، أي : بعد ، وأنت بمنتزح من كذا ، أي : بعيد منه ، والشاهد «منتزاح» أصله «منتزح» لكنه لما اضطر لإقامة الوزن أشبع فتحة الزاي ، فنشأت عن هذا الإشباع ألف ، ولا يعجبني هذا القول في تعليل مجيء القافية على هذه الصورة ، فالشاعر لم يضطر إلى ذلك وزنا ، لأن الشاعر الفحل لا يعجز عن الإتيان بكلمة مناسبة لوزن بيته ، وتكون متمشية على سنن العربية ، ولو لا أن الشاعر سمع أهل الفصاحة يقولون الكلمة ما قالها بل إن ذوقه الأدبي هذاه إلى هذا الاستعمال ، فالشاعر حزين على فراق ولده ، وما من حزين إلا يمدّ صوته في أواخر الكلمات التي يندب بها الفقيد ، فهو لا يتصوّر نفسه واقفا على منبر يخطب الناس وإنما هو يبكي ، وقد اختار الشاعر مدّ فتحة الزاي ، ولم يختر مدّ كسرة الحاء ، لأن الفتحة التي صارت ألفا أرأف بحال الحزين ، حيث إنّ مدة الألف أرقّ من مدّة الياء.

أقول هذا : لأنّ النحويين سامحهم الله أكثروا من القول بلجوء الشعراء إلى الضرورات ، ليساير الشعر رأيهم الذي وضعوه في النحو ، فنسبوا فحول الشعراء إلى الخطأ ... وما دام هذا المدّ قد كثر في الشعر لماذا لم يجعلوه قاعدة مباحة ، بدلا من القول إنه من الضرورة الشعرية؟ وبذلك ندفع عن شعرنا هجمات الأعداء الذين قصّوا قوافي القصائد ولجؤوا إلى الشعر الحرّ ، ركونا إلى ما يقال : إن القافية تؤدي إلى الحشو ، والضرائر. [الإنصاف

٢٤٨

٢٥ ، والخصائص / ٢ / ٣١٦ ، والخزانة / ٧ / ٥٥٧].

(١٢) فتى ما ابن الأغرّ إذا شتونا

وحبّ الزاد في شهري قماح

قاله مالك بن خالد الهذلي ، وقوله : فتى ما ، معناه فتى أيّ فتى ، فما ، صفة لفتى ، وقوله : إذا شتونا ، لأن الشتاء عند العرب زمن القحط ، لهذا يكون الكرم نادرا وقوله : حبّ ـ بضم الحاء : فعل مدح مثل نعم ، وشهرا قماح ـ بضم القاف وكسرها هما كانون الأول ، وكانون الثاني ، آخر شهر وأول شهر من السنة الشمسية ، والشاهد : «فتى ما ، ابن الأغرّ» تقدم فيها الخبر «فتى» على المبتدأ (ابن الأغرّ) ولا يصح جعل «فتى» مبتدأ ، لأنه نكرة ، وابن الأغرّ معرفة ، وأصل الكلام «ابن الأغر فتى ما إذا شتونا». [الإنصاف / ٦٦ ، واللسان «قمح» ، وأشعار الهذليين / ٣ / ٥].

(١٣) إنّ السّماحة والمروءة ضمّنا

قبرا بمرو على الطريق الواضح

البيت من شعر زياد الأعجم ، من قصيدة يرثي بها المغيرة بن المهلب بن أبي صفرة ، ومرو : أشهر مدن خراسان.

والشاهد فيه : قوله «ضمنا» فإنّ ضمّن : فعل ماض مسند إلى ضمير المؤنث وهو الألف العائدة إلى السماحة والمروءة ، وكان من حقه أن يؤنث هذا الفعل فيقول : ضمّنتا ، لأن كل فعل أسند إلى ضمير مؤنث يجب تأنيثه ، فترك الشاعر في هذا البيت تأنيث الفعل ، وذلك شاذّ لا يقاس عليه وربما أعاد الضمير إلى مضاف محذوف تقديره : إن خلق السماحة وخلق المروءة. [الإنصاف / ٧٦٣ ، والشذور / ١٦٩ ، والعيني / ٢ / ٥٠٢].

(١٤) أخاك أخاك إنّ من لا أخا له

كساع إلى الهيجا بغير سلاح

البيت منسوب إلى إبراهيم بن هرمة ، أو لمسكين الدارمي.

أخاك : الأولى : مفعول به لفعل محذوف وجوبا تقديره الزم أخاك ، والثانية : توكيد للأولى ، لا أخا له : لا نافية للجنس ، أخا : اسمها مبني على فتح مقدر على الألف ، خبره (له) الجار والمجرور ، والشاهد : (أخاك أخاك) فإنّ الشاعر ذكرهما على سبيل الإغراء ، وهذا من النوع الذي يجب معه حذف العامل ، لأنه كرر اللفظ المغرى به. [سيبويه / ١ / ١٢٩ ، والشذور / ٢٢٢ ، والهمع / ١ / ١٧٠ ، والخزانة / ٣ / ٦٥].

٢٤٩

(١٥) سأترك منزلي لبني تميم

وألحق بالحجاز فأستريحا

هذا البيت للشاعر المغيرة بن حبناء ، وحبناء أمه : كنى بتركه منزله لبني تميم عن أنهم لا يحافظون على حرمة جارهم ، ولا يرعون حقوقه.

والشاهد : قوله «فأستريحا» حيث نصب المضارع ، الذي هو «أستريح» بعد فاء السببية ، مع أنها ليست مسبوقة بطلب أو نفي ، وذلك ضرورة في الشعر ، وقد يروى البيت «لأستريحا» ولا ضرورة فيه حينئذ. [سيبويه / ٤ / ٢٣ ، والمفصل / ١ / ٢٧٩ ، والشذور / ٢٢٢ ، والهمع / ١ / ٧٧ ، وج ٢ / ١٠ ، ١٦ ، والأشموني / ٣ / ٣٠٥ ، وشرح المغني / ٤ / ١١٤ ، والخزانة / ٨ / ٥٢٢].

(١٦) يا ناق سيري عنقا فسيحا

إلى سليمان فنستريحا

البيت لأبي النجم العجلي ، واسمه الفضل بن قدامة ، وقوله : ناق ، مرخّم ناقة ، عنقا : بفتح العين والنون ، ضرب من السير السريع. فسيحا : واسع الخطى ، سليمان : هو سليمان بن عبد الملك ، يأمر ناقته أن تسرع السير به حتى يصل إلى ممدوحه ، ليعطيه العطاء الجزل. يا ناق : منادى مرخم مبني على الضم في محل نصب ... عنقا : مفعول مطلق مبيّن للنوع وأصله صفة لموصوف محذوف وتقدير الكلام سيري سيرا عنقا.

والشاهد : قوله فنستريحا ، حيث نصب المضارع الذي هو نستريح بأن مضمرة وجوبا ، بعد فاء السببية الواقعة في جواب الأمر (سيري). [سيبويه / ١ / ٤٢١ ، وشرح المفصل / ٧ / ٢٦ ، والشذور / ٣٠٥ ، والهمع / ١ / ١٨٢ ، والأشموني / ٣ / ٣٠٢].

(١٧) فكلتاهما قد خطّ لي في صحيفة

فلا العيش أهواه ولا الموت أروح

الشاهد : كلتاهما قد خطّ ، حيث أعاد الضمير إلى كلتاهما مفردا في قوله «قد خطّ» فدلّ ذلك على أن لكلتا جهة إفراد ، وهي جهة لفظه ، لأنه من جهة المعنى ، مثنى باتفاق العلماء ، وكان على الشاعر أن يقول «قد خطت» بتاء التأنيث ، لأن الفاعل ضمير يعود على «كلتاهما» المؤنثة اللفظ. [الإنصاف / ٤٤٦].

(١٨) بدت مثل قرن الشّمس في رونق الضّحى

وصورتها أو أنت في العين أملح

بدت : أي : ظهرت ، وقرن الشمس : أولها عند طلوعها ، أو أول شعاعها ورونق الضحى : أوله ، والشاهد : أو أنت أملح ، فقد استدل الكوفيون بهذا البيت على أن «أو»

٢٥٠

بمعنى «بل» فكأنّ الشاعر قال (بدت مثل) ثم رأى أنها أعلى من ذلك ، فأضرب عما قال أولا ، فقال : بل أنت أملح ، والمعنى يطلب ما قال الكوفيّون. [الخزانة / ١١ / ٦٥ ، الإنصاف / ٤٧٨ ، وديوان ذي الرمة / ٨٥٧].

(١٩) ربع عفاه الدهر طولا فانمحى

قد كاد من طول البلى أن يمصحا

منسوب إلى رؤبة بن العجاج ، والربع : المنزل ، ويروى «رسم» ، وهو ما بقي من آثار الديار ، وعفا : درس ، وقوله : عفاه ، يكون الفعل متعديا ، مثل محاه يمحوه ، وقوله : يمصح : أي : يذهب. والشاهد قوله : أن يمصحا حيث اقترن المضارع الواقع خبرا لكاد بأن المصدرية ، ومذهب سيبويه أنّ الأكثر بدون (أن) وأن ما جاء مقرونا بأن ، ضرورة شعرية ، وتشبيها بعسى ، وسيبويه صادق في حدود ما وصل إليه من النصوص ، ولكن اقتران خبر كاد بأن كثير ومنه في الحديث الشريف ، في شأن أمية بن أبي الصلت «كاد أن يسلم» وفي حديث عمر «ما كدت أن أصلي العصر حتى كادت الشمس أن تغرب» ، وأما الشعر فهو كثير. [الإنصاف / ٥٦٦ ، وشرح المفصل / ٧ / ١٢١ ، والخزانة / ٩ / ٣٤٧].

(٢٠) يا ليت بعلك قد غدا

متقلّدا سيفا ورمحا

البيت لعبد الله بن الزّبعري ، والشاهد : «متقلدا سيفا ورمحا» ، فعطف «رمحا» على «سيفا» والرمح لا يتقلد ، فلا يقال : تقلّد فلان رمحه ، والتخريج في مثل هذا : أن ينصب «رمحا» بفعل مقدر مناسب ، أو يتضمن العامل الأول «متقلد» معنى يصلح تسليطه على المعطوف. [الإنصاف / ٦١٢ ، وشرح المفصل / ٢ / ٥٠ ، والهمع / ٢ / ٥١ ، والأشموني / ٢ / ١٧٢ ، والخصائص / ٢ / ٤٣١].

(٢١) أبت لي عفّتي وأبى بلائي

وأخذي الحمد بالثمن الربيح

وإمساكي على المكروه نفسي

وضربي هامة البطل المشيح

وقولي كلّما جشأت وجاشت

مكانك تحمدي أو تستريحي

لأدفع عن مآثر صالحات

وأحمي بعد عن عرض صحيح

الأبيات للشاعر عمرو بن الإطنابة ، والإطنابة اسم أمه ، وهو عمرو بن زيد مناة ، والشاهد في البيت الثالث ، يخاطب الشاعر نفسه ، ويقول لها اثبتي عند الخوف في المعركة ، و «مكانك» اسم فعل أمر ، و «تحمدي» مضارع مجزوم في جواب الأمر ، مع أنه

٢٥١

مدلول عليه بصيغة اسم الفعل. [المفصل / ٤ / ٧٤ ، والشذور / ٣٣٥ ، وشرح أبيات المغني / ٤ / ٢٤٣ ، والهمع / ٢ / ١٣ ، والأشموني / ٣ / ٣١٢].

(٢٢) نحن اللذون صبّحوا الصّباحا

يوم النّخيل غارة ملحاحا

البيت منسوب إلى عدد من الشعراء ، ولم يتفقوا أو يرجحوا واحدا منهم. وقوله : صبّحوا الصباحا ، معناه : جاؤوا بعددهم وعددهم في وقت الصباح مباغتين للعدو. والنّخيل : بالتصغير اسم مكان ، لعله شرق المدينة النبوية على بعد مائة كيل.

والصباحا : تعرب ظرف زمان. غارة : مفعول لأجله ويجوز أن يكون حالا بتأويل المشتق ، أي : مغيرين. وملحاحا : مأخوذ من قولهم : ألحّ المطر ، إذا دام وأراد أنها غارة شديدة تدوم طويلا. والشاهد «اللذون» حيث جاء به بالواو في حالة الرفع ، ولكنه لا يكون معربا بالواو ، وإنما يكون مبنيا على هذه الصورة كما يبنى على صورته بالياء والنون ، ولم أعرف من الذي سمعه من فصحاء البادية ، بهذه الصورة. [الأشموني / ١ / ١٤٩ ، وشرح أبيات المغني / ٦ / ٢٥٣ ، والخزانة / ٦ / ٢٣].

(٢٣) وقد كنت تخفي حبّ سمراء حقبة

فبح لان منها بالذي أنت بائح

البيت لعنترة بن شداد ، وقوله : لان : أي : الآن. فحذف همزة الوصل والهمزة التي بعد اللام ، ثم فتح اللام لمناسبة الألف. وقيل : هي لغة في (الآن).

والشاهد : قوله : (بالذي أنت بائح) حيث استساغ الشاعر حذف العائد على الاسم الموصول من جملة الصلة ، لكونه مجرورا بمثل الحرف الذي جرّ الموصول وهو الباء. والعامل في الموصول متحد مع العامل في العائد مادة ، الأول : «بح» ، والثاني : (بائح) ومعنى : لأنهما جميعا من البوح ، بمعنى الإظهار والإعلان. [الخصائص / ٣ / ٩٠ ، والأشموني / ١ / ٩٣ ، والعيني / ١ / ٤٧٨].

(٢٤) هلّا سألت النّبيتيّين ما حسبي

عند الشتاء إذا ما هبّت الريح

وردّ جازرهم حزما مصرّمة

في الرأس منها وفي الأصلاء تمليح

إذا اللّقاح غدت ملقى أصرّتها

ولا كريم من الولدان مصبوح

هذه الأبيات لرجل من بني النّبيت بن مالك ـ من اليمن ـ وكان قد اجتمع هو وحاتم والنابغة الذبياني عند امرأة يقال لها «ماوية» يخطبونها ، فآثرت حاتما عليهما ... والرجل

٢٥٢

يفخر بقومه حين الجدب ، حيث يكونون كرماء. والشاهد في البيت الثالث. وقوله : اللقاح : النوق الحلوب. أصرّتها : جمع صرار ، وهو خيط يشدّ بها رأس الضرع لئلا يرضعها ولدها ، وإنما تلقى الأصرة حين لا يكون فيها درّ في سنيّ القحط ، وقوله : مصبوح : شرب اللبن في الصباح.

إذا : أداة شرط ، اللقاح : اسم للفعل «غدت» المحذوف ، فعل الشرط يدل عليه المذكور بعده ، وخبره محذوف يدل عليه ما بعده والتقدير : إذا غدت اللقاح ملقى أصرّتها. وغدت الثانية : فعل ناقص واسمها مستتر. وملقى : خبره وهو اسم مفعول. وأصرّتها : نائب فاعل لـ ملقى.

لا : نافية للجنس ، كريم : اسمها مبني على الفتح ، من الولدان : جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لكريم. مصبوح : خبر لا.

والشاهد فيه : ذكر خبر لا النافية ، لكونه ليس يعلم إذا حذف ، وقد يحذف إذا دلّ عليه دليل ، كقولهم : لا بأس ـ ولا ضير. [شرح المفصل / ١ / ١٠٧ ، والخزانة / ٤ / ٢١٧].

(٢٥) إذا سايرت أسماء يوما ظعينة

فأسماء من تلك الظعينة أملح

هذا البيت لجرير ، وقوله : سايرت : جارت وباهت ، الظعينة : أصله الهودج تكون فيه المرأة ، ثم نقل إلى المرأة في الهودج بعلاقة الحالّية والمحلّية ، ثم أطلقوه على المرأة مطلقا ، راكبة أو غير راكبة.

والشاهد «من تلك .. أملح» حيث قدم الجار والمجرور ، على أفعل التفضيل (أملح) في غير الاستفهام ، وذلك شاذ ، لأن أفعل التفضيل إذا كان مجردا من (أل والإضافة) جيء بعده بـ (من) جارة للمفضّل عليه ، نحو «زيد أفضل من عمرو» ، ولا يتقدم الجار والمجرور على اسم التفضيل إلا إذا كان المجرور اسم استفهام نحو «ممن أنت خير»؟. [الأشموني / ٣ / ٥٢ ، والتصريح / ٢ / ١٠٣].

(٢٦) ولو أنّ ليلى الأخيلية سلّمت

عليّ ودوني جندل وصفائح

لسلّمت تسليم البشاشة أو زقا

إليها صدى من جانب القبر صائح

البيتان لتوبة بن الحميّر ، صاحب ليلى الأخيلية. والجندل : الحجر. والصفائح : الحجارة العراض التي تكون على القبور. زقا : صاح. الصدى : ذكر البوم ، أو ما تسمعه

٢٥٣

في الجبال كترديد لصوتك. يريد : أن ليلى الأخيلية لو سلّمت عليه بعد موته وهو في القبر ، لسلّم عليها أو لناب عنه في تحيتها صدى يصيح من جانب القبر.

والشاهد : وقوع الفعل المستقبل في معناه بعد «لو» وهذا قليل ، وهو مستقبل وإن كان معناه ماضيا ، لأنه لم يمت بعد. وقوله : ولو أن ليلى .. أن واسمها وخبرها ، والمصدر المؤوّل : إمّا مبتدأ خبره محذوف ، أو فاعل لفعل محذوف ، تقديره : لو ثبت. [شرح المغني / ٥ / ٣٩ ، والهمع / ٢ / ٦٤ ، والأشموني / ٤ / ٣٨].

(٢٧) الآن بعد لجاجتي تلحونني

هلّا التقدّم والقلوب صحاح

البيت مجهول القائل يقول : أبعد لجاجتي وغضبي وامتلاء قلوبنا بالحقد تلومونني ، وتتقدمون إليّ بطلب الصلح وغفران ما قدمتم من الإساءة. وهلا كان ذلك منكم قبل أن تمتلىء القلوب إحنة ، وتحمل الضغينة عليكم بسبب سوء عملكم.

والشاهد : قوله : هلّا التقدّم ، حيث ولي أداة التحضيض اسم مرفوع ، فيجعل هنا فاعلا لفعل محذوف ، لأنّ أدوات التحضيض مخصوصة بالدخول على الأفعال وهذا الفعل ليس في الكلام فعل آخر يدلّ عليه ... ومثل هذا البيت ، بيت في حرف «التاء» «إلا رجلا ... تبيت» ، في بعض تخريجاته. [العيني / ٤ / ٤٧٤ ، وابن عقيل / ٣ / ١١٦].

(٢٨) وضيف جاءنا والليل داج

وريح القرّ تحفز منه روحا

فطرت بمنصلي في يعملات

خفاف الأيد يخبطن السّريحا

البيتان للشاعر مضرّس بن ربعي الأسدي ، يفخر بكرمه. قوله : وضيف الواو : واو ربّ ، وجملة جاءنا صفة ، وجملة والليل داج : حال ، وجملة ريح القرّ : معطوفة على جملة الحال ، والقرّ : البرد ، وتحفز : تدفع ، كأنّ هذا الضيف لما قاسى من شدة البرد ضعفت روحه ، فصارت ريح القرّ ، تدفع روحه من جثته لتخرجها منه. وقوله : فطرت : الجملة معطوفة على جواب ربّ المحذوف ، أي : وربّ ضيف جاءنا ، تلقيته بالإكرام ، والمنصل : السيف ، اليعملات : بفتح أوله وثالثه ، جمع يعمله ، وهي الناقة القوية على العمل. وخفاف : جمع خفيفة ويروى (دوامي الأيدي) دميت أيديها من شدة السير ووطئها على الحجارة ، ويخبطن السريحا : أي : يطأن بأخفافهنّ الأرض ، وفي الأخفاف السريح وهي خرق تلفّ بها أيدي الإبل إذا دميت وأصابها وجع ، وقوله : بمنصلي : في موضع الحال

٢٥٤

من (التاء) ، أي : أسرعت ومعي سيفي ، وأقبلت على اليعملات فعقرت ناقة منها ، وأطعمت لحمها لضيفي ، يريد أنه نحر لضيفه راحلة من رواحله وهو مسافر مع احتياجه لهنّ.

والشاهد في البيت الثاني : حذف الياء من (الأيدي) لضرورة الشعر واكتفى بالكسرة الدالة عليها ، ويروى : خفاف الوطء ولا حذف فيه. [سيبويه / ١ / ٩ ، و ٢ / ٢٩١ ، والإنصاف ٥٤٥ ، وشرح المغني ٤ / ٣٣٦].

(٢٩) تغيّرت البلاد ومن عليها

فوجه الأرض مغبرّ قبيح

تغيّر كلّ ذي طعم ولون

وقلّ بشاشة الوجه المليح

هذان البيتان منسوبان إلى أبينا آدم عليه‌السلام ، وقد يكون قالهما ، ولكن ليس بلفظهما ، وإنما قال معناهما ، أو أن الشاعر ترجم عن حال آدم عليه‌السلام عند ما قتل قابيل أخاه هابيل ، أما واضع لفظ البيتين فهو من المتقدمين ، وقد يكون من أهل القرن الثاني الهجري ، وفي النصف الثاني على وجه التحديد ، عند ما بدأت مسائل النحو في الظهور ، وبدأ الصراع بين الآراء. ولأنّ البيتين ذكرا في قصة بمجلس ابن دريد ، المتوفى سنة ٣٢٥ ه‍ ، وكان أبو بكر ابن دريد يحفظهما ، وقد أنشدهما واحد ممن يحضر مجلسه ، فشيوع البيتين في أيام ابن دريد دليل على أنّ واضعهما متقدم.

والشاهد : وقلّ بشاشة بنصب «بشاشة» دون تنوين ، حيث حذف التنوين لالتقاء الساكنين ، لا للإضافة. وبشاشة : نكرة منتصبة على التمييز. والوجه : مرفوع ، فاعل «قلّ» والمليح : بالرفع صفة الوجه ، ومنهم من يرفع «بشاشة» مضافة إلى الوجه ، وتكون فاعل «قلّ» والمليح : مجرور ، ويكون في البيت إقواء ، والرواية للشاهد ، على نصب «بشاشة». [الإنصاف / ٦٦٢ ، والهمع / ٢ / ١٥٦].

(٣٠) فما حسن أن يمدح المرء نفسه

ولكنّ أخلاقا تذمّ وتمدح

قال في كتاب «الجمل» وإذا قدموا خبر «ما» كان في تقديم الخبر رفع ونصب ، فالرفع على الابتداء ، وخبره ، والنصب على تحسين الباء ، (كذا) وذكر البيت ، قال : «وينصب».

(٣١) دامنّ سعدك لو رحمت متيّما

لولاك لم يك للصبابة جانحا

البيت مجهول القائل ، والمتيّم : الذي جعله الحب تيما وهو العبد ، والصبابة : الشوق ،

٢٥٥

وقيل : رقته ، وجانحا : مائلا ، ولو : للتمني ، وقيل : للشرط وجوابها محذوف ، يدل عليه ما قبلها.

والشاهد في البيت : تأكيد الفعل الماضي بنون التوكيد ، وهو شاذ ، وهو من الضرائر الشعرية ، وجملة دامنّ سعدك : دعائية ، والمعنى : ليدم سعدك. [الهمع / ٢ / ٧٨ ، والأشموني / ٣ / ٢١٣ ، وشرح أبيات المغني / ٦ / ٤٣].

(٣٢) لئن كانت الدنيا عليّ كما أرى

تباريح من ليلى فللموت أروح

البيت للشاعر ذي الرّمة ، والتباريح : العذاب والمشقة ، ويذكرون البيت شاهدا على زيادة لام القسم قبل أداة الشرط (إن) والجواب (فللموت أروح) يكون للشرط ، لأنه جاء مقرونا بالفاء والمذهب السائد أنه إذا اجتمع قسم وشرط ، يكون الجواب للسابق ، وأقرب ما قيل : مذهب ابن مالك ، بجواز الاستغناء بجواب الشرط مع تأخره وتبقى اللام للقسم. [شرح أبيات مغني اللبيب ج ٤ / ٣٦٦ ، وديوان الشاعر / ١٢١٢].

(٣٣) أتقرح أكباد المحبّين كالذي

أرى كبدي من حبّ ميّة تقرح

البيت للشاعر ذي الرّمة ، ومعنى «تقرح» تضعف ، وقد ذكر ابن هشام هذا البيت شاهدا على أن أحد النحويين يرى أنّ (الذي) في البيت بمعنى (أن) وأنّ (أن) تأتي بمعنى الذي ويكون المعنى كرؤية كبدي تقرح ، ومع قبول المعنى ، فإنه يكون مقبولا أيضا قولنا : مثل الذي أرى كبدي تقرح. [ديوان ذي الرّمة / ١١٩٤ ، وفيه (.. المحبين كلهم .. كما كبدي من ..) فلا شاهد فيه وشرح أبيات المغني / ٧ / ١٧٥].

(٣٤) رأيت رجالا يكرهون بناتهم

وفيهنّ ـ لا تكذب ـ نساء صوالح

وفيهنّ ـ والأيام يعثرن بالفتى ـ

عوائد لا يمللنه ونوائح

البيتان للشاعر معن بن أوس المزني ؛ مخضرم عاش حتى أيام ابن الزبير ، وقوله في البيت الأول ـ لا تكذب ـ لا : ناهية ، وتكذب ، بالبناء للمجهول ، ومعناه «لا يقل لك كذبا» ، أي : لا تسمع كذبا فيكذبوا في القول عندك. وجملة ـ لا تكذب ـ معترضة بين المبتدأ والخبر (وفيهن نساء).

وعوائد : جمع عائدة من عيادة المريض. وقد ذكر ابن هشام البيت الثاني شاهدا على

٢٥٦

أنّ جملة «والأيام يعثرن بالفتى» معترضة بين المبتدأ والخبر. [الهمع / ١ / ٢٤٧ ، وشرح أبيات المغني / ٦ / ١٨٦].

(٣٥) فلا ، وأبي دهماء ، زالت عزيزة

على قومها ما فتّل الزّند قادح

البيت مجهول القائل ، ودهماء : اسم امرأة. وذكره ابن هشام شاهدا على اعتراض الجملة القسمية (وأبي دهماء) بين «لا» وبين «زالت». والأصل «فو أبي دهماء لا زالت عزيزة» وأحسن منه أن نقول إن «لا» التي تسبق «زال» محذوفة ، كما في قوله تعالى : (تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ) [يوسف : ٨٥] ، ويؤيّد هذا التفسير رواية أخرى للبيت هي «لعمر أبي دهماء زالت عزيزة» ، وعلى هذا تكون «لا» في أول البيت ، لردّ شيء ذكر قبلها ، أي : فليس الأمر كذلك ، وأبي دهماء. كما قيل في قوله تعالى : (لا ، أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) [القيامة : ١] على أنّ «لا» لنفي كلام سابق ، وجملة «لا زالت» في البيت ، جواب القسم. و (ما) من قول «ما فتّل» مصدرية ظرفية ، يريد بها استمرار الحدث ، وقد بقي هذا المصدر الظرفي مستمرا حتى أيامنا هذه ، مع أنه متعلق ببعض العادات البائدة ، إلا أنّ هذه العادة رجعت مع الحضارة في صورة القدّاحة. [الخزانة / ٩ / ٢٣٧ ، شرح أبيات المغني / ٦ / ٢٢٣ ، والهمع / ٢ / ١٥٦].

(٣٦) لزمنا لدن سالمتمونا وفاقكم

فلا يك منكم للخلاف جنوح

البيت مجهول القائل ، وفيه شاهد على أنّ «لدن» مضاف إلى الجملة الفعلية ، و «وفاقكم» مفعول «لزمنا» والجنوح : الميل. [شرح أبيات مغني اللبيب / ٦ / ٢٨٦].

(٣٧) تركت بنا لوحا ولو شئت جادنا

بعيد الكرى ثلج بكرمان ناصح

البيت لجرير بن عطية من قصيدة يمدح بها عبد العزيز بن مروان ، واللوح : العطش ، فعله لاح يلوح ، وجادنا : أروانا ، بعيد : تصغير لتقريب الزمن ، وشبه ريقها بالثلج وأضافه إلى كرمان ، لأنّ ثلجه كثير لا ينقطع عنه ، ناصح : خالص ، صفة للثلج ، يعني : أن ريقها يوجد باردا كالثلج عقب النوم بلا فاصلة ، وهذا غاية في اعتدال المزاج ، لأن الريق ورائحة الفم يتغيران في النوم ، والشاهد في البيت (جادنا بعيد الكرى ثلج) حيث نقل ابن هشام أنّ الظرف «بعيد» لا يتعلق بالفعل «جاد» لضعفه في المعنى. وقالوا : ربما يكون الظرف متعلقا بـ «ثلج» لما فيه من معنى الفعل وهو وإن كان جامدا فإن فيه معنى «بارد» ،

٢٥٧

وهو تكلّف لا يغني ، والأحسن منه أن يضمن الفعل جاد معنى «سقى» ويكون المعنى «سقانا بعيد الكرى». [شرح أبيات المغني / ٧ / ١٥٣ ، والخزانة / ٥ / ٢٦٧].

(٣٨) ليبك يزيد ضارع لخصومة

ومختبط مما تطيح الطّوائح

البيت للشاعر نهشل بن حرّي من قصيدة رثى بها يزيد بن نهشل ، والشاعر إسلامي عاصر الفرزدق وجريرا ، والضارع : الذليل ، والمختبط : طالب الحاجة من غير وسيلة لها.

تطيح : تهلك ، والطوائح : الدواهي ، والمعنى : يبكي عليه اثنان ، مظلوم وطالب حاجة. والخلاف جار في «ليبك» أما من بناه للمعلوم ، أعرب «ضارع» فاعلا ويزيد : مفعول به مقدم ، ومن بناه للمجهول : جعل «ضارع» فاعلا لفعل محذوف ، يزيد : نائب فاعل للفعل «يبكى».

والرواية الأولى هي الأصح عند أهل الرواية ، والرواية الثانية من تصحيفات النحويين. [سيبويه / ١ / ١٤٥ ، والهمع / ١ / ١٦٠ ، والأشموني / ٢ / ٤٩ ، والخزانة / ١ / ٣٠٣].

(٣٩) وكان سيّان أن لا يسرحوا نعما

أو يسرحوه بها واغبرّت السّوح

البيت من قصيدة لأبي ذؤيب الهذلي ، يرثي صديقا. وقوله : سيّان ؛ مثنى «سيّ» بالكسر ، بمعنى «مثل» ، وسرحت الإبل. رعت بنفسها ، وسرحتها : يتعدى ، ولا يتعدى ، والنّعم : الإبل ، وهو جمع لا واحد له من لفظه ، وقوله : (بها) الضمير يعود على السنة المجدبة ، أو على البقعة التي يصفها بالجدب في القصيدة. واغبرّت : اسودّت في عين من يراها ، والسوح : جمع ساحة. والواو : للحال ، و «قد» مقدّرة ، أي : وقد اغبرت السوح. وسيّان : مبتدأ : خبره المصدر المؤول «أن لا يسرحوا» أو «سيّان» خبر ، والمبتدأ ... المصدر المؤول ، وهو الأقوى في المعنى ، لأنّ قصده الإخبار عن السرح وعدمه بأنهما سيّان ، وليس المراد الإخبار عن سيّين بأنهما السّرح وعدمه.

والشاهد في البيت : أنّ «أو» في البيت بمعنى الواو ، أي : لمطلق الجمع لأن سواء ، وسيين يطلبان شيئين ، فلو جعلت (أو) لأحد الشيئين ـ كما هو معناها الأصلي ـ لكان المعنى : سيّان أحدهما ، وهذا مستحيل. والذي حسّن استخدام «أو» بمعنى الواو ، لأننا نقول : «اقرأ الفقه أو الحديث». ويجوز الجمع بينهما ، فيقرأ العلمين معا. [الخزانة / ٥ / ١٣٤ ، وشرح أبيات المغني / ٢ / ٣٠ ، وشرح المفصل / ٢ / ٨٦ ، وج ٨ / ٩١ وشعر الهذليين / ١ / ١٩٧].

٢٥٨

(٤٠) نهيتك عن طلابك أمّ عمرو

بعاقبة وأنت إذ صحيح

البيت لأبي ذؤيب الهذلي ، يخاطب قلبه ، ويذكّره بما كان من وعظه له في ابتداء الأمر ، وزجره من قبل استحكام الحبّ ، فيقول : دفعتك عن طلب هذه المرأة بعاقبة ، أي : بآخر ما وصيتك به.

وقد ذكر ابن هشام هذا البيت شاهدا على أن الأخفش قال : الأصل في «إذ» في البيت «حينئذ» فحذف (حين) المضاف وبقي الجرّ.

ولكن ابن جني ، قال في «سرّ الصناعة» (إذ) في البيت مبنية ، وكذلك شأنها عند ما تكون مركّبة من (حينئذ) فالسكون هنا لالتقاء الساكنين ، سكون الذال ، وسكون العوض من الجملة التي حذفت بعدها. [الخزانة / ٦ / ٥٣٩ ، وشرح المفصل / ٣ / ٢٩ ، وج ٩ / ٣١ ، وشرح أبيات المغني / ٢ / ١٩٨ ، والأشموني / ١ / ٥٦].

(٤١) فقد والله بيّن لي عنائي

بوشك فراقهم صرد يصيح

لم يعرف قائل البيت ، وقوله : عنائي : العناء الحبس في شدة وذلّ ، يقال : عنا الرجل يعنو ، عنّوا وعناء ، إذا ذلّ لك ، وعنّيته أعنّيه ، تعنية : إذا أسرته فحبسته مضيقا عليه ، قال عليه‌السلام «اتقوا الله في النساء ، فإنهن عندكم عوان» ، أي : كالأسرى ، وقوله : بوشك فراقهم ، الباء : متعلقة بـ «يصيح» ووشك البين : سرعة الفراق ، والصّرد : بضم الصاد وفتح الراء : وهو طائر أبقع يكون في الشجر ، نصفه أبيض ونصفه أسود ، ضخم المنقار ، له برثن عظيم ، ولا تراه إلا في شعبة أو شجرة ، لا يقدر عليه أحد. وكان من عادة العرب في الجاهلية التشاؤم بأصوات الطيور ، كالغراب والبوم ، والصّرد. وقد نهى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قتل أربع : «النملة ، والنحلة ، والصّرد والهدهد» ونهى عن قتل الصّرد ، لأن العرب كانت تطيّر بصوته وهو الواقي عندهم فنهي عن قتله ردّا للطيرة.

والشاهد في البيت : الفصل بين (قد) الحرفية والفعل «بيّن» بالقسم ، وهي في الأصل مع الفعل كالجزء لا تفصل عنه إلا بالقسم. [شرح أبيات المغني / ٤ / ٨٩ ، والخصائص / ١ / ٣٣٠ ، ج ٢ / ٣٩٠].

(٤٢) يا بؤس للحرب التي

وضعت أراهط فاستراحوا

البيت من قطعة للشاعر سعد بن مالك ، جدّ طرفة بن العبد ، وهي الحماسية ١٦٧ ،

٢٥٩

يقولها الشاعر بمناسبة حرب البسوس ، يعرّض بقعود الحارث بن عباد عن الحرب ، فإن الحارث كان قد اعتزل الحرب مع قومه حين هاجت بين بكر وتغلب ، لقتل كليب. قال المرزوقي : ومعنى البيت أنه على وجه التعجب ، دعا بؤس الحرب التي حطت أراهط فأذلتهم حتى استسلموا للأعداء وحالفوا الراحة وآثروا السلامة. وهذا الكلام فيه مع القصد إلى التعجب تهكم وتعيير كأنه أراد : ما أبأس الحرب التي فعلت ذلك ، وقوله : فاستراحوا ، فيه تهكم وبيان لاستغنامهم ذلك وميلهم إليه.

والشاهد في البيت على أن اللام في قوله (يا بؤس للحرب) مقحمة بين المتضايفين لتوكيد الاختصاص. [حماسة / ٥٠٠ ، وسيبويه / ١ / ٣١٥ ، وشرح المفصل / ٢ / ١٠ ، ١٠٥].

(٤٣) من صدّ عن نيرانها

فأنا ابن قيس لا براح

البيت للشاعر سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس ، شاعر جاهلي ، وهو يفخر بخوضه الحرب. وقوله : لا براح ، مصدر برح الشيء براحا إذا زال من مكانه. والشاهد في قوله (لا براح) على أنّ «لا» هنا عاملة عمل ليس ، وبراح : اسمها والخبر محذوف تقديره : لي ، ولم يقدروها مهملة والرفع بالابتداء ، لأنها إذا أهملت ، واجبة التكرار ، قالوا : ويجوز ترك التكرار في الشعر ، وجملة «لا براح» حال مؤكدة لقوله «أنا ابن قيس» كأنه قال : أنا ابن قيس ثابتا في الحرب ، وإتيان الحال بعد «أنا ابن فلان» كثير ، كقوله : أنا ابن دارة معروفا بها نسبي» وقيل الجملة في محل رفع خبر بعد خبر ، ويجوز نصب «ابن قيس» على الاختصاص ، فيتعين جملة (لا براح) كونها خبرا لأنا ، وهو أفخر وأمدح. [سيبويه / ١ / ٢٨ ، ٣٥٤ ، والإنصاف / ٣٦٧ ، وشرح المفصل / ١ / ١٠٨ ، والخزانة / ١ / ٤٦٧ ، وج ٤ / ٣٩ ، وشرح أبيات المغني / ٤ / ٣٧٦ ، والأشموني ج ١ / ٢٥٤ ، والهمع / ١ / ١٢٥ ، والحماسة / ٥٠٦].

(٤٤) ما باله لاحظته فتضرّجت

وجناته وفؤادي المجروح

ورمى وما رمتا يداه فصابني

سهم يعذّب والسهام تريح

البيتان للمتنبي من قصيدة مدح بها مساور بن محمد الرومي. يقول في البيت الأول :

إن فؤادي هو المجروح بنظره إليه ، فما بال وجناته تضرّجت بالدم.

والشاهد في البيت الثاني ، على أن الألف في «رمتا» حرف يدل على اثنين. ويداه

٢٦٠