روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان - ج ٢

زين الدين بن علي العاملي [ الشهيد الثاني ]

روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان - ج ٢

المؤلف:

زين الدين بن علي العاملي [ الشهيد الثاني ]


المحقق: مركز الأبحاث والدراسات الإسلاميّة
الموضوع : الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-024-6
الصفحات: ٧١٦
الجزء ١ الجزء ٢

الرواية (١) ، مع احتمال إرادة فوات الصلاة بأسرها ، محافظةً على تحصيل فضيلة الأذان (اقتصر) من فصول الأذان (على التكبيرتين) الأخيرتين (وقد قامت) الصلاة ، مرّتين قبل التكبيرتين إلى آخر الإقامة.

والمستند رواية معاذ بن كثير عن الصادق عليه‌السلام قال : «إذا دخل الرجل المسجد وهو لا يأتمّ بصاحبه وقد بقي على الإمام آية أو آيتان فخشي إن هو أذّن وأقام أن يركع ، فليقل : قد قامت الصلاة ، قد قامت الصلاة ، الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله ، وليدخل في الصلاة» (٢).

ومن هذه الرواية التي هي مستند الحكم يعلم قصور العبارة عن تأدية المسألة في مواضع أظهرها : إيهام العبارة كون التكبيرتين قبل «قد قامت» وأنّه يقتصر على الفصلين. والاعتذار له عن الأوّل بأنّ الواو لا تدلّ على الترتيب فيجوز معها كون «قد قامت» قبل التكبير ، لكنّ النكتة في تقديم التكبير مفقودة ، كما أنّ الإخلال بذكر التهليل أيضاً غير جيّد.

وقد ظهر من الرواية أنّ المراد فوات الركوع لا الصلاة ، وقد عبّر بخوف فوات الصلاة جماعة من الأصحاب منهم : الشهيد في الذكرى (٣).

(ويأتي بما يتركه) المؤذّن أيضاً من التهليل والتكبير الأخير إقامةً لشعار الإيمان وتوطيناً للنفس عليه بحسب الإمكان.

وفي هذه الفتوى وما يستند إليه من الروايات دلالة على عدم الاجتزاء بأذان المخالف ، ويؤيّدها قول الصادق عليه‌السلام : «لا يستقيم الأذان ولا يجوز أن يؤذّن به إلا رجل مسلم عارف ، فإن علم الأذان فأذّن به ولم يكن عارفاً لم يجز أذانه ولا إقامته ولا يقتدى به» (٤).

والظاهر أنّ المراد بالمعرفة الإيمان ، كما هي مستعملة فيه في مواضع ، ولا كلام في ذلك مع نقصه من الفصول ، كما هو الغالب ، إنّما الكلام مع إتيانه بجميعها ، فيكون المانع

__________________

(١) ستأتي الرواية.

(٢) الكافي ٣ : ٣٠٦ / ٢٢ ؛ التهذيب ٢ : ٢٨١ / ١١١٦.

(٣) الذكرى ٣ : ٢٢٨.

(٤) الكافي ٣ : ٣٠٤ / ١٣ ؛ التهذيب ٢ : ٢٧٧ / ١١٠١.

٢٠١

كونه مخالفاً.

لكن روى ابن سنان عنه عليه‌السلام «إذا أذّن مؤذّن فنقص الأذان وأنت تريد أن تصلّي بأذانه فأتمّ ما نقص هو من أذانه» (١).

ويمكن حمله على غير المخالف ، كناسي فَصْلٍ ونحوه.

ويظهر من العبارة الجمع بين عدم الاعتداد بأذانه والأذان ثانياً وقوله : «ما يتركه» حملاً لهذه الرواية على غير المخالف ، والله أعلم.

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٢٨٠ / ١١١٢.

٢٠٢

(النظر الثاني : في الماهيّة) أي : ماهيّة الصلاة أعمّ من الواجبة والمندوبة ، كما يدلّ عليه إدخال الصلاة المندوبة أخيراً في جملة المقاصد.

(وفيه) سبعة (مقاصد) :

المقصد (الأوّل : في كيفيّة) الصلاة (اليوميّة) والمراد بالكيفيّة هنا بيان أفعالها مفصّلةً ، الموجب للعلم بكيفيّتها.

وقدّم على ذلك مقدّمةً يتوقّف عليها الشروع في بيان الأفعال الواجبة ، وهي أنّه (يجب) على المكلّف (معرفة واجب أفعال الصلاة من مندوبها) ليوقع كلّ واحد على وجهه.

والمراد بالمعرفة المرادفة للعلم معناها الأعمّ ، وهو الراجح وإن لم يمنع من النقيض ، فإنّ مبنى أكثر الأحكام الشرعيّة على الظنّ الراجح.

والمعتبر من المعرفة المذكورة ما كانت عن دليل تفصيليّ للقادر عليه ، وهو المجتهد في الأحكام الشرعيّة ، والتقليد للمجتهد ولو بواسطة أو وسائط بشرائطها المقرّرة في الأُصول إن لم يكن مجتهداً ، فلا يكفي مطلق المعرفة ، فصلاة المكلّف بدون أحد الأمرين باطلة وإن طابق اعتقاده وإيقاعه للواجب والندب للمطلوب شرعاً.

(و) كما تجب معرفة الواجب من الندب ، يجب (إيقاع كلّ منهما على وجهه) فيوقع

٢٠٣

الواجب على وجه الوجوب ، والمندوب على وجه الندب ، فلو خالف بأن نوى بالواجب الندبَ عمداً أو جهلاً ، بطلت الصلاة ؛ للإخلال بالواجب على ذلك الوجه ، المقتضي للبطلان ، إلا ما استثني ، وليس هذا منه. ولعدم إتيانه بالمأمور به على وجهه ، فلم يطابق فعله ما في ذمّته ؛ لاختلاف الوجه ، وتمتنع إعادته ؛ لئلا يلزم زيادة أفعال الصلاة عمداً ، فلم يبق إلا البطلان.

ولو عكس بأن نوى بالمندوب من الأفعال الوجوب ، فإن كان الفعل ذِكْراً ، بطلت الصلاة أيضاً ؛ للنهي المقتضي للفساد. ولأنّه كلام في الصلاة ليس منها ولا ممّا استثني فيها. وإن كان فِعْلاً كالطمأنينة ، اعتبر في الحكم بإبطاله الكثرة التي تعتبر في الفعل الخارج عن الصلاة ، وإن لم يكن كثيراً ، لم تبطل ، وتقع لغواً ، مع احتمال البطلان به مطلقاً ؛ للنهي المقتضي للفساد. ويؤيّده أنّ تروك الصلاة لا تعتبر فيها الكثرة عدا الفعل الكثير كالتكتّف والاستدبار ، ودخوله تحت الفعل الكثير إنّما يتمّ لو لم يكن النهي حاصلاً في أوّل الفعل الذي مجرّده كافٍ في البطلان.

واستقرب الشهيد رحمه‌الله في البيان الصحّة (١) في هذا القسم مطلقاً ؛ لأنّ نيّة الوجوب إنّما أفادت تأكيد الندب ؛ إذ الواجب والندب يشتركان في الإذن في الفعل ، وينفصل الواجب عنه بالمنع من الترك ، ونيّة هذا القدر مع كون الفعل مشروعاً في نفسه غير مؤثّر فيه.

ويضعّف بأنّه تأكيد للشي‌ء بما ينافيه ؛ إذ الوجوب والندب متباينان تبايناً كلّيّاً ، كما أنّ متعلّقيهما كذلك ، فيمتنع قيام أحدهما مقام الآخر. وأصل الرجحان الذي هو جنس لهما إنّما يتقوّم بفصله ، وهو المنع من الترك ليصير واجباً ، أو عدمه ليصير مندوباً ، ويمتنع قيام الجنس بدون فصله.

وأُورد بأنّ النيّة إنّما تؤثّر في الشي‌ء القابل لمتعلّقها ، وما جَعَله الشارع ندباً يستحيل وقوعه واجباً ، فكأنّ الناوي نوى المحال ، فلا تؤثّر نيّته ، كما لو نوى الصعود إلى السماء.

ويجاب : بأنّ المانع قصد ذلك وتصويره بصورة الواجب وإن لم يكن كذلك شرعاً.

__________________

(١) البيان : ١٥٤.

٢٠٤

ولو كان المعتبر من ذلك ما يطابق مراد الشارع ، لم يتصوّر زيادة الواجب ، فإنّ المكلّف إذا أتى به ، لم يتصوّر كون ما يأتي على صورته واجباً.

واعلم أنّ المعتبر في الفعل الكثير هنا مجموع ما نوى به الوجوب ، لا القدر الزائد على المندوب ، فلو نوى بجلسة الاستراحة الوجوبَ ، لم يستثن منه مسمّى الجلوس واعتبار الكثرة في الباقي وعدمها ؛ لوقوع المجموع غير مشروع باعتبار النيّة ، فلا يصرف منه إلى الاستراحة المشروعة شي‌ء ؛ لتنافي الوجه.

واحتمل الشهيد في بعض تحقيقاته تخصيص الحكم بالزائد ، فلا تبطل ، إلا أن يكون الزائد كثيراً.

وهو غير واضح ؛ فإنّ الزائد خارج عن محلّ الفرض ؛ إذ لا يوصف بالندب ، وإنّما الكلام عمّا يمكن صرفه إلى جلسة الاستراحة مثلاً ، ليتحقّق كونه مندوباً وقع على غير وجهه ، وهو موضع المسألة.

إذا تقرّر ذلك (فالواجب) من الصلاة اليوميّة (سبعة) بناء على عدم وجوب التسليم :

(الأوّل : القيام) وقدّمه على النيّة ؛ لكونه من جملة شروطها ، والشرط مقدّم على المشروط. ومَنْ قدّمها عليه نظر إلى أنّه لا يجب حتماً إلا بعد النيّة والتكبير ، فيكونان شرطاً في وجوبه ليتمحّض جزءاً من الصلاة ؛ إذ هو قبل تمامها غير واجب حتماً ، بل يجوز تركه إلا لعارض ، كضيق وقت ونحوه.

(وهو) أي (١) القيام (ركن) في الصلاة. والركن لغةً : الجزء الأقوى. وشرعاً كذلك ، إلا أنّ الركن في الصلاة عند أصحابنا [ما] (٢) (تبطل الصلاة لو أخلّ به) سواء كان الإخلال (عمداً أو سهواً) وكذا بزيادته إلا ما يستثني.

__________________

(١) في «ق ، م» : «أعني» بدل «أي».

(٢) أضفناها لأجل السياق.

٢٠٥

وإنّما يكون ركناً مع القدرة عليه ، أمّا مع العجز عنه فالركن بدله ، كالجلوس والاضطجاع ، فتبطل الصلاة أيضاً بتركهما كذلك.

وعلى وجوب القيام وركنيّته إجماع المسلمين ، نقله المصنّف في المنتهي (١).

واعلم أنّ إطلاق القول بركنيّة القيام بحيث تبطل الصلاة بزيادته ونقصانه سهواً لا يتمّ ؛ لأنّ القيام في موضع قعود وعكسه سهواً غير مبطل اتّفاقاً ، بل التحقيق أنّ القيام ليس بجميع أقسامه ركناً ، بل هو على أنحاء : القيام المتقدّم على النيّة بيسير ، ليتحقّق وقوعها بأجمعها في حالة القيام ، موصوف بالشرطيّة ؛ لتقدّمه على الصلاة واعتباره فيها. والقيام في النيّة متردّد بين الشرط والجزء ، كحال النيّة ، والقيام في التكبير تابع له في الركنيّة. والقيام في القراءة من حيث هو قيام فيها كالقراءة واجب غير ركن وإن كان من حيث إمكان دخوله في الماهيّة الكلّيّة قد يوصف بالركنيّة. والقيام المتّصل بالركوع ركن ، فلو ركع جالساً ، بطلت صلاته. والقيام من الركوع واجب غير ركن ؛ إذ لو هوى من غير رفعٍ ناسياً ، لم تبطل صلاته ، والقيام في القنوت تابع له في الاستحباب ؛ لجواز تركه لا إلى بدل.

واستشكل ذلك المحقّق الشيخ علي بأنّ قيام القنوت متّصل بقيام القراءة ، ففي الحقيقة هو كلّه قيام واحد ، فكيف يوصف بعضه بالوجوب وبعضه بالاستحباب!؟ (٢) وهذا الشكّ غريب ؛ فإنّ مجرّد اتّصاله به مع وجود خواصّ الندب فيه لا يدلّ على الوجوب والحال أنّه ممتدّ يقبل الانقسام إلى الواجب والندب.

فإن قيل : القيام المتّصل بالركوع هو بعينه القيام في القراءة ؛ إذ لا يجب قيام آخر بعدها قطعاً ، فكيف تجتمع فيه الركنيّة وعدمها!؟

قلنا : لا يلزم من اتّصاله بالركوع كونه للقراءة ، بل قد يتّفق لا معها ، كناسي القراءة ، فإنّ القيام كافٍ وإن وجب سجود السهو. وكذا لو قرأ جالساً ناسياً ثمّ قام وركع ، تأدّى الركن به من غير قراءة. وعلى تقدير القراءة فالركن منه هو الأمر الكلّيّ ، وهو ما صدق عليه اسم القيام متّصلاً بالركوع ، وما زاد على ذلك موصوف بالوجوب لا غير ، وهذا

__________________

(١) منتهى المطلب ٥ : ٨.

(٢) جامع المقاصد ٢ : ٢٠١.

٢٠٦

كالوقوف بعرفة ، فإنّه من حيث هو كلّيّ ركن ، ومن حيث الاستيعاب واجب لا غير.

فإن قيل : على تقدير اتّصاله بالركوع لا تتصوّر زيادته ونقصانه لا غير حتى ينسب بطلان الصلاة إليه ، فإنّ الركوع ركن قطعاً ، وهو إمّا مزيد أو ناقص ، وكلاهما مبطل من حيث الركوع ، فلا فائدة في إطلاق الركنيّة على القيام.

قلنا : استناد البطلان إلى مجموع الأمرين غير ضائر ؛ فإنّ علل الشرع معرّفات للأحكام ، لا علل عقليّة ، فلا يضرّ اجتماعها. ومثله الحكم ببطلان الصلاة بسبب إيقاع التكبير جالساً ، كما سيأتي ، مع أنّ ذلك يستدعي وقوع النيّة كذلك.

وحيث قد نقل المصنّف الاتّفاق على ركنيّة القيام (١) ولم تتحقّق ركنيّته إلا بمصاحبة الركوع خصّت بذلك ؛ إذ لا يمكن القول بعد ذلك بأنّه غير ركن مطلقاً ؛ لأنّه خلاف الإجماع ، بل لو قيل بأنّ القيام ركن مطلقاً ، أمكن. وعدم بطلان الصلاة بزيادة بعض أفراده ونقصها لا يُخرجه عن الركنيّة ، فإنّ زيادته ونقصانه قد اغتفرا في مواضع كثيرة ؛ للنصّ ، فليكن هذا منها ، بل هو أقوى في وضوح النصّ.

(ويجب) في القيام (الاستقلال) وهو الاستبداد به من غير معاون بمعنى أن يكون غير مستند إلى شي‌ء بحيث لو أُزيل السناد سقط ، فلا يجزئ القيام من دونه ؛ لقول الصادق عليه‌السلام : «لا تستند إلى جدار وأنت تصلّي إلا أن تكون مريضاً» (٢).

وقد روى عليّ بن جعفر عن أخيه موسى ، قال : سألته عن الرجل هل له أن يستند إلى حائط المسجد وهو يصلّي أو يضع يده على الحائط وهو قائم من غير مرض ولا علّة؟ فقال : «لا بأس» (٣).

وهو حجّة أبي الصلاح حيث ذهب إلى كراهة الاعتماد على ما يجاور المصلّي من الأبنية (٤).

والأولى حمله على استناد لا يصل إلى الحيثيّة المتقدّمة ؛ جمعاً بينه وبين ما دلّ على

__________________

(١) منتهى المطلب ٥ : ٨.

(٢) التهذيب ٣ : ١٧٦ / ٣٩٤.

(٣) الفقيه ١ : ٢٣٧ / ١٠٤٥ ؛ التهذيب ٢ : ٣٢٦ ٣٢٧ / ١٣٣٩.

(٤) الكافي في الفقه : ١٢٥.

٢٠٧

تحريم الاستناد.

واعلم أنّ الاستقلال استفعال من الإقلال بالشي‌ء ، وهو القدرة عليه والاستبداد به. والمراد به هنا إيجاد الفعل لا طلبه ، كما هو الغالب في باب الاستفعال. وجاء من غير الغالب «استوقد ناراً» أي : «أوقد». ومنه «استقرّ» بمعنى «قرّ» وقد تقدّم الكلام فيه مرّة أُخرى.

ويجب مع الاستقلال نصب فقار الظهر بفتح الفاء ، وهي عظامه المنتظمة في النخاع التي سمّى خرز الظهر ، جمع فقرة بكسرها ، فيخلّ به الميل إلى اليمين واليسار بحيث لا يعدّ منتصباً عرفاً ، دون إطراق الرأس.

وكذا يجب الاعتماد على الرِّجْلين معاً في حال القيام ، فلا تجزئ الواحدة ، وفاقاً للذكرى (١) ، وتأسّياً بالنبيّ والأئمّة عليهم‌السلام. وأن لا تتباعدا بما يخرج عن حدّ القيام عرفاً.

(فإن عجز) عن القيام مستقِلا (اعتمد) على شي‌ء ولو بأُجرة إذا كانت مقدورة ؛ لأنّه من باب مقدّمة الواجب المطلق. ولا فرق بين الاعتماد على الآدمي وغيره.

ولا تعتبر القدرة على القيام في جميع القراءة ، بل يأتي بالممكن منه. ولا القدرة على الركوع والسجود ، بل لو أمكن القيام من دونهما ، وجب ، ثمّ يأتي بما قدر منهما ، فإن تعذّرا ، أومأ بالرأس ثمّ بالعينين. ولا القدرة على المشي ، بل لو أمكن القيام من دونه ، وجب ؛ لأنّه المقصود الذاتي.

وربما قيل باشتراطه ؛ لرواية سليمان المروزي عن الكاظم عليه‌السلام «المريض إنّما يصلّي قاعداً إذا صار إلى الحال التي لا يقدر فيها على المشي مقدار صلاته» (٢).

وحملها الشهيد رحمه‌الله على مَنْ يتمكّن من القيام إذا قدر على المشي ؛ للتلازم بينهما غالباً. قال : فلا يرد جواز انفكاكهما (٣).

وفيه نظر ؛ لأنّه تخصيص للعامّ من غير ضرورة ، مع أنّ الرواية تدلّ على أنّ مَنْ قدر على القيام ماشياً لا يصلّي جالساً بمعنى أنّ القيام غير مستقرّ مرجّح على القعود مستقرّاً ،

__________________

(١) الذكرى ٣ : ٢٧٠.

(٢) التهذيب ٤ : ٢٥٧ / ٧٦١ ؛ الاستبصار ٢ : ١١٤ / ٣٧٣.

(٣) الذكرى ٣ : ٢٦٧.

٢٠٨

وهو اختيار المصنّف (١) ، فلا يحتاج إلى تكلّف البحث عن التلازم بين القيام والمشي غالباً.

ورجّح في الذكرى الجلوسَ في هذه الصورة ؛ محتجّاً بأنّ الاستقرار ركن في القيام ؛ إذ هو المعهود من صاحب الشرع (٢).

والخبر حجّة عليه. وكون الاستقرار واجباً في القيام لا يستلزم تقديم الجلوس على القيام بدونه ، فإنّ المشي يرفع وصف القيام ، وهو الاستقرار ، والجلوس يرفع أصله ، وفوات الوصف خاصّة أولى من فوات الموصوف ، ومن ثَمَّ اتّفق الجماعة على أنّ مَنْ قدر على القيام معتمداً على شي‌ء وجب مقدّماً على الجلوس مع فوات وصف القيام ، وهو الاستقلال.

نعم ، بالغ المصنّف ، فرجّح القيام ماشياً مستقِلا عليه مع المعاون.

ويضعّف بأنّ الفائت على كلّ تقدير وصف من القيام أحدهما : الاستقرار ، والآخر : الاستقلال ، فلا وجه لترجيح الثاني.

نعم ، يتّجه ترجيح الأوّل ؛ لما تقدّم في حجّة ترجيح القعود على المشي ؛ إذ لا معارض لها هنا. ولأنّه أقرب إلى هيئة المصلّي ، فظهر من ذلك أنّ التفصيل أجود من إطلاق المصنّف ترجيح المشي عليهما ، وإطلاقِ الشهيد القول بترجيحهما عليه.

(فإن عجز) عن القيام في جميع هذه التقادير (قعد) ويتحقّق العجز المسوّغ له بحصول الألم الشديد الموجب للتضيّق على النفس بحيث لا يتحمّل عادة ، لا العجز الكلّيّ. وكذا القول في باقي المراتب.

ولا يختصّ القعود بكيفيّة وجوباً ، بل يقعد كيف شاء.

نعم ، الأفضل أن يتربّع قارئاً بأن يجلس على ألييه ، وينصب ساقيه وفخذيه ، كما تجلس المرأة في الصلاة ، ويثنّي رجليه راكعاً بأن يفرشهما تحته ويقعد على صدورهما بغير إقعاء ، ويتورّك بين السجدتين بأن يجلس على وركه الأيسر ويخرج قدميه من تحته ويجعل ظاهر الأيمن على باطن الأيسر.

ويجب الانحناء للركوع قاعداً بحيث تصير نسبة انحنائه إلى القاعد المنتصب كنسبة

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ٣ : ٩٢.

(٢) الذكرى ٣ : ٢٦٨.

٢٠٩

ركوع القائم إليه منتصباً ، فيجعل المائل من شخصه في ركوعه قاعداً كالمائل منه قائماً.

ويحتمل جَعْله على وجه تكون النسبة بينه وبين السجود كنسبة ركوع القائم إلى سجوده باعتبار أكمل الركوع وأدناه ، فإنّ أكمل ركوع القائم انحناؤه إلى أن يستوي ظهره وعنقه ، وتحاذي جبهته موضع سجوده حينئذٍ. وأدناه انحناؤه إلى أن تصل كفّاه ركبتيه فيحاذي وجهه أو بعضه ما قدّام ركبتيه ، ولا يبلغ محاذاة موضع السجود ، فإذا رُوعيت هذه النسبة في حال القعود ، كان أكمل ركوع القاعد أن ينحني بحيث تحاذي جبهته موضع سجوده. وأدناه أن يحاذي وجهه ما قدّام ركبتيه من الأرض ، وهو قريب من الأوّل.

واختار الشهيد (١) رحمه‌الله مع ذلك رفع فخذيه عن الأرض وعن ساقيه ؛ لوجوب ذلك في حال القيام ، والأصل بقاؤه ؛ إذ لا دليل على اختصاص وجوبه بحالة القيام.

وفيه نظر ؛ لأنّ ذلك في حال القيام غير مقصود ، وإنّما حصل تبعاً للهيئة الواجبة في تلك الحالة ، وهي منتفية هنا. ولانتقاضه بإلصاق بعض بطنه بفخذيه في حال الركوع جالساً زيادةً على ما يحصل منه في حالته قائماً ، ولم يقل بوجوب مراعاة ذلك هنا بحيث تجافى بطنه على تلك النسبة.

نعم ، لو قدر على الارتفاع زيادةً عن حالة الجلوس ودون الحالة التي يحصل بها مسمّى الركوع وأوجبناه تحصيلاً للواجب بحسب الإمكان ، ولأنّ الميسور لا يسقط بالمعسور ، اتّجه وجوب رفع الفخذين في صورة النزاع ، إلا أنه لا ينحصر الوجوب فيما به تحصل مجافاتهما عن الساقين والأرض ، بل يجب ما أمكن من الرفع. وفي وجوب ذلك كلّه نظر.

وأمّا السجود فلا فرق بينه وبين القادر على القيام ، وكما يجب الاستقلال بالقيام ، كذا يجب بالقعود ، فلا يجوز الاعتماد على شي‌ءٍ ، كما مرّ. ويجب تحصيل المساعد عند تعذّر الاستقلال من باب المقدّمة. وكذا القول في باقي المراتب.

(فإن عجز) عن القعود مطلقاً (اضطجع) على أحد جانبيه ، ويجعل وجهه إلى القبلة كالملحود.

__________________

(١) الدروس ١ : ١٦٨.

٢١٠

ثمّ إن قدر على الركوع والسجود أو أحدهما ، وجب الإتيان به (وإلا أومأ) لما عجز عنه منهما أو من أحدهما برأسه ثمّ بعينيه ، كما سيأتي.

ومقتضى إطلاق العبارة التخيير بين الجانبين ، فلا يتحتّم الاضطجاع على الأيمن للقادر عليه ، وبه صرّح في النهاية والتذكرة (١).

والأصحّ تقديم الأيمن على الأيسر مع الإمكان ؛ لقول الصادق عليه‌السلام في رواية عمّار (٢) : المريض إذا لم يقدر أن يصلّي قاعداً يوجّه كما يوجّه الرجل في لحده ، وينام على جنبه الأيمن ثمّ يومئ بالصلاة ، فإن لم يقدر على جانبه الأيمن فكيف ما قدر فإنّه جائز ، ويستقبل بوجهه القبلة» (٣).

وظاهر الرواية وإن كان يقتضي استواء الاستلقاء والاضطجاع على الأيسر عند تعذّر الأيمن ؛ لقوله : «فإن لم يقدر على جانبه الأيمن فكيف ما قدر» إلا أنّ قوله : «ويستقبل بوجهه القبلة» يدلّ على الانتقال إلى الأيسر ؛ لأنّ به يحصل الاستقبال بالوجه حقيقةً ، دون الاستلقاء.

(فإن عجز) عن ذلك كلّه (استلقى) على ظهره ، وجعل باطن قدميه إلى القبلة ووجهه بحيث لو جلس كان مستقبلاً ، كالمحتضر.

والمراد بالعجز في هذه المراتب ونظائرها حصول المشقّة الكثيرة التي لا يتحمّل مثلها عادةً ، كما مرّ ، سواء نشأ منها زيادة المرض أم حدوثه أم بطؤ برئه أم لا ، لا العجز الكلّي ، فإنّ تحمّل المشقّة الشديدة ضرر عظيم مدفوع شرعاً وإن أمكن تحمّله عقلاً.

وفي حالتي الاضطجاع والاستلقاء يجب عليه تقريب جبهته إلى ما يصحّ السجود عليه ، أو تقريبه إليها والاعتماد بها عليه ، ووضع باقي المساجد كما سبق. فإن تعذّر الاعتماد ، وجب ملاقاة الجبهة ؛ لأنّ الميسور لا يسقط بالمعسور. فإن تعذّر جميع ذلك ، أومأ للركوع والسجود برأسه ، وجعل الإيماء للسجود أزيد.

(و) لو تعذّر تحريك الرأس (يجعل قيامه) للنيّة والتكبير والقراءة وما يتبعها (فتحَ عينيه)

__________________

(١) نهاية الإحكام ١ : ٤٤٠ ؛ تذكرة الفقهاء ٣ : ٩٣ ٩٤ ، المسألة ١٩٤.

(٢) في «ق ، م» والطبعة الحجريّة وكذا جامع المقاصد ٢ : ٢٠٧ : «حمّاد» بدل «عمّار» وما أثبتناه من المصدر.

(٣) التهذيب ٣ : ١٧٥ ١٧٦ / ٣٩٢.

٢١١

معاً (وركوعه تغميضَهما ، ورفعه) من الركوع (فتحَهما ، وسجوده الأوّل تغميضَهما ، ورفعه) منه (فتحَهما ، وسجوده ثانياً تغميضَهما ، ورفعه فتحَهما) مع إمكان الفتح والتغميض وإن لم يكن مبصراً ، وإلا أجرى الأفعال على قلبه كلّ واحد منها في محلّه ، وأجرى الأذكار على لسانه إن أمكن ، وإلا أحضرها بالبال.

ويجب أن يقصد بهذه الأبدال كونها تلك الأفعال ؛ إذ لا يعدّ التغميض مثلاً ركوعاً ، ولا ينفكّ المكلّف عنه غالباً إلا بالنيّة ، فلا يصير بدلاً إلا بالقصد إليه. وكذا القول في الفتح ، مع احتمال عدم اشتراط القصد ، كما لا يشترط ذلك في القراءة جالساً والركوع كذلك ونحوهما ؛ لصيرورتها أفعالاً في تلك الحال ، وهي لا تفتقر إلى النيّة الخاصّة ، فإنّ الصلاة متّصلة شرعاً يكتفى فيها بنيّة واحدة لجميع أفعالها.

وهل يلحقه حكم المبدل فتبطل الصلاة بزيادته مطلقاً لو كان ركناً أو مع العمد لو كان غيره؟ الظاهر ذلك ؛ لأنّه فعل من أفعال الصلاة شرعاً ، والتغميض مثلاً ركوع شرعاً وإن لم يكن كذلك لغةً أو عرفاً ، وإنّما يتّجه ذلك مع اعتبار القصد ، أمّا مع عدمه فيحتمل عدم البطلان ؛ إذ لا يعدّ ذلك فعلاً من أفعال الصلاة مطلقاً ، بل إذا وقع في محلّه المأمور بإيقاعه فيه.

ووجه إلحاقه بالركن مطلقاً : قيامه مقامه في تلك الحالة ، وكون المبطل هو الإتيان بصورة الأركان ، وهو متحقّق هنا.

وكذا القول في قيام الحالات التي هي بدل من القيام مقامه في الركنيّة.

(وهكذا) يفعل (في) باقي (الركعات) وفي جميع الصلوات. وهذا كالمستغنى عنه ؛ إذ لا إشعار في العبارة أوّلاً باختصاص البحث بالركعة الأُولى أو بركعة معيّنة حتى يحتاج الحال إلى إلحاق الباقي بها ، وإنّما وقع البحث عن طبيعة القيام والركوع والسجود.

(ولو تجدد عجز القائم) بأقسامه (قعد) في أيّ فعل كان.

ثمّ إن كان قبل القراءة ، قرأ قاعداً ، أو في أثنائها بنى على ما مضى منها من غير استئناف.

وهل يقرأ في حالة الهويّ؟ قيل : نعم (١) ، وهو اختيار المصنّف (٢) والأكثر ؛ لأنّ حالة

__________________

(١) كما في الدروس ١ : ١٦٩.

(٢) تحرير الأحكام ١ : ٣٧ ؛ قواعد الأحكام ١ : ٣١ ؛ نهاية الإحكام ١ : ٤٤٢.

٢١٢

الهويّ أعلى من حالة القعود فتكون أولى بالقراءة ؛ لكونها أقرب إلى ما كان عليه.

واختلف قول الشهيد في ذلك ، فوافق الأصحاب في بعض (١) كتبه. واستشكله في الذكرى بأنّ الاستقرار شرط مع القدرة ولم يحصل ، وأيّد الإشكال برواية السكوني عن الصادق عليه‌السلام في المصلّي يريد التقدّم ، قال : «يكفّ عن القراءة في مشيه حتى يتقدّم ثمّ يقرأ» (٢) و (٣).

ويجاب : بأنّ الاستقرار شرط في القراءة مع الاختيار لا مطلقاً ، وحصوله بعد الانتقال إلى الأدنى يوجب فوات الحالة العليا بالكلّيّة ، وعلى تقدير القراءة يفوت الوصف خاصّة ، وهو الاستقرار ، وفوات الصفة أولى من فوات الموصوف والصفة أو الموصوف وحده ، وقد تقدّم الكلام على نظيره فيما لو تعارض الصلاة قائماً غير مستقرّ وجالساً مستقرّاً.

وأمّا الرواية فعلى تقدير الالتفات إليها لا حجّة فيها على محلّ النزاع بوجه ؛ لأنّ الحالتين متساويتان في الاختيار ، بخلاف المتنازع.

ولو ثقل بعد الفراغ من القراءة ، ركع جالساً. ولو كان في أثناء الركوع ، فإن كان بعد الذكر ، جلس مستقرّاً ، للفصل بينه وبين السجود بدلاً عن القيام من الركوع إن لم يمكنه رفع رأسه في حال هويّه. ولو كان قبل الذكر ، ففي الركوع جالساً أو الاجتزاء بما حصل من الركوع وجهان مبنيّان على أنّ الركوع هل يتحقّق بمجرّد الانحناء إلى أن تصل كفّاه ركبتيه ، والباقي من الذكر والطمأنينة والرفع أفعال خارجة عن حقيقته ، أم جزء منه؟ وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله فيمن ذكر راكعاً أنّه ركع من قبلُ.

والأصحّ أنّ مسمّى الركوع يتحقّق بمجرّد الانحناء المذكور ، فلا يركع جالساً مرّة أُخرى ؛ لئلا يلزم زيادة الركن.

ثمّ إن تمكّن من الذكر في حال الهويّ على هيئة الراكع والاستمرار عليه حتى يصير ركوع قاعدٍ ، وجب ، وأكمله كذلك ، وإلا سقط وجلس ؛ للفصل ، ثمّ سجد.

__________________

(١) الألفيّة : ٥٩.

(٢) الكافي ٣ : ٣١٦ / ٢٤ ؛ التهذيب ٢ : ٢٩٠ / ١١٦٥.

(٣) الذكرى ٣ : ٢٧٤ ٢٧٥.

٢١٣

ويجي‌ء على القول بتقديم الحالة الدنيا مع الاستقرار على العليا لا معه كما مرّ في القراءة وجوب النزول راكعاً ليوقع الذكر مستقرّاً حالة الركوع جالساً ، وسيأتي مثله فيما لو خفّ في أثناء الركوع أنّه يقوم راكعاً إلى حدّه.

ولو ثقل بعد الرفع من الركوع وقبل الطمأنينة ، جلس مطمئنّاً ثمّ سجد. ولو كان بعدها ، لم تجب الطمأنينة في الجلوس.

ولو عجز القاعد أو القائم عن القعود ، اضطجع قارئاً في انتقاله ، كما مرّ ، أو المضطجع عنه أو القاعد عن الاضطجاع أو القائم عنه وعن القعود ، استلقى ويقرأ في الجميع.

(ولو تجدّدت قدرة العاجز) عن القيام عليه (قام) سواء في ذلك القاعدُ والمضطجع والمستلقي.

وكذا لو قدر مَنْ هو على حالة دنيا على ما هو أعلى منها ، انتقل إليها تاركاً للقراءة إن كانت القدرة في أثنائها أو قبلها ؛ لانتقاله إلى الحالة العليا ، ويبني على ما قرأه في الحالة الدنيا.

قيل : ويجوز الاستئناف بل هو أفضل ، لتقع القراءة متتاليةً في الحال الأعلى (١).

وقد يشكل باستلزامه زيادة الواجب مع حصول الامتثال وسقوط الفرض.

ولو خفّ بعد القراءة ، وجب القيام للهويّ إلى الركوع ليركع عن قيام ؛ لما تقدّم من أنّ القيام الركني إنّما يتحقّق مع اتّصاله بالركوع ولم يحصل قبلُ في البدل.

ولا تجب الطمأنينة في هذا القيام وفاقاً للمصنّف (٢) لأنّ وجوبها إنّما كان لأجل القراءة وقد أتى بها.

واحتمل في الذكرى الوجوب ؛ لضرورة كون الحركتين المتضادّتين في الصعود والهبوط بينهما سكون ، فينبغي مراعاته ليتحقّق الفصل بينهما. ولأنّ ركوع القائم يجب أن يكون عن طمأنينة وهذا ركوع قائم. ولأنّ معه يتيقّن الخروج عن العهدة (٣).

ويشكل الأوّل : بأنّ الطمأنينة التي أثبتها غير المتنازع ؛ لأنّ الكلام في الطمأنينة عرفاً ،

__________________

(١) القائل به هو الشهيد في الذكرى ٣ : ٢٧٥.

(٢) تذكرة الفقهاء ٣ : ٩٨ ؛ نهاية الإحكام ١ : ٤٤٢.

(٣) الذكرى ٣ : ٢٧٥.

٢١٤

وهي أمر زائد على ذلك ، وقد نوزع في الكلام في استلزام الحركتين المتضادّتين سكوناً ، مع الإجماع على وجوب الطمأنينة في موضع يتحقّق انحفافه بالحركتين كالقيام من الركوع ، وأنّه لو هوى من غير طمأنينة ، بطل ، وذلك يدلّ على عدم استلزام الحركتين طمأنينةً ، أو على أنّ ما يحصل غير كافٍ ، بل لا بدّ من تحقّقها عرفاً.

والثاني : بأنّه عين المتنازع ، فإنّ موضع الوفاق في اشتراط الركوع عن طمأنينة هي ما تحصل في قيامها قراءة ونحوها ، فتكون الطمأنينة واجبةً ؛ لذلك ، لا لذاتها.

والثالث : بأنّه احتياط لا يتحتّم المصير إليه ، ولا ريب في أنّ فعلها أحوط.

ولو خفّ في الركوع قبل الطمأنينة ، وجب إكماله بأن يرتفع منحنياً إلى حدّ الراكع ، وليس له الانتصاب ؛ لئلا يزيد ركناً ، ثمّ يأتي بالذكر الواجب من أوّله وإن كان قد أتى ببعضه بناءً على الاجتزاء بالتسبيحة الواحدة ، فلا يجوز البناء على بعضها ؛ لعدم سبق كلامٍ تامّ.

ويحتمل ضعيفاً البناء ؛ بناءً على أنّ هذا الفصل يسير لا يقدح بالموالاة.

ولو أوجبنا تعدّد التسبيح الصغير وكان قد شرع فيه ، فإن كان في أثناء تسبيحة ، استأنفها ، كما مرّ. وإن كان بين تسبيحتين ، أتى بما بقي ، واحدةً كان أو ثنتين.

ولو خفّ بعد الذكر ، فقد تمّ ركوعه ، فيقوم معتدلاً مطمئنّاً.

ولو خفّ بعد الاعتدال من الركوع ، قام ليسجد عن قيام. ثمّ إن لم يكن قد اطمأنّ ، وجبت في القيام ، وإلا كفى ما يتحقّق به الفصل بين الحركتين المتضادّتين.

واستشكل المصنّف وجوب القيام لو كانت الخفّة بعد الطمأنينة (١) : ممّا ذكرناه ، ومن إمكان كون الهويّ للسجود ليس واجباً برأسه ، بل من باب المقدّمة ، فيسقط حيث يمكن السجود بدونه من غير نقص في باقي الواجبات.

(ولو تمكّن) المصلّي قاعداً أو ما دونه (من القيام للركوع خاصّة ، وجب) لأنّه واجب مستقلّ ، فلا يرتبط فعله بالقدرة على غيره. ولقوله عليه‌السلام إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم (٢).

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ٣ : ٩٨ ؛ نهاية الإحكام ١ : ٤٤٣.

(٢) سنن البيهقي ١ : ٥٧١ / ١٨٢٣ و ٤ : ٤٢٣ / ٨٢١٤.

٢١٥

الواجب (الثاني : النيّة) (وهي) إرادة الفعل المخصوص المتعبّد به مقارنةً له ، لله تعالى.

والأصل فيها قوله تعالى (وَما أُمِرُوا إِلّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (١) ولا يتحقّق الإخلاص بدونها. وقوله عليه‌السلام : «إنّما الأعمال بالنيّات» (٢) ومعناه أنّ الأعمال لا تكون معتبرةً بحيث يترتّب عليها أثرها بدون النيّة.

وقد أجمع على توقّف الصلاة عليها ، ولكن اختلف في كونها شرطاً لها أو جزءاً منها مع الاتّفاق على بطلان الصلاة بتركها عمداً وسهواً.

فذهب المصنّف إلى أنّها (ركن) فيها. والمراد بالركن ما تلتئم منه الماهيّة مع بطلان الصلاة بتركه مطلقاً ، كالركوع والسجود ، أو ما تشتمل عليه الماهيّة من الأُمور الوجوديّة المتلاحقة مع القيد المذكور. ولمّا كانت النيّة مقارنةً للتكبير الذي هو جزء وركن ويعتبر فيها ما يعتبر في الصلاة من القيام والاستقبال والستر والطهارة وغير ذلك وتبطل الصلاة بتركها مطلقاً دلّ ذلك على ركنيّتها. ولقوله تعالى (وَما أُمِرُوا إِلّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ) (٣) فإنّه اعتبر العبادة حالة الإخلاص ، وهو المراد بالنيّة. ولا يعتبر إلا ما كان منتظماً مع الشي‌ء بحيث يشمل الكلّ حقيقة واحدة.

وفيه نظر ؛ إذ لا دلالة لوجوب المقارنة للجزء على كون المقارن جزءاً بإحدى الدلالات. واعتبار ما يعتبر في الصلاة جاز أن يكون بسبب وجوب المقارنة ، لا لكونه جزءاً ، فلِمَ قلتم بدلالته على الجزئيّة؟ وما الدليل على انحصار المشترط بالشروط المذكورة في الجزء؟ ودلالة اعتبار العبادة في حالة الإخلاص على عدم كون النيّة جزءاً أولى من دلالته عليه ؛ لأنّ الحال وصف خارج عن صاحبه ، وهو فضلة في الكلام ، فلو كان جزءاً ، كان عمدةً ، ومتى وجد الحال جزءاً من صاحبه حتى يصحّ هنا؟ ومن ثَمَّ ذهب المحقّق في

__________________

(١) البيّنة (٩٨) : ٥.

(٢) صحيح البخاري ١ : ٣ / ١ ؛ سنن أبي داوُد ٢ : ٢٦٢ / ٢٢٠١ ؛ سنن البيهقي ١ : ٦٨ / ١٨١ و ٣٣٠ / ١٠٣١ ، و ٤٤٥ / ١٤٢٢ ؛ التهذيب ١ : ٨٣ / ٢١٨ و ٤ : ١٨٦ / ٥١٩.

(٣) البيّنة (٩٨) : ٥.

٢١٦

المعتبر (١) إلى أنّها شرط لا جزء ، فإنّ المراد بالشرط ما يتوقّف عليه تأثير المؤثّر مع تقدّمه عليه ، كالطهارة وستر العورة ، أو ما يساوق جميع ما يعتبر في الصلاة ، وظاهر أنّ النيّة كذلك ، والمساوقة حاصلة في الاستدامة الحكميّة ، فإنّها إنّما أجزأت عن الاستدامة الفعليّة ؛ لتعذّرها أو تعسّرها ، وإلا فالدليل الدالّ على اعتبارها في العبادة دالّ على استصحابها فعلاً لولا الحرج والعسر المنفيّان بالآية والرواية. ولأنّ أوّل الصلاة التكبير ؛ لقوله عليه‌السلام : «وتحريمها التكبير» (٢) والنيّة سابقة عليه أو مقارنة لأوّله. ولأنّها لو كانت جزءاً لافتقرت إلى نيّةٍ أُخرى ويتسلسل. ولأنّها تتعلّق بالصلاة فلا تكون جزءاً ، وإلا لزم تعلّق الشي‌ء بنفسه. ولأنّ قوله عليه‌السلام : «إنّما الأعمال بالنيّات» (٣) يدلّ على مغايرة العمل للنيّة.

وأُجيب عن الأوّل : بعدم منافاته للجزئيّة ؛ لتوقّف التأثير على سائر الأجزاء.

وعن الثاني : بأنّه مصادرة على المطلوب.

وعن الثالث : بمنع الملازمة ؛ لمنع كلّيّة المقدّمة القائلة : إنّ كلّ عبادة تتوقّف على النيّة ؛ لخروج النظر المعرّف لوجوب النظر والمعرفة ، فلتخرج النيّة أيضاً.

وعن الرابع : بأنّ النيّة لمّا خرجت من الكلّيّة كان متعلّقها بقيّة أجزاء الصلاة ، فلا تتعلّق بنفسها ، فمعنى قول المصلّي أو قصده : «أُصلّي» عبارة عن الإتيان بمعظم أفعال الصلاة تسميةً للشي‌ء باسم أكثره.

وعن الخامس : بأنّ المغايرة حاصلة بين جزء الماهيّة وكلّها ضرورةً ، كيد زيد ورأسه ، وركوع الصلاة وسجودها ، فإنّ المضاف خارج عن المضاف إليه ، فلا تلزم منه الشرطيّة.

وفي هذه الأجوبة نظر ؛ لأنّ مدّعي الشرطيّة لا يحتجّ بمجرّد توقّف التأثير على النيّة ، بل بالمجموع منه ومن التقدّم ، وظاهر أنّ الأمرين معاً لا يشارك الجزء فيهما الشرط ، وإنّما اتّفق الجواب هكذا ؛ لتعريف بعضهم الشرط بما يتوقّف عليه التأثير من غير قيد ، فكان الجواب عنه. والمصادرة إنّما تتمّ لو ادّعى الخصم أنّ أوّل الصلاة النيّة ، والآخر إنّ أوّلها

__________________

(١) المعتبر ٢ : ١٤٩.

(٢) الكافي ٣ : ٦٩ / ٢ ؛ سنن ابن ماجة ١ : ١٠١ / ٢٧٥ و ٢٧٦ ؛ سنن أبي داوُد ١ : ١٦ / ٦١ ؛ سنن الترمذي ١ : ٨ ٩ / ٣ و ٢ : ٣ / ٢٣٨ ؛ سنن الدارقطني ١ : ٣٥٩ / ١ ، و ٣٧٩ / ١ ؛ سنن البيهقي ٢ : ٥٣١ / ٣٩٧١ ؛ مسند أحمد ١ : ٢٠٨ / ١٠٧٥.

(٣) تقدّمت الإشارة إلى مصادره في ص ٦٧٦ ، الهامش (٢).

٢١٧

التكبير من غير دليل ، والأمر هنا ليس كذلك ، بل مدّعي أنّ أوّل الصلاة التكبير يستند إلى قول النبيّ : «تحريمها التكبير» (١) وإذا ثبتت دلالته ، بطل القول بأنّ أوّلها النيّة ، فلا يكون مصادرةً. بل الأولى في الجواب : منع دلالة الخبر على أوّليّة التكبير ؛ إذ لا يلزم من وصفه بالتحريم كونه أوّلاً ؛ إذ لا امتناع في كون التحريم يحصل بالجزء الثاني والثالث وغيرهما ، فإنّ ذلك موقوف على حكم الشارع ، فيرجع في الأوّليّة إلى دليلٍ آخر.

وتخلّف الحكم بتوقّف العمل على النيّة في صورة النظر الموجب للمعرفة لا ينقض الكلّيّة فيما عداها ؛ لأنّ الحصر المستفاد من «إنّما» في الرواية أفاد توقّف جميع الأعمال على النيّة ، فكلّ ما خرج منه من الأفراد بقي الباقي داخلاً في مدلول اللفظ ، ولا دليل على إخراج النيّة من البين ، فالإيراد لازم.

ومنه يُعلم فساد الجواب الرابع ؛ فإنّ العدول فيه إلى المعنى المجازي متفرّع على عدم صحّة المعنى الحقيقي ، وهو تعلّق النيّة بمجموع العبادة.

وأمّا مغايرة النيّة للعمل وعدم كونها جزءاً منه فكأنّه في حيّز الوضوح ؛ إذ لا يشكّ عاقل في كون نيّة الخياطة والكتابة وأشباههما من الأعمال ليست جزءاً منها ، ولا فرق بينها وبين الصلاة إلا ما تقدّم من اشتراطها بباقي الشروط المتقدّمة غيرها ، ولا دلالة فيه على الجزئيّة ؛ إذ شروط الصلاة ليست على وتيرة واحدة حتى تخرج النيّة بمخالفتها عن الشرطيّة. ألا ترى أنّ الطهارة شرط في الصلاة مطلقاً فتبطل بدونها عمداً وسهواً. والاستقبال لا تبطل بدونه سهواً على بعض الوجوه ، كما مرّ تفصيله. والستر مختلف في كونه شرطاً مطلقاً أو مع العلم ، إلى غير ذلك من الاختلاف.

ومن المقرّر أنّ القدر الجامع بينها كون المشروط عدماً عند عدم شرطه ، فإذا لم تخرج هذه الشرائط عن الشرطيّة بهذا الاختلاف ، فما الذي أخرج النيّة عنها بمخالفته لها فيما ذكر مع تخلّفه عنها في ذلك لعارضٍ ، وهو اعتبار مقارنتها للتكبير الموجب لتقدّم باقي الشرائط عليها؟ فاشتراطها بها لا لذاتها ، بل لهذا الوجه.

وذهب بعض (٢) الأصحاب إلى كونها متردّدةً بين الجزء والشرط ، وأنّها بالشرط أشبه ؛

__________________

(١) تقدّمت الإشارة إلى مصادره في ص ٦٧٧ ، الهامش (٢).

(٢) انظر جامع المقاصد ٢ : ٢١٧.

٢١٨

جمعاً بين الأدلّة ؛ لتعارضها وإن كان بعضها غير تامّ.

وأنت خبير بعد الإحاطة بما مرّ أنّ القول بالشرطيّة أوضح.

واعلم أنّه لا ثمرة مهمّة في تحقيق هذا الخلاف إلا بيان الواقع ؛ لاتّفاق القولين جميعاً على أنّه (تبطل الصلاة بتركها عمداً وسهواً) ولو أُطلق عليها الركن بهذا الاعتبار لا غير ، جاز ؛ لأنّه العمدة في إطلاق الركن ، كما جعل ابن حمزة الأركان ستّةً وأضاف إلى الخمسة المشهورة استقبال القبلة (١) ، ونفى عنه المصنّف البأسَ ؛ محتجّاً ببطلان الصلاة بترك الاستقبال ناسياً (٢).

وقد تظهر فائدة القولين فيما لو نذر الصلاة أو للمصلّي في الوقت المعيّن فاتّفق فيه مقارنة التكبير لأوّله ، فإن جعلناها جزءاً ، لم يبرّ ، ولم يستحقّ. وإن جعلناها شرطاً ، برّ ، واستحقّ.

وفرّع بعضهم على القولين ما لو سها عن فعل النيّة بعد التكبير ففعلها ثمّ ذكر قبل أن يكبّر فعلها سابقاً ، فحكم ببطلان الصلاة على الأوّل ؛ لزيادة الركن ، دون الثاني (٣).

وليس بجيّد ؛ لأنّ زيادة النيّة ممّا يستثني من بطلان الصلاة بزيادة الركن ؛ لأنّ استحضار النيّة في مجموع الصلاة هو الواجب لو لا المشقّة ، كما تقدّم مراراً. والاكتفاء بالاستدامة حكماً ارتفاقاً بالمكلّف ، فلا يكون استحضارها في أثناء الصلاة عمداً وسهواً منافياً بوجه من الوجوه. ولو قيل : إنّ القصد إلى استئنافها يقتضي بطلان الاولى ، فهو خروج عن المسألة ، فإنّ ذلك لا يختصّ بكونها ركناً ، فإنّ سبب البطلان حينئذٍ نيّة القطع ، أو عدم الاستدامة الحكميّة.

وربما فرّع بعضهم على القول بالشرطيّة جواز إيقاعها قاعداً وغير مستقبل بل وغير متطهّر ولا مستور العورة (٤).

وليس بسديد ؛ لأنّ المقارنة المعتبرة للجزء تنفي هذه الاحتمالات.

__________________

(١) الوسيلة : ٩٣.

(٢) مختلف الشيعة ٢ : ١٥٧ ، المسألة ٨٧.

(٣) الفاضل السيوري في التنقيح الرائع ١ : ١٩٣.

(٤) كما في الذكرى ٣ : ٢٤٥.

٢١٩

فإن قيل : هذا يتمّ في غير الجلوس ؛ إذ يمكن مقارنة التكبير لأوّل جزء من القيام بحيث يقع مجموع النيّة قبل تمامه.

قلنا : سيأتي إن شاء الله تعالى أنّ النيّة أمر واحد بسيط ، وهو القصد إلى فعل الصلاة ، والمعتبر منه مع طول زمانه القدر المقارن للتكبير لا غير ، ولا ريب أنّ القطع بكون التكبير وقع بأجمعه في حال القيام مستقرّاً يقتضي سبق جزء يسير من القيام على أوّله من باب المقدّمة ، وذلك الجزء كافٍ في وقوع النيّة فيه.

فإن قيل : ما ذكرتم في التكبير آتٍ في النيّة ؛ لأنّ القيام إن كان معتبراً فيها بحيث يتحقّق وقوعها فيه ، لزم تقدّمه عليها بآن يسير ، كما في التكبير. وإن لم يعتبر ذلك ، لم يكن القيام شرطاً ، بل المعتبر تحقّق وقوع التكبير قائماً.

قلنا : لمّا كانت النيّة قصداً بسيطاً ، لم تفتقر إلى زمانٍ طويل ، بل ذلك القدر المتقدّم على التكبير كافٍ فيه ، فإنّ القصد يمكن استمراره زماناً طويلاً ، وليست النيّة مجموع ما وقع منه في الزمان ، بل كلّ جزء منه واقع في طرف من الأزمنة وإن قلّ كافٍ في تحقّقها ، والجزء اليسير من القيام كافٍ في صحّتها ، مع أنّه لو قيل بعدم وجوب القيام في النيّة وإن اتّفق وقوعها قائماً لضرورة وقوع التكبير قائماً ، أمكن ، ومَن ادّعى خلاف ذلك طُولب بدليله. وليست المسألة إجماعيّةً ، وقد قال المصنّف في النهاية : إنّ الأقوى اشتراط القيام في النيّة (١). وهو إشارة إلى الخلاف في وجوب القيام في النيّة. وربما فهم منه كون عدم الوجوب قويّاً ؛ حملاً لأفعل التفضيل على بابه الأغلب من اقتضائه اشتراك المصدر بين المفضّل والمفضّل عليه ، والله أعلم.

إذا تقرّر ذلك ، فعُدْ إلى تحقيق النيّة.

واعلم أنّ النيّة عبارة عن القصد إلى فعل شي‌ء من الأفعال ، ولمّا كان القصد لا بدّ من تعلّقه بمقصود معيّن ؛ لأنّ قصد المجهول بكلّ وجه عبث لا يترتّب عليه الأثر شرعاً فلا بدّ لقاصد الصلاة من تشخيص النوع الذي يريده منها بجميع مميّزاته من كونها ظهراً مثلاً ، واجبةً أو مندوبةً ، أداءً أو قضاءً ، ثمّ يقصد فعل هذا المشخّص على وجه التقرّب إلى الله

__________________

(١) نهاية الإحكام ١ : ٤٥٦.

٢٢٠