غاية المرام في شرح شرائع الإسلام - ج ١

الشيخ مفلح الصّيمري البحراني

غاية المرام في شرح شرائع الإسلام - ج ١

المؤلف:

الشيخ مفلح الصّيمري البحراني


المحقق: الشيخ جعفر الكوثراني العاملي
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٧٦

كتاب الطّهارة

٤١
٤٢

في المياه

قال رحمه‌الله : الطهارة اسم للوضوء أو الغسل أو التيمم ، على وجه له تأثير في استباحة الصلاة.

أقول : اختلفت (١١) عبارة الأصحاب في تعريف الطهارة ، قال الشيخ في النهاية : الطهارة اسم لما يستباح به الدخول في الصلاة ، وأورد عليه ابن إدريس اعتراضا ، عكسا وطردا.

أما العكس : فوضوء الحائض ، إذ هو طهارة ، ولا يصدق عليه الحد ، وأما الطرد فغسل الثياب والبدن (١٢) من النجاسات ، فإنه (١٣) ليس بطهارة ، مع صدق اسم الحد عليه.

__________________

(١١) في «ي ١» : اختلفت.

(١٢) في «م» : اليدين.

(١٣) من «ن» ، وفي باقي النسخ.

٤٣

وأجيب عن الأول : بالمنع من كونه طهارة ، لما رواه محمد بن مسلم ، عن ابي جعفر عليه‌السلام «قال : قلت : الحائض تتطهر يوم الجمعة ، وتذكر الله تعالى؟ قال : أمّا الطهر فلا ، ولكن تتوضأ وقت كل صلاة ، ثمَّ تستقبل القبلة وتذكر الله تعالى» (١٤). فقد نفى عنه اسم الطهارة.

وعن الثاني : بأنّه إزالة مانع ، فلا يدخل في الحد ، فالاعتراض ممنوع.

وقول المصنف : (اسم) : تنبيه على أن التعريف لفظي.

وقوله : (للوضوء أو الغسل أو التيمم) ليخرج ازالة النجاسات.

وقوله : (له تأثير في استباحة الصلاة) ليخرج وضوء الحائض ، ويدخل وضوء دائم الحدث.

وأورد عليه العلامة : الوضوء المجدد ، إذ هو الطهارة ، والمبيح للصلاة هو الوضوء السابق.

قال رحمه‌الله : ولا يطهر بإتمامه كرا على الأظهر.

أقول : اختلف علماؤنا في الماء القليل ـ وهو ما نقص عن الكر ـ إذا تنجس ثمَّ تمم كرا ، هل يطهر أم لا؟

قال السيد المرتضى ، وابن إدريس : يطهر ، لقوله عليه‌السلام : «إذا بلغ الماء كرا لم يحمل خبثا» (١٥). ولأنه لو وقعت النجاسة بعد بلوغه كرا لم تؤثر فيه ، فكذا قبله إذا حصل البلوغ.

وقال الشيخ لا يطهر ، واختاره العلامة ، لأنه ماء محكوم بنجاسته شرعا ، فلا يرتفع إلا بدليل شرعي ، ولم يثبت ، ولأنه بتنجيسه صار في حكم

__________________

(١٤) الوسائل ، كتاب الطهارة ، باب ٢٢ من أبواب الحيض ، حديث ٣.

(١٥) مستدرك الوسائل ١ : ١٩٨ ، كتاب الطهارة ، باب ٩ من أبواب الماء المطلق ، حديث ٦.

٤٤

النجاسة ، فإذا لاقى ماء تمم (١٦) به ـ وهو أقل من كر ـ انفعل.

وأجاب العلامة بالفرق بين وقوع النجاسة بعد إتمامه كرا ، وقبل الإتمام ، لأن في الحالة الأولى له قوة الدفع ، فلا يتحمل النجاسة ، وفي الثانية هو قابل للانفعال ، فاذا انفعل لم يبق له قوة دافعة للنجاسة فافترقا.

قال رحمه‌الله : والكر ألف ومائتا رطل بالعراقي على الأظهر.

أقول : البحث هنا في موضعين :

الموضع الأول : في تقدير الكر :

وللأصحاب في معرفته (١٧) طريقان :

الأول : الوزن ، وفي كميته ثلاثة أوجه :

«أ» : رواية محمد بن ابي عمير عن بعض أصحابنا ، عن ابي عبد الله عليه‌السلام قال : «الكر ألف ومائتا رطل» (١٨). وهي مرسلة ، لكن عليها عمل الأصحاب.

«ب» : رواية عبد الله بن المغيرة ، عن بعض أصحابنا ، عن ابي عبد الله عليه‌السلام قال : «الكر من الماء نحو حبّي هذا» (١٩). وهي مرسلة أيضا ، وحملها الشيخ على كون الحب يسع (٢٠) الكر.

«ج» : انه ست مائة رطل ، وهي (٢١) صحيحة محمد بن مسلم عن أبي

__________________

(١٦) في «ي ١» و «ن» : ما تمم.

(١٧) في «ر ٢» : تعريفه ، وفي «ي ١» : تقديره.

(١٨) الوسائل ، كتاب الطهارة ، باب ١١ من أبواب الماء المطلق ، حديث ١ ، لكن بزيادة : (الذي لا ينجسه شي‌ء) صفة للماء في رواية الشيخ.

(١٩) الوسائل ، كتاب الطهارة باب ١٠ من أبواب الماء المطلق ، حديث ٧.

(٢٠) في «م» : مبلغ.

(٢١) في «ي ١» و «م» و «ر ١» : (وفي). و «ر ٢» : (في) ، وما أثبتناه من «ن».

٤٥

عبد الله عليه‌السلام قال : «الكر ست مائة رطل» (٢٢).

قال الشيخ : ولم يعمل بهذه الرواية أحد من الأصحاب.

الثاني : المساحة : وفيه ثلاثة أوجه :

«أ» : ثلاثة أشبار في ثلاثة أشبار.

«ب» : ذراعان عمقه في ذراع وشبر سعته ، والمستند رواية إسماعيل بن جابر (٢٣) ، عن ابي عبد الله عليه‌السلام.

«ج» : ما رواه أبو بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «إذا كان الماء ثلاثة أشبار ونصفا في مثله ثلاثة أشبار ونصف في عمقه في الأرض ، فذاك الكر» (٢٤).

الموضع الثاني : في تفسير الرطل.

وفيه قولان :

أحدهما : أنه مدني مائة وخمسة وتسعون درهما ، وهو قول المرتضى ، ومحمد بن بابويه ، لأنه أحوط ، ولأن الأكثر يدخل تحته الأقل ، بخلاف العكس ، ولأن الأئمة عليهم‌السلام من أهل المدينة ، فاجابوا بالمعهود عندهم.

الثاني : أنه عراقي مائة وثلاثون درهما ، وهو قول ابن إدريس ، واختاره المتأخرون.

قال رحمه‌الله : ويستوي في هذا الحكم مياه الغدران ، والحياض ، والأواني على الأظهر.

__________________

(٢٢) الوسائل ، كتاب الطهارة ، باب ١١ من أبواب الماء المطلق ، حديث ٢ و ٣.

(٢٣) الوسائل ، كتاب الطهارة ، باب ١٠ من أبواب الماء المطلق ، حديث ١.

(٢٤) المصدر السابق ، حديث ٦ بتفاوت يسير.

٤٦

أقول : المشهور عند علمائنا ان بلوغ الكريّة يقتضي عدم الانفعال بدون التغير ، سواء كان في حوض أو آنية أو غدير ، وقال المفيد وسلار : تنجس الحياض والأواني ، سواء زاد عن الكر أو نقص ، لعموم النهي عن استعمال ماء الأواني مع نجاستها ، ويحمل (٢٥) على الغالب ، من أن الآنية لا تسع الكر.

قال رحمه‌الله : وهل ينجس بالملاقاة؟ فيه تردد ، والأظهر التنجيس.

أقول : للأصحاب هنا اختلاف ، قال الشيخ في النهاية والخلاف والمبسوط بنجاستها ووجوب النزح ، وهو مذهب ابن إدريس ، وقال في التهذيب : لا ينجس ويجب النزح تعبّدا ، وقوّاه أبو العباس في المقتصر.

وقال ابن ابي عقيل : لا ينجس إلا بالتغيّر ويستحب النزح ، واختاره العلامة وابنه فخر الدين.

احتج الشيخ ومن وافقه على التنجيس بصحيحة علي بن يقطين ، عن ابي الحسن موسى عليه‌السلام قال : «سألته عن البئر يقع فيها الحمامة والدجاجة والفأرة ، أو الكلب أو الهرة؟ فقال : يجزيك ان تنزح منها دلاء ، فان ذلك طهرها» (٢٦) ، دلت هذه الرواية على حكمين :

الأول : نجاسة البئر لقوله [عليه‌السلام] : «ان ذلك طهرها» ، فلو كانت طاهرة لزم تحصيل الحاصل.

الثاني : وجوب النزح لقوله [عليه‌السلام] : «يجزيك» ، فإن الاجزاء لا يستعمل إلا في الوجوب ، والخلاف نشأ من تعارض الرّوايات (٢٧) التي يطول بذكرها الكتاب.

__________________

(٢٥) في «ن» : فيحمل.

(٢٦) الوسائل ، كتاب الطهارة ، باب ١٧ من أبواب الماء المطلق حديث ٢ ، لكن ليس فيه : (والفأرة).

(٢٧) راجع الوسائل ، كتاب الطهارة ، باب ١٤ إلى الباب ٢٣ من أبواب الماء المطلق.

٤٧

قال رحمه‌الله : وأحد الدماء الثلاثة على قول مشهور.

أقول : قال الشيخ : دم الحيض والاستحاضة والنفاس يوجب نزح الجميع ، واختاره ابن إدريس ، قال العلامة : أما الشيخ فلم نظفر (له) (٢٨) بحديث يدل على ما اختاره ، ويمكن ان يحتج له بأنه ماء محكوم بنجاسته ، ولم يرد فيه نص دالّ على تطهيره بقدر (٢٩) معين (فيجب نزح الجميع) (٣٠) ، وقال المفيد : ينزح لقليله خمس ولكثيره عشر ، ولم يفرق.

قال رحمه‌الله : وينزح منها خمسون إن وقعت فيها عذرة فذابت ، والمروي أربعون أو خمسون.

أقول : الرواية هي ما رواه الصدوق في كتابه عن ابي بصير ، عن ابي عبد الله عليه‌السلام قال : «سالته عن العذرة تقع في البئر؟ قال : ينزح منها عشر دلاء ، فان ذابت فأربعون أو خمسون» (٣١) ، فالصّدوق تبع لفظ الرواية ، وجعل الأربعين على الاجزاء ، والخمسين على الأفضل ، والشيخ فصّل بين الرطبة واليابسة ، فجعل في الرطبة خمسين وفي اليابسة عشرا ، فخالف لفظ الرواية في شيئين :

الأول : الفرق بين الرطبة واليابسة ، ولعل وجهه عدم انفكاك الرطبة عن الميعان والتقطع بعد وقوعها في البئر والحكم بالخمسين معلق على ذلك.

الثاني : الجزم بوجوب الخمسين ، ولعل وجهه ترجيح جانب الأحوطية.

قال رحمه‌الله : وكثير الدم كذبح الشاة ، والمروي من ثلاثين إلى أربعين

__________________

(٢٨) لفظة (له) من المصدر.

(٢٩) في «ر ٢» : بمقدر.

(٣٠) هذه الزيادة وردت في «ن» ، وكذا في المصدر ، راجع المختلف ص ٦ المسألة الثالثة.

(٣١) الوسائل ، كتاب الطهارة ، باب ٢٠ من أبواب الماء المطلق حديث ٢.

٤٨

أقول : الرواية إشارة الى ما رواه علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه‌السلام قال : «سألته عن رجل كان يستقي من بئر ماء فرعف هل يتوضأ منها؟ قال : يرمي منها دلاء يسيرة ، وسألته عن رجل ذبح شاة فاضطربت في بئر ماء ، هل يتوضأ من ذلك البئر؟ قال : ينزح منها ما بين ثلاثين إلى أربعين دلوا ويتوضأ» (٣٢).

قال رحمه‌الله : والمروي دلاء يسيرة.

أقول : هذا إشارة إلى رواية علي بن جعفر المتقدمة ، وأقل الدلاء اليسيرة عشرة ، لأن دلاء جمع كثرة ، وأقلّ جمع الكثرة عشرة ، لأن جمع القلة ما بين الثلاثة إلى العشرة ، واختلفوا في الغاية هل تدخل في ذي الغاية أم لا؟ فعلى القول بدخولها يكون أكثر جمع القلة عشرة ، وأقل جمع الكثرة أحد عشر.

وعلى القول بعدم دخولها يكون أكثر جمع القلة تسعة وأقل جمع الكثرة عشرة ، فعلى القولين لا يجوز نقص جمع الكثرة عن عشرة ، والدلاء جمع كثرة فلا تنقص عن عشرة.

قال رحمه‌الله : اختلاف أجناس النجاسة موجب لتضاعف النزح ، وفي تضاعفه مع المماثلة تردد.

أقول : البحث هنا في مقامين : الأول التضاعف مع المماثلة ، وقد تردد فيه المصنف ، من ان لكل نجاسة مقدرا شرعيا بحيث لو اتحدت لوجب ذلك المقدر قطعا ، فكذلك مع التكثر ، لان التداخل على خلاف الأصل ، فلا بد له من دليل شرعي.

__________________

(٣٢) مسائل علي بن جعفر ، المستدركات ، منزوحات البئر ص ٢٠٣ رقم ٤٣٢ ورقم ٤٣٠ ، مع اختلافات لا تغير المعنى. ورواه في الوسائل ، الطهارة ب ٢١ من أبواب الماء المطلق حديث ١.

٤٩

ومن أن كل جزء من أجزاء (٣٣) هذه النجاسة المماثلة (٣٤) لا يزيد حكمه على الجزء الآخر ، فالكثرة ليست معتبرة ، وإلّا لحصل الفرق بين جزء الحيوان وكله ، وبين صغيره وكبيره ، وإذا لم تعتبر الكثرة لم يتضاعف النزح مع الكثرة (٣٥).

الثاني : التضاعف مع الاختلاف : وقد جزم به المصنف هنا ، لان مع اختلاف النجاسة تختلف اجزاؤها مع القوة والضعف فلا تداخل (٣٦) ، (ولان لكل نجاسة مقدرا كما قلناه أولا فلا يتداخل) (٣٧) ، ويحتمل دخول الأقل تحت الأكثر ، لاشتماله على الأقل وزيادة تقابل قوة تلك النجاسة التي وجب لها ذلك المقدر (٣٨) فتصير كالمماثلة ، ومذهب العلامة في القواعد عدم تضاعف النزح مطلقا ، ومذهب الشهيد في دروسه التضاعف مطلقا.

قال رحمه‌الله : وإذا تغير أحد أوصاف الماء بالنجاسة ، قيل : ينزح حتى يزول التغير ، وقيل : ينزح ماؤها ، فإن تعذر لغزارته تراوح عليها أربعة رجال ، وهو الأولى.

أقول : القول الأول قول المفيد ، قال : ينزح حتى يزول التغير ، ولم يجعل نزح الجميع شرطا ، وهو مذهب ابن ابي عقيل أيضا ، واختاره العلامة في المختلف ، لما رواه الشيخ في الحسن ، عن أبي أسامة ، عن ابي عبد الله عليه

__________________

(٣٣) من «ن».

(٣٤) في «ي ١» : المتماثلة.

(٣٥) كما في «ر ٢» و «ن» ، وفي الباقي : التكثير.

(٣٦) في «ن» : يتداخل.

(٣٧) ما بين القوسين من «ن».

(٣٨) من «ن» ، وباقي النسخ : القدر.

٥٠

السّلام «في الفأرة والسنّور والدجاجة والطير والكلب؟ قال : فإن لم يتفسخ أو يتغير طعم الماء يكفيك خمس دلاء ، فإن تغير الماء فحدّه حتى يذهب الريح» (٣٩).

والثاني : قول علي بن بابويه ، قال : ينزح أجمع ، فإن تعذر تراوح عليه أربعة رجال يوما ، واختاره ابنه محمد بن بابويه ، وفصّل ابن إدريس فقال : إن كانت النجاسة منصوصة المقدر نزح ، فإن زال التغير ، وإلا نزح حتى يزول ، وإن لم تكن منصوصة المقدر نزح أجمع ، فإن تعذر تراوح عليها أربعة يوما ، فان زال التغير في أثناء اليوم أكمل النزح تمام اليوم (٤٠) واجبا.

قال العلامة : وتفصيل ابن إدريس حسن على مذهبه ، لكنه لا دليل قويا عليه.

تنبيه : اختلف عبارة الأصحاب في تحديد اليوم ، وأحسنها ما قاله المصنف في المعتبر ، وهو من طلوع الفجر الى مغيب (٤١) الشمس ، ولا يجزي الليل ، ولا الملفق منه ومن النهار.

وهل يجزي النساء في النزح؟

استقرب الشهيد عدم الاجزاء ، ونقل أبو العباس عن المصنف الاجزاء ان اعتبر القوم ، وعدمه إن اعتبر الرجال.

وفيه نظر لقوله تعالى : (لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً

__________________

(٣٩) الوسائل ، كتاب الطهارة ، باب ١٧ من أبواب الماء المطلق ، حديث ٧ ، وفي المصدر : (فخذ منه) بدل (فحده).

(٤٠) في غير «ن» : أكمل باليوم واجبا.

(٤١) في «ن» وهامش «ي ١» : غروب ، وفي «ر ٢» : مغرب.

٥١

مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ) (٤٢) ، جعل القوم هم الرجال دون النساء ، وقال زهير :

وما أدري وسوف إخال أدري

أقوم آل حصن أم نساء (٤٣)

جعل القوم الرجال دون النساء.

فروع :

الأول : لو نزح اثنان نزحا متواليا يوما ، احتمل عدم الإجزاء لمخالفة النص ، والاجزاء لحصول المقصود.

الثاني : لا ينجس جوانب البئر بما يصيبها من المنزوح.

الثالث : يحكم بالطهارة عند مفارقة آخر الدلاء (٤٤) لوجه الماء.

الرابع : هل يغسل الدلو بعد النزح؟ قيل : لا ، لأنه لو كان نجسا لما سكت عنه الشارع ، ولان الاستحباب بالنزح يدل على طهارته ، والا لنجس البئر عند الزيادة عليه قبل غسلها ، ومعنى قولنا الاستحباب بالنزح إشارة الى ما ورد من النزح المستحب من ثلاثين إلى أربعين ، وحمل الثلاثين على الاجزاء والأربعين على الاستحباب ، فلو وجب غسل الدلو بعد النزح كان منجسا للماء بعد الثلاثين بملاقاة الدلو قبل غسله ، فيكون بالزيادة محدثا لنجاسة البئر ، لا فاعلا مستحبا ، هذا خلف.

الخامس : لو جفّ البئر سقط النزح لتعلقه بالذاهب ، والمتجدد غيره.

السادس : بطهرها يطهر النازح.

__________________

(٤٢) الحجرات : ١١.

(٤٣) ديوان زهير بن أبي سلمى ٧٣.

(٤٤) في «ي ١» : الدلو.

٥٢

السابع : لو تمعط الشعر فيها كفى غلبة الظن بخروجه وان كان شعر نجس العين ، ولو استمر خروجه استوعبت ، فان تعذر واستمر عطلت حتى يظن استحالته.

الثامن : لا يعتبر للمزيل للتغيّر دلو حيث لا مقدر له ، وهل يعتبر في المقدر؟ يحتمل ذلك ، لان تكرار الاستيفاء (٤٥) واضطراب الأرشية في البئر ، ربما كان له مدخل في التطهير بتموج الماء واستهلاك النجاسة واستقرب العلامة في القواعد عدم الاعتبار لحصول المقصود ، وهو إخراج ذلك العدد.

التاسع : لو وجدت النجاسة بعد الاستعمال له لم تؤثر وان احتمل سبقها.

العاشر : لو تغير ماء البئر المقارب للبالوعة تغيرا يحتمل استناده إليها ، وجب الاجتناب.

قال رحمه‌الله : ولا خبثا على الأظهر.

أقول : أجمع الأصحاب على المنع من استعمال الماء المضاف في رفع الحديث وإزالة الخبث الا ابن بابويه ، فإنه جوّز الوضوء وغسل الجناية بماء الورد.

والسيّد المرتضى جوّز ازالة الخبث في كل مائع.

قال رحمه‌الله : والماء المستعمل في الوضوء طاهر مطهر ، وما استعمل في الحدث الأكبر طاهر ، وهل يرفع به الحدث؟ فيه تردد ، والأحوط المنع.

أقول : منشأ التردد من ان المكلّف مكلف بالطهارة بالماء المتيقن طهارته المقطوع على استباحة الصلاة باستعماله ، والمستعمل في غسل الجنابة مشكوك فيه ، فلا يخرج باستعماله من العهدة ، وبه قال الشيخ ، والمفيد ، ومن انه ماء طاهر غير مضاف فلا مانع من جواز استعماله ، وهو مذهب ابن إدريس والعلامة.

__________________

(٤٥) من «ن» ، وفي البواقي : (استقاء) أو (استسقاء).

٥٣

قال رحمه‌الله : وفي سؤر المسوخ تردّد ، والطهارة أظهر.

أقول : السؤر بالهمز ما فضل من ماء قليل بعد شرب حيوان ، وفي الحديث «إذا شربتم فاسأروا» (٤٦) أي فضّلوا فضلة من الماء ، وقد اختلف في الأسئار على أربعة أقوال :

الأول : نجاسة سؤر كلّ ما لا يؤكل لحمه عدا الطيور ، وما لا يمكن التحرز منه في الحضر ، كالفأرة والهرّة ، وهو مذهب الشيخ في المبسوط.

الثاني : طهارة سؤر كل حيوان طاهر ونجاسة سؤر النجس ، وهو مذهب علم الهدى ، واختاره المصنف والعلامة وأبو العباس.

الثالث : نجاسة سؤر الجلال والمسوخ ، وهو مذهب ابن ابي عقيل.

الرابع : نجاسة سؤر آكل الجيف ، وهو مذهب الشيخ في النهاية (٤٧).

قال رحمه‌الله : وما لا يدركه الطرف من الدم لا ينجس الماء ، وقيل : ينجس ، وهو الأحوط.

أقول : بعدم التنجيس قال الشيخ في المبسوط ، لصحيحة علي بن جعفر عن أخيه [عليه‌السلام] (٤٨) ، وبالتنجيس قال ابن إدريس ، لأنه ماء قليل لاقته نجاسة ، وكل ماء قليل لاقته نجاسة فإنه ينجس ، واختاره العلامة وشيخنا أبو العباس.

وقوله : (لا يدركه الطرف) اي بعد وقوعه في الماء ، ولم يتميز لقلته ، مع إدراكه قبل وقوعه وتحقيق الوقوع ، وإلّا لم يتصور المسألة.

__________________

(٤٦) نهاية ابن الأثير ٢ : ٣٢٧ (سأر).

(٤٧) في «ن» بزيادة : والمبسوط.

(٤٨) الوسائل ، كتاب الطهارة ، باب ٨ من أبواب الماء المطلق ، حديث ١.

٥٤

قال رحمه‌الله : ولو خرج الغائط مما دون المعدة نقض في قول ، والأشبه أنه لا ينقض.

أقول : قال الشيخ : إذا خرج البول والغائط من جرح وغيره ، فان خرجا من موضع في البدن دون المعدة نقض الوضوء ، وان كان فوق المعدة لم ينقض.

احتج على الأول بعموم قوله تعالى (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) (٤٩) وعلى الثاني ـ وهو عدم النقض إذا كان من فوق المعدة ـ بأنه لا يسمى غائطا ، واختار العلامة النقض إذا صار معتادا وعدمه مع عدمه ، ولم يفرق.

فروع :

الأول : لو اتفق المخرج من غير المعتاد خلقة نقض الطهارة بخروج الحدث إجماعا.

الثاني : لو خرج الريح من قبل المرأة نقض بأول مرّة ، لأن له منفذا إلى الجوف ، وكذا الأدرة.

الثالث : لو انسدّ الموضع المعتاد وانفتح غيره ، فحكمه حكم الفرع الأول.

الرابع : (لو لم ينسد الأول فإن ساواها (٥٠) في العادة نقض ، والا فلا على مذهب العلامة.

الخامس) (٥١) : لو خرجت المقعدة خالية من العذرة لم ينقض ، ولو كانت

__________________

(٤٩) سورة النساء : ٤٣.

(٥٠) كذا في النسخ.

(٥١) ما بين القوسين من «ن».

٥٥

ملطخة ثمَّ عادت ولم ينفصل منها شي‌ء احتمل النقض لصدق اسم الخروج ، وعدمه لعدم الانفصال.

قال رحمه‌الله : وكيفيتها أن ينوي الوجوب ، أو الندب والقربة ، وهل يجب فيه رفع الحدث ، أو استباحة شي‌ء مما يجب فيه الطهارة؟ الأظهر أنه لا يجب.

أقول : للأصحاب هنا خمسة أقوال :

الأول : الاكتفاء بنية القربة لا غير ، وهو مذهب الشيخ في النهاية ، فيقول : أتوضأ قربة الى الله ، لقوله تعالى (وَما أُمِرُوا إِلّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ) (٥٢) ، فدل على وجوب نية القربة لا غير.

الثاني : اضافة الوجوب أو الندب إلى القربة ، وهو مذهب المصنف هنا فيقول : أتوضأ لوجوبه قربة الى الله ، لوجوب إيقاع الفعل على وجهه ، ولا يتم إلا بنية الوجوب أو الندب.

الثالث : ان يضم إلى القربة الاستباحة أو الرفع ، دون الوجوب أو الندب ، فيقول : أتوضأ لاستباحة الصلاة أو لرفع الحديث قربة الى الله ، وهو مذهب المرتضى والمصنف في المعتبر.

الرابع : الجمع بين الندب أو الوجوب ، والرفع أو الاستباحة ، فيقول : أتوضأ لرفع الحدث أو لاستباحة الصلاة ، لوجوبه أو ندبه قربة الى الله ، وهو مذهب الشيخ في المبسوط ، واختاره ابن إدريس والعلامة في أكثر كتبه والشهيد ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنما الأعمال بالنيّات» (٥٣).

__________________

(٥٢) البينة : ٥.

(٥٣) الوسائل ، كتاب الطهارة ، باب ٥ من أبواب مقدمة العبادات ، حديث ١٠.

٥٦

وانما اكتفى بالرفع عن الاستباحة وبالعكس ، لحصول الملازمة بينهما ، لأنه كلّما ارتفع الحدث جاز الدخول في الصلاة ، وكلما جاز الدخول في الصلاة ارتفع الحدث ، فكفى أحدهما عن الآخر.

الخامس : ضمّ الرفع والاستباحة معا الى الوجوب والقربة ، فيقول : أتوضأ لرفع الحدث واستباحة الصلاة لوجوبه قربة الى الله ، وهو مذهب ابي الصلاح وقطب الدين الراوندي ومعين الدين المصري ، جمعا بين الأقوال ، ولان الاكتفاء بأحدهما استدلال بالملازمة والإتيان بهما استدلال بالمطابقة ، وهو يقين والأول ليس بيقين وأجيب بأن الملازمة اليقينية (٥٤) يقين أيضا.

قال الشهيد في شرح الإرشاد : ولو ضم المكلف الجميع ، واعتقد وجوب الضم أخطأ في اعتقاده وصحت الطهارة على القول بعدم وجوب الضم ، والمعتمد المذهب الرابع.

قال رحمه‌الله : وقيل : إذا نوى غسل الجنابة أجزأ عن غيره ، وإذا نوى غيره لم يجزئ عنه ، وليس بشي‌ء.

أقول : إذا اجتمع على المكلف أغسال وأحدها غسل الجنابة ، قال الشيخ رحمه‌الله : إذا نواه أجزأ عن غيره ، لأنه يبيح الصلاة من غير وضوء ، وغيره يحتاج إلى وضوء ، فكان أكمل منه ، والناقص يدخل تحت الكامل ، وغيره لا يجزي عنه ، لعدم جواز العكس ، فلو كمل بالوضوء احتمل الإجزاء عن غسل الجنابة ، لمساواته له في كون كل منهما يبيح الصلاة ويرفع الحدث ، وفعل احد المتساويين يقوم مقام الآخر.

ويحتمل عدم الاجزاء لكون الجنابة مستمرة بعد الغسل ، والوضوء ليس له مدخل في رفع حدث الجنابة ، والكامل بنفسه أكمل من الكامل بغيره ،

__________________

(٥٤) في «ي ١» : البينة.

٥٧

هذا إذا نوى رفع حدث المس مثلا ، أما إذا نوى استباحة الصلاة ولم يقصد رفع حدث الجنابة ولا حدث المس مثلا : فإنه يحتمل الإجزاء أيضا ، لأنه فعل فعلا يصلح لكل منهما ، ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لكل امرئ ما نوى» (٥٥) ، وقد نوى استباحة فعل الصلاة ، فيباح له فعلها.

ويحتمل عدم الاجزاء ، لأنه نوى ما يصلح لكل منهما ، وصرفه إلى أحدهما دون الآخر ترجيح من غير مرجح ، والأول أقوى.

تنبيه : لو اجتمع على من فرضه التيمم أغسال اجتزأ بتيمّمين ، أحدهما للغسل والأخر للوضوء ، سواء نوى الأقوى كالجنابة ، أو الأضعف كالحيض مثلا لبقاء حدثه بعد التيمم ، فلا يكفي في الأقوى تيمم واحد ، لان المتداخل هو الغسل خاصّة ، فلا يكفي عن طهارة أخرى ، لأصالة البقاء ، وعدم الخروج عن العهدة إلا بفعله.

قال رحمه‌الله : ويجب أن يغسل من أعلى الوجه الى الذقن ، ولو غسل منكوسا لم يجزه على الأظهر.

أقول : عدم جواز النكس مذهب الشيخ وأكثر الأصحاب ، والجواز مذهب السيّد وابن إدريس ، ودليل الفريقين الروايات (٥٦).

فرعان :

الأوّل : لا بد من غسل جزء من الرأس وجزء من أسفل الذقن ، لتوقف الواجب عليه.

الثاني : إذا أدخل يده تحت شعر اللحية وغسل بشرة لحيته لم يجز ، لأنها

__________________

(٥٥) لاحظ الهامش رقم (٥٣).

(٥٦) مستند الأكثر : الوسائل ، كتاب الطهارة ، باب ١٥ من أبواب الوضوء ، حديث ٦ وغيره ، ومستند المرتضى من الروايات الحديث ١ من باب ٢٠ من المصدر السابق ، وليراجع المدارك ١ : ١٩٩ ـ ٢٠١.

٥٨

إن كانت كثيفة فالغسل للظاهر ، وان كانت خفيفة فالغسل لهما معا ، فلا يجزي أحدهما.

قال رحمه‌الله : والأفضل مسح الرأس مقبلا ، ويكره مدبرا على الأشبه.

أقول : الكراهة مذهب الشيخ في أكثر كتبه ، واختاره ابن إدريس والعلامة وأبو العباس ، لصدق امتثال الأمر بالمسح. والتحريم مذهب الشيخ في الخلاف ، والسيّد المرتضى ، لأنه مع النكس يكون منهيا عنه ، فلا يجزي.

وأجيب : بأن النهي يتناول غسل استقبال شعر اليدين ، وحمل الرأس عليه قياس.

قال رحمه‌الله : ويجب المسح على بشرة الرجلين ، ولا يجوز على حائل من خف وغيره الا لتقية أو لضرورة فإذا زال السبب أعاد الطهارة على قول ، وقيل : لا تجب الا لحدث ، والأول أحوط.

أقول : إذا مسح على حائل لتقية أو لضرورة ، ثمَّ زال السبب ، هل يجب إعادة الطهارة أم لا؟ يحتمل بقاء الطهارة ، لأنها مشروعة ولم يتعقبها حدث ، وكل طهارة وقعت مشروعة لا ينقضها الا الحدث ، فيكون حكمها باقيا ، ويحتمل وجوب الإعادة ، لأنها طهارة شرعت لضرورة فتزول بزوال ما شرعت له.

فرعان :

الأوّل : إذا عاد السبب بعد زواله ، فإن كان قبل التمكن من الطهارة فلا إعادة ، وإلّا وجبت الإعادة وإن كان كالأول.

الثاني : إذا دارت التقية بين المسح على الخفين والغسل كان الغسل أولى.

قال رحمه‌الله : الموالاة واجبة ، وهي ان يغسل كل عضو قبل ان يجف

٥٩

ما تقدمه ، وقيل : هي المتابعة بين الأعضاء مع الاختيار ، ومراعاة الجفاف مع الاضطرار.

أقول : لا خلاف في وجوب الموالاة ، وإنما الخلاف في تفسيرها على معنيين :

أحدهما : انها المتابعة ، وهو ان يغسل يده اليمنى عقيب غسل وجهه بلا فصل ، واليسرى عقيب اليمنى كذلك ، ويمسح برجليه عقيب مسح رأسه كذلك ، فإن أخّر بعض الافعال لا لعذر أثم ، فان جفّ السابق استأنف الوضوء ، وإلّا أتمّه ، وإن كان التأخير لعذر أو لانقطاع ما (٥٧) ، جاز ولم يأثم ، هذا مذهب الشيخين رحمهما‌الله واختاره العلامة ، لقوله تعالى (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) (٥٨) والآية أمر ، فيوخّى (٥٩) فيه بالفورية ، لأنه أحوط.

والآخر مراعاة الجفاف ، وهو اختيار ابن إدريس ، قال : يجوز تأخير اليد اليمنى عن الوجه ما دام الوجه رطبا ، ولا يجوز تأخيره حتى تجف رطوبته ، وكذا باقي الأعضاء.

وهو اختيار ابن حمزة ، واستقربه الشهيد ، لأن الأمر بالغسل ورد مطلقا ، والأصل براءة الذمة من وجوب المبادرة.

قال رحمه‌الله : وإذا زال العذر استأنف الطهارة على تردد.

أقول : سبق البحث في هذه المسألة (٦٠).

__________________

(٥٧) في «ن» : ماء.

(٥٨) آل عمران : ١٣٣.

(٥٩) من «ن» ، وباقي النسخ : فيقضى.

(٦٠) ص ٥٩.

٦٠