تفسير الخطيب الشربيني - ج ٢

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري

تفسير الخطيب الشربيني - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4207-0

الصفحات: ٧١٧

وقيل : صالح ؛ قال البغوي : والأوّل هو الأظهر وهو المروي عن ابن عباس ويشهد له حكاية الله قول هود : (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) [الأعراف ، ٦٩] ومجيء قصة هود على أثر قصة نوح في سورة الأعراف وسورة هود والشعراء ، ثم بين تعالى ما أرسل به بقوله تعالى : (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) أي : وحدوه لأنه لا مكافىء له ، ثم دل على الاستغراق بقوله تعالى : (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ) أي : هذه الحالة التي أنتم عليها مخافة عقابه فتؤمنون ، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر والكسائي بضم النون في الوصل والباقون بكسرها ، والقراءة في غيره ذكرت قريبا.

(وَقالَ الْمَلَأُ) أي : الأشراف التي تملأ رؤيتهم الصدور (مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : غطوا ما يعرفون من أدلة التوحيد والانتقام من المشركين (وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ) أي : بالمصير إليها (وَأَتْرَفْناهُمْ) أي : والحال أنا بما لنا من العظمة نعمناهم (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) بالأموال والأولاد وكثرة السرور يخاطبون أتباعهم ما هذا أشاروا إليه تحقيرا له عند المخاطبين (إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) في الخلق والحال ، ثم وصفوه بما يوهم المساواة لهم في كل وصف فقالوا : (يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ) أي : من طعام الدنيا (وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) أي : من شرابها فكيف يكون رسولا دونكم.

وقولهم : (وَلَئِنْ) اللام لام قسم أي : والله لئن (أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ) أي : فيما يأمركم به (إِنَّكُمْ إِذاً) أي : إن أطعتموه (لَخاسِرُونَ) أي : مغبونون لكونكم فضلتم مثلكم عليكم بما يدعيه. ثم بينوا إنكارهم بقولهم : (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ) ففارقت أرواحكم أجسادكم (وَكُنْتُمْ) أي : وكانت أجسادكم (تُراباً) باستيلاء التراب على ما دون عظامكم (وَعِظاماً) مجردة عن اللحوم والأعصاب (أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) أي : من تلك الحالة التي صرتم إليها فراجعون إلى ما كنتم عليه من الحياة على ما كان لكم من الأجسام.

تنبيه : قوله تعالى : مخرجون خبر إنكم الأولى ، وإنكم الثانية تأكيد لها لما طال الفصل.

ثم استأنفوا التصريح بما دل عليه الكلام من استبعاد ذلك فقالوا : (هَيْهاتَ هَيْهاتَ) اسم فعل ماض بمعنى مصدر أي : بعد بعد جدا ، وقال ابن عباس : هي كلمة بعد أي : بعيد ، ثم كأنه قيل : لأي شيء هذا الاستبعاد؟ فقيل : (لِما تُوعَدُونَ) من الإخراج من القبور فإن قيل : ما توعدون هو المستبعد ومن حقه أن يرفع بهيهات كما ارتفع به في قوله (١) :

فهيهات هيهات العقيق وأهله

فما هذه اللام؟ أجيب : بأنّ الزجاج قال في تفسيره : البعد لما توعدون فنزل منزلة المصدر ، ويصح أن تكون اللام لبيان المستبعد ما هو بعد التصويت بكلمة الاستبعاد كما جاءت اللام في هيت لك لبيان المهيت به أو أن اللام زائدة للبيان.

فائدة : وقف البزي والكسائي على هيهات الأولى والثانية بالهاء ، والباقون بالتاء على المرسوم.

وقولهم : (إِنْ هِيَ) ضمير لا يعلم ما يعنى به إلا بما يتلوه من بيانه ، وأصله إن الحياة (إِلَّا

__________________

(١) عجزه :

وهيهات خلّ بالعقيق نواصله

والبيت من الطويل ، وهو لجرير في ديوانه ص ٩٦٥ ، والأشباه والنظائر ٨ / ١٣٣ ، والخصائص ٣ / ٤٢ ، والدرر ٥ / ٣٢٤ ، وشرح المفصل ٤ / ٣٥ ، ولسان العرب (هيه) ، وكتاب العين ١ / ٦٤.

٦٤١

حَياتُنَا الدُّنْيا) ثم وضع هي موضع الحياة ؛ لأنّ الخبر يدل عليها ويبينها ، ومنه هي النفس تتحمل ما حملت ، والمعنى : لا حياة إلا هذه الحياة ؛ لأنّ إن النافية دخلت على هي التي بمعنى الحياة الدالة على الجنس فنفتها ، فوازنت لا التي نفت ما بعدها نفي الجنس (نَمُوتُ وَنَحْيا) أي : يموت منا من هو موجود وينشأ آخرون بعدهم ، وقيل : يموت قوم ويحيا قوم ، وقيل : تموت الآباء وتحيا الأبناء ، وقيل : في الآية تقديم وتأخير أي : نحيا ونموت لأنهم كانوا ينكرون البعث بعد الموت كما قالوا : (وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) بعد الموت فكأنه قيل : فما هذا الكلام الذي يقوله؟ فقيل : كذب ثم حصروا أمره في الكذب فقالوا : (إِنْ) أي : ما (هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى) أي : تعمد (عَلَى اللهِ) أي : الملك الأعلى (كَذِباً) فلا يلتفت إليه (وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ) أي : بمصدقين فيما يخبرنا به من البعث والرسالة ، فكأنه قيل : فما قال؟ فقيل : (قالَ رَبِ) أيها المحسن إليّ بالرسالة وبإرسالي إليهم وبغيره من أنواع النعم (انْصُرْنِي) أي : أوقع لي النصر (بِما كَذَّبُونِ) فأجابه ربه بأن : (قالَ عَمَّا قَلِيلٍ) من الزمان وما زائدة وأكدت القلة بزيادتها (لَيُصْبِحُنَ) أي : ليصيرنّ (نادِمِينَ) أي : على كفرهم وتكذيبهم إذا عاينوا العذاب.

(فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) أي : صيحة العذاب والهلاك كائنة (بِالْحَقِ) أي : الأمر الثابت من العذاب الذي لا يمكن مدافعته لهم ولا لغيرهم غير الله تعالى فماتوا ، وقيل : صيحة جبريل ، ويكون القوم ثمود على الخلاف السابق (فَجَعَلْناهُمْ) بسبب الصيحة (غُثاءً) أي : مطروحين ميتين كما يطرح الغثاء شبهوا في دمارهم بالغثاء وهو حميل السيل مما بلي واسودّ من الورق والعيدان ومنه قوله : (فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى) [الأعلى ، ٥] أي : أسود يابسا ، ولما كان هلاكهم على هذا الوجه سببا لهوانهم عبر عنه بقوله تعالى : (فَبُعْداً) أي : هلاكا وطردا عن الرحمة (لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) الذين وضعوا قوّتهم التي كان يجب عليهم بذلها في نصر الرسل في خذلانهم.

تنبيه : يحتمل هذا الدعاء عليهم والإخبار عنهم ، ووضع الظاهر موضع ضميرهم للتعليل وبعدا وسحقا ونفرا وتخويفا ونحوها مصادر موضوعة مواضع أفعالها وهي من جملة المصادر التي قال سيبويه : نصبت بأفعال لا يستعمل إظهارها.

القصة الثالثة : المذكورة في قوله تعالى : (ثُمَّ أَنْشَأْنا) أي : بعظمتنا التي لا يضرها تقديم ولا تأخير (مِنْ بَعْدِهِمْ) أي : من بعد من قدّمنا ذكره من نوح والقرن الذي بعده (قُرُوناً) أي : أقواما (آخَرِينَ) فهو سبحانه وتعالى تارة يقص علينا في القرآن مفصلا كما تقدم ، وتارة يقص مجملا كما هنا ، وقيل : المراد قصة لوط وشعيب وأيوب ويوسف عليهم‌السلام ، وعن ابن عباس : بني اسرائيل ، ثم إنه تعالى أخبر بأنه لم يعجل على أحد منهم قبل الأجل الذي أجل لهم بقوله تعالى : (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها) أي : الذي قدر لها بأنّ تموت قبله (وَما يَسْتَأْخِرُونَ) عنه.

تنبيه : ذكر الضمير بعد تأنيثه رعاية للمعنى ومن زائدة.

(ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا) أي : متتابعين بين كل اثنين زمان طويل ، وقرأ أبو عمرو : رسلنا بسكون السين ، والباقون برفعها ، وقرأ تترا ، ابن كثير وأبو عمرو في الوصل بتنوين الراء على أنه مصدر بمعنى التواتر وقع حالا ، والباقون بغير تنوين ، ولما كان كأنه قيل : فكان ما ذا؟ قيل : (كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها) أي : بما أمرناه من التوحيد (كَذَّبُوهُ) أي : كما فعل هؤلاء بك لما أمرتهم بذلك.

٦٤٢

تنبيه : أضاف الرسول مع الإرسال إلى الرسل ومع المجيء إلى المرسل إليهم ؛ لأنّ الإرسال الذي هو مبدأ الأمر منه والمجيء الذي هو منتهاه إليهم ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية بين الهمزة والواو ، والباقون بتحقيقهما ، وهم على مراتبهم في المدّ (فَأَتْبَعْنا) القرون بسبب تكذيبهم (بَعْضَهُمْ بَعْضاً) في الإهلاك ، فلم يبق عند الناس منهم إلا أخبارهم كما قال تعالى : (وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) أي : أخبار يسمعونها ويتعجب منها ليكونوا عظة للمستبصرين فيعلموا أنه لا يفلح الكافرون ولا يخيب المؤمنون ، وما أحسن قول القائل (١) :

ولا شيء يدوم فكن حديثا

جميل الذكر فالدنيا حديث

والأحاديث تكون جمعا للحديث ، ومنه أحاديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتكون جمعا للأحدوثة التي هي مثل الأعجوبة والألعوبة وهي ما يتحدث به الناس تلهيا وتعجبا وهو المراد هنا ، ولما تسبب عن تكذيبهم هلاكهم المقتضي لبعدهم قال تعالى : (فَبُعْداً لِقَوْمٍ) أي : أقوياء على ما يطلب منهم (لا يُؤْمِنُونَ) أي : لا يوجد منهم إيمان وإن جرت عليهم الفصول الأربعة لأنه لا مزاج لهم معتدل.

القصة الرابعة : قصة موسى وهارون عليهما‌السلام المذكورة في قوله تعالى : (ثُمَّ أَرْسَلْنا) أي : بما لنا من العظمة (مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا) قال ابن عباس : الآيات التسع وهي العصا واليد والجراد والقمل والضفادع والدم والبحر والسنين ونقص الثمرات (وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي : حجة بيّنة وهي العصا وأفردها بالذكر ؛ لأنها قد تعلق بها معجزات شتى من انقلابها حية وتلقفها ما أفكته السحرة وانفلاق البحر وانفجار العيون من الحجر بضربها ، وكونها حارسا وشمعة وشجرة خضراء مثمرة ودلوا ورشاء ، فجعلت كأنها ليست بعصا لما استبدت به من الفضائل فلذلك عطفت عليها كقوله تعالى : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) [البقرة ، ٩٨] ، ويجوز أن يراد بالآيات نفس تلك المعجزات وبالسلطان المبين كيفية دلالتها على الصدق وذلك لأنها وإن شاركت آيات سائر الأنبياء في كونها آيات ، فقد فارقتها في قوّة دلالتها على قول موسى عله السّلام ، وأن يراد بالسلطان المبين المعجزات وبالآيات الحجج ، وأنّ يراد بها المعجزات فإنها آيات النبوّة وحجة بينة على ما يدعيه النبي ، قال الرازي : واعلم أن الآية تدل على أن معجزات موسى كانت معجزات هارون أيضا وأنّ النبوّة كما كانت مشتركة بينهما ، فكذلك المعجزات.

(إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) أي : وقومه ولكن لما كان الأطراف لا يخافون الأشراف عدهم عدما ، ومن الواضح أن التقدير أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ، وأشار بقوله تعالى : (فَاسْتَكْبَرُوا) إلى أنهم أوجدوا الكبر عن الاتباع فيما دعوهم إليه عقب الإبلاغ من غير تأمل ولا تثبت ، وطلبوا أن لا يكونوا تحت أمر من دعاهم ، وأشار بالكون إلى فساد جبلتهم بقوله تعالى : (وَكانُوا قَوْماً) أي : أقوياء (عالِينَ) أي : متكبرين قاهرين غيرهم بالظلم.

ولما تسبب عن استكبارهم وعلوهم إنكارهم للاتباع قال تعالى : (فَقالُوا أَنُؤْمِنُ) أي : بالله تعالى مصدقين (لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا) أي : في البشرية والمأكل والمشرب وغيرهما مما يعتري البشر كما قال من تقدمهم : (وَقَوْمُهُما) أي : والحال أن قومهما أي : بني اسرائيل (لَنا عابِدُونَ) خضوعا وتذللا أي : في غاية الذل والانقياد كالعبيد ، فنحن أعلى منهما بهذا ، أو لأنه كان يدعي الإلهية ،

__________________

(١) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

٦٤٣

فادعى للناس العبادة وأنّ طاعتهم له عبادة على الحقيقة.

(فَكَذَّبُوهُما) أي : فرعون وملؤه موسى وهارون ، (فَكانُوا) أي : فرعون وملؤه بسبب تكذيبهم (مِنَ الْمُهْلَكِينَ) أي : بالغرق ببحر القلزم ولم تغن عنهم قوّتهم في أنفسهم ، ولا قوتهم على خصوص بني اسرائيل واستعبادهم ولا ضر بني اسرائيل ضعفهم عن دفاعهم ولا ذلهم لهم وصغارهم في أيديهم.

ولما كان ضلال بني اسرائيل بعد إنقاذهم من عبودية فرعون وقومه أعجب قال تعالى تسلية لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَلَقَدْ آتَيْنا) أي : بعظمتنا (مُوسَى الْكِتابَ) أي : التوراة (لَعَلَّهُمْ) أي : قوم موسى وهارون عليهما‌السلام (يَهْتَدُونَ) من الضلالة إلى المعارف والأحكام ، ولا يصح عود الضمير إلى فرعون وملئه ؛ لأنّ التوراة إنما أوتيها بنو اسرائيل بعد إغراق فرعون وملئه بدليل قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى) [القصص ، ٤٣].

القصة الخامسة : قصة عيسى المذكورة في قوله تعالى :

(وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (٥٠) يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٥١) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (٥٢) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٥٣) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (٥٤) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (٥٦) إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (٥٩) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (٦٠) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (٦١) وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٢) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (٦٣) حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (٦٤) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (٦٥) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (٦٦) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (٦٧) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٠) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (٧١) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٧٢) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٣) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (٧٤) وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٥) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (٧٦) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٧))

(وَجَعَلْنَا) أي : بعظمتنا وقدرتنا (ابْنَ مَرْيَمَ) نسبه إليها تحقيقا لكونه لا أب له ، وكونه بشرا محمولا في البطن مولودا لا يصلح لرتبة الإلهية ، وزاد في تحقيق ذلك بقوله : (وَأُمَّهُ) وقال تعالى : (آيَةً) ولم يقل : آيتين ؛ لأنّ الآية فيهما واحدة ولادته من غير فحل ، ويحتمل أن الآية الأولى حذفت لدلالة الثانية عليها ، والتقدير : وجعلنا ابن مريم آية وأمه آية لأنّ الله تعالى : جعل مريم آية لأنها حملته من غير ذكر ، وقال الحسن : قد تكلمت في صغرها كما تكلم عيسى وهو قولها : (هُوَ

٦٤٤

مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) [آل عمران ، ٣٧] ، ولم تلتقم ثديا قط.

تنبيه : قال بعض المفسرين : ولعل في ذلك إشارة إلى أنه تكلمت به آية للقدرة على إيجاد الإنسان بكل اعتبار من غير ذكر ولا أنثى ، وهو آدم ، ومن ذكر بلا أنثى وهي حوّاء عليهاالسّلام ، ومن أنثى بلا ذكر وهو عيسى ، ومن الزوجين وهو بقية الناس (وَآوَيْناهُما) أي : بعظمتنا (إِلى رَبْوَةٍ) أي : مكان عال من الأرض.

تنبيه : قد اختلف في هذه الربوة ، فقال عطاء عن ابن عباس : هي بيت المقدس ، وهو قول قتادة وكعب ، قال كعب : هي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا ، وقال عبد الله بن سلام : هي دمشق ، وقال أبو هريرة : هي الرملة ، وقال السدي : هي أرض فلسطين ، وقال ابن زيد : هي مصر ، وقرأ ابن عامر وعاصم بفتح الراء ، والباقون بضم الراء (ذاتِ قَرارٍ) أي : منبسطة مستوية واسعة يستقر عليها ساكنوها (وَمَعِينٍ) أي : ماء جار ظاهر تراه العيون.

تنبيه : قد اختلف في زيادة ميم معين وأصالتها فوجه من جعلها مفعولا أنه مدرك بالعين لظهوره من عانه إذا أدركه بعينه نحو ركبه إذا ضربه بركبته ، ووجه من جعله فعيلا أنه نفاع لظهوره وجريه من الماعون وهو المنفعة قيل : سبب الإيواء أنها مرت بابنها إلى الربوة ، وبقيت بها اثنتي عشرة سنة ، ثم رجعت إلى أهلها بعدما مات ملكهم وههنا آخر القصص.

وقد اختلف في المخاطب بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) على وجوه ؛ أحدها : أنه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحده على مذهب العرب في مخاطبة الواحد بلفظ الجماعة ، ثانيها : أنه عيسى ؛ لأنه روي أن عيسى كان يأكل من غزل أمه ، ثالثها : أنه كل رسول خوطب بذلك ، ووصي به لأنه تعالى في الأزل متكلم آمرناه ، ولا يشترط في الأمر وجود المأمورين بل الخطاب أزلا على تقدير وجود المخاطبين ، فقول البيضاوي : لا على أنهم خوطبوا بذلك دفعة لأنهم أرسلوا في أزمنة مختلفة بل على معنى أن كلا منهم خوطب به في زمانه ، تبع فيه «الكشاف» ، فإن المعتزلة أنكروا قدم الكلام فحملوا الآية على خلاف ظاهرها ، وأنت خبير بأنّ عدم اشتراط ما ذكر إنما هو في التعلق المعنوي لا التنجيزي الذي الكلام فيه ، فإنه مشروط فيه ذلك ، وإنما خاطب جميع الرسل بذلك ليعتقد السامع أن أمرا خوطب به جميع الرسل ووصوا به حقيق أن يؤخذ به ويعمل عليه ، وهذا كما قال الرازي أقرب ؛ لأنه روي «عن أم عبد الله أخت شداد بن أوس أنها بعثت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقدح من لبن في شدّة الحر عند فطره وهو صائم ، فرد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليها وقال : من أين لك هذا؟ فقالت : من شاة لي ، ثم رده صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : من أين هذه الشاة؟ فقالت : اشتريتها من مالي ، فأخذه ثم إنها جاءته فقالت : يا رسول الله لم رددته؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك أمرت الرسل أن لا تأكل إلا طيبا ، ولا تعمل إلا صالحا» (١) ، والمراد بالطيب الحلال ، وقيل : طيبات الرزق الحلال الصافي القوام ، فالحلال هو الذي لا يعصى الله تعالى فيه ، والصافي هو الذي لا ينسى الله فيه ، والقوام هو الذي يمسك النفس ويحفظ العقل ، وقيل : المراد بالطيب المستلذ أي : ما تستلذه النفس من المأكل والمشرب والفواكه ، ويشهد له مجيئه على عقب قوله تعالى : (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ)

__________________

(١) أخرجه الحاكم في المستدرك ٤ / ١٢٥ ، ١٢٦ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٩٢٥٠ ، ١٦٩٩٠ ، والبخاري في التاريخ الكبير ٦ / ١٣٣ ، ١٣٩ ، ٣٣٩.

٦٤٥

[المؤمنون ، ٥٠] ، واعلم أنه سبحانه وتعالى كما قال للمرسلين : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) قال للمؤمنين : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ ،) ودل سبحانه وتعالى على أن الحلال عون على الطاعة بقوله تعالى : (وَاعْمَلُوا صالِحاً) فرضا ونفلا سرا وجهرا غير خائفين من أحد غير الله تعالى ، ثم حثهم على دوام المراقبة بقوله تعالى : (إِنِّي بِما) أي : بكل شيء (تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) أي : بالغ العلم فأجازيكم عليه ، وقرأ : (وَإِنَّ هذِهِ) بكسر الهمزة الكوفيون على الاستئناف ، والباقون بفتحها على تقدير واعلموا أن هذه أي : ملة الإسلام ، وخفف النون ساكنة ابن عامر وشدّدها مفتوحة الباقون (أُمَّتُكُمْ) أي : دينكم أيها المخاطبون أي : يجب أن تكونوا عليها حال كونها (أُمَّةً واحِدَةً) لا شتات فيها أصلا ، فما دامت موحدة ، فهي مرضية (وَأَنَا رَبُّكُمْ) أي : المحسن إليكم بالخلق والرزق وحدي ، فمن وحدني نجا ، ومن أشرك معي غيري هلك (فَاتَّقُونِ) أي : فاحذرون.

(فَتَقَطَّعُوا) أي : الأمم وإنما أضمرهم لوضوح إرادتهم ؛ لأنّ الآية التي قبلها قد صرحت بأنّ الأنبياء ومن نجا منهم أمة واحدة لا خلاف بينهما ، فعلم قطعا أن الضمير للأمم ، ومن نشأ بعدهم ولذلك كان النظر إلى الأمر الذي كان واحدا أهم فقدم ، وقوله : (أَمْرَهُمْ) أي : دينهم بعد أن كان مجتمعا متصلا (بَيْنَهُمْ) وقوله تعالى : (زُبُراً) حال من فاعل تقطعوا أي : أحزابا متخالفين ، فصاروا فرقا كاليهود والنصارى والمجوس وغيرهم من الأديان المختلفة جمع زبور بمعنى الفرقة ، وقيل : معنى زبرا كتبا أي : تمسك كل قوم بكتاب فآمنوا به وكفروا بما سواه من الكتب (كُلُّ حِزْبٍ) أي : فرقة من المتحزبين (بِما لَدَيْهِمْ) أي : عندهم من ضلال وهدى ، وقرأ حمزة بضم الهاء والباقون بكسرها (فَرِحُونَ) أي : مسرورون فضلا عن أنهم راضون.

وقوله تعالى : (فَذَرْهُمْ) خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي : اترك كفار مكة (فِي غَمْرَتِهِمْ) أي : ضلالتهم ، شبهها بالماء الذي يغمر القامة لأنهم مغمورون فيها (حَتَّى حِينٍ) أي : إلى أن يقتلوا أو يموتوا ، سلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك ونهى عن الاستعجال بعذابهم والجزع من تأخيره.

ولما كان الموجب لغرورهم ظنهم أن حالهم في بسط الأرزاق من الأموال والأولاد حالة رضا عنهم أنكر ذلك عليهم تنبيها لمن سبقت له السعادة ، وكتبت له الحسنى وزيادة فقال تعالى : (أَيَحْسَبُونَ) أي : لضعف عقولهم ، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بفتح السين والباقون بكسرها (أَنَّما نُمِدُّهُمْ) أي : نعطيهم ونجعله مددا لهم (بِهِ مِنْ مالٍ) نيسره لهم (وَبَنِينَ) نمتعهم بهم.

ثم أخبر عن أن بقوله تعالى : (نُسارِعُ) أي : نجعل (لَهُمْ) أي : به (فِي الْخَيْراتِ) لا نفعل ذلك (بَلْ لا يَشْعُرُونَ) أنهم في غاية البعد عن الخيرات (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) [الأعراف ، ١٨٢] ، وقال تعالى في موضع آخر : (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) [التوبة ، ٥٥] ، وروي عن زيد بن ميسرة أنه قال : أوحى الله تعالى إلى نبي من الأنبياء أيفرح عبدي أن أبسط إليه الدنيا ، وهو أبعد له مني ، ويحزن أن أقبض عنه الدنيا وهو أقرب له مني ، وعن الحسن أنه لما أتي عمر رضي الله عنه بسواري كسرى فأخذهما ووضعهما في يد سراقة بن مالك فبلغا منكبيه ، فقال عمر : اللهم إني قد علمت أن نبيك عليه الصلاة والسّلام كان يحب أن يصيب مالا لينفقه في سبيلك ، فزويت ذلك عنه ، ثم إن أبا بكر كان يحب

٦٤٦

ذلك اللهم لا يكون ذلك مكرا منك ، ثم تلا : (أَيَحْسَبُونَ) الآية. ولما ذكر أهل الافتراق ذكر أهل الوفاق ووصفهم بأربع صفات.

الأولى : قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ) أي : ببواطنهم (مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ) أي : الخوف العظيم من المحسن إليهم المنعم عليهم (مُشْفِقُونَ) أي : دائمون على الحذر.

الصفة الثانية : قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ) أي : القرآن (يُؤْمِنُونَ) أي : يصدقون.

الصفة الثالثة : قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ) أي : الذي لا محسن إليهم غيره (لا يُشْرِكُونَ) أي : شيئا من شرك في وقت من الأوقات كما لم يشركه في الإحسان إليهم أحد.

ولما أثبت لهم الإيمان الخالص نفى عنهم العجب بقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ) أي : يعطون (ما آتَوْا) أي : ما أعطوا من الصدقة والأعمال الصالحة ، وهذه الصفة الرابعة (وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) أي : شديدة الخوف أن لا يقبل منهم ولا ينجيهم من عذاب الله ، ثم علل ذلك بقوله تعالى : (أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ) أي : الذي طال إحسانه إليهم (راجِعُونَ) بالبعث ، فيجازيهم على النقير والقطمير ، ويجزيهم بكل قليل وكثير ، وهو الناقد البصير ، ولا تنفع هناك الندامة ، وليس هناك إلا الحكم العدل والحكم القاطع من جهة مالك الملك ؛ قال الحسن البصري : المؤمن جمع إيمانا وخشية ، والمنافق جمع إساءة وأمنا.

ثم أثبت لهم ما أفهم أن ضده لأضادهم بقوله تعالى : (أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ) أي : يبادرون إلى الأعمال الصالحة قبل الموت.

ولما ذكر تعالى كيفية أعمال المؤمنين المخلصين ذكر أنه تعالى لا يكلف أحدا فوق طاقته بقوله تعالى : (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أي : طاقتها ، فمن لم يستطع أن يصلي الفرض قائما فليصل قاعدا ، ومن لم يستطع أن يصلي قاعدا فليصل مضطجعا ، ومن لم يستطع أن يصوم رمضان فليفطر ؛ لأنّ مبنى المخلوق على العجز (وَلَدَيْنا) أي : وعندنا (كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِ) بما عملته كل نفس ، وهو اللوح المحفوظ تسطر فيه الأعمال ، وقيل : كتب الحفظة ونظيره قوله تعالى : (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ) [الجاثية ، ٢٩] ، وقوله تعالى : (لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) [الكهف ، ٤٩] ، فشبه تعالى الكتاب بمن يصدر عنه البيان ، فإن الكتاب لا ينطق لكنه يعرف بما فيه كما يعرف بنطق الناطق إذا كان محقا فإن قيل : ما فائدة ذلك الكتاب مع أن الله تعالى يعلم ذلك إذ لا تخفى عليه خافية؟ أجيب : بأنّ الله تعالى يفعل ما يشاء ، وقد يكون في ذلك حكمة لا يطلع عليها إلا هو تعالى (وَهُمْ) أي : الخلق كلهم (لا يُظْلَمُونَ) أي : لا ينقص من حسناتهم ، ولا يزاد في سيئاتهم.

ثم ذكر حال الكفار فقال تعالى : (بَلْ قُلُوبُهُمْ) أي : الكفرة من الخلق (فِي غَمْرَةٍ) أي : جهالة قد أغرقتها (مِنْ هذا) أي : القرآن أو الذي وصف به حال هؤلاء أو من كتاب الحفظة (وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ) المذكور للمؤمنين (هُمْ) أي : الكفار (لَها) أي : لتلك الأعمال الخبيثة (عامِلُونَ) أي : لا بد أن يعملوها فيعذبون عليها لما سبق من الشقاوة.

(حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ) أي : رؤساءهم وأغنياءهم (بِالْعَذابِ) قال ابن عباس : هو السيف يوم بدر ، وقيل : هو الجوع دعا عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «اللهم اشدد وطأتك على مضر

٦٤٧

واجعلها عليهم سنين كسني يوسف» (١) فابتلاهم الله تعالى بالقحط حتى أكلوا الكلاب والجيف والعظام المحرقة والقذر والأولاد (إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ) أي : يصيحون ويستغيثون ويجزعون ، وأصل الجأر رفع الصوت بالتضرع ؛ قاله البغوي ، فكأنه قيل : فهل يقبل اعتذارهم أو يرحم انكسارهم؟ فقيل : لا بل يقال لهم بلسان الحال أو المقال.

(لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ) فإن الجأر غير نافع لكم ، ثم علل ذلك بقوله تعالى : (إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ) أي : بوجه من الوجوه ، ومن عدم نصرنا لم يجد له ناصرا فلا فائدة لجأره إلا إظهار الجزع. ثم علل عدم نصره لهم بقوله تعالى : (قَدْ كانَتْ آياتِي) أي : من القرآن (تُتْلى عَلَيْكُمْ) أي : من أوليائي وهم الهداة النصحاء (فَكُنْتُمْ) كونا هو كالجبلة (عَلى أَعْقابِكُمْ) عند تلاوتها (تَنْكِصُونَ) أي : تعرضون مدبرين عن سماعها والعمل بها ، والنكوص الرجوع القهقرى.

(مُسْتَكْبِرِينَ) عن الإيمان ، واختلف في عود الضمير في (بِهِ) فقال ابن عباس : بالبيت الحرام ، وشهرة استكبارهم وافتخارهم أنهم قوّامه أغنت عن سبق ذكره ، وذلك أنهم يقولون : نحن أهل حرم الله وجيران بيته ، فلا يظهر علينا أحد ولا نخاف أحدا ، فيأمنون فيه ، وسائر الناس في الخوف ، وقيل : بالقرآن ، فلم يؤمنوا به ، وقوله تعالى : (سامِراً) نصب على الحال أي : جماعة يتحدثون بالليل حول البيت ، وقوله تعالى : (تَهْجُرُونَ) قرأه نافع بضم التاء وكسر الجيم من الإهجار وهو الإفحاش أي : تفحشون وتقولون الخنا ذكر أنهم كانوا يسبون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه والباقون بفتح التاء وضم الجيم ، أي : تعرضون عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن الإيمان وعن القرآن وترفضونها وتسمون القرآن سحرا وشعرا ، ثم إنه تعالى لما وصف حالهم ردّ عليهم بأنّ بين أن إقدامهم على هذه الأمور لا بد أن يكون لأحد أمور أربعة :

أحدها : أن لا يتأملوا في دليل نبوّته ، وهو المراد من قوله تعالى : (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) أي : القرآن الدال على صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصل يدبروا يتدبروا أدغمت التاء في الدال.

ثانيها : أن يعتقدوا أن ما جاء به الرسول أمر على خلاف العادة وهو المراد من قوله تعالى : (أَمْ جاءَهُمْ) في هذا القول (ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) الذين بعد إسماعيل وقبله.

ثالثها : أن لا يكونوا عالمين بأمانته وحسن حاله قبل ادعائه النبوّة ، وهو المراد من قوله تعالى : (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ) أي : الذي أتاهم بهذا القول الذي لا قول مثله ، وهم يعرفون نسبه وصدقه وأمانته ، وما جاءهم به من معالي الأخلاق حتى أنهم لا يجدون فيه إذا تحققت الحقائق نقيصة يذكرونها ولا وصمة يستحلونها كما دلت عليه الأحاديث الصحاح منها حديث أبي سفيان بن حرب الذي في أول البخاري في سؤال هرقل ملك الروم له عن شأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد اتفقت كلمتهم بتسميته الأمين (فَهُمْ) أي : فتسبب عن جهلهم به أنهم (لَهُ) أي : نفسه أو القول الذي أتى به (مُنْكِرُونَ) فيكونوا ممن جهل الحق لجهل حال الآتي به ، وفي هذا غاية التوبيخ لهم بجهلهم وبغباوتهم بأنهم يعرفون أنه أصدق الخلق وأعلاهم في كل معنى جميل ، ثم كذبوه.

__________________

(١) أخرجه البخاري في الأذان حديث ٨٠٤ ، ومسلم في المساجد حديث ٦٧٥ ، وأبو داود في الصلاة حديث ١٤٤٢ ، والنسائي في التطبيق حديث ١٠٧٣.

٦٤٨

رابعها : أن يعتقدوا فيه الجنون فيقولوا إنما حمله على ادعائه الرسالة جنونه ، وهو المراد من قوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ) أي : بعد تدبر ما أتى به وعدم عثورهم فيه على وجه من وجوه الطعن (بِهِ) أي : رسولهم (جِنَّةٌ) أي : جنون فلا يوثق به.

ولما كانت هذه الأقسام منفية عنه فإنهم أعرف الناس بهذا النبي الكريم ، وإنه أكملهم خلقا وأشرفهم خلقا ، وأظهرهم شيما ، وأعظمهم همما ، وأرجحهم عقلا وأمتنهم رأيا ، وأرضاهم قولا وأصوبهم فعلا أضرب عنها وقال تعالى : (بَلْ) أي : لم ينكصوا عند سماع الآيات ويسمروا ويهجروا لاعتقاد شيء مما مضى ، وإنما فعلوا ذلك لأنّ هذا الرسول الكريم (جاءَهُمْ بِالْحَقِ) أي : القرآن المشتمل على التوحيد وشرائع الإسلام ، وقال الجلال المحلي : الاستفهام فيه للتقرير بالحق من صدق النبي ومجيء الرسول للأمم الماضية ومعرفة رسولهم بالصدق والأمانة وأنّ لا جنون به ، وبل للانتقال (وَأَكْثَرُهُمْ) أي : والحال أن أكثرهم (لِلْحَقِّ كارِهُونَ) متابعة للأهواء الردية والشهوات البهيمية عنادا ، وإنما قيد تعالى الحكم بالأكثر ؛ لأنّ بعضهم يتركه جهلا وتقليدا وخوفا من أن يقال صبأ ، وبعضهم يتبعه توفيقا من الله تعالى وتأييدا.

ثم بين تعالى أن اتباع الهوى يؤدي إلى الفساد العظيم بقوله تعالى : (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُ) أي : القرآن (أَهْواءَهُمْ) بأنّ جاء بما يهووه من الشرك والولد لله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا (لَفَسَدَتِ السَّماواتُ) على علوها وإحكامها (وَالْأَرْضُ) على كثافتها وانتظامها (وَمَنْ فِيهِنَ) على كثرتهم وانتشارهم وقوّتهم أي : خرجت عن نظامها المشاهد بسبب ادعائهم تعدد الآلهة لوجود التمانع في الشيء عادة عند تعدد الحاكم كما سبق تقريره في قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء ، ٢٢] ، (بَلْ أَتَيْناهُمْ) بعظمتنا (بِذِكْرِهِمْ) أي : بالقرآن الذي فيه ذكرهم وشرفهم ، وقيل : بالذكر الذي تمنوه بقولهم : لو أن عندنا ذكرا من الأولين (فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ) أي : الذي هو شرفهم (مُعْرِضُونَ) لا يلتفتون إليه.

ثم بين تعالى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يطمع فيهم حتى يكون ذلك سببا لنفرتهم بقوله تعالى : (أَمْ تَسْأَلُهُمْ) أي : على ما جئتم به (خَرْجاً) أي : أجرا ، وقرأ حمزة والكسائي بفتح الراء وبعدها ألف ، والباقون بسكون الراء ، ولما كان الإنكار معناه النفي حسن موقع فاء السببية في قوله تعالى : (فَخَراجُ رَبِّكَ) أي : رزقه في الدنيا وثوابه في العقبى (خَيْرٌ) لسعته ودوامه ، ففيه مندوحة لك عن عطائهم ، وقرأ ابن عامر بسكون الراء والباقون بفتحها وألف بعدها قال أبو عمرو بن العلاء : الخرج ما تبرعت به ، والخراج ما لزمك أداؤه ؛ قال الزمخشري : والوجه أن الخرج أخص من الخراج كقولك : خراج القرية ، وخرج الكردة أي : الرقبة زيادة اللفظ لزيادة المعنى ، ولذلك حسنت قراءة من قرأ خرجا فخراج ربك يعني أم تسألهم على هدايتك لهم قليلا من عطاء الخلق ، فالكثير من عطاء الخالق خير ، وقوله تعالى : (وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) تقرير لخيرية خراجه.

ولما زيف سبحانه وتعالى طريق القوم أتبعه بصحة ما جاء به الرسول بقوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) تشهد عقولهم السليمة على استقامته لا عوج فيه يوجب اتهامهم له ، كما تشهد له به العقول الصحيحة ، فمن سلكه أوصله إلى الغرض ، فحاز كل شرف.

تنبيه : قد ألزمهم الله تعالى الحجة في هذه الآيات ، وقطع معاذيرهم وعللهم ، فإن الذي أرسل إليهم رجل معروف أمره وحاله مخبور سره وعلنه خليق بأنّ يجتبى مثله للرسالة من بين

٦٤٩

ظهرانيهم وأنه لم يعرض له حتى يدعي مثل هذه الدعوى العظيمة بباطل ، ولم يجعل له سلما إلى النيل من دنياهم واستعطاء أموالهم ، ولم يدعهم إلى دين الإسلام الذي هو الصراط المستقيم إلا مع إبراز المكنون من أدوائهم وهو إخلالهم بالتدبر والتأمل من غير برهان.

(وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) أي : بالبعث والثواب والعقاب (عَنِ الصِّراطِ) أي : الذي لا صراط غيره ؛ لأنه لا موصل إلى القصد غيره (لَناكِبُونَ) أي : عادلون منحرفون في سائر أحوالهم سائرون على غير منهج أصلا بل خبط عشواء.

(وَلَوْ رَحِمْناهُمْ) أي : عاملناهم معاملة المرحوم في إزالة ضرره وهو معنى قوله تعالى : (وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ) أي : جوع أصابهم بمكة سبع سنين (لَلَجُّوا) أي : عادوا وتمادوا (فِي طُغْيانِهِمْ) الذي كانوا عليه قبل هذا (يَعْمَهُونَ) أي : يترددون.

(وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) وذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا على قريش أن يجعل عليهم سنين كسني يوسف ، فأصابهم القحط ، فجاء أبو سفيان إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أنشدك الله والرحم ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين فقال : بلى ، فقال : قد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع ، فقد أكلوا الفرث والعظام والعلهز وشكا إليه الضرع فادع الله تعالى يكشف عنا هذا القحط فدعا فكشف عنهم فأنزل الله تعالى هذه الآية.

تنبيه : العلهز وبر يخلط بدماء اللحم ، فيؤكل في الجدب والعلهز أيضا : القراد الضخم ، وشكا بعض الأعراب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم السنة فقال (١) :

ولا شيء مما يأكل الناس عندنا

سوى الحنظل العامي والعلهز الفسل

وليس لنا إلا إليك فرارنا

وأين فرار الناس إلا إلى الرسل

فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «واستسقى لرفع هذه المحن» فقال الله تعالى عنهم : (فَمَا اسْتَكانُوا) أي : خضعوا خضوعا هو كالجبلة لهم وأصله طلب السكون (لِرَبِّهِمْ) أي : المحسن إليهم عقب المحنة (وَما يَتَضَرَّعُونَ) أي : يجددون الدعاء بالخضوع والذل والخشوع في كل وقت بحيث يكون لهم عادة بل هم على ما جبلوا عليه من الاستكبار والعتو.

(حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا) أي : صاحب (عَذابٍ شَدِيدٍ) قال ابن عباس : يعني القتل يوم بدر ، وهو قول مجاهد ، وقيل : هو الموت ، وقيل : هو قيام الساعة (إِذا هُمْ فِيهِ) أي : ذلك الباب مطروحون لا يقدرون منه على نوع خلاص (مُبْلِسُونَ) متحيرون آيسون من كل خير ، ثم إنه سبحانه التفت إلى خطابهم وبين عظيم نعمته من وجوه :

أحدها : ما ذكره بقوله تعالى :

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٧٨) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٩) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٨٠) بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (٨١) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٨٢) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ

__________________

(١) البيتان من الطويل ، وهما بلا نسبة في لسان العرب (علهز) ، (فسل) ، (عوم) ، وتاج العروس (علهز) ، (عيهم).

٦٥٠

هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٨٣) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٨٥) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٨٧)قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٨) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (٨٩) بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٩٠) مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (٩١) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٩٢) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (٩٣) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٩٤) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (٩٥) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (٩٦) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (٩٧) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (٩٨) حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٠٠) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (١٠١) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (١٠٣) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (١٠٤) أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٠٥))

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ) أي : خلق (لَكُمُ) يا من يكذب بالآخرة (السَّمْعَ) بمعنى الإسماع (وَالْأَبْصارَ) على غير مثال سبق لتحسنوا بها ما نصب من الآيات (وَالْأَفْئِدَةَ) أي : التي هي مراكز العقول فتتفكروا في الآيات وتستدلوا بها على الوحدانية فكنتم بها أعلى من بقية الحيوان جمع فؤاد وهو القلب ، وإنما خص هذه الثلاثة بالذكر ؛ لأنه يتعلق بها من المنافع الدينية والدنيوية ما لا يتعلق بغيرها ، فمن لم يعملها فيما خلقت له ، فهو بمنزلة عادمها كما قال عزوجل : (فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ) [الأحقاف ، ٢٦] ، ولما صور لهم هذه النعم وهي بحيث لا يشك عاقل في أنه لو تصور أن يعطي آدمي شيئا منها لم يقدر على مكافأته حسن تبكيتهم في كفر النعم ، فقال تعالى : (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) لمن أولادكم هذه النعم التي لا يقدر غيره على شيء منها مع ادعائكم أنكم أشكر الناس لمن أسدى إليكم أقل ما يكون من النعم التي يقدر على مثلها كل أحد ، فكنتم بذلك مثل الحيوانات العجم صما بكما عميا ؛ قال أبو مسلم : ليس المراد أن لهم شكرا وإن قل ، لكنه يقال للكفور الجاحد النعمة ما أقل شكر فلان.

ثانيها : ما ذكره في قوله تعالى : (وَهُوَ) أي : وحده (الَّذِي ذَرَأَكُمْ) أي : خلقكم وبثكم (فِي الْأَرْضِ) للتناسل (وَإِلَيْهِ) وحده (تُحْشَرُونَ) يوم النشور.

ثالثها : ما ذكره بقوله تعالى : (وَهُوَ) أي : وحده (الَّذِي) من شأنه أنه (يُحْيِي وَيُمِيتُ) فلا مانع له من البعث ولا غيره مما يريده.

رابعها : ما ذكره بقوله تعالى : (وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي : التصرف فيهما بالسواد والبياض والزيادة والنقصان (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي : بالنظر والتأمل أن الكل منا وأن قدرتنا تعم الممكنات كلها ، وأن البعث من جملتها فتعتبرون.

ولما كان معنى الاستفهام الإنكاري النفي حسن بعده بقوله تعالى : (بَلْ قالُوا) أي : هؤلاء العرب (مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ) من قوم نوح ومن بعدهم فقالوا ذلك تقليدا للأولين ، ثم حكى الشبهة عنهم من وجهين :

٦٥١

أحدهما : ما ذكره بقوله تعالى : (قالُوا) أي : منكرين للبعث متعجبين من أمره (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا) أي : بالبلاء بعد الموت (تُراباً وَعِظاماً) نخرة ، ثم أكدوا الإنكار بقولهم : (أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) أي : لمحشورون بعد ذلك قالوا ذلك استبعادا ولم يتأملوا أنهم قبل ذلك أيضا كانوا ترابا فخلقوا.

ثانيهما : ما ذكره بقوله تعالى : إنهم قالوا : (لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا) أي : البعث بعد الموت (مِنْ قَبْلُ) كأنهم قالوا : إن هذا الوعد كما وقع منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد وقع قديما من سائر الأنبياء ولم يوجد مع طول العهد ، وظنوا أن الإعادة تكون في دار الدنيا ، ثم قالوا : (إِنْ) أي : ما (هذا إِلَّا أَساطِيرُ) أي : أكاذيب (الْأَوَّلِينَ) كالأضاحيك والأعاجيب جمع أسطورة بالضم ، وقيل : جمع أسطار جمع سطر ؛ قال رؤبة (١) :

إني وأسطار سطرن سطرا

وهو ما كتبه الأولون مما لا حقيقة له.

ولما أنكروا البعث هذا الإنكار المؤكد ونفوه هذا النفي المحتم أمره الله تعالى أن يقررهم بثلاثة أشياءهم بها مقرون ، ولها عارفون يلزمهم من تسليمها الإقرار بالبعث قطعا :

أحدها : قوله تعالى : (قُلْ) أي : مجيبا لإنكارهم البعث ملزما لهم (لِمَنِ الْأَرْضُ) أي : على سعتها وكثرة عجائبها (وَمَنْ فِيها) على كثرتهم واختلافهم (إِنْ كُنْتُمْ) أي : مما هو كالجبلة لكم (تَعْلَمُونَ) أي : أهلا للعلم وفيه تنبيه على أنهم أنكروا شيئا لا ينكره عاقل.

ولما كانوا مقرين بذلك أخبر تعالى عن جوابهم قبل جوابهم ليكون من دلائل النبوة وإعلام الرسالة بقوله تعالى استئنافا : (سَيَقُولُونَ) أي : قطعا ذلك كله (لِلَّهِ) أي : المختص بصفات الكمال ، ثم إنه تعالى أمره بقوله : (قُلْ) أي : لهم إذا قالوا لك ذلك منكرا عليهم (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أي : في ذلك المركوز في طباعكم المقطوع به عندكم ما غفلتم عنه من تمام قدرته وباهر عظمته فتصدقوا ما أخبر به من البعث الذي هو دون ذلك ، وتعلموا أنه لا يصلح شيء منها وهو ملكه أن يكون شريكا له تعالى ولا ولدا وتعلموا أن القادر على الخلق ابتداء قادر على الإحياء بعد الموت ، وأنه لا يصح في الحكمة أصلا أن يترك البعث لأنّ أقلكم لا يرضى بترك حساب عبيده والعدل بينهم ، وقرأ حفص وحمزة والكسائي بتخفيف الذال والباقون بالتشديد بإدغام التاء الثانية في الذال.

ثانيها : قوله تعالى : (قُلْ) أي : لهم (مَنْ رَبُ) أي : خالق ومدبر (السَّماواتِ السَّبْعِ) كما تشاهدون من حركاتها وسير أفلاكها (وَرَبُّ الْعَرْشِ) أي : الكرسي (الْعَظِيمِ) كما قال تعالى : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [البقرة ، ٢٥٥].

(سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) أي : الذي له كل شيء هو رب ذلك لا جواب لهم غير ذلك ، ولما تأكد الأمر وزاد الوضوح حسن التهديد على التمادي فقال تعالى : (قُلْ) أي : منكرا عليهم (أَفَلا تَتَّقُونَ) أي : تحذرون عبادة غيره.

ثالثها قوله : (قُلْ) أمره الله تعالى بعدما قرّرهم بالعالمين العلوي والسفلي أن يقرّرهم بما

__________________

(١) الرجز لرؤبة في ملحق ديوانه ص ١٧٤ ، ولسان العرب (نصر) ، وتاج العروس (نصر) ، ومقاييس اللغة ٥ / ٤٣٦ ، والكتاب ٢ / ١٨٥ ، ولذي الرمة في شرح شذور الذهب ص ٥٦٤ ، وليس في ديوانه ، وبلا نسبة في تهذيب اللغة ١٢ / ٣٢٧ ، وأسرار العربية ص ٢٩٧ ، والأشباه والنظائر ٤ / ٨٦.

٦٥٢

هو أعم وأعظم وهو قوله تعالى : (مَنْ بِيَدِهِ) أي : من تحت قدرته ومشيئته (مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) من إنس وجن وغيرهما ، والملكوت : الملك البليغ ، قال ابن الأثير : كانت العرب إذا كان السيد فيهم أجار أحدا لا يخفر جواره ، وليس لمن دونه أن يجير عليه لئلا يعاب عليه ، ولو أجار ما أفاد ، ولهذا قال تعالى : (وَهُوَ يُجِيرُ) أي : يمنع ويغيث من شاء فيكون في حرز لا يقدر أحد على الدنو من ساحته (وَلا يُجارُ عَلَيْهِ) أي : ولا يمكن أحدا أبدا أن يجير جوارا يكون مستعليا عليه بأن يكون على غير مراده بل يأخذ من أراد وإن نصره جميع الخلائق ويعلي من أراد وإن تحاملت عليه كل المصائب فتبين كالشمس أنه لا شريك يمانعه ولا ولد يضارعه ، وأنه السيد العظيم الذي لا أعظم منه ، الذي له الخلق والأمر ولا معقب لحكمه وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، ثم ألهبهم إلى المبادرة إلى الاعتراف به وهيجهم بقوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي : في عداد من يعلم ، ولذلك استأنف قوله تعالى : (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) أي : الذي بيده ذلك خاصا به.

تنبيه : سيقولون لله الأول لا خلاف فيها ، وأما الثانية والثالثة فقرأ أبو عمرو : سيقولون الله بزيادة همزة الوصل مع التفخيم فيهما ، ورفع الهاء والباقون بغير همز الوصل مع الترقيق وكسر الهاء والتقدير ذلك كله لله ، ولما كان جوابهم بذلك يقتضي إنكار توقفهم في الإقرار بالبعث استأنف قوله تعالى : (قُلْ) أي : لهم منكرا عليهم (فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) أي : فكيف بعد إقراركم بهذا كله تخدعون وتصرفون عن الحق وكيف يخيل لكم أنه باطل.

ولما كان الإنكار بمعنى النفي حسن قوله تعالى :

(بَلْ) أي : ليس الأمر كما يقولون بل (أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِ) أي : بالصدق من التوحيد والوعد بالنشور (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) في كل ما ادعوه من الولد والشريك وغيرهما مما بين القرآن فساده ومن أعظم كذبهم قولهم : (اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً) [مريم ، ٨٨] قال تعالى ردا عليهم :

(مَا اتَّخَذَ اللهُ) أي : الذي لا كفء له (مِنْ وَلَدٍ) أي : لا من الملائكة ولا من غيرهم لما قام من الأدلة على غناه وأنه لا مجانس له ، ولما كان الولد أخص من مطلق الشريك قال تعالى : (وَما كانَ مَعَهُ) أي : بوجه من الوجوه (مِنْ إِلهٍ) يشابهه في الألوهية (إِذاً) لو كان معه إله آخر (لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ) بالتصرف فيه وحده ليتميز ما له مما لغيره.

فإن قيل : إذا لا تدخل إلا على كلام هو جزاء وجواب ، فكيف وقع قوله تعالى : (لَذَهَبَ) جزاء وجوابا ، ولم يتقدمه شرط ولا سؤال سائل؟ أجيب : بأن الشرط محذوف تقديره ولو كان معه آلهة ، وإنما حذف لدلالة قوله تعالى : وما كان معه من إله عليه وهو جواب لمن معه المحاجة من المشركين (وَلَعَلا بَعْضُهُمْ) أي : بعض الآلهة (عَلى بَعْضٍ) إذا تخالفت أوامرهم ، فلم يرض أحد منهم أن يضاف ما خلقه إلى غيره ، ولا أن يمضي فيه أمر على غير مراده كما هو مقتضى العادة ، فلا يكون المغلوب إلها لعجزه ولا يكون مجيرا غير مجار عليه بيده وحده ملكوت كل شيء. ولما طابق الدليل الإلزامي نفي الشريك نزه نفسه الشريفة بما هو نتيجة ذلك من قوله تعالى : (سُبْحانَ اللهِ) أي : المتصف بجميع صفات الكمال المنزه عن شائبة كل نقص (عَمَّا يَصِفُونَ) من كل ما لا يليق بجناية المقدس من الأنداد والأولاد لما سبق من الدليل على فساده.

ثم أقام دليلا آخر على كماله يوصفه بقوله تعالى : (عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي : ما غاب وما شوهد ، وقرأ نافع وحفص وحمزة والكسائي برفع الميم على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره هو ،

٦٥٣

والباقون بالخفض على أنه صفة لله ، ثم رتب على هذا الدليل قوله تعالى : (فَتَعالى) أي : تعاظم (عَمَّا يُشْرِكُونَ) معه من الآلهة.

ثم إن الله تعالى أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله تعالى : (قُلْ رَبِ) أي : أيها المحسن إليّ (إِمَّا) فيه إدغام نون إن الشرطية في ما الزائدة أي : إن كان لا بد أن (تُرِيَنِّي) لأنّ ما والنون للتأكيد (ما يُوعَدُونَ) من العذاب في الدنيا والآخرة.

(رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي) بإحسانك إليّ (فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي : قرينا لهم في العذاب.

فإن قيل : كيف يجوز أن يجعل الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم المعصوم مع الظالمين حتى يطلب أن لا يجعله معهم؟ أجيب : بأنه يجوز أن يسأل العبد ربه ما علم أنه يفعله ، وأن يستعيذ به مما علم أنه لا يفعله إظهارا للعبودية وتواضعا لربه وإخباتا له واستغفاره صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا قام من مجلسه سبعين مرة أو مائة مرة لذلك وما أحسن قول الحسن في قول أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه : وليتكم ولست بخيركم ، كان يعلم أنه خيرهم ولكن المؤمن يهضم نفسه وإنما ذكر ربه مرتين مرة قبل الشرط ، ومرة قبل الجزاء مبالغة في التضرع.

(وَإِنَّا) أي : بما لنا من العظمة (عَلى أَنْ نُرِيَكَ) أي : قبل موتك (ما نَعِدُهُمْ) من العذاب (لَقادِرُونَ) لكنا نؤخره علما بأن بعضهم أو بعض أعقابهم يؤمنون وهو صادق بالقتل يوم بدر أو فتح مكة.

ثم كأنه قال : فماذا أفعل فيما تعلم من أمرهم ، فقال تعالى : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي : من الأقوال والأفعال بالصفح والمداراة (السَّيِّئَةَ) أذاهم إياك وهذا قبل الأمر بالقتال فهي منسوخة ، وقيل : محكمة لأن المداراة محثوث عليها ما لم تؤد إلى نقصان دين أو مروءة (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ) في حقك وحقنا ، فلو شئنا منعناهم منه أو عاجلناهم بالعذاب ، وليس أحد بأغير منا فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل.

ولما أدب سبحانه وتعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يدفع بالتي هي أحسن علمه ما به يقوى على ذلك بقوله تعالى : (وَقُلْ رَبِ) أي : أيها المحسن إليّ (أَعُوذُ بِكَ) أي : ألتجىء إليك (مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) أي : أن يصلوا إليّ بوساوسهم ، وأصل الهمز النخس ومنه مهماز الرائض شبه حثهم الناس على المعاصي بهمز الرائض الدواب على المشي وإنما جمع همزات لتنوع الوسواس أو لتعدد المضاف إليه.

(وَأَعُوذُ بِكَ رَبِ) أي : أيها المربى لي (أَنْ يَحْضُرُونِ) في حال من الأحوال خصوصا حال الصلاة وقراءة القرآن وحلول الأجل ؛ لأنها أحرى الأحوال ، وهم إنما يحضرون بالسوء ، ولو لم تصل إليّ وساوسهم ، فإن بعدهم بركة ، وعن جبير بن مطعم قال : رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي صلاة قال عمر : ولا أدري أي صلاة هي فقال : «الله أكبر كبيرا ثلاثا ، والحمد لله كثيرا ثلاثا ، وسبحان الله بكرة وأصيلا ثلاثا أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من نفخه ونفثه وهمزه ؛ قال : نفثه الشعر ونفخه الكبر ، وهمزه الموتة» (١) أخرجه أبو داود ؛ لأن الشعر يخرج من القلب فيلفظ به اللسان ، وينفثه كما ينفث الريق والمتكبر ينتفخ ويتعاظم ويجمع نفسه ويحتاج إلى أن ينفخ ، والموتة الجنون والمجنون

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الصلاة حديث ٧٦٤ ، وابن ماجه في الإقامة حديث ٨٠٧.

٦٥٤

يصير في الدنيا كالميتة.

ثم إن الله تعالى أخبر أن هؤلاء الكفار الذين ينكرون البعث يسألون الرجعة إلى الدنيا عند معاينة الموت بقوله تعالى : (حَتَّى) وهي هنا كما قال الجلال المحلي ابتدائية أو متعلقة بيصفون أو بكاذبون كما قال الزمخشري ، وقدّم المفعول ليذهب الوهم في فاعله كل مذهب فقال : (إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ) فكشف له الغطاء وظهر له الحق ولاحت له بوارق العذاب ، ولم يبق في شيء من ذلك ارتياب (قالَ) متحسرا على ما فرّط فيه من الإيمان والطاعة مخاطبا لملائكة العذاب على عادة جهله ووقوفه مع المحسوس من دأب البهائم (رَبِّ ارْجِعُونِ) أي : ردوني إلى الدنيا دار العمل ، ويجوز أن يكون الجمع له تعالى وللملائكة أو للتعظيم على عادة مخاطبات الأكابر سيما الملوك كقوله (١) :

ألا فارحموني يا إله محمد

وقوله (٢) :

فإن شئت حرمت النساء سواكم

أو القصد تكرير الفعل للتأكيد ؛ لأنه في معنى أرجعني كما قيل في قفا واطرقا فإنهما بمعنى قف قف واطرق اطرق.

ولما كان في تلك الحالة مع وصوله إلى الغرغرة ليس على القطع من اليأس قال : (لَعَلِّي أَعْمَلُ) أي : لأن كون على رجاء من أن اعمل (صالِحاً فِيما تَرَكْتُ) أي : ضيعت من الإيمان بالله وتوابعه فيدخل في الأعمال الأعمال البدنية والمالية وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا : نرجعك إلى الدنيا فيقول إلى دار الهموم والأحزان بلى قدوما على الله ، وأما الكافر فيقول : رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت» (٣) قال قتادة : ما تمنى أن يرجع إلى أهله ولا عشيرته ولا ليجمع الدنيا ويقضي الشهوات ، ولكن تمنى أن يرجع فيعمل بطاعة الله فرحم الله امرأ عمل فيما تمناه الكافر إذا رأى العذاب ، وقال ابن كثير : كان العلاء بن زياد يقول : لينزل أحدكم نفسه أنه قد حضره الموت واستقال ربه ، فأقاله فليعمل بطاعة الله تعالى ، ولما كان القضاء قد قطع بأنه لا يرجع ولو رجع لم يعمل بطاعة الله عزوجل ، ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ، وإنهم لكاذبون ، قال الله تعالى له ردعا وردا لكلامه : (كَلَّا) أي : لا يكون شيء من ذلك وكأنه قيل : فما حكم ما قال؟ فقيل : (إِنَّها كَلِمَةٌ) والمراد بالكلمة في اللغة الطائفة من الكلام المنتظم بعضها مع بعض رب ارجعون إلى آخره (هُوَ قائِلُها) وقد عرف منه الخداع والكذب فهي كما عهد منه لا حقيقة لها ، فلا يجاب إليها ولا تسمع منه وهو لا محالة لا يخليها ، ولا يسكت عنها لاستيلاء الحسرة عليه ، وتسلط الندم (وَمِنْ وَرائِهِمْ) أي : أمامهم والضمير للجماعة (بَرْزَخٌ) أي : حاجز حائل بينهم وبين الرجعة ، واختلف في معناه فقال مجاهد : حجاب بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا ، وقال قتادة : بقية

__________________

(١) الشطر لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

(٢) عجزه :

وإن شئت لم أطعم نقاحا ولا بردا

والبيت من الطويل ، وهو للعرجي في ديوانه ص ١٠٩ ، ولسان العرب (نقخ) ، (برد).

(٣) أخرجه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين ١٠ / ٤٠٤.

٦٥٥

الدنيا ، وقال الضحاك : البرزخ ما بين الموت إلى البعث ، وقيل : هو الموت ، وقيل : هو القبر هم فيه (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) وهو يوم القيامة ، وفي هذا إقناط كليّ من الرجوع إلى الدنيا لما علم أنه لا رجعة يوم البعث إلى الدنيا ، وإنما الرجوع فيه إلى حياة تكون في الآخرة.

(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ) أي : القرن ، روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنها النفخة الأولى ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) ثم نفخ فيه أخرى ، فإذا هم قيام ينظرون ، وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون ، وعن ابن مسعود أنها النفخة الثانية قال : يؤخذ بيد العبد والأمة يوم القيامة فينصب على رؤوس الأولين والآخرين ، ثم ينادي مناد هذا فلان بن فلان ، فمن كان له قبله حق فليأت إلى حقه فيفرح المرء أن يكون له حق على والده أو ولده أو زوجته أو أخيه ، فيأخذه منهم ، ثم قرأ ابن مسعود فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ، وفي رواية عطاء عن ابن عباس أنها النفخة الثانية فلا أنساب بينهم أي : لا يتفاخرون بالأنساب يومئذ كما كانوا يتفاخرون بها في الدنيا ولا يتساءلون سؤال تواصل كما كانوا يتساءلون في الدنيا من أنت ومن أي قبيل أنت ، ولم يرد أن الإنسان ينقطع نسبه ، فإن قيل : قد قال تعالى هنا : ولا يتساءلون ، وقال تعالى في موضع آخر : (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) [الصافات ، ٢٧]؟ أجيب : بأن ابن عباس قال : إن للقيامة أحوالا ومواطن ففي موطن يشتد عليهم الخوف فيشغلهم عظم الأمر عن التساؤل ، فلا يتساءلون ، في موطن يفيقون إفاقة فيتساءلون ، وقيل : التساؤل بعد دخول أهل الجنة الجنة وأهل النار النار.

(فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) أي : بالأعمال المقبولة ، قال البقاعي : ولعل الجمع لأن لكل عمل ميزانا يعرف أنه لا يصلح له غيره ، وذلك أدل دليل على القدرة (فَأُولئِكَ) أي : خاصة قال أيضا : ولعله جمع للبشارة بكثرة الناجي بعد أن أفرد للدلالة على كثرة الأعمال أو على عموم الوزن لكل فرد (هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي : الفائزون بالنجاة والدرجات العلى.

(وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) لإعراضه عن تلك الأعمال المؤسسة على الإيمان (فَأُولئِكَ) خاصة (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) لإهلاكهم إياها باتباعها شهواتها في دار الأعمال وشغلها بأهوائها عن مراتب الكمال وقوله تعالى : (فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ) بدل من الصلة ، أو خبر ثان لأولئك ، وهي دار لا ينفك أسيرها ولا ينطفىء سعيرها.

ثم استأنف قوله تعالى : (تَلْفَحُ) أي : تغشى بشدّة حرّها وسمومها ووهجها (وُجُوهَهُمُ النَّارُ) فتحرقها ، فما ظنك بغيرها ، واللفح كالنفح إلا أنه أشد تأثيرا (وَهُمْ فِيها كالِحُونَ) أي : عابسون قد شمرت شفاههم العليا والسفلى عن أسنانهم ، وعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته» (١).

وقوله تعالى : (أَلَمْ تَكُنْ آياتِي) أي : من القرآن على إضمار القول أي : يقال لهم : ألم تكن آياتي (تُتْلى عَلَيْكُمْ) أي : تتابع لكم قراءتها في الدنيا شيئا فشيئا (فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ.)

ثم استأنف جوابه بقوله تعالى :

__________________

(١) أخرجه الترمذي في صفة جهنم حديث ٢٥٨٧.

٦٥٦

(قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (١٠٦) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (١٠٧) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (١٠٨) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (١١١) قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (١١٣) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (١١٥) فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (١١٧) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١١٨))

(قالُوا رَبَّنا) أي : المسبغ علينا نعمه (غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا) أي : ملكتنا بحيث صارت أحوالها مؤدّية إلى سوء العاقبة (وَكُنَّا) أي : بما جبلنا عليه (قَوْماً ضالِّينَ) في ذلك عن الحق أقوياء في موجبات الشقوة فكان سببا للضلال عن طريق السعادة.

(رَبَّنا) يا من عودنا بالإحسان (أَخْرِجْنا مِنْها) أي : من النار تفضلا منك على عادة فضلك وردّنا إلى دار الدنيا لنعمل ما يرضيك (فَإِنْ عُدْنا) إلى مثل ذلك الضلال (فَإِنَّا ظالِمُونَ) لأنفسنا.

ثم استأنف جوابهم بأن : (قالَ) لهم بلسان ملك بعد قدر الدنيا مرتين كما يقال للكلب (اخْسَؤُا) أي : انزجروا زجر الكلاب وانطردوا عن مخاطبتي ساكتين سكوت هوان (فِيها) أي : النار (وَلا تُكَلِّمُونِ) أصلا ، فإنكم لستم بأهل لمخاطبتي لأنكم لن تزالوا متصفين بالظلم فييأس القوم بعد ذلك ، ولا يتكلموا بكلمة إلا الزفير والشهيق والعواء كعواء الكلاب ، وقال القرطبي : إذا قيل لهم ذلك انقطع رجاؤهم ، وأقبل بعضهم ينبح في وجه بعض فانطبقت عليهم ، وعن ابن عباس أن لهم ست دعوات إذا دخلوا النار قالوا ألف سنة : ربنا أبصرنا وسمعنا ، فيجابون : حق القول مني ، فينادون ألفا : ربنا أمتنا اثنتين ، فيجابون : ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم ، فينادون ألفا : يا مالك ليقض علينا ربك ، فيجابون : إنكم ماكثون ، فينادون ألفا : ربنا أخرجنا منها ، فيجابون : أولم تكونوا أقسمتم ، فينادون ألفا : أخرجنا نعمل صالحا ، فيجابون : أولم نعمركم ، فينادون ألفا : رب ارجعون ، فيجابون : اخسؤوا فيها ولا تكلمون ، ثم لا يكون لهم إلا الزفير والشهيق والعواء.

ثم علل ذلك بقوله تعالى : (إِنَّهُ كانَ) أي : كونا ثابتا (فَرِيقٌ) أي : ناس قد استضعفتموهم (مِنْ عِبادِي) وهم المؤمنون (يَقُولُونَ) مع الاستمرار (رَبَّنا) أي : أيها المحسن إلينا بالخلق والرزق (آمَنَّا) أي : أوقعنا الإيمان بجميع ما جاءتنا به الرسل (فَاغْفِرْ لَنا) أي : استر لنا زللنا (وَارْحَمْنا) أي : افعل بنا فعل الراحم (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) لأنك تخلص برحمتك من كل شقاء وهوان.

(فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ) أي : فتسبب عن إيمانهم أن اتخذتموهم (سِخْرِيًّا) أي : تسخرون منهم وتستهزؤن بهم ، وقرأ نافع وحمزة والكسائي بضم السين ، والباقون بالكسر وهو مصدر سخر كالسخر إلا أن في ياء النسب زيادة قوّة في الفعل كما قيل : الخصوصية في الخصوص ، وعن الكسائي والفرّاء أن المكسور من الهزء والمضموم من السخرية والعبودية ، أي : تسخرونهم وتتعبدونهم ؛ قال الزمخشري : والأول مذهب الخليل وسيبويه ، انتهى. وأظهر الذال عند التاء ابن

٦٥٧

كثير وحفص ، والباقون بالإدغام (حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي) أي : بأن تذكروني فتخافوني ، وأضاف ذلك إليهم لأنهم كانوا السبب فيه لفرط اشتغالهم بالاستهزاء بهم (وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ) استهزاء بهم نزلت في كفار قريش كانوا يستهزئون بالفقراء من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل بلال وعمار وصهيب وخباب.

ولما تشوّقت النفس بعد العلم بما فعل بأعدائهم إلى جزائهم قال الله تعالى : (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ) أي : بالنعيم المقيم (بِما صَبَرُوا) أي : على عبادتي ولم يشغلهم عنها تألمهم بأذاكم ، كما يشغلكم عنها التذاذكم بإهانتهم ففازوا دونكم وهو معنى قوله تعالى : (أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ) أي : بمطلوبهم الناجون من عذاب النار ، وقرأه حمزة والكسائي بكسر الهمزة على الاستئناف والباقون بفتحها على أنها مفعول ثان لجزيتهم.

ثم إن الله تعالى : (قالَ) لهم على لسان الملك المأمور بسؤالهم تبكيتا وتوبيخا لأنهم كانوا يظنون أن بعد الموت يدوم الفناء ولا إعادة ، فلما حصلوا في النار وأيقنوا أنها دائمة ، وأنهم فيها مخلدون سألهم (كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ) على تلك الحال في الدنيا التي كنتم تعدونها فوزا (عَدَدَ سِنِينَ) أنتم فيها ظافرون ولأعدائكم قاهرون ، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي : قل كم ، بضم القاف وسكون اللام على الأمر للملك أو لبعض رؤساء أهل النار ، والباقون بفتح القاف واللام وألف بينهما خبرا وتقدم توجيهه وأظهر الثاء المثلثة عند التاء المثناة فوق نافع وابن كثير وعاصم وأدغمها فيها الباقون.

(قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) يشكون في ذلك. فإن قيل : كيف يصح في جوابهم أن يقولوا ذلك ، ولا يقع من أهل النار الكذب؟ أجيب : بأنهم نسوا ذلك لكثرة ما هم فيه من الأهوال ، وقد اعترفوا بهذا النسيان حيث قالوا : (فَسْئَلِ الْعادِّينَ) أي : الملائكة المحصين أعمال الخلق وأعمارهم ؛ قال ابن عباس : أنساهم ما كانوا فيه من العذاب بين النفختين ، وقيل : قالوا ذلك تصغيرا للبثهم وتحقيرا له بالإضافة إلى ما وقعوا فيه من دوام العذاب قال بعضهم (١) :

ألا أن أيام الشقاء طويلة

كما أن أيام السرور قصار

وقرأ ابن كثير والكسائي بفتح السين وترك الهمز بعدها وكذا يفعل حمزة في الوقف والباقون بسكون السين وهمزة مفتوحة بعدها ثم : (قالَ) الله تعالى لهم على لسان الملك : (إِنْ) أي : ما (لَبِثْتُمْ) أي : في الدنيا (إِلَّا قَلِيلاً ،) لأن الواحد وإن طال مكثه في الدنيا فإنه يكون قليلا في جنب ما يلبث في الآخرة (لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي : في عداد من يعلم في ذلك الوقت لما آثرتم الفاني على الباقي ولأقبلتم على ما ينفعكم ولتركتم أفعالكم التي لا يرضاها عاقل ، ولكنكم كنتم في عداد البهائم ، وقرأ حمزة والكسائي : قل ؛ أمرا ، والباقون : قال ؛ خبرا ، ولبثتم تقدم مثله ، وتوجيه قال وقل.

ثم وبخهم الله تعالى على تغافلهم بقوله تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ) على ما لنا من العظمة ، وقوله تعالى : (عَبَثاً) حال أي : عابثين كقوله : لاعبين ، أو مفعول له أي : ما خلقناكم

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو بلا نسبة في تاج العروس (قرب) ، وفيه برواية :

وأطلّت أيام السرور فلم يصب

من قال : أيام السرور قصار

٦٥٨

للعبث ، ولم يدعنا إلى خلقكم إلا حكمة اقتضت ذلك ، وهي أن نتعبدكم ونكلفكم المشاق من الطاعات وترك المعاصي (وَ) حسبتم (أَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) في الآخرة للجزاء ، وروى البغوي بسنده عن أنس «أن رجلا مصابا مرّ به على ابن مسعود فرقاه في أذنه أفحسبتم إنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون ، ثم ختم السورة فبرىء فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : والذي نفسي بيده لو أن رجلا موقنا قرأها على جبل لزال» (١).

وقرأ حمزة والكسائي بفتح التاء الفوقية وكسر الجيم ، والباقون بضم الفوقية وفتح الجيم.

ثم نزّه سبحانه وتعالى نفسه عما يقوله ويصفه به المشركون بقوله تعالى : (فَتَعالَى اللهُ) أي : الذي له الجلال والجمال علوا كبيرا عن العبث ، وغيره مما لا يليق به (الْمَلِكُ) أي : المحيط بأهل مملكته علما وقدرة وسياسة وحفظا ورعاية (الْحَقُ) أي : الذي لا يتطرق الباطل إليه في شيء في ذاته ولا في صفاته فلا زوال له ولا لملكه (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فلا يوجد له نظير أصلا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ، فهو متعال عن سمات النقص والعبث ، ثم زاد في التعيين والتأكيد والتفرد بوصفه بصفة لا يدعيها غيره بقوله تعالى : (رَبُّ الْعَرْشِ) أي : السرير المحيط بجميع الكائنات التي تنزل منه محكمات الأقضية والأحكام ولذا وصفه بالكرم فقال : (الْكَرِيمِ) أو لنسبته إلى أكرم الأكرمين.

ولما بيّن سبحانه وتعالى أنه الملك الحق لا إله إلا هو أتبعه بأن من ادّعى إلها آخر ، فقد ادعى باطلا بقوله تعالى : (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ) أي : الملك الذي لاكفء له (إِلهاً آخَرَ) يعبده (لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ) أي : بسبب دعائه بذلك إذا اجتهد في إقامة برهان على ذلك لم يجد ، ثم ذكر أن من قال ذلك فجزاؤه العقاب العظيم بقوله تعالى : (فَإِنَّما حِسابُهُ) أي : جزاؤه الذي لا يمكن زيادته ولا نقصه (عِنْدَ رَبِّهِ) أي : الذي رباه ولم يربه أحد سواه الذي هو أعلم بسريرته وعلانيته ، فلا يخفى عليه شيء من أمره ، ولما افتتح السورة بقوله : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) ختمها بقوله : (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) أي : لا يسعدون ، فشتان ما بين الفاتحة والخاتمة.

ولما شرح الله تعالى أحوال الكفار في جهلهم في الدنيا وعذابهم في الآخرة أمر الله تعالى رسوله عليه الصلاة والسّلام بالانقطاع إليه والالتجاء إلى غفرانه ورحمته بقوله تعالى : (وَقُلْ رَبِ) أي : أيها المحسن إليّ (اغْفِرْ وَارْحَمْ) أي : أكثر من هذين الوصفين (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) فمن رحمته أفلح بما توفقه له من امتثال ما أشرت إليه أول السورة ، فكان من المؤمنين وكان من الوارثين الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون ، فقد انطبق على الأول هذا الآخر بفوز كل مؤمن وخيبة كل كافر ، فنسأل الله تعالى أن يكون لنا ولوالدينا ولأحبابنا أرحم راحم وخير غافر إنه المتولي للسرائر والمرجو لإصلاح الضمائر ، وما رواه البيضاوي تبعا للزمخشري من أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ سورة المؤمنون بشرته الملائكة بالروح والريحان ، وما تقرّ به عينه عند نزول ملك الموت» (٢) حديث موضوع ، وقوله أيضا تبعا للزمخشري : روي أن أول سورة قد أفلح وآخرها من كنوز العرش من عمل بثلاث آيات من أولها واتعظ بأربع آيات من آخرها فقد نجا وأفلح ، قال شيخ شيخنا ابن حجر حافظ عصره : لم أجده.

__________________

(١) أخرجه السيوطي في الدر المنثور ٥ / ١٧.

(٢) ذكره الزمخشري في الكشاف ٣ / ٢٠٩.

٦٥٩

سورة النور

مدنية وهي ثنتان أو أربع وستون آية

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) الذي تمت كلمته فبهرت قدرته (الرَّحْمنِ) الذي ظهرت الحقائق كلها بشمول رحمته (الرَّحِيمِ) الذي شرف من اختاره بخدمته قوله تعالى :

(سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢) الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٣) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٧) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (٨) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (١٠))

(سُورَةٌ) خبر لمبتدأ محذوف تقديره هذه سورة أي : عظيمة أو سورة أنزلناها ، مبتدأ موصوف والخبر محذوف أي : فيما أوحينا إليك سورة أنزلناها ، وقال الأخفش : لا يبعد الابتداء بالنكرة ، فسورة مبتدأ ، وأنزلناها خبره ، ثم رغب في امتثال ما فيها مبينا أن تنوينها للتعظيم بقوله تعالى : (أَنْزَلْناها) أي : بمالنا من العظمة وتمام العلم والقدرة (وَفَرَضْناها) أي : قدّرنا ما فيها من الحدود ، وقيل : أوجبناها عليكم وعلى من بعدكم إلى قيام الساعة ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بتشديد الراء لكثرة الفروض ، والباقون بالتخفيف (وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ) من الحدود والأحكام والمواعظ والأمثال وغيرها (بَيِّناتٍ) أي : واضحات الدلالة (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي : تتعظون ، وقرأ حفص وحمزة والكسائي بتخفيف الذال والباقون بالتشديد ، ثم إنه تعالى ذكر في السورة أحكاما كثيرة : الحكم الأول : قوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) أي : غير المحصنين لرجمهما بالسنة وأل فيما ذكر موصولة وهو مبتدأ ولشبهه بالشرط دخلت الفاء في خبره وهو (فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) أي : ضربة يقال : جلده إذا ضرب جلده ، ويزاد على ذلك بالسنة تغريب عام ،

٦٦٠