تفسير الخطيب الشربيني - ج ٢

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري

تفسير الخطيب الشربيني - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4207-0

الصفحات: ٧١٧

كما هو رأي البصريين أي : فقيل : وإما لأنّ النداء في معنى القول عند الكوفيين وقوله تعالى : (أَنَا) يجوز أن يكون مبتدأ وما بعده خبره والجملة خبر إن ويجوز أن يكون توكيد للضمير المنصوب ويجوز أن يكون فصلا.

وروى ابن مسعود مرفوعا في قوله تعالى : (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) إنهما كانا من جلد حمار ميت ويروى غير مدبوغ فأمر بخلعهما صيانة للوادي المقدّس وقال عكرمة ومجاهد : إنما أمر بذلك ليباشر بقدمه تراب الأرض المقدّسة فيناله بركتها ويدل لذلك أنه قال تعالى عقبه : (إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ) أي : المطهر أو المبارك فخلعهما وألقاهما من وراء الوادي هذا ما قاله أهل التفسير.

وذكر أهل الإشارة في ذلك وجوها :

أحدها : أنّ النعل في النوم يعبر بالزوجة وقوله : (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) إشارة إلى أنه لا يلتفت بخاطره إلى الزوجة والولد وأن لا يبقى مشغول القلب بأمرهما.

ثانيها : المراد بخلع النعلين ترك الالتفات إلى الدنيا والآخرة كأنه أمره أن يصير مستغرق القلب بالكلية في معرفة الله تعالى فلا يلتفت إلى المخلوقات.

ثالثها : أن الإنسان حال الاستدلال على وجود الصانع لا يمكنه أن يتوصل إليه إلا بمقدمتين مثل أن يقول : العالم المحسوس محدث وكل ما كان كذلك فله مؤثر ومدبر وصانع فهاتان المقدمتان شبيهتان بالنعلين لأنّ بهما يتوصل العقل إلى المقصود وينتقل من النظر في الخلق إلى معرفة الخالق ثم بعد الوصول إلى معرفة الخالق وجب أن لا يبقى ملتفتا إلى تلك المقدمتين ، فكأنه قيل : لا تكن مشتغل الخاطر بتلك المقدّمتين فإنك وصلت إلى الوادي المقدس الذي هو بحر معرفة الله تعالى : وقوله تعالى : (طُوىً) بدل أو عطف بيان وقرأه هنا وفي النازعات نافع وابن كثير وأبو عمرو بغير تنوين فهو ممنوع من الصرف باعتبار البقعة مع العلمية وقيل : لأنه معدول عن طاو فهو مثل عمر للعدل عن عامر وقيل : إنه اسم أعجمي ففيه العلمية والعجمة والباقون بالتنوين فهو مصروف باعتبار المكان ففيه العلمية فقط وعند هؤلاء ليس بأعجميّ.

وقوله تعالى : (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ) أي : اصطفيتك للرسالة من قومك قرأ حمزة بتشديد النون من أنا وقرأ اخترناك بنون بعدها ألف بلفظ الجمع والباقون بتاء مضمومة وقوله تعالى : (فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى) أي : إليك مني فيه نهاية الهيبة والجلالة كأنه تعالى قال : لقد جاءك أمر عظيم فتأهب له واجعل كل عقلك وخاطرك مصروفا إليه وفي قوله تعالى : (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ) نهاية اللطف والرحمة فيحصل له من الأوّل نهاية الرجاء ومن الثاني نهاية الخوف.

تنبيه : يجوز في لام (لِما) أن تتعلق فاستمع وهو أولى وأن تكون مزيدة في المفعول على حد قوله تعالى : (رَدِفَ لَكُمْ) [النمل ، ٧٢] وجوّز الزمخشريّ أن يكون ذلك من باب التنازع ونازعه أبو حيان بأنه لو كان كذلك لأعاد الضمير مع الثاني فكان يقول : فاستمع له لما يوحى ، وأجيب عنه بأنّ مراده التعلق المعنوي من حيث الصلاحية وأما تقدير الصناعة فلم يعنه.

وقوله تعالى : (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي) بدل مما يوحى دال على أنه مقصور على تقرير التوحيد الذي هو منتهى العلم والأمر بالعبادة التي هي كمال العمل وفي هذه الآية دلالة على أنّ علم أصول الدين مقدّم على علم الفروع ، وأيضا فالفاء في قوله تعالى فاعبدني تدل على أنّ عبادته إنما لزمت لآلهيته لأن التوحيد من علم الأصول والعبادة من علم الفروع وخص الصلاة

٥٠١

بالذكر وأفردها في قوله تعالى : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) للعلة التي أناط بها إقامتها وهو تذكير المعبود وشغل القلب واللسان بذكره.

وقيل : (لِذِكْرِي) لأني ذكرتها في الكتب وأمرت بها وقيل : لأوقات ذكري وهي مواقيت الصلاة أو لذكر صلاتي لما روى مسلم أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من نام عن صلاة أو نسيها فليقضها إذا ذكرها إنّ الله يقول : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي)(١) وقيل : لأنّ أذكرك بالثناء والمدح واجعل لك عليها لسان صدق عليا وقيل : (لِذِكْرِي) خاصة لا تشوبه بذكر غيري.

ولما خاطب تعالى موسى بقوله تعالى : (فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) أتبعه بقوله تعالى : (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ) أي : كائنة (أَكادُ أُخْفِيها) قال أكثر المفسرين : معناه أكاد أخفيها من نفسي فكيف يعلمها غيري من الخلق وكيف أظهرها لكم ذكر تعالى على عادة العرب إذا بالغوا في كتمان الشيء يقول الرجل : كتمت سري من نفسي أي : أخفيته غاية الإخفاء والله تعالى لا يخفى عليه شيء والمعنى في إخفائها التهويل والتخويف لأنهم إذا لم يعلموا متى تقوم الساعة كانوا على حذر منها كل وقت وكذلك المعنى في إخفاء وقت الموت لأنّ الله تعالى وعد قبول التوبة فإذا عرف وقت موته وانقضاء أجله اشتغل بالمعاصي إلى أن يقرب ذلك الوقت فيتوب ويصلح العمل فيتخلص من عقاب المعاصي بتعريف وقت موته فتعريف وقت الموت كالإغراء بفعل المعصية فإذا لم يعلم وقت موته لا يزال على قدم الخوف والوجل فيترك المعاصي أو يتوب منها في كل وقت خوف معاجلة الأجل. وقال أبو مسلم : (أَكادُ) بمعنى أريد وهو كقوله تعالى : (كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ) [يوسف ، ٧٦] ومن أمثالهم المتداولة لا أفعل ذلك ولا أكاد أي : لا أريد أن أفعله وقال الحسن : إن أكاد من الله واجب فمعنى قوله تعالى : (أَكادُ أُخْفِيها) أي : أنا أخفيها عن الخلق كقوله تعالى : (عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً) [الإسراء ، ٥١] أي : هو قريب وقيل : أكاد صلة في الكلام والمعنى أنّ الساعة آتية أخفيها. قال زيد الخيل (٢) :

سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه

فما أن يكاد قرنه يتنفس

أي : فما أن يتنفس قرنه وقوله تعالى : (لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) أي : تعمل من خير أو شرّ متعلق بآتية ، واختلف في المخاطب بقوله تعالى : (فَلا يَصُدَّنَّكَ) أي : يصرفنك (عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها) فقيل : وهو الأقرب كما قاله الرازي أنه موسى لأنّ الكلام أجمع خطاب له ، وقيل : هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم واختلف أيضا في عود هذين الضميرين على وجهين :

أحدهما : قال أبو مسلم (فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها) أي : عن الصلاة التي أمرتك بها (مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها) أي : بالساعة فالضمير الأوّل عائد إلى الصلاة والثاني إلى الساعة ومثل هذا جائز في اللغة فالعرب تلف الخبرين ثم ترمي بجوابهما جملة ليردّ السامع إلى كل خبر حقه.

ثانيهما : قال ابن عباس : (فَلا يَصُدَّنَّكَ) عن الساعة أي : عن الإيمان بها (مَنْ لا يُؤْمِنُ

__________________

(١) أخرجه البخاري في المواقيت حديث ٥٩٧ ، ومسلم في المساجد حديث ٦٨٠ ، والنسائي في المواقيت حديث ٦١٨ ، وابن ماجه في الصلاة حديث ٦٩٧.

(٢) البيت من الطويل ، وهو لزيد الخيل في تاج العروس (كود) ، وليس في ديوانه ، وبلا نسبة في لسان العرب (كيد).

٥٠٢

بِها) فالضميران عائدان إلى يوم القيامة وهذا أولى لأن الضمير يعود إلى أقرب المذكورات وههنا الأقرب هو الساعة وما قاله أبو مسلم إنما يصار إليه عند الضرورة ولا ضرورة ههنا.

تنبيه : المقصود من ذلك نهي موسى عن التكذيب بالبعث ولكن ظاهر اللفظ يقتضي نهي من لم يؤمن عن صدّ موسى وفيه وجهان :

أحدهما : أنّ صدّ الكافر عن التصديق بها سبب للتكذيب فذكر السبب ليدل على حمله على المسبب.

الثاني : أنّ صدّ الكافر مسبب عن رخاوة الرجل في الدين فذكر المسبب ليدل على السبب كقولهم : لا أرينك ههنا المراد نهي المخاطب عن حضوره له لا أن يراه هو فالرؤية مسببة عن الحضور كما أنّ صدّ الكافر مسبب عن الرخاوة والضعف في الدين فقيل : لا تكن رخوا بل كن شديدا صلبا حتى لا يلوح منك لمن يكفر بالبعث أنه يطمع في صدك عما أنت عليه (وَاتَّبَعَ هَواهُ) أي : ميل نفسه إلى اللذات المحبوبة المخدجة لقصر نظره عن غيرها وخالف أمر الله (فَتَرْدى) أي : فتهلك إن انصددت عنها و (ما) في قوله تعالى :

(وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (١٧) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (١٨) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (١٩) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (٢٠) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (٢١) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (٢٢) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (٢٣) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٢٤) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨) وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (٢٩) هارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (٣٣) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (٣٤) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (٣٥) قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (٣٦) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (٣٧))

(وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ) مبتدأ استفهامية و (تِلْكَ) خبره و (بِيَمِينِكَ) حال من معنى الإشارة وقوله تعالى : (يا مُوسى) تكرير لأنه ذكره قبل في قوله تعالى : (نُودِيَ يا مُوسى) وبعد في مواضع ك (أَلْقِها يا مُوسى) لزيادة الاستئناس والتنبيه.

فإن قيل : السؤال إنما يكون لطلب العلم وهو على الله تعالى محال فما الفائدة في ذلك؟

أجيب : بأنّ في ذلك فوائد ؛ الأولى : توقيفه على أنها عصا حتى إذا قلبها حية علم أنها معجزة عظيمة وهذا على عادة العرب يقول الرجل لغير : ه هل تعرف هذا؟ وهو لا يشك أنه يعرفه ويريد أن يضم إقراره بلسانه إلى معرفته بقلبه. الثانية : أن يقرّر عنده أنها خشبة حتى إذا قلبها ثعبانا لا يخافها. الثالثة : أنه تعالى لما أراه تلك الأنوار المتصاعدة من الشجرة إلى السماء وأسمعه كلام نفسه ثم أورد عليه التكليف الشاق وذكر له المعاد وختم ذلك بالتهديد العظيم فتحير موسى ودهش فقيل له : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى؟) وتكلم معه بكلام البشر إزالة لتلك الدهشة والحيرة.

فإن قيل : هذا خطاب من الله تعالى لموسى بلا واسطة ولم يحصل ذلك لمحمد صلىّ الله عليه وسلّم أجيب : بالمنع فقد خاطبه في قوله تعالى : (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) [النجم ، ١٠] إلا أنّ الذي ذكره مع موسى أفشاه إلى الخلق والذي ذكره مع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان سرا لم يؤهل له أحد من الخلق وأيضا إن كان موسى تكلم معه فأمة محمد يخاطبون الله تعالى في كل يوم مرارا على ما قاله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المصلي

٥٠٣

يناجي ربه والرب يتكلم مع آحاد أمة محمد يوم القيامة بالتسليم والتكريم لقوله تعالى : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) [يس ، ٥٨]» (١).

تنبيه : قوله تعالى : (وَما تِلْكَ) إشارة إلى العصا وقوله تعالى : (بِيَمِينِكَ) إشارة إلى اليد وفي هذا نكت ذكرها الرازي رحمه‌الله تعالى الأولى : أنه تعالى لما أشار إليهما جعل كل واحدة منهما معجزة قاهرة وبرهانا ساطعا ونقله من حدّ الجمادية إلى مقام الكرامة ، فإذا صار الجماد بالنظر الواحد حيوانا صار الجسم الكثيف نورانيا لطيفا ثم إنه تعالى ينظر كل يوم ثلاثمائة وستين مرّة إلى قلب العبد فأيّ عجب لو انقلب قلبه من موت العصيان إلى السعادة بالطاعة ونور المعرفة. ثانيها : أنّ بالنظر الأول الواحد صار الجماد ثعبانا فبلغ سحر السحرة فأي عجب لو صار القلب ثعبانا فبلغ سحر النفس الأمارة بالسوء. ثالثها : أن العصا كانت في يمين موسى فبسبب بركته انقلبت ثعبانا وبرهانا وقلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن فإذا حصلت ليد موسى هذه المنزلة فأي عجب لو انقلب قلب المؤمن بسبب أصبعي الرحمن من ظلمة المعصية إلى نور العبودية.

ولما سأل تعالى موسى عن ذلك أجاب بأربعة أشياء ثلاثة على التفصيل وواحد على الإجمال.

أوّلها : (قالَ هِيَ عَصايَ) وقد تم الجواب بذلك إلا أنه ذكر الوجوه الأخر لأنه كان يحب المكالمة مع ربه فجعل ذلك كالوسيلة إلى تحصيل هذا الغرض. ثانيها : قوله : (أَتَوَكَّؤُا) أي : أعتمد (عَلَيْها) إذا مشيت وإذا عييت وإذا وقفت على رأس القطيع وعند الطفرة. ثالثها : قوله : (وَأَهُشُ) أي : أخبط ورق الشجر (بِها) ليسقط (عَلى غَنَمِي) لتأكله فبدأ أولا بمصالح نفسه في قوله : (أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها) ثم بمصالح رعيته في قوله : (أَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي) وكذلك في القيامة يقول : نفسي نفسي ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يشتغل في الدنيا إلا بإصلاح أمر الأمّة (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) [الأنفال ، ٣٣] «اللهمّ اهد قومي فإنهم لا يعلمون» (٢) فلا جرم يوم القيامة يبدأ أيضا بأمّته فيقول : «أمّتي أمّتي» رابعها قوله : (وَلِيَ فِيها مَآرِبُ) جمع مأربة بتثلث الراء حوائج ومنافع (أُخْرى) كحمل الزاد والسقي وطرد الهوام وإنما أجمل في المآرب رجاء أن يسأله ربه عن تلك المآرب فيسمع كلام الله تعالى مرّة أخرى ويطول أمر المكالمة بسبب ذلك وقيل : انقطع لسانه بالهيبة فاجمل وقيل : اسم العصا نبعة وقيل : في المآرب كانت ذات شعبتين ومحجن فإذا طال الغصن حناه بالمحجن وإذا طلب كسره لواه بالشعبتين وإذا سار ألقاها على عاتقه فعلق بها أداوته من القوس والكنانة والحلاب وغيرها وإذا كان في البرية ركزها وعرض الزندين على شعبتيها وألقى عليها الكساء واستظل والزندين بفتح الزاي تثنية زند وزندة والزند العود الأعلى الذي تقدح به النار والزندة السفلى فيها ثقب فإذا اجتمعا قيل : زندان ولم نقل زندتان وإذا قصر رشاؤه وصله بها وكان يقاتل بها السباع عن غنمه وقيل : كان فيها من المعجزات أنه كان يستقي بها فتطول بطول البئر

__________________

(١) أخرجه العراقي في المغني عن حمل الأسفار ١ / ١٦٠ ، والبخاري في التاريخ الكبير ٣ / ٢٤٥ ، وابن أبي حاتم الرازي في علل الحديث ٣٦٧ ، ٥٥٢.

(٢) أخرجه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٨ / ٢٥٨ ، والسيوطي في الدر المنثور ٢ / ٢٩٨ ، ٣ / ٩٤.

٥٠٤

وتصير شعبتاها دلوا ويكونان شمعتين بالليل وإذا ظهر عدوّ حاربت عنه وإذا اشتهى ثمرة ركزها فأورقت وأثمرت وكان يحمل عليها زاده وسقاءه فجعلت تماشيه ويركزها فينبع الماء فإذا رفعها نضب وكانت تقيه الهوام وروي عن ابن عباس أنها كانت تماشيه وتحدّثه ولما ذكر موسى هذه الجوابات لربه (قالَ) له (أَلْقِها) أي : أنبذها (يا مُوسى) (فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ) أي : ثعبان عظيم (تَسْعى) أي : تمشي على بطنها سريعا وهنا نكت خفية.

إحداها : أنه لما قال : (وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى) أراد الله تعالى أن يعرفه أنّ فيها مآرب لا يفطن لها ولا يعرفها وأنها أعظم من سائرها وأربى.

ثانيها : كان في رجله شيء وهو النعل وفي يده شيء وهو العصا فالرجل آلة الهرب واليد آلة الطلب ، فقال أوّلا : (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) إشارة إلى ترك الهرب ، ثم قال : (أَلْقِها) وهو إشارة إلى ترك الطلب ، كأنه تعالى قال : إنك ما دمت في مقام الهرب والطلب كنت مشتغلا بنفسك طالبا لحظك فلا تكن خالصا لمعرفتي ، فكن تاركا للهرب والطلب تكن خالصا لي.

ثالثها : أنّ موسى مع علوّ درجته وكمال صفته لما وصل إلى الحضرة ولم يكن معه إلا النعلان والعصا أمره بإلقائها حتى أمكنه الوصول إلى الحضرة فأنت في ألف وقر من المعاصي فكيف يمكنك الوصول إلى جنابه؟ فإن قيل : كيف قال هنا : (حَيَّةٌ) وفي موضع آخر (جَانٌ) [النمل ، ١٠] وهي الحية الخفيفة الصغيرة وقال في موضع آخر : (ثُعْبانٌ) [الأعراف ، ١٠٧] وهو أكبر ما يكون من الحيات؟ أجيب : بأنّ الحية اسم جنس يقع على الذكر والأنثى والصغير والكبير وأمّا الثعبان والجان فبينهما تناف لأنّ الثعبان العظيم من الحيات كما مرّ والجان الدقيق وفي ذلك وجهان : أحدهما : أنها كانت وقت انقلابها حية صغيرة دقيقة ثم تورمت وتزايد جلدها حتى صارت ثعبانا فأريد بالجان أوّل حالها وبالثعبان مآلها. الثاني : أنها كانت في شخص الثعبان وسرعة حركة الجانّ لقوله تعالى : (فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌ) [النمل ، ١٠] قال وهب : لما ألقى العصا على وجه الأرض نظر إليها فإذا هي حية تسعى صفراء من أعظم ما يكون من الحيات تمشي بسرعة لها عرف كعرف الفرس وكان بين لحييها أربعون ذراعا صارت شعبتاها شدقين لها والمحجن عنقا وعرفا يهتز وعيناها تتقدان كالنار تمر بالصخرة العظيمة مثل الخلفة من الإبل فتلتقمها وتقصف الشجرة العظيمة بأنيابها ويسمع لأنيابها صريفا عظيما فلما عاين ذلك موسى ولى مدبرا وهرب ثم نودي يا موسى ارجع حيث كنت فرجع وهو شديد الخوف.

(قالَ) تعالى له (خُذْها) أي : بيمينك (وَلا تَخَفْ) وكان على موسى مدرعة من صوف قد خلها بعيدان فلما قال تعالى له : (خُذْها) لف طرف المدرعة على يده فأمره الله أن يكشف يده ، وذكر بعضهم أنه لما لف كم المدرعة على يده قال له الملك : أرأيت إن أذن الله بما تحاذر أكانت المدرعة تغني عنك شيئا قال : لا ولكنني ضعيف ومن ضعف خلقت وكشف عن يده ثم وضعها في فم الحية فإذا هي عصا كما كانت ويده في شعبتيها في الموضع الذي كان يضعها إذا توكأ عليها كما قال تعالى : (سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى) وقد أظهر الله تعالى في هذه العصا معجزات لموسى منها انقلاب العصا حية ومنها وضع يده في فمها من غير ضرر ومنها انقلابها خشبة مع الأمارات التي تقدّمت.

تنبيه : في نصب سيرتها أوجه :

٥٠٥

أحدها : أن تكون منصوبة على الظرف أي : في سيرتها أي : طريقتها.

ثانيها : على البدل من هاء (سَنُعِيدُها) بدل اشتمال لأنّ السيرة الصفة أي : سنعيدها صفتها وشكلها.

ثالثها : على إسقاط الخافض أي : إلى سيرتها وقيل : غير ذلك. فإن قيل : لما نودي يا موسى وخص بتلك الكرامات العظيمة وعلم أنه مبعوث من عند الله تعالى إلى الخلق فلماذا خاف؟ أجيب عن ذلك بأوجه أحدها : أنّ ذلك الخوف كان من نفرة الطبع لأنه ما شاهد مثل ذلك قط وهذا معلوم بدلائل العقول ثانيها : إنما خافها لأنه عرف ما لقي آدم منها. ثالثها : أنّ مجرد قوله : (وَلا تَخَفْ) لا يدل على حصول الخوف كقوله تعالى : (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ) [الأحزاب ، ١] لا يدل على وجود تلك الطاعة لكن قوله : (رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً) [النمل ، ١٠] يدل عليه ولكن ذلك الخوف إنما ظهر ليظهر الفرق بينه وبين أفضل الخلق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فما أظهر الرغبة في الجنة ولا النفرة عن النار.

وقوله تعالى : (وَاضْمُمْ يَدَكَ) أي : اليمنى (إِلى جَناحِكَ) أي : جنبك الأيسر تحت العضد في الإبط (تَخْرُجْ بَيْضاءَ) أي : نيرة مشرقة تضيء كشعاع الشمس تعشي البصر لا بدّ فيه من حذف والتقدير : واضمم يدك تنضم وأخرجها تخرج فحذف من الأوّل والثاني وأبقى مقابليهما ليدلا على ذلك إيجازا واختصارا وإنما احتيج إلى هذا لأنه لا يترتب على مجرد الضم الخروج و (بَيْضاءَ) حال من فاعل تخرج وقوله تعالى : (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) متعلق بتخرج وروي عن ابن عباس (إِلى جَناحِكَ) إلى صدرك والأول أولى كما قال الرازي لأنه يقال لكل ناحيتين جناحان كجناحي العسكر لطرفيه وجناحا الإنسان جانباه والأصل المستعار منه جناحا الطائر سميا بذلك لأنه يجنحهما أي : يميلهما عند الطيران وجناحا الإنسان عضداه فعضداه يشبهان جناحي الطير ، ولأنه قال : (تَخْرُجْ بَيْضاءَ) ولو كان المراد بالجناح الصدر لم يكن لقوله : (تَخْرُجْ) معنى والسوء الرداءة والقبح في كل شيء فكنى به عن البرص كما كنى عن العورة بالسوأة. والبرص أبغض شيء إلى العرب ولهم عنه نفرة عظيمة وإسماعهم لاسمه مجاجة فكان جديرا بأن يكنى عنه ولا ترى أحسن ولا أظرف ولا أخف للمفاصل من كنايات القرآن وآدابه.

يروى أنّ موسى كان شديد الأدمة فكان إذا أدخل يده اليمنى في جيبه فأدخلها في إبطه الأيسر وأخرجها فكانت تبرق مثل البرق وقيل : مثل الشمس من غير مرض ثم إذا ردّها عادت إلى لونها الأوّل من غير نور وقوله تعالى : (آيَةً أُخْرى) أي : معجزة ثابتة حال من ضمير تخرج كبيضاء.

وقوله تعالى : (لِنُرِيَكَ) متعلق بما دل عليه آية أي : دللنا بها لنريك وقوله تعالى : (مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى) أي : العظمى على رسالتك متعلق بمحذوف على أنه حال من الكبرى والكبرى مفعول ثان لنريك والتقدير : لنريك الكبرى حال كونها من آياتنا أي : بعض آياتنا واختلف أيّ الآيتين أعظم في الإعجاز فقال الحسن : اليد لأنه تعالى قال : (لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى) والذي عليه الأكثر أنّ العصا أعظم إذ ليس في اليد إلا تغير اللون وأمّا العصا ففيها تغير اللون وخلق الزيادة في الجسم وخلق الحياة والقدرة والأعضاء المختلفة وابتلاع الحجر والشجر ثم إعادتها عصا بعد ذلك فقد وقع التغير في كل هذه الأمور فكانت العصا أعظم وأما قوله تعالى : (لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى) فقد ثبت أنه عائد إلى الكلام وأنه غير مختص باليد ، فإن قيل : لم لم يقل تعالى من آياتنا الكبر؟ أجيب : بأنّ ذلك ذكر لرؤوس الآي وقيل : فيه إضمار معناه لنريك من آياتنا الآية الكبرى وهذا التقدير يقوّي قول القائل بأنّ اليد أعظم آية.

٥٠٦

ولما أظهر سبحانه وتعالى لموسى هذه الآيات عقبها بأمره بالذهاب إلى فرعون بقوله تعالى : (اذْهَبْ) أي : رسولا (إِلى فِرْعَوْنَ) وبيّن تعالى العلة في ذلك بقوله تعالى : (إِنَّهُ طَغى) أي : جاوز الحد في كفره إلى أن ادّعى الإلهية ولهذا خصه الله تعالى بالذكر مع أنه مبعوث إلى الكل قال وهب : قال الله تعالى لموسى : اسمع كلامي واحفظ وصيتي وانطلق برسالتي فإنك بعيني وسمعي وإنّ معك يدي ونصري وإني ألبسك جبة من سلطاني تستكمل بها القوّة في أمرك أبعثك إلى خلق ضعيف من خلقي بطر نعمتي وأمن مكري وغرّته الدنيا حتى جحد حقي وأنكر ربوبيتي ، أقسم بعزتي لو لا الحجة التي وضعت بيني وبين خلقي لبطشت به بطشة جبار ولكن هان عليّ وسقط من عيني فبلغه رسالتي وادعه إلى عبادتي وحذره نقمتي وقل له قولا لينا لا يغترّ بلباس الدنيا فإن ناصيته بيدي لا يطرف ولا يتنفس إلا بعلمي في كلام طويل قال فسكت موسى سبعة أيام لا يتكلم ثم جاءه ملك فقال : أجب ربك فيما أمرك فعند ذلك.

(قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) أي : وسعه لتحمل الرسالة ، قال ابن عباس : يريد حتى لا أخاف غيرك والسبب في هذا السؤال ما حكى الله تعالى عنه في موضع آخر بقوله : (قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي) [الشعراء : ١٢ ، ١٣] وذلك أنّ موسى كان يخاف فرعون اللعين خوفا شديدا لشدّة شوكته وكثرة جنوده وكان يضيق صدرا بما كلف من مقاومة فرعون وحده فسأل الله تعالى أن يوسع قلبه حتى يعلم أنّ أحدا لا يقدر على مضرته إلا بإذن الله تعالى وإذا علم ذلك لم يخف فرعون وشدّة شوكته وكثرة جنوده ، وقيل : اشرح لي صدري بالفهم عنك ما أنزلت عليّ من الوحي.

(وَيَسِّرْ) أي : سهّل (لِي أَمْرِي) أي : ما أمرتني به من تبليغ الرسالة إلى فرعون وذلك لأنّ كل ما يصدر من العبد من الأفعال والأقوال والحركات والسكنات فالله تعالى هو الميسر له ، فإن قيل : قوله : (لِي) في (اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) ما جدواه والأمر مستتم مستتب بدونه؟ أجيب : بأنه قد أبهم الكلام أوّلا فقال : (اشْرَحْ لِي وَيَسِّرْ لِي) فعلم أن ثم مشروحا وميسرا ثم بيّن ورفع الإبهام بذكرهما فكان آكد لطلب الشرح لصدره والتيسير لأمره من أن يقول : اشرح صدري ويسر أمري على الإيضاح الساذج لأنه تكرير للمعنى الواحد من طريقي الإجمال والتفصيل.

(وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي) قال ابن عباس : كان في لسانه رتة وذلك أنّ موسى كان في حجر فرعون ذات يوم في صغره فلطم فرعون لطمة وأخذ بلحيته فقال فرعون لآسية امرأته : إنّ هذا عدوّي وأراد أن يقتله فقالت له آسية : إنه صبي لا يعقل ولا يميز وفي رواية أنّ أمّ موسى لما فطمته ردّته إلى فرعون فنشأ موسى في حجر فرعون وامرأته يربيانه واتخذاه ولدا فبينما هو ذات يوم يلعب بين يدي فرعون وبيده قضيب يلعب به إذ رفع القضيب فضرب به رأس فرعون فغضب فرعون وتطير بضربه وهمّ بقتله فقالت آسية : أيها الملك إنه صغير لا يعقل جربه إن شئت فجاءت بطشتين في أحدهما جمر وفي الآخر جوهر فأراد أن يأخذ الجوهر فأخذ جبريل يد موسى فوضعها على النار فأخذ جمرة فوضعها في فيه فاحترق لسانه وصارت عليه عقدة.

وقيل : قربا إليه تمرة وجمرة فأخذ الجمرة فجعلها في فيه فاحترق لسانه ، ويروى أنّ يده احترقت وأن فرعون اجتهد في علاجها فلم تبرأ ولما دعاه قال إلي أي : رب تدعوني قال : إلي الذي أبرأ يدي وقد عجزت عنها وعن بعضهم أنها لم تبرأ يده لئلا يدخلها مع فرعون في قصعة

٥٠٧

واحدة فتنعقد بينهما حرمة المؤاكلة.

وقيل : كان ذلك التعقد خلقة فسأل الله تعالى إزالته واختلفوا في أنه لم طلب حل تلك العقدة؟ فقيل : لئلا يقع خلل في أداء الوحي وقيل لئلا يستخف بكلامه فينفروا عنه ولا يلتفتوا إليه وقيل : لإظهار المعجزة كما أنّ حبس لسان زكريا عن الكلام كان معجزا في حقه فكذا إطلاق لسان موسى معجز في حقه واختلفوا في زوال العقدة بكمالها فقيل : بقي بعضها لقوله : (وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً) [القصص ، ٣٤] وقول فرعون ولا يكاد يبين وكان في لسان الحسين بن عليّ رضي الله تعالى عنهما رتة فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ورثها من عمه موسى» (١) وقال الحسن : زالت بالكلية لقوله تعالى : (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) [طه ، ٣٦] وضعف هذا الرازي بأنه لم يقل : واحلل العقد من لساني بل قال : (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي) فإذا حل عقدة واحدة فقد آتاه الله سؤله قال والحق أنه انحل أكثر العقد وبقي منها شيء وقال الزمخشري : وفي تنكير العقدة ولم يقل واحلل عقدة لساني أنه طلب حل بعضها إرادة أن يفهم عنه فهما جيدا أي : ولذا قال : (يَفْقَهُوا) أي : يفهموا (قَوْلِي) عند تبليغ الرسالة ولم يطلب الفصاحة الكاملة ومن لساني صفة للعقدة كأنه قيل : عقدة من عقد لساني.

تنبيه : استدل على أنّ في النطق فضيلة عظيمة بوجوه : أوّلها : قوله تعالى : (خَلَقَ الْإِنْسانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيانَ) [الرحمن ، ٣] فماهية الإنسان هي الحيوان الناطق. ثانيها : اتفاق العقلاء على تعظيم أمر اللسان قال زهير (٢) :

لسان الفتى نصف ونصف فؤاده

فلم يبق إلا صورة اللحم والدم

وقالوا : ما الإنسان لو لا اللسان إلا بهيمة مرسلة أي : لو ذهب النطق اللساني لم يبق من الإنسان إلا القدر الحاصل في البهائم ، وقالوا : المرء بأصغريه قلبه ولسانه ، وقالوا : المرء مخبوء تحت لسانه. ثالثها : أنّ في مناظرة آدم مع الملائكة ما ظهرت الفضيلة إلا بالنطق حيث قال : (يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [البقرة : ٣٣].

ولما رأى موسى أنّ التعاون على الدين والتظاهر عليه مع مخالصة الودّ وزوال التهمة قربة عظيمة في الدعاء إلى الله تعالى طلب المعاونة على ذلك بقوله : (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً) أي : معينا على الرسالة ولذلك قال عيسى ابن مريم : (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) [آل عمران ، ٥٢] وقال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ لي في السماء وزيرين وفي الأرض وزيرين فاللذان في السماء جبريل وميكائيل واللذان في الأرض أبو بكر وعمر» (٣) وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا أراد الله تعالى بملك خيرا قيض له وزيرا صالحا إن نسي ذكره وإن نوى خيرا أعانه وإن أراد شرّا كفه» (٤) وقال أنوشروان : لا يستغني أجود السيوف عن الصقل ولا أكرم الدواب عن السوط ولا أعلم الملوك عن الوزير. ولما

__________________

(١) أخرجه ابن حجر في الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ١ / ١٨٤.

(٢) البيت من الطويل ، وهو في ديوان زهير بن أبي سلمى ص ١١٢ (طبعة دار الكتب العلمية).

(٣) أخرجه الحاكم في المستدرك ٢ / ٢٦٤ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٣٢٦٦١ ، ٣٦١٢٠ ، وابن كثير في البداية والنهاية ٧ / ١٣٤.

(٤) أخرجه النسائي في البيعة حديث ٤٢٠٤.

٥٠٨

كان التعاون على الدين منقبة عظيمة أراد أن لا تحصل هذه الدرجة إلا لأهله فقال : (مِنْ أَهْلِي) أي : أقاربي وقوله : (هارُونَ) قال الجلال المحلي : مفعول ثان وقوله : (أَخِي) عطف بيان وذكر غيره أعاريب غير ذلك لا حاجة لنا بذكرها.

تنبيه : الوزير مشتق من الوزر لأنه يتحمل عن الملك أوزاره ومؤنه ، أو من الوزر لأنّ الملك يعتصم برأيه ويلجئ إليه أموره ، أو من المؤازرة وهي المعاونة. قال الرازي : وكان هارون مخصوصا بأمور منها الفصاحة لقول موسى : (هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً) [القصص ، ٣٤] ومنها الرفق لقول هارون : (يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي) [طه ، ٩٤] أنه كان أكبر سنا منه وقال ابن عادل : كان أكبر سنا من موسى بأربع سنين وكان أفصح لسانا منه وأجمل وأوسم أبيض اللون وكان موس آدم اللون أقنى جعدا.

ولما طلب موسى من الله تعالى أن يجعل هارون وزيرا له طلب منه أن يشد أزره بقوله : (اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي) أي : أقوّي به ظهري (وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) أي : في النبوّة والرسالة ، وقرأ ابن عامر بسكون الياء من أخي وهمزة مفتوحة من أشدد وهو على مرتبته في المدّ وهمزة مضمومة من أشركه وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء من أخي وهمزة وصل من اشدد وأشركه بهمزة مفتوحة والباقون بسكون الياء من أخي وهمزة وصل من اشدد وفتح الهمزة من أشركه.

ثم إنه تعالى حكى عنه ما لأجله دعا بهذا الدعاء فقال : (كَيْ نُسَبِّحَكَ) تسبيحا (كَثِيراً) قال الكلبي : نصلي لك كثيرا نحمدك ونثني عليك والتسبيح تنزيه الله تعالى في ذاته وصفاته عما لا يليق به.

(وَنَذْكُرَكَ) ذكرا (كَثِيراً) أي : نصفك بصفات الكمال والجلال والكبرياء وجوّز أبو البقاء أن يكون (كَثِيراً) نعتا لزمان محذوف أي : زمانا كثيرا.

(إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً) أي : عالما بأنّا لا نريد بهذه الطاعات إلا وجهك ورضاك أو بصيرا بأنّ الاستعانة بهذه الأشياء لأجل حاجتي في النبوّة إليها أو بصيرا بوجوه مصالحنا فأعطنا ما هو الأصلح لنا.

ولما سأل موسى ربه تلك الأمور المتقدّمة وكان من المعلوم أنّ قيامه بما كلف به لا يتم إلا بإجابته إليها لا جرم (قالَ) الله تعالى : (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) أي : أعطيت جميع ما سألته منا عليك لما فيه من وجوه المصالح

(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى) أي : أنعمنا عليك في وقت آخر وفي ذلك تنبيه على أمور أحدها : كأنه تعالى قال : إنّي راعيت مصلحتك قبل سؤالك فكيف لا أعطيك مرادك بعد السؤال ثانيها : إنّي كنت ربيتك فلو منعتك الآن كان ذلك ردّا بعد القبول وإساءة بعد الإحسان فكيف يليق بكرمي ثالثها : إنّا أعطيناك في الأزمنة السالفة كل ما احتجت إليه ورقيناك الدرجة العالية وهي منصب النبوّة فكيف يليق بمثل هذه التربية المنع عن المطلوب فإن قيل : لم ذكر تلك النعم بلفظ المنة مع أنّ هذه اللفظة مؤذية والمقام مقام تلطف؟ أجيب : بأنه إنما ذكر ذلك ليعرف موسى أنّ هذه النعم التي وصل إليها ما كان مستحقا لشيء منها بل إنما خصه الله تعالى بها لمحض فضله وإحسانه ، فإن قيل : لم قال : (مَرَّةً أُخْرى) مع أنه تعالى ذكر مننا كثيرة؟ أجيب : بأنه لم يعن بمرّة أخرى واحدة من المنن لأنّ ذلك قد يقال في القليل والكثير ، ثم بيّن تلك المنة وهي ثمانية أولها قوله تعالى :

٥٠٩

(إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (٣٨) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (٣٩) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (٤٠) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (٤١) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (٤٢) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٤٣) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (٤٤) قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (٤٥) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (٤٦) فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (٤٧) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٤٨) قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (٤٩) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (٥٠) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (٥١) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (٥٢) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (٥٣) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (٥٤) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (٥٥))

(إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ) وحيا لا على وجه النبوّة إذ المرأة لا تصلح للقضاء ولا للإمامة ولا تلي عند أكثر العلماء تزويج نفسها فكيف تصلح للنبوّة ويدل على ذلك قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) [النحل ، ٤٣] والوحي جاء لا بمعنى النبوّة في القرآن كثيرا قال تعالى : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) [النحل ، ٦٨](وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ) [المائدة ، ١١١] ثم اختلفوا في المراد بهذا الوحي على وجوه :

أحدها : أنه رؤيا رأتها أمّ موسى وكان تأويلها وضع موسى في التابوت وقذفه في البحر وأنّ الله تعالى يردّه عليها.

ثانيها : أنه عزيمة جازمة وقعت في قلبها دفعة واحدة.

ثالثها : المراد خطور البال وغلبته على القلب ، فإن قيل : هذه الوجوه الثلاثة يعترض عليها بأنّ الإلقاء في البحر قريب من الإهلاك وهو مساو للخوف الحاصل من القتل المعتاد من فرعون فكيف يجوز الإقدام على أحدهما لأجل الصيانة عن الثاني؟ أجيب : بأنها لعلها عرفت بالاستقراء صدق رؤياها فكان الإلقاء في البحر إلى السلامة أغلب على ظنها من وقوع الولد في يد فرعون.

رابعها : لعله أوحى إلى بعض الأنبياء في ذلك الزمان كشعيب أو غيره ثم إنّ ذلك النبيّ عرفها إمّا مشافهة أو مراسلة واعترض على هذا بأنّ الأمر لو كان كذلك لما لحقها الخوف. وأجيب : بأنّ ذلك الخوف كان من لوازم البشرية كما أنّ موسى كان يخاف فرعون مع أنّ الله تعالى كان أمره بالذهاب إليه مرارا.

خامسها : لعل بعض الأنبياء المتقدّمين كإبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم‌السلام أخبروا بذلك الخبر وانتهى ذلك الخبر إلى أمّه.

سادسها : لعلّ الله تعالى بعث إليها ملكا لا على وجه النبوّة كما بعث إلى مريم في قوله : (فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) [مريم ، ١٧] وأمّا قوله تعالى : (ما يُوحى) فمعناه ما لا يعلم إلا بالوحي أو ما ينبغي أن يوحى ولا يخلّ به لعظم شأنه وفرط الاهتمام ويبدل منه.

(أَنِ اقْذِفِيهِ) أي : ألقيه (فِي التَّابُوتِ) أي : ألهمناها أن اجعليه في التابوت (فَاقْذِفِيهِ)

٥١٠

أي : موسى بالتابوت (فِي الْيَمِ) أي : نهر النيل (فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ) أي : شاطئه والأمر بمعنى الخبر والضمائر كلها لموسى فالمقذوف في البحر والملقى إلى الساحل هو موسى في جوف التابوت حتى لا تفرّق الضمائر فيتنافر النظم الذي هو أمّ إعجاز القرآن والقانون الذي وقع عليه التحدي ومراعاته أهم ما يجب على المفسر.

تنبيه : اليمّ البحر والمراد به هنا نيل مصر في قول الجميع واليمّ اسم يقع على النهر والبحر العظيم قال الكسائي : والساحل فاعل بمعنى مفعول سمي بذلك لأن الماء يسحله أي : يحسره إذا علاه وقوله تعالى : (يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ) أي : فرعون جواب (فَلْيُلْقِهِ) وتكرير عدوّ للمبالغة أو لأنّ الأوّل باعتبار الواقع والثاني باعتبار المتوقع أي : سيصير عدوّا له بعد ذلك فإنه لم يكن في ذلك الوقت بحيث يعادى ، روي أنها اتخذت تابوتا قال مقاتل : إنّ الذي صنع التابوت حزقيل مؤمن آل فرعون وجعلت في التابوت قطنا محلوجا فوضعته فيه وجصصته وقيرته ثم ألقته في اليمّ وكان يشرع منه إلى بستان فرعون نهر كبير فبينما هو جالس على رأس بركة مع آسية بنت مزاحم إذا بتابوت يجري به الماء فأمر فرعون الغلمان والجواري بإخراجه فأخرجوه وفتحوا رأسه فإذا صبيّ أصبح الناس وجها فأحبه عدوّ الله حبا شديدا لا يتمالك أن يصبر عنه كما قال تعالى : (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) وهذه هي المنة الثانية قال الزمخشري : (مِنِّي) لا يخلوا إمّا أن يتعلق بألقيت فيكون المعنى على أني أحببتك ومن أحبه الله أحبته القلوب ، وإمّا أن يتعلق بمحذوف وهو صفة لمحبة أي : محبة خالصة أو واقعة مني قد ركزتها أنا في القلوب وزرعتها فيها فلذلك أحبك فرعون وآسية حتى قالت (قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ) [القصص ، ٩] لا تقتلوه. روي أنه كان على وجهه مسحة جمال وفي عينه ملاحة لا يكاد يصبر عنه من يراه وهو كقوله تعالى : (سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) [مريم ، ٩٦] المنة الثالثة قوله تعالى (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) أي : تربى على رعايتي وحفظي لك فأنا مراعيك ومراقبك كما يراعي الرجل الشيء بعينه إذا اعتنى به ويقول للصانع : اصنع هذا على عيني أنظر إليك لئلا تخالف به عن مرادي وبغيتي.

تنبيه : (وَلِتُصْنَعَ) معطوف على علة مضمرة مثل ليتلطف بك ولتصنع أو على الجملة السابقة بإضمار فعل معلل مثل فعلت ذلك ، وقرأ بفتح الياء نافع وابن كثير وأبو عمرو وسكنها الباقون.

المنة الرابعة قوله تعالى : (إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ) والعامل في (إِذْ) ألقيت أو تصنع ويجوز أن يكون بدلا من (إِذْ أَوْحَيْنا) واستشكل بأنّ الوقتين مختلفان متباعدان وأجيب : بأنه يصح مع اتساع الوقت كما يصح أن يقول لك الرجل : لقيت فلانا سنة كذا فتقول : وأنا لقيته إذ ذاك وربما لقيه هو في أوّلها وأنت في آخرها (فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ) يروى أنّ أخته واسمها مريم جاءت متعرفة خبره فصادفتهم يطلبون له مرضعة يقبل ثديها وذلك أنه كان لا يقبل ثدي امرأة فقالت لهم ذلك فقالوا نعم فجاءت بالأمّ فقبل ثديها فذلك قوله تعالى : (فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها) بلقائك ورؤيتك (وَلا تَحْزَنَ) أي : هي بفراقك أو أنت بفراقها وفقد إشفاقها ويروى أن آسية استوهبته من فرعون وتبنته وهي التي أشفقت عليه وطلبت له المراضع.

المنة الخامسة : قوله تعالى : (وَقَتَلْتَ نَفْساً) قال ابن عباس : هو الرجل القبطي الذي قتله خطأ بأن وكزه حين استغاثه الإسرائيلي إليه قال الكسائي : كان عمره إذ ذاك اثنتي عشرة سنة (فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِ) أي : من غم قتله خوفا من اقتصاص فرعون كما قال تعالى في آية : (فَأَصْبَحَ فِي

٥١١

الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ) [القصص ، ١٨] بالمهاجرة إلى مدين.

المنة السادسة : قوله تعالى : (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) قال ابن عباس : اختبرناك اختبارا وقيل : ابتليناك ابتلاء ، قال ابن عباس : الفتون وقوعه في محنة بعد محنة وخلصه الله تعالى منها أوّلها : أنّ أمّه حملته في السنة التي كان فرعون يذبح فيها الأطفال ثم إلقاؤه في البحر في التابوت ثم منعه الرضاع إلا من ثدي أمّه ثم أخذه بلحية فرعون حتى همّ بقتله ثم تناوله الجمرة بدل الجوهرة ثم قتله القبطي وخروجه إلى مدين خائفا.

فإن قيل : إنه تعالى عدد أنواع مننه على موسى في هذا المقام فكيف يليق بهذا الموضع (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً؟)

أجيب : بجوابين الأوّل : (فَتَنَّاكَ) أي : خلصناك تخليصا من قولهم : فتنت الذهب إذا أردت تخليصه من الفضة أو نحوها. الثاني : أنّ الفتنة تشديد المحنة يقال : فتن فلان عن دينه إذا اشتدّت عليه المحنة حتى رجع عن دينه قال تعالى : (فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ) [العنكبوت ، ١٠] وقال تعالى : (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) [العنكبوت : ٢ ، ٣] ولما كان التشديد في المحنة يوجب كثرة الثواب عده الله تعالى من جملة النعم وتقدّم تفسير ابن عباس وهو قريب من ذلك ، فإن قيل : هل يصح إطلاق الفتان على الله تعالى اشتقاقا من قوله تعالى : (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً؟) أجيب : بأنه لا يصح لأنه صفة ذم في العرف وأسماء الله تعالى توقيفية لا سيما فيما يوهم ما لا ينبغي.

المنة السابعة : قوله تعالى : (فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) والتقدير : وفتناك فخرجت خائفا إلى أهل مدين فلبثت سنين فيهم عند شعيب وتزوّجت بابنته وهي إمّا عشر أو ثمان لقوله : (عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ) [القصص ، ٢٧] وقال وهب : لبث موسى عند شعيب ثمانا وعشرين سنة منها عشر سنين مهر امرأته فإنه قضى أوفى الأجلين والآية دالة على أنه لبث عشر سنين وليس فيها ما ينفي الزيادة على العشر كما قاله الرازي وإن قال ابن عادل يرده قوله تعالى : (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ) [القصص ، ٢٩] أي : الأجل المشروط عليه في تزويجه وسار بأهله ومدين بلدة شعيب على ثمان مراحل من مصر (ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ) أي : على القدر الذي قدّرت أنك تجي فيه لأن أكلمك وأستنبئك غير مستقدم وقته المعين ولا مستأخر وقال عبد الرحمن بن كيسان : على رأس أربعين سنة وهو القدر الذي يوحى فيه للأنبياء وهذا قول أكثر المفسرين أي : على الموعد الذي وعد الله وقدّر أنه يوحي إليه بالرسالة وهو أربعون سنة وكرّر تعالى قوله : (يا مُوسى) عقب ما هو غاية الحكاية للتنبيه على ذلك.

المنة الثامنة : قوله تعالى : (وَاصْطَنَعْتُكَ) أي : اخترتك (لِنَفْسِي) لأصرّفك في أوامري لئلا تشتغل إلا بما أمرتك به وهو إقامة حجتي وتبليغ رسالتي وأن تكون في حركاتك وسكناتك لي لا لنفسك ولا لغيرك.

ثم بيّن تعالى ماله اصطنعه وهو الإبلاغ والأداء بقوله تعالى : (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي) أي : بمعجزاتي وقال ابن عباس : الآيات التسع التي بعث بها موسى وقيل : إنها العصا واليد لأنهما اللذان جرى ذكرهما في هذا الموضع ولم يذكر أنه أوتي قبل مجيئه إلى فرعون ولا بعد مجيئه حتى لقي فرعون فالتمس منه آية غير هاتين الآيتين قال تعالى حكاية عن فرعون : (إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ

٥١٢

فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٠٦) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (١٠٧) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) [الأعراف : ١٠٦ ، ١٠٧ ، ١٠٨] وقال تعالى : (بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) [القصص ، ٣٢] فإن قيل : كيف أطلق لفظ الجمع على الاثنين؟ أجيب : بأنّ العصا كانت آيات انقلابها حيوانا ثم إنها في أوّل الأمر كانت صغيرة لقوله تعالى : (تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ) ثم كانت تعظم وهذه آية أخرى ثم كانت تصير ثعبانا وهذه آية أخرى ثم إنه كان يدخل يده في فمها فما كانت تضرّه فهذه آية أخرى ثم كانت تنقلب خشبة فهذه آية أخرى وكذلك اليد فإنّ بياضها آية وشعاعها آية أخرى ثم زوالها بعد ذلك آية أخرى فدل ذلك على أنها كانت آيات كثيرة.

وقيل : الآيات العصا واليد وحلّ عقدة لسانه وقيل : معناه أمدّكما بآياتي وأظهر على أيديكما من الآيات ما تنزاح به العلل من فرعون وقومه (وَلا تَنِيا) أي : لا تفترا ولا تقصرا (فِي ذِكْرِي) أي : بتسبيح وغيره فإنّ من ذكر جلال الله استخف غيره فلا يخاف أحدا وتقوى روحه بذلك الذكر فلا تضعف في مقصوده ، ومن ذكر الله لا بدّ وأن يكون ذاكر إحسانه ، وذاكر إحسانه لا يفتر في أداء أوامره وقيل : (لا تَنِيا فِي ذِكْرِي) عند فرعون بأن تذكرا لفرعون وقومه أنّ الله لا يرضى منهم الكفر وتذكرا لهم أمر الثواب والعقاب والترغيب والترهيب وقيل : المراد بالذكر تبليغ الرسالة.

(اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) أي : بادّعاء الربوبية.

تنبيه : ذكر الله تعالى المذهوب إليه هنا وهو فرعون وحذفه في قوله : (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي) اختصارا في الكلام وقال القفال فيه وجهان : أحدهما : أنّ قوله : (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي) يحتمل أن يكون كل واحد منهما مأمورا بالذهاب على الانفراد فقيل مرّة أخرى (اذْهَبا) ليعرفا أنّ المراد منه أن يشتغلا بذلك جميعا لا أن ينفرد به أحدهما دون الآخر والثاني : أنّ قوله : (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي) أمر بالذهاب إلى كل الناس من بني اسرائيل وقوم فرعون ثم إن قوله تعالى : (اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ) أمر بالذهاب إلى فرعون وحده واستبعد هذا بل الذهابان متوجهان لشيء واحد وقد حذف من كل من الذهابين ما أثبته في الآخر وقيل : إنه حذف المذهوب إليه من الأوّل وأثبته في الثاني ، وحذف المذهوب به وهو (بِآياتِي) من الثاني وأثبته في الأوّل.

(فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) أي : مثل (هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى) [النازعات : ١٨ ، ١٩] فإنه دعوة في صورة عرض ومشورة ، فإن قيل : لم أمر الله تعالى باللين مع الكافر الجاحد؟ أجيب : بأنّ عادة الجبار إذا أغلظ عليه في الوعظ يزداد عتوّا وتكبرا فأمر باللين حذرا من أن تحمله الحماقة على أن يسطو عليهما واحتراما لما له من حق التربية وقيل : كنياه وكان له ثلاث كنى أبو العباس وأبو الوليد وأبو مرّة وقيل : عداه شبابا لا هرم بعده وملكا لا يزول إلا بالموت وأن تبقى له لذة المطعم والمشرب والمنكح إلى حين موته وإذا مات دخل الجنة فأعجبه ذلك وكان لا يقطع أمرا دون هامان وكان غائبا فلما قدم أخبره بالذي دعاه إليه موسى وقال : أردت أن أقبل منه فقال له هامان : كنت أرى أنّ لك عقلا ورأيا أنت رب تريد أن تكون مربوبا وأنت تعبد تريد أن تعبد فغلبه على رأيه وقوله تعالى : (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) متعلق باذهبا أو قولا أي : باشرا الأمر على رجائكما وطمعكما مباشرة من يرجو ويطمع أن يثمر عمله ولا يخيب سعيه فهو يجتهد بطوقه ويسعى بأقصى وسعه ، قال الزمخشري : ولا يستقيم أن يراد ذلك في حق الله تعالى إذ هو عالم بعواقب الأمور ، وعن سيبويه كل ما ورد في القرآن من لعل وعسى فهو من الله واجب بمعنى أنه يستحيل

٥١٣

بقاء معناه في حق الله تعالى وقال الفرّاء : إن لعلّ بمعنى كي فتفيد العلية كما تقول : اعمل لعلك تأخذ أجرتك.

فائدة : قرأ رجل عند يحيى بن معاذ (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) فبكى يحيى وقال : إلهي هذا برك بمن يقول : أنا الإله فكيف برك بمن يقول : أنت الإله فإن قيل : ما الفائدة في إرسالهما والمبالغة عليهما في الاجتهاد مع علمه تعالى بأنه لا يؤمن؟ أجيب : بأنّ ذلك لإلزام الحجة وقطع المعذرة وإظهار ما حدث في تضاعيف ذلك من الآيات والتذكر للمتحقق والخشية للمتوهم ولذلك قدّم الأوّل أي : إن لم يتحقق صدقكما ولم يتذكر فلا أقل من أن يتوهمه فيخشى. ويروى عن كعب أنه قال : والذي يحلف به كعب إنه لمكتوب في التوراة (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) وسأقسي قلبه فلا يؤمن ولقد تذكر فرعون وخشي حين لم تنفعه الذكرى والخشية ، وذلك حين ألجمه الغرق قال : (آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [يونس ، ٩٠].

ثم إنّ موسى وهارون. (قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ) أي : يعجل (عَلَيْنا) بالعقوبة (أَوْ أَنْ يَطْغى) أي : يتجاوز الحد في الإساءة علينا ، فإن قيل : لما تكرّر الأمر من الله تعالى بالذهاب ، فعدم الذهاب والتعلل بالخوف هل يدل على معصية؟ أجيب : بأنّ الأمر ليس على الفور فسقط السؤال وهذا من أقوى الدلائل على أنّ الأمر لا يقتضي الفور ، فإن قيل : قوله تعالى : (قالا رَبَّنا) يدل على أنّ المتكلم موسى وهارون ولم يكن هارون هناك حاضرا؟ أجيب : بأنّ الكلام كان مع موسى إلا أنه كان متبوع هارون فجعل الخطاب معه خطابا مع هارون وكلام هارون على سبيل التقدير في تلك الحالة وإن كان موسى وحده إلا أنه تعالى أضافه إليهما كما في قوله تعالى : (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها) [البقرة ، ٧٢] وقوله : (لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) [المنافقون ، ٨] روي أنّ القائل عبد الله بن أبيّ وحده ، فإن قيل : إنّ موسى قال : (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) [طه ، ٢٥] فأجابه الله تعالى بقوله : (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) [طه ، ٣٦] وهذا يدل على أنه تعالى قد شرح صدره ويسر له ذلك الأمر. فكيف قال بعده : (إِنَّا نَخافُ) فإنّ حصول الخوف يمنع من حصول شرح الصدر؟ أجيب : بأنّ شرح الصدر عبارة عن تقويته على ضبط تلك الأوامر والنواهي وحفظ تلك الشرائع على وجه لا يتطرق إليها السهو والتحريف وذلك شيء آخر غير الخوف.

(قالَ) الله تعالى لهما (لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما) حافظكما وناصركما (أَسْمَعُ وَأَرى) أي : ما يجري بينكما وبينه من قول وفعل ، فأفعل ما يوجبه حفظي ونصري ، وقال ابن عباس : أسمع دعاءكما فأجيبه وأرى ما يراد بكما فأمنع فلست بغافل عنكما فلا تهتما ، وقال القفال : قوله تعالى : (أَسْمَعُ وَأَرى) يحتمل أن يكون مقابلا لقوله تعالى : (يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى ؛ يَفْرُطَ عَلَيْنا) بأن لا يسمع منا (أَوْ أَنْ يَطْغى) بأن يقتلنا ، قال تعالى : (إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ) كلامكما فأسخره للاستماع منكما ، (وَأَرى) أفعاله فلا أتركه حتى يفعل بكما ما تكرهانه.

ثم إنه سبحانه وتعالى أعاد ذلك التكليف فقال : (فَأْتِياهُ) لأنه سبحانه وتعالى قال في المرّة الأولى : (اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ) [طه ، ٤٣] وفي الثانية قال : (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ) [طه ، ٤٢] وفي الثالثة قال : (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ) [طه ، ٢٤] وفي الرابعة قال ههنا : (فَأْتِياهُ ،) فإن قيل : إنه تعالى أمرهما في الثانية بأن يقولا له قولا لينا ، وههنا أمرهما بقوله تعالى : (فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي

٥١٤

إِسْرائِيلَ) أي : إلى الشام (وَلا تُعَذِّبْهُمْ) أي : خل عنهم من استعمالك إياهم في أشغالك الشاقة كالحفر والبناء وحمل الثقيل وقطع الصخور وكان فرعون يستعملهم في ذلك مع قتل الأولاد وفي هذا تغليظ من وجوه ؛ الأول : قوله : (إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ ،) وهذا يقتضي انقياده لهما والتزامه لطاعتهما وذلك يعظم على الملك المتبوع. الثاني : قولهما : (فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) فيه إدخال النقص على ملكه لأنه كان محتاجا إليهم فيما يريده من الأعمال أيضا. الثالث : قولهما : (وَلا تُعَذِّبْهُمْ.) الرابع : قولهما (قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ) فما الفائدة في التليين أوّلا والتغليظ ثانيا؟ أجيب : بأنّ الإنسان إذا ظهر لجاجه فلا بدّ له من التغليظ حيث لم ينفع التليين.

فإن قيل : أليس الأولى أن يقول : إنا رسولا ربك قد جئناك بآية فأرسل معنا بني اسرائيل ولا تعذبهم لأن ذكر المعجز مقرونا بالدعاء للرسالة أولى من تأخيره عنه؟.

أجيب : بأنّ هذا أولى لأنهما ذكرا مجموع الدعاوى ثم استدلا على ذلك المجموع بالمعجز وقولهما : (قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ) قال الزمخشري : هذه الجملة جارية من الجملة الأولى وهي : (إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ) مجرى البيان والتفسير لأنّ دعوى الرسالة لا تثبت إلا ببينتهما التي هي مجيء الآية.

فإن قيل : إنّ الله تعالى قد أعطاهما آيتين هما العصا واليد ثم قال تعالى : (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي ،) وذلك يدل على ثلاث آيات وقالا هنا : (قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ) وذلك يدل على أنها كانت واحدة فكيف الجمع؟ أجاب القفال : بأنّ معنى الآية الإشارة إلى جنس الآيات كأنهما قالا : قد جئناك ببينات من عند الله ثم يجوز أن يكون ذلك حجة واحدة أو حججا كثيرة وتقدّم الجواب عن التثنية والجمع وأنّ في العصا واليد آيات.

وقوله تعالى : (وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) يحتمل أن يكون من كلام الله تعالى كأنه تعالى قال : (فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ) وقولا له : (وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) ويحتمل أن يكون كلام الله قد تمّ عند قوله : (قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ ،) وقوله تعالى بعد ذلك : (وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) وعد من قبلهما لمن آمن وصدّق بالسلامة له من عقوبات الله في الدنيا والآخرة أو أنّ سلام الملائكة وخزنة الجنة على المهتدين ، وقال بعضهم : إن (عَلى) بمعنى اللام أي : والسّلام لمن اتبع الهدى كقوله تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) [فصلت ، ٤٦] وقال تعالى في موضع آخر : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) [الإسراء ، ٧].

(إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ) ما جئنا به (وَتَوَلَّى) أعرض عنه ، قال البيضاوي : ولعل تغيير النظم والتصريح بالوعيد والتوكيد فيه لأنّ التهديد في أوّل الأمر أهم وأنجع وبالواقع أليق.

ولما أتياه وقالا : (إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ) وبلغاه ما أمرا به (قالَ) لهما (فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى) إنما نادى موسى وحده بعد مخاطبته لهما معا إما لأنّ موسى هو الأصل في الرسالة وهارون تبع وردء ووزير وإما لأن فرعون كان لخبثه يعلم الرتة التي كانت في لسان موسى عليه الصلاة والسّلام ويعلم فصاحة أخيه بدليل قوله : (هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً) [القصص ، ٣٤] فأراد أن يفحمه ويدل عليه قول فرعون (وَلا يَكادُ يُبِينُ) [الزخرف ، ٥٢] وإمّا لأنه حذف المعطوف للعلم به أي : يا موسى وهارون قاله أبو البقاء ، ثم إنّ فرعون لم يشتغل مع موسى بالبطش والإيذاء لما دعاه إلى الله تعالى

٥١٥

مع أنه كان شديد القوّة عظيم الغلبة كثير العسكر بل خرج معه في المناظرة لأنه لو أذاه لنسب إلى الجهل والسفاهة فاستنكف من ذلك وشرع في المناظرة وذلك يدل على أنّ السفاهة من غير حجة لم يرضه فرعون مع كمال جهله وكفره فكيف يليق ذلك بمن يدّعي الإسلام والعلم

تنبيه : قال ههنا (فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى) وقال في سورة الشعراء : (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) [الشعراء ، ٢٣] وهو سؤال عن الماهية فهما سؤالان مختلفان والواقعة واحدة قال ابن عادل : والأقرب أن يقال سؤال من كان مقدّما على سؤال ما لأنه كان يقول : إني أنا الله والرب فقال : (فَمَنْ رَبُّكُما) فلما أقام موسى الدلالة على الوجود وعرف أنه لا يمكنه أن يقاومه في هذا المقام لظهوره وجلائه عدل إلى طلب الماهية لأنّ العلم بماهية الله تعالى غير حاصل للبشر.

فإن قيل : لم قال : (فَمَنْ رَبُّكُما) ولم يقل فمن إلهكما؟ أجيب : بأنه أثبت نفسه ربا في قوله : (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً) [الشعراء ، ١٨] فذكر ذلك على سبيل التعجب كأنه قال : أنا ربك فلم تدع ربا آخر وهذا يشبه كلام نمروذ حين قال له إبراهيم : (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) قال له نمروذ (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) فلم تكن الإماتة التي ذكرها إبراهيم هي الإماتة مع الإحياء التي عارضه نمروذ بها إلا فيّ اللفظ فكذا ههنا لما ادّعى موسى ربوبية الله تعالى ذكر فرعون هذا الكلام أي : أنا الرب الذي ربيتك ومعلوم أنّ الربوبية التي ادعاها موسى غير الربوبية في المعنى وأنه لا مشاركة بينهما ، ثم كأنه قيل : فما أجاب به موسى فقيل :

(قالَ) مستدلا على إثبات الصانع بأحوال المخلوقات (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ) أي : من الأنواع (خَلْقَهُ) أي : صورته وشكله الذي يطابق المنفعة المنوطة به كما أعطى العين الهيئة التي تطابق الإبصار والأذن الشكل الذي يوافق الإسماع وكذلك الأنف واليد والرجل واللسان كل واحد منها مطابق لما علق به من المنفعة غير ناء عنه أو أعطى كل حيوان نظيره في الخلق والصورة حيث جعل الحصان والحجرة زوجين والبعير والناقة كذلك والرجل والمرأة كذلك فلم يزاوج منهما شيئا غير جنسه وما هو على خلاف خلقه (ثُمَّ هَدى) أي : ثم عرّف الله تعالى الحيوان الكائن من المخلوق كيف يرتفق بما أعطي وكيف يتوصل إليه. قال الزمخشري : ولله در هذا الجواب ما أحضره وما أجمعه وما أبينه لمن ألقى الذهن ونظره بين الإنصاف وكان طالبا للحق ولما خاف فرعون أن يزيد موسى في إظهار تلك الحجة فيظهر للناس صدقه.

(قالَ) لموسى (فَما بالُ) أي : حال (الْقُرُونِ) أي : الأمم (الْأُولى) كقوم نوح وهود ولوط وصالح في عبادتهم الأوثان فإنها كانت تعبد الأوثان وتنكر البعث فمن شقي منهم ومن سعد أراد أن يصرفه عن ذلك الكلام ويشغله بهذه الحكايات فلم يلتفت إليه فلذلك (قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) استأثر به لا يعلمه إلا هو وما أنا إلا عبد مثلكم لا أعلم منه إلا ما أخبرني به علام الغيوب وعلم أحوال هذه القرون مثبت عند ربي (فِي كِتابٍ) هو اللوح المحفوظ ويجوز أن يكون ذلك تمثيلا لتمكنه في علمه تعالى بما استحفظه العالم وقيده بالكتابة ويؤيده قوله : (لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) والضلال أن يخطئ الشيء في مكانه فلم يتهد إليه ، والنسيان أن يذهب عنه بحيث لا يخطر بباله ، وهما محالان على علام الغيوب بخلاف العبد الذليل والبشر الضئيل أي : لا يضل تعالى ولا ينسى كما تضلّ أنت وتنسى يا مدّعي الربوبية بالجهل والوقاحة.

ثم عاد إلى تتميم كلامه الأوّل وإبراز الدلائل الظاهرة على الوحدانية فقال : (الَّذِي جَعَلَ

٥١٦

لَكُمُ) في جملة الخلق (الْأَرْضَ مَهْداً) أي : فراشا.

تنبيه : هذا الموصول في محل رفع صفة لربي وخبره محذوف تقديره هو ، أو منصوب على المدح. وقرأ عاصم وحمزة هنا وفي سورة الزخرف مهدا بفتح الميم وسكون الهاء أي : مهدها مهدا أو تتمهدونها فهي لهم كالمهاد وهو ما يمهد للصبيّ ، وقرأ الباقون بكسر الميم وفتح الهاء وألف بعدها وهو اسم ما يمهد كالفراش أو جمع مهد وسئلك أي : سهل (لَكُمْ فِيها سُبُلاً) أي : طرقا بين الجبال والأودية والبراري تسلكونها من أرض إلى أرض لتبلغوا منافعها (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) أي : مطرا وعدل بقوله : (فَأَخْرَجْنا بِهِ) عن لفظ الغيبة إلى صيغة التكلم على الحكاية لكلام الله تعالى تنبيها على ظهور ما فيه من الدلالة على كمال قدرته والحكمة وإيذانا بأنه مطاع تنقاد الأشياء المختلفة لمشيئته وعلى هذا نظائره كقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها) [فاطر ، ٢٧](أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ) [النمل ، ٦٠](أَزْواجاً) أي : أصنافا سميت بذلك لأنها مزدوجة مقترنة بعضها مع بعض وقوله تعالى : (مِنْ نَباتٍ) بيان وصفة لأزواجا وكذلك (شَتَّى) وهو جمع شتيت من شت الأمر تفرّق نحو مرضى جمع مريض وجرحى جمع جريح فألفه للتأنيث أي : أزواجا متفرّقة ويجوز أن يكون صفة للنبات فإنه من حيث إنه مصدر في الأصل يستوي فيه الواحد والجمع أي : أنها مختلفة النفع والطعم واللون والرائحة والشكل بعضها يصلح للناس وبعضها للبهائم فلذلك قال تعالى : (كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ) والأنعام جمع نعم وهي الإبل والبقر والغنم يقال : رعت الأنعام ورعيتها والأمر للإباحة وتذكير النعمة والجملة حال من ضمير أخرجنا أي : مبيحين لكم الأكل ورعي الأنعام أي : وبقية الحيوانات (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي : فيما ذكرت من هذه النعم (لَآياتٍ) أي : لعبرا (لِأُولِي النُّهى) أي : أصحاب العقول جمع نهية كغرفة وغرف سمي به العقل لأنه ينهى صاحبه عن ارتكاب القبائح. ولما ذكر سبحانه وتعالى منافع الأرض والسماء بيّن أنها غير مطلوبة لذاتها بل هي مطلوبة لكونها وسائل إلى منافع الآخرة فقال : (مِنْها) أي : الأرض (خَلَقْناكُمْ) فإن قيل : إنما خلقنا من النطفة على ما بيّن في سائر الآيات؟ أجيب : بأوجه.

أحدها : أنه لما خلق أصلنا آدم من تراب كما قال تعالى : (كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) [آل عمران ، ٥٩] حسن إطلاق ذلك علينا.

ثانيها : أن تولد الإنسان إنما هو من النطفة ودم الطمث وهما متولدان من الأغذية والغذاء إمّا حيواني أو نباتي ، والحيواني ينتهي إلى النباتي والنبات إنما يحدث من امتزاج الماء والتراب فصح أنه تعالى خلقنا منها وذلك لا ينافي كوننا مخلوقين من النطفة.

ثالثها : روى ابن مسعود أنّ ملك الأرحام يأتي إلى الرحم حين يكتب أجل المولود ورزقه والأرض التي يدفن فيها فإنه يأخذ من تراب تلك البقعة وينثره على النطفة ثم يدخلها في الرحم وأخرج ابن المنذر عن عطاء الخراساني قال : إنّ الملك ينطلق فيأخذ من تراب المكان الذي يدفن فيه فيذرّه على النطفة فيخلق من التراب ومن النطفة (وَفِيها نُعِيدُكُمْ) أي : مقبورين بعد الموت (وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ) أي : عند البعث (تارَةً) أي : مرّة (أُخْرى) أي : بتألف أجزائكم المتفتتة المختلطة بالتراب ونردّهم كما كانوا أحياء ونخرجهم إلى المحشر يوم يخرجون من الأجداث سراعا.

٥١٧

ولما كان المقام لتعظيم القدرة عطف عليه قوله تعالى :

(وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (٥٦) قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (٥٧) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (٥٨) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (٥٩) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (٦٠) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (٦١) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (٦٢) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (٦٣) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (٦٤) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (٦٥) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (٦٦) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (٦٧) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (٦٨) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (٦٩) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (٧٠) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (٧١) قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (٧٢) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (٧٣) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (٧٤) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (٧٥) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (٧٦))

(وَلَقَدْ أَرَيْناهُ) أي : أبصرناه (آياتِنا كُلَّها) أي : التسع المختصة بموسى وهي العصا واليد وفلق البحر والحجر والجراد والقمل والضفادع والدم ونتق الجبل (فَكَذَّبَ) بها وزعم أنها سحر (وَأَبى) أن يسلم ، فإن قيل : قوله تعالى : (كُلَّها) يفيد العموم والله تعالى ما أراه جميع الآيات فإنّ من جملة الآيات ما أظهرها على أيدي الأنبياء قبل موسى وبعده؟ أجيب : بأنّ لفظ الكل وإن كان للعموم قد يستعمل في الخصوص مع القرينة كما يقال : دخلت السوق فاشتريت كل شيء أو يقال : إنّ موسى أراه آياته وعدّد عليه آيات غيره من الأنبياء فكذب فرعون بالكل أو يقال : تكذيب بعض المعجزات يقتضي تكذيب الكل فحكى سبحانه وتعالى ذلك على الوجه الذي يلزم ثم كأنه قيل : كيف صنع في تكذيبه وإبائه فقيل :

(قالَ) حين علم حقيقة ما جاء به موسى وظهوره وخاف أن يتبعه الناس ويتركوه ووهن في نفسه وهنا عظيما (أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا) أي : الأرض التي نحن مالكوها ويكون لك الملك فيها فصارت فرائصه ترعد خوفا مما جاء به موسى لعلمه وإيقانه أنه على الحق وأنّ المحق لو أراد قود الجبال لانقادت له وإن مثله لا يخذل ولا يذل ناصره وأنه غالبه على ملكه لا محالة ثم خيل لأتباعه أن ذلك سحر بقوله : (بِسِحْرِكَ يا مُوسى) فكان ذلك مع ما ألفوه من عادتهم في الضلال صارفا لهم عن اتباع ما رأوه من البيان ثم أظهر لهم أنه يعارضه بمثل ما أتى به بقوله : (فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ) أي : مثل سحرك يعارضه (فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً) أي : من الزمان والمكان (لا نُخْلِفُهُ) أي : لا نجعله خلفنا (نَحْنُ وَلا أَنْتَ) أي : لا نجاوزه ولما كان كل من الزمان والمكان لا ينفك عن الآخر قال : (مَكاناً) وآثر ذلك المكان لأجل وصفه بقوله : (سُوىً) أي : عدلا وقال

٥١٨

ابن عباس : نصفا تستوي مسافة الفريقين إليه فانظر إلى هذا الكلام الذي زوّقه ونمقه وصنعه بما وقف به قومه عن السعادة واستمرّ يقودهم بعناده حتى أوردهم البحر فأغرقهم ثم في غمرات النار أحرقهم ، وقيل : معنى سوى أي : سوى هذا المكان ، وقرأ شعبة وابن عامر وحمزة والكسائي بضم السين والباقون بكسرها وأمال شعبة وحمزة والكسائي في الوقف محضة والباقون بالفتح ، وقيل : المراد بالموعد الوعد لأنّ الإخلاف لا يلائم الزمان والمكان أي : بل الوعد هو الذي يصح وصفه بالخلف وعدمه وإلى هذا نحا جماعة مختارين له. وردّ عليهم بقوله : (قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ) فإنه لا يطابقه.

تنبيه : يحتمل أنّ قوله : (قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ) أن يكون من قول فرعون فبين الوقت وأن يكون من قول موسى وهذا أظهر كما قال الرازي لوجوه : الأوّل : أنه جواب لقول فرعون : (فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً) الثاني : وهو أن تعيين يوم الزينة يقتضي إطلاع الكل على ما سيقع فتعيينه إنما يليق بالمحق الذي يعرف أنّ اليد له لا المبطل الذي يعرف أنه ليس معه إلا التلبيس. ثالثها : أن قوله : (مَوْعِدُكُمْ) خطاب للجمع فلو جعلناه من فرعون لموسى وهارون لزم إمّا أن نحمله على التعظيم أو أن أقل الجمع اثنان فالأوّل لا يليق بحال فرعون معهما والثاني غير جائز ، فإذا جعلناه من موسى استقام الكلام واختلف في (يَوْمُ الزِّينَةِ) فقال مجاهد وقتادة : النيروز ، وقال ابن عباس وسعيد بن جبير : هو يوم عاشوراء ، وقيل : كان يوم عيد لهم يتزينون فيه ويجتمعون في كل سنة ، وقيل : يوم كانوا يتخذون فيه سوقا ويتزينون ذلك اليوم.

وبنى قوله : (وَأَنْ يُحْشَرَ) للمفعول ؛ لأن القصد الجمع لا كونه من معين (النَّاسُ) أي :

يجتمعوا (ضُحًى) أي : وقت الضحوة ، فيكون أظهر لما يعمل وأجلى ، فلا يأتي الليل إلا وقد قضي الأمر ، وعرف المحق من المبطل ، ويكثر التحديث بذلك في كل بدو وحضر ، ويشيع في جميع أهل الوبر والمدر.

(فَتَوَلَّى) أي : أعرض (فِرْعَوْنُ) عن موسى إلى تهيئة ما يريد من الكيد بعد توليه عن الانقياد لأمر الله تعالى (فَجَمَعَ كَيْدَهُ) أي : مكره وحيلته وخداعه الذي دبره على موسى بجميع من يحصل بهم الكيد ، وهم السحرة حشرهم من كل فج ، وكان أهل مصر أسحر أهل الأرض وأكثرهم ساحرا ، وكانوا في ذلك الزمان أشد اعتناء بالسحر ، وأمهر ما كانوا وأكثر (ثُمَّ أَتى) للميعاد الذي وقع القرار عليه بمن حشره من السحرة والجنود ومن تبعهم من الناس مع توفر الدواعي على الإتيان للعيد ، والنظر إلى تلك المغالبة التي لم يكن مثلها.

ولما تشوق السامع إلى ما كان من موسى عند ذلك استأنف تعالى الخبر عنه بقوله تعالى : (قالَ لَهُمْ) أي : لأهل الكيد والعناد ، وهم السحرة وغيرهم (مُوسى) حين رأى اجتماعهم ناصحا لهم (وَيْلَكُمْ) يا أيها الناس الذين خلقكم الله تعالى لعبادته (لا تَفْتَرُوا) أي : لا تتعمدوا (عَلَى اللهِ كَذِباً) بإشراك أحد معه (فَيُسْحِتَكُمْ) قال مقاتل : يهلككم ، وقال قتادة : يستأصلكم (بِعَذابٍ) من عنده ، وقرأ حفص وحمزة والكسائي بضم الياء ، وكسر الحاء من الإسحات ، وهو لغة نجد وتميم ، والباقون بفتحهما ، والسحت لغة الحجاز (وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى) كما خاب فرعون ، فإنه افترى واحتال ليبقى الملك له ، فلم ينفعه.

(فَتَنازَعُوا) أي : تجاذب السحرة (أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) لما سمعوا هذا الكلام علما منهم أنه لا

٥١٩

يقدر أن يواجه فرعون بمثله في جمع جنوده وأتباعه ، ثم يسلم منه إلا من الله تعالى معه (وَأَسَرُّوا النَّجْوى) قال الكلبي : قالوا سرا : إن غلبنا موسى اتبعناه ، وقال محمد بن إسحاق : لما قال لهم موسى : (لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً ،) قال بعضهم لبعض : ما هذا بقول ساحر ، وبالغوا في إخفاء ذلك ، فإن النجوى الإسرار لئلا يظهر فرعون وأتباعه على ذلك ، فكأنه قيل : ما قالوا حين انتهى تنازعهم؟ فقيل :

(قالُوا) أي السحرة : (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) أي : موسى وهارون ، وقرأ ابن كثير وحفص بسكون النون من (إِنْ ،) وشدّدها الباقون ، وقرأ أبو عمرو بالياء بعد الذال ، والباقون بالألف على لغة من يجعل ألف المثنى لازما في كل حال ، قال أبو حيان : وهي لغة لطوائف من العرب بني الحارث بن كعب ، وبعض كنانة وخثعم وزيد وبني النضر وبني الجهيم ومراد وعذرة ، وقال شاعرهم (١) :

تزوّد مني بين أذناه ضربة

يريد أذنيه ، وقال آخر (٢) :

إن أباها وأبا أباها

قد بلغا في المجد غايتاها

وقيل : تقدير الآية أنه هذان ، فحذف الهاء ، وذهب جماعة إلى أن حرف أن ههنا بمعنى نعم ، أي : نعم هذان ، روي أن أعرابيا سأل ابن الزبير شيئا فحرمه ، فقال : لعن الله ناقة حملتني إليك ، فقال ابن الزبير : إنّ وصاحبها ، أي : نعم ، وشدّد ابن كثير النون ، فكانت نجواهم في تلفيق هذا الكلام ، وتزويره خوفا من غلبتهما ، وتثبيطا للناس عن اتباع موسى وهارون (يُرِيدانِ) أي بما يقولان من دعوى الرسالة وغيرها (أَنْ يُخْرِجاكُمْ) أيها الناس (مِنْ أَرْضِكُمْ) هذه التي ألفتموها ، وهي وطنكم خلفا عن سلف (بِسِحْرِهِما) الذي أظهراه لكم وغيره. ولما كان كل حزب بما لديهم فرحين قالوا : (وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى) مؤنث الأمثل ، وهو الأفضل ، أي : بمذهبكم الذي هو أفضل المذاهب بإظهار مذهبه ، وإعلاء دينه لقوله تعالى : (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ) [غافر ، ٢٦] ، وقيل : أراد أهل طريقتكم ، وهم بنو اسرائيل ، فإنهم كانوا أرباب علم فيما بينهم لقول موسى : (أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) [الشعراء ، ١٧] وقيل : الطريقة اسم لوجوه القوم وأشرافهم من حيث إنهم قدوة لغيرهم.

(فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ) أي : من السحر وغيره ، فلا تدعوا منه شيئا إلا جئتم به ، وقرأ أبو عمرو

__________________

(١) يروى البيت بتمامه :

تزّود منّا بين أذناه طعنة

دعته إلى هابي التراب عقيم

والبيت من الطويل ، وهو لهوبر الحارثي في لسان العرب (صرع) ، (شظى) ، (هبا) ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص ٧٠٧ ، وخزانة الأدب ٧ / ٤٥٣ ، والدرر ١ / ١١٦ ، وسر صناعة الإعراب ٢ / ٧٠٤ ، وشرح شذور الذهب ص ٦١ ، وشرح المفصل ٣ / ١٢٨ ، ١٣٣ ، والصاحبي في فقه اللغة ص ٤٩ ، وهمع الهوامع ١ / ٤٠.

(٢) الرجز لرؤبة في ملحق ديوانه ص ١٦٨ ، وله أو لأبي النجم في الدرر ١ / ١٠٦ ، وشرح التصريح ١ / ٦٥ ، وله أو لرجل من بني الحارث في خزانة الأدب ٧ / ٤٥٥ ، وبلا نسبة في أسرار العربية ص ٤٦ ، والإنصاف ص ١٨.

٥٢٠