تفسير الخطيب الشربيني - ج ٢

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري

تفسير الخطيب الشربيني - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4207-0

الصفحات: ٧١٧

إني إذا لحيران وما هو بمصدّقي أحد من الناس بما أقول لقد كنا فتية وإن الملك أكرهنا على عبادة الأوثان والذبح للطواغيت فهربنا منه عشية أمس فنمنا فلما انتبهنا خرجت لأشتري طعاما وأتجسس الأخبار فإذا أنا كما ترون فانطلقوا معي إلى الكهف الذي في جبل بنجلوس أريكم أصحابي فلما سمع أريوس ما يقول تمليخا قال : يا قوم لعلّ هذه آية من آيات الله تعالى جعلها الله تعالى لكم على يد هذا الغلام فانطلقوا بنا معه ليرينا أصحابه فانطلق معه أريوس وأسطيوس ومعهما جميع أهل المدينة كبيرهم وصغيرهم نحو أصحاب الكهف لينظروا إليهم فلما رأى الفتية أصحاب الكهف تمليخا قد احتبس عنهم بطعامهم وشرابهم عن القدر الذي كان يأتي فيه فظنوا أنه قد أخذ وذهب به إلى ملكهم دقيانوس فبينما هم يظنون ذلك ويتحققونه إذ سمعوا الأصوات وجلبة الخيل مصعدة عندهم فظنوا أنهم رسل الجبار دقيانوس بعث إليهم ليأتوا بهم فقاموا إلى الصلاة وسلّم بعضهم على بعض وأوصى بعضهم بعضا.

وقالوا : انطلقوا بنا نأت أخانا تمليخا فإنه الآن بين يدي الجبار وهو ينتظرنا حتى نأتيه فبينما هم يقولون ذلك وهم جلوس على هذه الحالة إذا هم بأريوس وأصحابه وقوف على باب الكهف فسبقهم تمليخا ودخل وهو يبكي فلما رأوه يبكي بكوا معه ثم سألوه عن خبره فقص عليهم الخبر كله فعرفوا أنهم كانوا نياما بأمر الله تعالى ذلك الزمن الطويل ، وإنما أوقظوا ليكونوا آية للناس وتصديقا للبعث ويعلم الناس أنّ الساعة آتية لا ريب فيها ، ثم دخل على أثر تمليخا أريوس فرأى تابوتا من نحاس مختوما بخاتم من فضة فقام بباب الكهف ثم دعا رجالا من عظماء أهل المدينة ففتح التابوت عندهم فوجد فيه لوحين من رصاص مكتوب فيهما مكسلمينا ومخشلمينا وتمليخا ومطرونس وكشطونس وبيرونس وبيطونس كانوا فتية هربوا من ملكهم دقيانوس الجبار مخافة أن يفتنهم عن دينهم فدخلوا هذا الكهف فلما أخبر بمكانهم أمر بالكهف فسدّ عليهم بالحجارة وإنا كتبنا أسماءهم وخبرهم ليعلمه من بعدهم إن عثر عليهم فلما قرؤوه عجبوا وحمدوا الله تعالى الذي أراهم آية البعث فيهم ثم رفعوا أصواتهم بحمد الله تعالى وتسبيحه ثم دخلوا على الفتية الكهف فوجدوهم جلوسا مشرقة وجوههم لم تبل ثيابهم فخرّ أريوس وأصحابه سجودا وحمدوا الله تعالى الذي أراهم آية من آياته ، ثم كلم بعضهم بعضا وأنبأهم الفتية عن الذي لقوه من ملكهم دقيانوس ثم إنّ أريوس وأصحابه بعثوا بريدا إلى ملكهم الصالح تندوسيس أن عجل لعلك تنظر إلى آية من آيات الله جعلها الله تعالى على ملكك وجعلها آية للعالمين ليكون لهم نورا وضياء وتصديقا للبعث ، فاعجل إلى فتية بعثهم الله تعالى وكان قد توفاهم منذ أكثر من ثلاثمئة سنة ، فلما أتى الملك الخبر قام ورجع إليه عقله وذهب همه ، فقال : أحمد الله ربّ السموات والأرض وأعبدك وأسبح لك تطوّلت عليّ ورحمتني فلم تطفئ النور الذي جعلته لآبائي وللعبد الصالح قسطيطينوس الملك فلما نبئ به أهل المدينة ركبوا إليه وساروا معه حتى أتوا مدينة أفسوس فتلقاهم أهل المدينة وساروا معه نحو الكهف فلما صعد الجبل ورأى الفتية تندوسيس فرحوا به وخرّوا سجدا على وجوههم وقام تندوسيس قدّامهم ثم اعتنقهم وبكى وهم جلوس بين يديه على الأرض يسبحون الله تعالى ويحمدونه ثم قالوا له : نستودعك الله السّلام عليك ورحمة الله وبركاته وحفظك وحفظ ملكك ونعيذك بالله من شر الإنس والجنّ ، فبينما الملك قائم إذ رجعوا إلى مضاجعهم فناموا وتوفى الله أنفسهم وقام الملك تندوسيس إليهم فجعل ثيابه عليهم ، وأمر أن يجعل كل رجل منهم في تابوت من

٤٠١

ذهب فلما أمسى ونام أتوه في المنام وقالوا له : إنا لم نخلق من ذهب ولا فضة ولكن خلقنا من تراب وإلى التراب نصير فاتركنا كما كنا في الكهف على التراب حتى يبعثنا الله تعالى منه فأمر الملك حينئذ بتابوت من ساج فجعلوا فيه وحجبهم الله تعالى حين خرجوا من عندهم بالرعب فلم يقدر أحد على أن يدخل عليهم ، وقيل : إنّ تمليخا لما حمل إلى الملك الصالح قال له الملك : من أنت؟

قال : أنا رجل من أهل هذه المدينة وذكر أنه خرج أمس أو منذ أيام وذكر منزله وأقواما لم يعرفهم أحد وكان الملك قد سمع أنّ فتية فقدوا في الزمان الأوّل وأن أسماؤهم مكتوبة على لوح في خزانته فدعا باللوح فنظر في أسمائهم فإذا اسمه مكتوب في ذكر أسماء الآخرين فقال تمليخا : هم أصحابي فلما سمع الملك ذلك ركب هو ومن معه من القوم فلما أتوا باب الكهف قال تمليخا : دعوني حتى أدخل على أصحابي وأبشرهم فإنهم إن رأوكم معي أرعبتموهم فدخل فبشرهم فقضبت روحه وأرواحهم وأغمي على الملك وأصحابه أثرهم فلم يهتدوا عليهم.

ثم وقع التنازع في أمرهم بين أهل المدينة كما قال تعالى : (إِذْ يَتَنازَعُونَ) أي : أهل المدينة (بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ) أي : أمر الفتية في البناء حولهم (فَقالُوا ،) أي : الكفار (ابْنُوا عَلَيْهِمْ) أي : حولهم (بُنْياناً) يسترهم فإنهم كانوا على ديننا وقوله تعالى : (رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ) يجوز أن يكون من كلام الله تعالى وأن يكون من كلام المتنازعين فيهم (قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ) أي : أمر الفتية وهم المؤمنون (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ) أي : حولهم (مَسْجِداً) يصلى فيه وفعل ذلك على باب الكهف ، وقيل : إنّ بعضهم قال : الأولى أن نسدّ باب الكهف عليهم لئلا يدخل أحد عليهم ولا يقف على أحوالهم إنسان. وقال الآخرون : بل الأولى أن نبني على باب الكهف مسجدا وهذا القول يدل على أنّ أولئك الأقوام كانوا عارفين بالله ومعترفين بالعبادة والصلاة ، وقيل : تنازعوا في مقدار مكثهم وقيل : في عددهم وأسمائهم.

تنبيه : (بُنْياناً) يجوز أن يكون مفعولا به جمع بنيانة وأن يكون مصدرا.

ولما ذكر أصحاب الكهف عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقع الاختلاف في عددهم كما قال تعالى :

(سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (٢٢) وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (٢٤) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (٢٥) قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (٢٦) وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٧) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (٢٨) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (٢٩) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (٣٠) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً

٤٠٢

خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (٣١))

(سَيَقُولُونَ) أي : الخائضون في قصتهم من أهل الكتاب والمؤمنين فقال بعض أهل الكتاب : (ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ) أي : هم ثلاثة رجال ورابعهم كلبهم بانضمامه إليهم (وَيَقُولُونَ) أي : بعضهم (خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ) فهذان القولان لنصارى نجران وقيل : الأوّل قول اليهود والثاني قول النصارى. فإن قيل : لم جاءت سين الاستقبال في الأوّل دون الأخيرين؟ أجيب : بأنّ في ذلك وجهين : أن تدخل الأخيرين في حكم السين كما تقول : قد أكرم وأنعم تريد معنى التوقع في الفعلين وأن تريد بيفعل معنى الاستقبال الذي هو صالح له.

ولما كان قولهم ذلك بغير علم كان (رَجْماً بِالْغَيْبِ) أي : ظنا في الغيبة عنهم فهو راجع إلى القولين معا ونصب على المفعول له ، أي : لظنهم ذلك (وَيَقُولُونَ) أي : المؤمنون (سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) قال أكثر المفسرين : هذا الأخير هو الحق ويدل عليه وجوه : الأوّل : أنه تعالى لما حكى قوله (وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) قال بعده : (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ) وأتبع القولين الأوّلين بقوله تعالى : (رَجْماً بِالْغَيْبِ) وتخصيص الشيء بالوصف يدل على أنّ الحال في الباقي بخلافه فوجب أن يكون المخصوص بالظنّ الباطل هو القولان الأوّلان ، وأن يكون القول الثالث مخالفا لهما في كونه رجما بالغيب.

الوجه الثاني : أنّ الواو في قوله تعالى : (وَثامِنُهُمْ) هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة كما تدخل على الواقعة حالا من المعرفة في نحو قولك : جاءني رجل ومعه آخر توكيد للصوق الصفة بالموصوف ، والدلالة على أنّ اتصافه بها أمر ثابت مستقرّ فكانت هذه الواو دالة على أنّ الذين كانوا في الكهف كانوا سبعة وثامنهم كلبهم ، وقول محمد بن إسحاق : إنهم كانوا ثمانية مردود فكأنّ الله تعالى حكى اختلافهم وتم الكلام عند قوله : (وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ) ثم حقق هذا القول بقوله تعالى : (وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) والثامن لا يكون إلا بعد السبع وهذه الواو يسمونها واو الثمانية لأنّ العرب تعد فتقول : واحد اثنين ثلاثة أربعة خمسة ستة سبعة وثمانية لأنّ العقد كان عندهم سبعة كما هو اليوم عندنا عشرة ونظير هذه الآية في ثلاث آيات وهو قوله تعالى : (وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [التوبة ، ١١٢] وقوله تعالى : (حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها) [الزمر ، ٧١] لأنّ ابواب الجنة ثمانية وأبواب النار سبعة. وقوله تعالى : (ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً) [التحريم ، ٥]. قال القفال : وقولهم : واو الثمانية ليس بشيء بدليل قوله تعالى : (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ) [الحشر ، ٢٣] ولم يذكروا الواو في النعت الثامن اه. وقد يجاب بأنّ ذلك جرى على الغالب.

الوجه الثالث : أنه تعالى قال : (ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ) وهذا يقتضي أنه حصل العلم بعدّتهم لذلك القليل. وكان ابن عباس يقول : أنا من أولئك العدد القليل وكان يقول : إنهم سبعة وثامنهم كلبهم. وكان عليّ رضي الله تعالى عنه يقول : كانوا سبعة. قال الرازي : وأسماؤهم تمليخا ومكسلمينا ومشلينا وهؤلاء الثلاثة كانوا أصحاب يمين الملك وعن يساره مرنوش ودبرنوش وشاذنوش وكان الملك يستشير هؤلاء الستة ليتصرّفوا في مهماته ، والسابع كشفططيوش وهو الراعي الذي وافقهم لما هربوا من ملكهم. وروي عن ابن عباس أنه قال : هم مكشلمينا وتمليخا ومرطونس ويدنونس ودونواقس وكقشططونس وهو الراعي واسم كلبهم قطمير واسم مدينتهم أفسوس.

٤٠٣

تنبيه : في الآية حذف والتقدير سيقولون هم ثلاثة كما تقدّم تقديره فحذف المبتدأ لدلالة الكلام عليه وقيل : الأقوال الثلاثة لأهل الكتاب والقليل منهم ، أي : ولا علم بذلك إلا في قليل منهم وأكثرهم على الظنّ.

ثم إنه تعالى لما ذكر هذه القصة أتبعها بأن نهى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن شيئين عن المراء وعن الاستفتاء أمّا النهي عن المراء فبقوله تعالى : (فَلا تُمارِ) أي : تجادل (فِيهِمْ) أي : في شأن الفتية (إِلَّا مِراءً) أي : جدالا (ظاهِراً) أي : غير متعمق فيه وهو أن تقص عليهم ما في القرآن من غير أن تكذبهم في تعيين ذلك العدد ونظيره قوله تعالى : (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [العنكبوت ، ٤٦] ، وأمّا النهي عن الاستفتاء فقوله تعالى : (وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ) أي : ولا تسأل (مِنْهُمْ) أي : من أهل الكتاب اليهود (أَحَداً) عن قصتهم سؤال مسترشد لأنه لما ثبت أنه ليس عندهم علم في هذا الباب وجب المنع من استفتائهم وفيما أوحي إليك مندوحة عن غيره ولا سؤال متعنت تريد تفضيح المسؤول عنه وتزييف ما عنده فإنه يخل بمكارم الأخلاق.

ولما سأل أهل مكة عن خبر أهل الكهف فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبركم به غدا ولم يقل إن شاء الله ، فاحتبس الوحي عنه خمسة عشر يوما وفي رواية أخرى أربعين يوما نزل : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ ،) أي : لأجل شيء تعزم عليه (إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ) الشيء (غَداً) أي : فيما يستقبل من الزمان ولم يرد الغد خاصة. (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) أي : إلا متلبسا بمشيئته بأن تقول : إن شاء الله والسبب في ذلك أنّ الإنسان إذا قال سأفعل الفعل الفلاني غدا لم يبعد أن يموت قبل مجيء الغد ولم يبعد أيضا إن بقي حيا أن يعيقه عن ذلك الفعل سائر العوائق فإذا لم يقل إن شاء الله صار كاذبا في ذلك الوعد والكذب منفر لا يليق بالأنبياء عليهم الصلاة والسّلام فلهذا السبب وجب عليه أن يقول : إن شاء الله حتى إذا تعذر عليه الوفاء بذلك الوعد لم يصر كاذبا ولم يحصل التنفير.

تنبيه : قال كثير من الفقهاء : إذا قال الرجل لامرأته أنت طالق إن شاء الله لم يقع عليه الطلاق لأنه لما علق وقوع الطلاق على مشيئته تعالى لم يقع عليه الطلاق إلا إذا علمنا حصول المشيئة ومشيئة الله تعالى غيب لا سبيل لنا إلى العلم بحصولها إلا إذا علمنا أن متعلق المشيئة وقع وهو الطلاق ، وعلى هذا لا يعرف حصول المشيئة إلا إذا وقع الطلاق ولا يعرف وقوع الطلاق إلا إذا عرفت المشيئة فيتوقف العلم بكل واحد منهما على العلم بالآخر وهو دور فلهذا لا يقع الطلاق. وقيل : المراد إلا أن يشاء الله ، أي : إلا أن يأذن لك الله تعالى في ذلك القول والمعنى : أنه ليس لك أن تخبر عن نفسك بأنك تفعل الفعل الفلاني إلا أن يأذن لك الله تعالى في ذلك الإخبار ، وقد احتج القائلون بأنّ المعدوم شيء بهذه الآية لأنّ الشيء الذي سيفعله غدا معدوم في الحال فوجب تسمية المعدوم بأنه شيء. وأجيب : بأنّ هذا الاستدلال لا يفيد إلا أنّ المعدوم يسمى بكونه شيئا وعندنا أنّ السبب فيما سيصير شيئا يجوز تسميته بكونه شيئا في الحال كما قال تعالى : (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) [النحل ، ١] والمراد سيأتي أمر الله.

واختلف في معنى قوله تعالى : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) فقال ابن عباس ومجاهد والحسن : معناه إذا نسيت الاستثناء ثم ذكرت فاستثن وعند هذا اختلفوا فقال ابن عباس : لو لم يحصل التذكر إلا بعد مدّة طويلة ثم ذكر إن شاء الله كفى في رفع الحنث. وعن سعيد بن جبير بعد سنة أو شهر أو أسبوع أو يوم ، وعن طاوس لا يقدر على الاستثناء إلا في مجلسه. وعن عطاء يستثني على مقدار

٤٠٤

حلب ناقة غزيرة وعند عامّة الفقهاء أنه لا أثر له في الكلام ما لم يكن موصولا واحتج ابن عباس بأنّ قوله : (إِذا نَسِيتَ) غير مختص بوقت غير معين بل هو متناول لكل الأوقات وظاهره أنّ الاستثناء لا يجب أن يكون متصلا أمّا عامّة الفقهاء فقالوا : لو جوّزنا ذلك للزم أن لا يستقرّ شيء من العقود والأيمان. يحكى أنّ المنصور بلغه أنّ أبا حنيفة خالف ابن عباس في الاستثناء المنفصل فاستحضره لينكر عليه فقال له الإمام أبو حنيفة : هذا يرجع عليك لأنك تأخذ البيعة بالأيمان أترضى أن يخرجوا من عندك فيستثنوا فيخرجوا عليك فاستحسن المنصور كلامه ورضي عنه واستدلّ بأنّ الآيات الكثيرة دلت على وجوب الوفاء بالعقد والعهد. قال تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [المائدة ، ١] وقال تعالى : (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ) [الإسراء ، ٣٤] فإذا أتى بالعقد أو العهد وجب عليه الوفاء بمقتضاه لأجل هذه الآيات خالفنا الدليل فيما إذا كان الاستثناء متصلا لأنّ الاستثناء مع المستثنى منه كالكلام الواحد بدليل أنّ الاستثناء وحده لا يفيد شيئا فهو جار مجرى بعض الكلمة الواحدة فجملة الكلام كالكلمة الواحدة المفيدة ، فإذا لم يكن متصلا أفاد الالتزام التامّ فوجب الوفاء بذلك الملتزم ، وقيل : إنّ قوله تعالى : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) كلام مستأنف لا تعلق له بما قبله. قال عكرمة : واذكر ربك إذا غضبت وقال وهب : مكتوب في الإنجيل ابن آدم اذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب. وقال الضحاك والسدي : هذا في الصلاة المنسية. قال الرازيّ : وتعلق هذا الكلام بما قبله يفيد إتمام الكلام في هذه القصة وجعله مستأنفا يصير الكلام مبتدأ منقطعا وذلك لا يجوز.

وفي قوله تعالى : (وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً) وجوه : الأوّل : أن يكون قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) ليس يحسن تركه وذكره أولى من تركه وهو قوله : (لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً) والمراد منه ذكر هذه الجملة. الثاني : أنه لما وعدهم بشيء وقال معه إن شاء الله فيقول : وعسى أن يهدين ربي لشيء أحسن وأكمل مما وعدتكم به. الثالث : أنّ قوله : (عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً) إشارة إلى قصة أصحاب الكهف ، أي : لعلّ الله يوفقني من البينات والدلائل على صحة نبوّتي وصدقي في ادعاء النبوّة ما هو أعظم في الدلالة وأقرب رشدا من قصة أصحاب الكهف ، وقد فعل الله تعالى ذلك حين آتاه من قصص الأنبياء والأخبار بالغيوب ما هو أعظم من ذلك.

ثم شرع تعالى في آية هي آخر الآيات المذكورة في قصة أصحاب الكهف بقوله تعالى : (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ) أي : نياما (ثَلاثَ مِائَةٍ) أي : مدّة ثلاثمئة (سِنِينَ) قال بعضهم : وهذه السنون الثلاثمئة عند أهل الكتاب شمسية وتزيد القمرية عليها تسع سنين وقد ذكرت في قوله : (وَازْدَادُوا تِسْعاً) أي : تسع سنين لأنّ التفاوت بين الشمسة والقمرية في كل مائة سنة ثلاث سنين لأنّ السنة الشمسية تزيد على السنة القمرية عشرة أيام وإحدى وعشرين ساعة وخمس ساعة فالثلاثمئة سنة الشمسية ثلاثمئة وتسع قمرية قال الرازي : وهذا مشكل لأنه لا يصح بالحساب هذا القول ويمكن أن يقال : لعلهم لما استكملوا ثلاثمئة سنة قرب أمرهم من الانتباه ثم اتفق ما أوجب بقاءهم في النوم بعد ذلك تسع سنين وقرأ حمزة والكسائي بغير تنوين في الوصل والباقون بالتنوين فسنين عطف بيان لثلاثمائة لأنه لما قال : (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ) لم يعرف أنها أيام أو شهور أو سنون ، فلما قال : (سِنِينَ) صار هذا بيانا لقوله : (ثَلاثَ مِائَةٍ) فكان ذلك عطف بيان له. وقيل : هو على

٤٠٥

التقديم والتأخير ، أي : لبثوا سنين ثلاثمئة. وأمّا وجه القراءة الأولى فهو أنّ الواجب في الإضافة أن يقال : ثلاثمائة سنة إلا أنه يجوز وضع الجمع موضع الواحد في التمييز ، كقوله تعالى : (بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً) [الكهف ، ١٠٣] وحذف مميز تسع لدلالة ما تقدّم عليه إذ لا يقال : عندي ثلاثمئة درهم وتسعة إلا وأنت تعني تسعة دراهم ، ولو أردت ثيابا أو نحوها لم يجز لأنه ألغاز.

ثم إنّ الله تعالى أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا نازعوه في مدّة لبثهم في الكهف بقوله تعالى :

(قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا ،) أي : فهو أعلم منكم وقد أخبر بمدّة لبثهم ، وقيل : إنّ أهل الكتاب قالوا : إنّ المدّة من حين دخلوا الكهف إلى يومنا هذا وهو اجتماعهم بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثمئة سنين وازدادوا تسع سنين ، فرد الله تعالى عليهم ذلك وقال : (اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا) يعني بعد قبض أرواحهم إلى يومنا هذا لا يعلمه إلا الله (لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : ما غاب فيهما وخفي من أحوال أهلهما فالغيب ما يغيب عن إدراكك والله عز ذكره لا يغيب عن إدراكه شيء فيكون عالما بهذه الواقعة لا محالة وقوله تعالى : (أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) كلمة تذكر في التعجب ، أي : ما أبصر الله تعالى بكل موجود وما أسمعه بكل مسموع (ما لَهُمْ) أي : أهل السموات والأرض (مِنْ دُونِهِ) أي : الله (مِنْ وَلِيٍ) أي : ناصر (وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ) أي : في قضائه (أَحَداً) منهم ولا يجعل له فيه مدخلا لأنه غني بذاته عن كل أحد ، وقيل : الحكم هنا علم الغيب ، أي : لا يشرك في علم غيبه أحدا. وقرأ ابن عامر بالمثناة فوق قبل الشين وبسكون الكاف على نهي كل أحد عن الإشراك ، والباقون بالتحتية وضمّ الكاف.

تنبيه : احتج أصحابنا رحمهم‌الله تعالى بهذه القصة على صحة القول بالكرامة للأولياء وقد قدمنا معرفة الوليّ في سورة يونس عند قوله تعالى : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [يونس ، ٦٢] فمما يدل على جواز كرامات الأولياء القرآن والأخبار والآثار والمعقول ، أمّا القرآن فالمعتمد فيه عندنا آيات الحجة الأولى : قصة مريم عليهاالسّلام وقد شرحناها في سورة آل عمران فلا نعيدها. الحجة الثانية : قصة أصحاب الكهف وبقاؤهم في النوم سالمين من الآفات مدّة ثلاثمئة سنة وتسع سنين ، وأنّ الله تعالى كان يعصمهم من حرّ الشمس ، ومن الناس من تمسك أيضا في هذه المسألة بقوله تعالى : (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) [النمل ، ٤٠] على أنه غير السيد سليمان والسيد جبريل.

وأما الأخبار فكثيرة منها ما أخرج في الصحيح عن أبي هريرة عن النبيّ صلىّ الله عليه وسلّم أنه قال : «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة ؛ عيسى ابن مريم وصبيّ في زمن جريج وصبيّ آخر ؛ أمّا عيسى فقد عرفتموه ، وأمّا جريج فكان رجلا عابدا في بني اسرائيل وكانت له أمّ فكان يوما يصلي إذ اشتاقت إليه أمّه فقالت : يا جريج فقال : يا رب أمّي وصلاتي الصلاة خير أم رؤيتها ثم يصلي فدعته ثانيا فقال مثل ذلك حتى تم ثلاث مرّات وكان يصلي ويدعها فاشتدّ ذلك على أمّه فقالت : اللهمّ لا تمته حتى تريه المومسات. وكانت زانية في بني اسرائيل فقالت لهم : أنا أفتن جريجا حتى يزني بي فأتته فلم تقدر على شيء ، وكان هناك راع يأوي بالليل إلى صومعته فلما أعياها جريج راودت الراعي على نفسها فأتاها فولدت ثم قالت : ولدي هذا من جريج ، فأتاه بنو اسرائيل وكسروا صومعته وشتموه ثم نخس الغلام قال أبو هريرة : كأني أنظر إلى النبيّ صلىّ الّله عليه وسلّم حين قال بيده : يا غلام من أبوك؟ فقال : الراعي. فندم القوم على ما كان منهم واعتذروا إليه وقالوا نبني لك صومعتك من ذهب أو

٤٠٦

فضة فأبى عليهم وبناها كما كانت. وأمّا الصبيّ الآخر فإنّ امرأة كان معها صبيّ لها ترضعه إذ مرّ بها شاب جميل ذو شارة فقالت : اللهمّ اجعل ابني مثل هذا. فقال الصبيّ : اللهمّ لا تجعلني مثله ، ثم مرّ بها امرأة ذكروا أنها سرقت وزنت وعوقبت فقالت : اللهمّ لا تجعل ابني مثل هذه. فقال الصبيّ : اللهمّ اجعلني مثلها. فقالت له أمّه في ذلك ، فقال : إنّ الراكب جبار من الجبابرة فكرهت أن أكون مثله وإنّ هذه قيل لها : زنيت ولم تزن وقيل لها : سرقت ولم تسرق وهي تقول : حسبي الله فأحببت أن أكون مثلها» (١).

ومنها خبر الغار وهو مشهور في الصحيح عن الزهري عن سالم عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم فأواهم المبيت إلى غار فدخلوه فانحدرت عليهم صخرة من الجبل فسدّت عليهم باب الغار» (٢) وقد ذكرت ذلك عند قوله تعالى : (كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً) [الكهف ، ٩]. ومنها قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ربّ أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه به لو أقسم على الله لأبره» (٣). ولم يفرق من شيء وشيء فيما يقسم به على الله تعالى. ومنها ما روي عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «بينما رجل يسوق بقرة قد حمل عليها التفتت البقرة ، وقالت : إني لم أخلق لهذا وإنما خلقت للحرث فقال الناس : سبحان الله! فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : آمنت بهذا وأبو بكر وعمر» (٤). ومنها ما روي عن أبي هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «بينا رجل سمع رعدا أو صوتا في السحاب أن اسق حديقة فلان قال : فغدوت إلى تلك الحديقة فإذا رجل قائم فيها فقلت له : ما اسمك؟ قال : فلان ابن فلان قلت : فما تصنع بحديقتك هذه إذا صرمتها؟ قال : ولم تسأل عن ذلك. قلت : لأني سمعت صوتا في السحاب أن اسق حديقة فلان قال : أمّا إذ قلت فإني أجعلها أثلاثا فأجعل لنفسي ولأهلي ثلثا وأجعل للمساكين وأبناء السبيل ثلثا وأنفق عليها ثلثا» (٥).

وأمّا الآثار فكثيرة أيضا ولنبدأ منها ببعض ما نقل أنه ظهر على يد الخلفاء الراشدين من الكرامات ثم ببعض ما ظهر على يد بعض الصحابة. أمّا أبو بكر رضي الله تعالى عنه فمن كراماته أنه لما حملت جنازته إلى باب قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونودي السّلام عليك يا رسول الله ، هذا أبو بكر بالباب فإذا بالباب قد فتح وإذا بهاتف يهتف من القبر أدخلوا الحبيب إلى الحبيب ، وأمّا عمر رضي الله تعالى عنه فقد ظهرت أنواع كثيرة من كراماته النوع الأوّل : ما روي أنه لما بعث جيشا وأمرّ عليهم رجلا يدعى سارية بن الحصين فبينما عمر يوم الجمعة يخطب جعل يصيح في خطبته وهو على المنبر يا سارية الجبل الجبل. قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه كتبت تاريخ هذه الكلمة فلما قدم رسول ذلك الجيش فقال : يا أمير المؤمنين غدونا يوم الجمعة في وقت الخطبة فهزمونا فإذا بإنسان يصيح يا سارية الجبل فأسندنا ظهرنا إلى الجبل فهزم الله تعالى الكفار وظفرنا بالغنائم العظيمة ببركة ذلك الصوت. قال الرازي : قلت سمعت بعض المذكرين قال : كان ذلك معجزة

__________________

(١) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء حديث ٣٤٣٦ ، ومسلم في البر حديث ٢٥٥٠.

(٢) أخرجه البخاري في الإجارة حديث ٢٢٧٢.

(٣) أخرجه الترمذي في المناقب حديث ٣٨٥٤.

(٤) أخرجه البخاري في المناقب حديث ٣٦٦٣ ، ومسلم في فضائل الصحابة حديث ٢٣٨٨.

(٥) أخرجه مسلم في الزهد حديث ٢٩٨٤.

٤٠٧

لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه قال لأبي بكر وعمر : «أنتما بمنزلة السمع والبصر» (١) ، فلما كان عمر بمنزلة البصر لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا جرم قدر على أن يرى من ذلك البعد العظيم.

النوع الثاني : ما روي أن نيل مصر كان في الجاهلية يقف في كل سنة مرة واحدة فكان لا يجري حتى تلقى فيه جارية حسناء فلما جاء الإسلام كتب عمرو بن العاص إلى عمر فكتب عمر على خرقة أيها النيل إن كنت تجري بأمر الله فاجر وإن كنت إنما تجري بأمرك لا حاجة بنا إليك فألقيت تلك الخرقة في النيل فجرى ولم يقف بعد ذلك.

النوع الثالث : لما وقعت الزلزلة في المدينة فضرب عمر بالدرّة على الأرض وقال : اسكني بإذن الله فسكنت وما حدثت الزلزلة بالمدينة بعد ذلك الوقت.

النوع الرابع : وقعت النار في بعض دور المدينة فكتب عمر على خرقة يا نار اسكني بإذن الله فألقوها في النار فانطفأت في الحال.

النوع الخامس : ما روي أنّ رسول ملك الروم جاء إلى عمر وطلب داره فظنّ أن داره مثل قصور الملوك فقالوا : ليس له ذلك وإنما هو في الصحراء يضرب اللبن فلما ذهب إلى الصحراء رأى عمر وضع درّته تحت رأسه ونام على التراب فتعجب الرسول من ذلك وقال : أهل المشرق والمغرب يخافون هذا الإنسان وهو على هذه الصفة ثم قال في نفسه : إن وجدته خاليا فأقتله وأخلص الناس منه فلما رفع السيف أخرج الله تعالى من الأرض أسدين فقصداه فخاف وألقى السيف من يده وانتبه عمر ولم ير شيئا فسأله عن الحال فذكر له الواقعة وأسلم. قال الرازي : وأقول هذه الواقعة رويت بالآحاد وههنا ما هو معلوم بالتواتر وهو أنه مع بعده عن زينة الدنيا واحترازه عن التكلفات والتهويلات ساس الشرق والغرب وغلب الممالك والدول ولو نظرت في كتب التواريخ علمت أنه لم يتفق لأحد من أوّل عهد عمر إلى الآن ما تيسر له ، فإنه مع غاية بعده عن التكلفات كيف قدر على تلك السياسات ولا شك أنّ هذا من أعظم الكرامات.

وأما عثمان رضي الله تعالى عنه فأشياء كثيرة ، منها ما روي عن أنس قال : سرت في الطريق فوقعت عيني على امرأة ثم دخلت على عثمان فقال : ما لي أراكم تدخلون عليّ وآثار الزنا ظاهرة عليكم فقلت : أجاء الوحي بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : لا ولكن فراسة صادقة ، ومنها أنه لما طعن بالسيف فأوّل قطرة من دمه سقطت وقعت على المصحف على قوله تعالى : (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [البقرة ، ١٣٧]. ومنها أنّ جهجاها الغفاري انتزع العصا من يد عثمان فكسرها على ركبته فوقعت الأكلة في ركبته.

وأما علي رضي الله تعالى عنه فأشياء كثيرة أيضا ، منها ما روي أنّ واحدا من محبيه سرق وكان عبدا أسود فأتي به إلى عليّ فقال : أسرقت؟ فقال : بلى. فقطع يده فانصرف من عند علي فلقيه سلمان الفارسي وابن الكواء. فقال ابن الكواء : من قطع يدك؟ فقال له : أمير المؤمنين ويعسوب المسلمين وختن الرسول وزوج البتول. فقال له سلمان : قطع يدك وتمدحه. فقال : ولم لا أمدحه وقد قطع يدي بحق وخلصني من النار ، فسمع سلمان ذلك فأخبر به عليا فدعا الأسود ووضع يده على ساعده وغطاه بمنديل ، ودعا بدعوات فسمعنا صوتا من السماء : ارفع الرداء عن

__________________

(١) أخرجه الترمذي في المناقب حديث ٣٦٧١ ، بلفظ : «هذان السمع والبصر».

٤٠٨

اليد فرفعناه فإذا اليد قد برئت.

وأما ما روي عن بعض الصحابة فشيء كثير ، ونذكر منها شيئا قليلا ، منها ما روى محمد بن المنكدر عن سفينة قال : ركبت البحر فانكسرت سفينتي التي كنت فيها ، وركبت لوحا من ألواحها فطرحني اللوح في خيسة فيها أسد فخرج الأسد إليّ يريدني فقلت : يا أبا الحارث أنا مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال : فتقدّم الأسد إليّ ودلني على الطريق ثم همهم فظننت أنه يودّعني ورجع.

ومنها ما روى ثابت عن أنس أنّ أسيد بن حضير ورجلا آخر من الأنصار تحدّثا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حاجة لهما حتى ذهب من الليل زمان ثم خرجا من عنده وكانت الليلة شديدة الظلمة وكان في يد كل واحد منهما عصا فأضاءت عصا أحدهما لهما حتى مشيا في ضوئها فلما افترقت بينهما الطريق أضاءت للآخر عصاه فمشى حتى بلغ منزله. ومنها ما روي أنه قيل لخالد بن الوليد : إنّ في عسكرك من يشرب الخمر فركب فرسه ليلة فطاف بالعسكر فلقي رجلا على فرس ومعه خمر فقال : ما هذا؟ قال : خل. فقال : خالد : اللهم اجعله خلا فذهب الرجل إلى أصحابه فقال : أتيتكم بخمر ما شربت العرب مثله فلما فتحوا فإذا هو خل فقالوا : والله ما جئتنا إلا بخل فقال : والله هذا دعاء خالد. ومنها الواقعة المشهورة وهي أنّ خالد بن الوليد أكل كفا من السم على اسم الله وما ضرّه.

ومنها ما روي أنّ ابن عمر كان في بعض أسفاره فلقي جماعة وقفوا على الطريق من خوف السبع فطرد السبع من طريقهم ، ثم قال : إنما يسلط على ابن آدم ما يخافه ولو أنه لم يخف غير الله لما سلط عليه شيء. ومنها ما روي أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث العلاء الحضرمي في غزاة فحال بينهم وبين المطلوب قطعة من البحر فدعا باسم الله الأعظم ومشوا على الماء. وفي كتب الصوفية من هذا الباب روايات متجاوزة عن الحدّ والحصر فمن أرادها طالعها.

وأما الدلائل العقلية على جواز الكرامات فمن وجوه : الأوّل : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال حاكيا عن رب العزة : «من آذى لي وليا فقد بارزته بالمحاربة» (١) فجعل إيذاء الولي قائما مقام إيذائه وتأكد هذا بالخبر المشهور أنه تعالى يقول يوم القيامة : «يا ابن آدم مرضت فلم تعدني ، استسقيتك فما سقيتني ، استطعمتك فما أطعمتني ، فيقول : يا رب كيف أفعل هذا وأنت رب العالمين فيقول : إنّ عبدي فلانا مرض فلم تعده أما علمت أنك لو عدته لوجدت ذلك عندي» (٢). وكذا في السقي والإطعام فدلت هذه الأخبار على أنّ أولياء الله يبلغون هذه الدرجات العالية والمراتب الشريفة. فإذا جاز اتصال العبد إلى هذه الدرجات فأيّ بعد أن يعطيه الله تعالى كسرة خبز أو جرعة ماء أو يسخر له كلبا أو دودة.

الوجه الثاني : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال عن رب العزة : «ما تقرب إليّ عبدي بمثل أداء ما افترض عليه ، ولا يزال يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا وقلبا ولسانا ويدا ورجلا فبي يسمع وبي يبصر وبي ينطق وبي يمشي» (٣). وهذا الخبر يدل على أنه لم يبق في سمعهم نصيب

__________________

(١) أخرجه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٥ / ٢٩٥ ، ٨ / ٤٧٧ ، ٩ / ٦١٠ ، وأبو نعيم في حلية الأولياء ٤٥.

(٢) أخرجه مسلم في البر حديث ٢٥٦٩.

(٣) أخرجه البخاري في الرقاق حديث ٦٥٠٢.

٤٠٩

لغير الله تعالى لما قال : أنا سمعه وأنا بصره ، وهذا المقام أشرف من تسخير الحية والسبع ، وإعطاء عنقود من العنب أو شربة من الماء فلما أوصل برحمته عبده إلى هذه الدرجات العالية فأي بعد في أن يعطيه رغيفا واحدا أو شربة من الماء في مفازة.

الوجه الثالث : لو امتنع إظهار الكرامة لكان ذلك إمّا لأجل أنّ الله تعالى ليس أهلا لأن يفعل مثل هذا الفعل أو لأجل أنّ المؤمن ليس أهلا لأن يعطيه الله هذه العطية والأوّل قدح في قدرة الله تعالى وهو كفر. والثاني باطل فإنّ معرفة الله تعالى ومحبته وطاعته والمواظبة على ذكر تقديسه وتمجيده وتهليله أشرف من إعطاء رغيف واحد في مفازة وتسخير حية أو أسد فإن إعطاءه المحبة والذكر والشكر من غير سؤال أولى من أن يعطيه شربة ماء في مفازة فأي بعد فيه.

واحتج المنكر للكرامات بوجوه : الأوّل : أنّ ظهور الفعل الخارق للعادة جعله الله تعالى دليلا على النبوّة فلو حصل لغير النبيّ لبطلت هذه الدلالة.

الوجه الثاني : أنّ الله تعالى قال : (وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) [النحل ، ٧].

والقول بأنّ الوليّ ينتقل من بلد إلى بلد بعيد لا على هذا الوجه طعن في هذه الآية وأيضا أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يصل من مكة إلى المدينة إلا في أيام كثيرة مع التعب الشديد فكيف يعقل أن يقال : إنّ الوليّ ينتقل من بلد نفسه إلى الحج في اليوم الواحد.

الوجه الثالث : أنّ هذا الوليّ الذي يظهر عليه الكرامات إذا ادّعى على إنسان درهما واحدا فهل يطالب بالبينة أم لا فإن طالبناه بها كان عبثا لأنّ ظهور الكرامة عليه يدل على أنه لا يكذب ومع قيام الدليل القاطع كيف يطلب الدليل الظني وإن لم يطالب بها فقد تركنا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «البينة على المدّعي» (١). فهذا يدل على أنّ القول بالكرامة باطل ، وأجيب عن الأوّل : بأنّ الناس اختلفوا هل يجوز للولي دعوى الولاية؟ فقال قوم من المحققين : إنه لا يجوز فعلى هذا الفرق بين المعجزة والكرامة ، أنّ المعجزة تكون مسبوقة بدعوى النبوّة والكرامة لا تكون مسبوقة بدعوى الولاية وعلى القول بالجواز الفرق بينهما أنّ النبيّ يدّعي المعجزة ويقطع بها والوليّ إذا ادّعى الكرامة لا يقطع بها لأنّ المعجز يجب ظهوره ، والكرامة لا يجب ظهورها ، وأجيب عن الثاني : بأنّ قوله تعالى : (وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ) إلى آخره محمول على المعهود المتعارف ، وكرامات الأولياء أحوال نادرة فتصير كالمستثنيات من ذلك العموم المتعارف ، وأجيب عن الثالث : بأنّ التمسك بالأمور النادرة لا يعول عليه في الشرع فلا ينافي ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «البينة على المدّعي». ومع هذا فصاحب الكرامة يجب عليه أن يكون خائفا وجلا ولهذا قال المحققون : أكثر ما حصل الانقطاع عن حضرة الله إنما وقع في مقام الكرامات فلا جرم ترى المحققين يخافون من الكرامات كما يخافون من أشدّ أنواع البلاء.

والذي يدل على أنّ الاستئناس بالكرامة قاطع عن الطريق وجوه : الأوّل : أنّ الكرامات أشياء مغايرة للحق سبحانه وتعالى فالفرح بالكرامة فرح بغير الحق والفرح بغير الحق حجاب والمحجوب

__________________

(١) أخرجه الترمذي في الأحكام حديث ١٣٤١ ، والبيهقي في السنن الكبرى ٨ / ٢٧٩ ، ١٠ / ٢٥٢ ، وابن حجر في فتح الباري ٥ / ٢٨٢ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ١٥٢٨٢ ، ١٥٢٨٣.

٤١٠

عن الحق كيف يليق به الفرح والسرور. الوجه الثاني : أنّ من اعتقد في نفسه أنه صار مستحقا للكرامة بسبب عمله حصل لعمله وقع عظيم في قلبه ، ومن كان لعمله وقع عظيم في قلبه كان جاهلا إذ لو عرف ربه لعلم أنّ كل طاعات الخلق في جنب جلاله تقصير وكل شكر في جنب آلائه ونعمائه قصور وكل معارفهم وعلومهم فهي في مقابلة عزته حيرة وجهل.

وجدت في بعض الكتب أنه قرئ في مجلس الأستاذ أبي علي الدقاق قوله تعالى : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر ، ١٠] فقال : علامة أنّ الحق رفع عملك أن لا يبقى عندك مرتقى عملك في نظرك ، فإن بقي عملك في نظرك فهو غير مرفوع وإن لم يبق عملك في نظرك فهو مرفوع مقبول. الوجه الثالث : أنّ صاحب الكرامة إنما وجد الكرامة لإظهار الذل والتضرّع في حضرة الله تعالى ، فإذا ترفع وتكبر وتجبر بسبب الكرامات فقد بطل ما به وصل إلى الكرامات فهذا طريق يؤدّي ثبوته إلى عدمه فكان مردودا ولهذا المعنى لما ذكر صلى‌الله‌عليه‌وسلم مناقب نفسه وفضائلها كان يقول في آخر كل واحد منها : ولا فخر ، أي : لا أفخر بهذه الكرامات ، وإنما أفخر بالمكرم والمعطي. الوجه الرابع : أنه تعالى وصف عباده المخلصين بقوله تعالى : (وَيَدْعُونَنا رَغَباً) [الأنبياء ، ٩٠] ، أي : في ثوابنا (وَرَهَباً) أي : من عذابنا. وقيل : رغبا في وصالنا ورهبا من عقابنا. قال بعض المحققين : والأحسن أن يقال : رغبا فينا ورهبا عنا ، وفي هذا القدر كفاية لأولي الألباب ، جعلنا الله تعالى وأحبابنا من أهل ولايته بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآله وصحابته.

ثم لما دل اشتمال القرآن على قصة أصحاب الكهف من حيث إنها من المغيبات بالإضافة إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أنه وحي معجز أمره أن يداوم درسه ويلازم أصحابه بقوله تعالى : (وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ) أي : القرآن واتبع ما فيه واعمل بما فيه (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) أي : لا أحد يقدر على تبديلها وتغييرها غيره ، وقال بعضهم : مقتضى هذا أن لا يتطرق النسخ إليه وأجاب بأنّ النسخ في الحقيقة ليس تبديلا لأنّ المنسوخ ثابت في وقته إلى وقت طريان الناسخ فالناسخ كالمغاير فكيف يكون تبديلا وهذا لا يحتاج إليه مع التفسير المذكور (وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ) أي : الله (مُلْتَحَداً) أي : ملجأ في البيان والإرشاد وقيل : إن لم تتبع القرآن. ونزل في عيينة بن حصن الفزاري لما أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن يسلم وعنده جماعة من الفقراء فيهم سلمان الفارسي وعليه شملة قد عرق فيها وبيده خوص يشقه ثم ينسجه فقال له : أما يؤذيك ريح هؤلاء ونحن سادات مضر وأشرافها فإن أسلمنا أسلم الناس وما يمنعنا من اتباعك إلا هؤلاء ، أي : كما قال قوم نوح : (أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) [الشعراء ، ١١١] فنحهم حتى نتبعك أو اجعل لنا مجلسا واجعل لهم مجلسا.

(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ) أي : احبسها وثبتها (مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) ونظير هذه الآية قد سبق في سورة الأنعام وهو قوله تعالى : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) [الأنعام ، ٥٢] ففي تلك الاية نهي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن طردهم ، وفي هذه الآية أمره بمجالستهم والمصابرة معهم وفي قوله تعالى : (بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) وجوه الأوّل : أنهم مواظبون على هذا العمل في كل الأوقات كقول القائل : ليس لفلان عمل بالغداة والعشيّ إلا شتم الناس. الثاني : المراد صلاة الفجر والعصر. الثالث : أنّ المراد الغداة وهو الوقت الذي ينتقل فيه الإنسان من النوم إلى اليقظة ، وهذا الانتقال شبيه بالانتقال من الموت إلى الحياة ، والعشيّ هو الوقت الذي ينتقل الإنسان فيه من الحياة إلى الموت ومن اليقظة إلى النوم ، والإنسان العاقل يكون في هذين الوقتين كثير الذكر

٤١١

لله تعالى عظيم الشكر لآلاء الله ونعمائه وقرأ ابن عامر بضم الغين المعجمة وسكون الدال وبعدها واو مفتوحة والباقون بفتح الغين والدال وألف بعدها والرسم في المصحف بالواو هنا وفي سورة الأنعام.

(يُرِيدُونَ) بعبادتهم (وَجْهَهُ) تعالى ، أي : رضاه وطاعته لا شيئا من أعراض الدنيا (وَلا تَعْدُ) أي : تنصرف (عَيْناكَ عَنْهُمْ) إلى غيرهم وعبر بالعينين عن صاحبهما فنهى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يصرف بصره ونفسه عنهم لأجل رغبته في مجالسة الأغنياء لعلهم يؤمنون وقوله تعالى : (تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) في موضع الحال ، أي : إنك إن فعلت ذلك لم يكن إقدامك عليه إلا لرغبتك في زينة الحياة الدنيا. ولما بالغ تعالى في أمره في مجالسة الفقراء من المسلمين بالغ في النهي عن الالتفات إلى أقوال الأغنياء والمتكبرين بقوله تعالى : (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا) أي : جعلنا قلبه غافلا عن ذكرنا ، أي : عيينة بن حصن وقيل : أمية بن خلف (وَاتَّبَعَ هَواهُ) أي : في طلب الشهوات (وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) أي : إسرافا وباطلا ، وهذا يدل على أنّ أشرّ أحوال الإنسان أن يكون قلبه خاليا عن ذكر الحق ويكون مملوءا من الهوى الداعي إلى الاشتغال بالخلق ، لأنّ ذكر الله تعالى نور وذكر غيره ظلمة لأنّ الوجود طبيعة النور والعدم منبع الظلمة والحق تعالى واجب الوجود لذاته فكان النور الحق هو الله تعالى وما سواه فهو ممكن الوجود لذاته والإمكان طبيعة عدمية فكان منبع الظلمة فالقلب إذا أشرق فيه ذكر الله تعالى فقد حصل فيه النور والضوء والإشراق وإذا توجه القلب إلى الخلق فقد حصل فيه الظلم والظلمة بل الظلمات فلهذا السبب إذا أعرض القلب عن الحق وأقبل على الخلق فهو الظلمة الخالصة التامّة والإعراض عن الحق هو المراد بقوله تعالى : (أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا) والإقبال على الخلق هو المراد بقوله تعالى : (وَاتَّبَعَ هَواهُ.)

روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال : كنت جالسا في عصابة من ضعفاء المهاجرين وإنّ بعضهم ليستتر ببعض من العري وقارئ يقرأ من القرآن فجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «ما الذي كنتم تصنعون؟ قلنا : يا رسول الله كان واحد يقرأ من القرآن ونحن نسمع فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الحمد لله الذي جعل من أمّتي من أمرت أن أصبر نفسي معهم ثم جلس وسطنا وقال : أبشروا يا صعاليك المهاجرين بالنور التامّ يوم القيامة فتدخلون الجنة قبل الأغنياء بمقدار خمسمائة سنة» (١).

ولما أمر الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن لا يلتفت إلى أولئك الأغنياء الذين قالوا : إن طردت الفقراء آمنا بك. قال تعالى بعده :

(وَقُلِ الْحَقُ) أي : وقل لهؤلاء ولغيرهم هذا الذي جئتكم به في أمر أهل الكهف وغيرهم من هذا الوجه العربي المعرى عن العوج الظاهر الإعجاز الباهر الحجج الحق كائنا (مِنْ رَبِّكُمْ) المحسن إليكم في أمر أهل الكهف وغيرهم من صبر نفسي مع المؤمنين والإعراض عمن سواهم وغير ذلك لا ما قلتموه في أمرهم ، ويجوز أن يكون الحق مبتدأ وخبره الجار بعده (فَمَنْ شاءَ) أي : منكم ومن غيركم (فَلْيُؤْمِنْ) بهذا الذي قصصناه فيهم وفي غيرهم فهو مقبول مرغوب فيه وإن كان فقيرا رث الهيئة ولم ينفع إلا نفسه (وَمَنْ شاءَ) منكم ومن غيركم (فَلْيَكْفُرْ) فهو أهل لأن يعرض عنه ولا يلتفت إليه وإن كان أغنى الناس وأحسنهم هيئة وإن تعاظمت هيئته وهذا لا يقتضي

__________________

(١) أخرجه أبو داود في العلم حديث ٣٣٦٦ ، وأحمد في المسند ٦ / ٣٧٤.

٤١٢

استقلال العبد بفعله كما تقول المعتزلة ، فعن ابن عباس في معنى الآية من شاء الله له الإيمان آمن ومن شاء له الكفر كفر ونقل عن عليّ رضي الله عنه أنه قال : هذه الصيغة تهديد ووعيد ، أي : فهي كقوله تعالى : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) [فصلت ، ٤٠] فإن الله تعالى لا ينتفع بإيمان المؤمنين ولا يستضرّ بكفر الكافرين بل نفع الإيمان يعود على المؤمن وضرر الكفر يعود على الكافر كما قال تعالى : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) [الإسراء ، ٧].

ولما هدد السامعين بما حاصله ليختار كل امرئ لنفسه ما يجده غدا عند الله أتبعه بذلك الوعيد والأفعال الباطلة ، وبذكر الوعد على الإيمان والأعمال الصالحة ، أمّا الوعيد فقوله تعالى : (إِنَّا أَعْتَدْنا) أي : هيأنا بما لنا من العظمة والقدرة (لِلظَّالِمِينَ) أي : لمن أنف عن قبول الحق لأجل أنّ الذين قبلوه فقراء ومساكين وكذا كل من لم يؤمن (ناراً) وهي الجحيم ثم وصف الله تعالى تلك النار بصفتين ؛ الأولى قوله تعالى : (أَحاطَ بِهِمْ) كلهم (سُرادِقُها) أي : فسطاطها شبه به ما يحيط بهم من النار وقيل : هو الحجرة التي تكون حول الفسطاط وقيل : حائط من نار والمراد أنه لا مخلص لهم منها ولا فرجة يتفرّجون بالنظر إلى ما وراءها من غير النار بل هي محيطة من كل الجوانب ، وقيل : هو دخان يغشاهم قبل دخولهم النار يحيط بهم كالسرادق حول الفسطاط. الصفة الثانية قوله تعالى : (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا) أي : يطلبوا الغوث (يُغاثُوا بِماءٍ) ووصف هذا الماء بصفتين ؛ الأولى قوله تعالى : (كَالْمُهْلِ) وهو كما في حديث مرفوع دردي الزيت ، وعن ابن مسعود أنه دخل بيت المال وأخرج نقاعة كانت فيه وأوقد عليها النار حتى تلألأت ثم قال : هذا هو المهل. وقال أبو عبيدة والأخفش : كل شيء أذبته من نحاس أو ذهب أو فضة فهو المهل. وقيل : إنه الصديد والقيح وقيل : إنه ضرب من القطران ثم يحتمل أن تكون هذه الاستغاثة لأنهم طلبوا ماء للشرب فيعطون هذا المهل قال تعالى : (تَصْلى ناراً حامِيَةً (٤) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) [الغاشية : ٤ ، ٥] ويحتمل أن يستغيثوا من حرّ جهنم فيطلبوا ما يصبونه على أنفسهم للتبريد فيعطون هذا الماء قال تعالى حكاية عنهم : (أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ) [الأعراف ، ٥٠]. وقال تعالى في آية أخرى : (سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) [إبراهيم ، ٥٠]. فإذا استغاثوا من حرّ جهنم صب عليهم القطران الذي يعمّ كل أبدانهم كالقميص. والصفة الثانية للماء : قوله تعالى : (يَشْوِي الْوُجُوهَ) أي : إذا قرب إلى الفم ليشرب فكيف بالفم والجوف ثم وصل تعالى بذلك ذمّه فقال تعالى : (بِئْسَ الشَّرابُ) أي : ذلك الماء الذي هو كالمهل لأنّ المقصود من شرب الشراب تسكين الحرارة وهذا يبلغ في إحراق الإنسان مبلغا عظيما ثم عطف عليه ذمّ النار المعدّة لهم بقوله تعالى : (وَساءَتْ) أي : النار وقوله تعالى : (مُرْتَفَقاً) تمييز منقول من الفاعل ، أي : قبح مرتفقها وهو مقابل لقوله تعالى الآتي في الجنة : (وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً) وإلا فأي ارتفاق في النار.

ولما ذكر تعالى وعيد المبطلين أردفه بوعد المحقين فقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) ولما كان الإيمان هو الإذعان للأوامر عطف عليه ما يحقق ذلك بقوله تعالى : (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) ثم عظم جزاءهم بقوله تعالى : (إِنَّا لا نُضِيعُ) أي : بوجه من الوجوه (أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) وهذه الجملة خبر (إِنَّ الَّذِينَ) وفيها إقامة الظاهر مقام المضمر والمعنى أجرهم ، أي : نثيبهم بما تضمنه.

(أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ) أي : إقامة فكأنه قيل : فما لهم فيها فقيل : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ) أي : من تحت منازلهم (الْأَنْهارُ) وذلك لأنّ أفضل المساكن ما كان تجري فيه الأنهار أو الماء

٤١٣

فكأنه قيل : ثم ما ذا فقيل : (يُحَلَّوْنَ فِيها) وبنى الفعل المجهول لأنّ المقصود وجود التحلية وهي لعزتها إنما يؤتى بها من الغيب فضلا من الله تعالى.

ولما كانت نعم الله لا تحصى نوع منها قال تعالى مبعضا : (مِنْ أَساوِرَ) جمع أسورة كأحمرة جمع سوار كما يلبس ذلك ملوك الدنيا من جبابرة الكفرة في بعض الأقاليم كأهل فارس وقيل : من زائدة ، وقيل للابتداء ومن في قوله تعالى : (مِنْ ذَهَبٍ) للبيان صفة لأساور وتنكيرها لتعظيم جنسها عن الإحاطة به. وقيل : للتبعيض. ولما كان اللباس جزاء العمل فكان موجودا عندهم أسند الفعل إليهم فقال : (وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً) لأنّ الخضرة أحسن الألوان وأكثرها طراوة ثم وصفها بقوله تعالى : (مِنْ سُنْدُسٍ) وهو ما رقّ من الديباج (وَإِسْتَبْرَقٍ) وهو ما غلظ منه جمع بين النوعين للدلالة على أنّ فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين وفي آية أخرى (بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) [الرحمن ، ٥٤] فيكون الغليظ بطانة للرقيق ، ثم استأنف الوصف عن حال جلوسهم فيها بأنه جلوس الملوك المتمكنين من النعيم فقال تعالى : (مُتَّكِئِينَ فِيها) أي : لأنهم في غاية الراحة (عَلَى الْأَرائِكِ) جمع أريكة وهي السرير في الحجلة وهي بيت يزين بالثياب والستور للعروس ثم مدح هذا بقوله تعالى : (نِعْمَ الثَّوابُ) أي : الجزاء الجنة لو لم يكن لها وصف غير ما سمعتم فكيف ولها من الأوصاف ما لا يعلمه حق علمه إلا الله تعالى وإلى ذلك أشار بقوله تعالى : (وَحَسُنَتْ) أي : الجنة كلها وبين ذلك بقوله تعالى : (مُرْتَفَقاً ،) أي : مقرّا ومرتفقا ومجلسا.

ولما افتخر الكفار بأموالهم وأنصارهم على فقراء المسلمين بيّن الله تعالى أنّ ذلك مما لا يوجب الافتخار لاحتمال أن يصير الفقير غنيا والغنيّ فقيرا وأمّا الذي يجب الافتخار به فطاعة الله تعالى وعبادته وهي حاصلة لفقراء المؤمنين وبيّن ذلك بضرب هذا المثل المذكور بقوله تعالى :

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (٣٢) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (٣٣) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (٣٤) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (٣٥) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (٣٦) قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (٣٧) لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (٣٨) وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (٣٩) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (٤٠) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (٤١) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (٤٢) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (٤٣) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (٤٤) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (٤٥))

(وَاضْرِبْ لَهُمْ) أي : لهؤلاء الأغنياء المتجبرين الذين يستكبرون على المؤمنين ويطلبون طردهم لضعفهم وفقرهم (مَثَلاً) لما آتاهم الله من زينة الحياة والدنيا واعتمدوا عليه وركنوا إليه ولم يشكروا من آتاهم إياه عليه بل أدّاهم إلى الافتخار والتكبر على من زوي ذلك عنه إكراما له وصيانة عنه (رَجُلَيْنِ) إلى آخر الآية. واختلف في سبب نزولها فقيل : نزلت في رجلين من أهل

٤١٤

مكة من بني مخزوم أحدهما مؤمن وهو أبو سلمة وكان زوج أمّ سلمة قبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والآخر كافر وهو الأسود بن عبد ياليل ، وهما ابنا عبد الأسد بن عبد ياليل.

وقيل : مثال لعيينة بن حصن وأصحابه مع سلمان وأصحابه شبههما برجلين من بني اسرائيل أخوين أحدهما مؤمن واسمه يهوذا في قول ابن عباس ، وقال مقاتل : تمليخا والآخر كافر واسمه فطروس وقال وهب : قطفر ، وهما اللذان وصفهما الله تعالى في سورة والصافات وكانت قصتهما على ما حكى عبد الله بن المبارك عن معمر عن عطاء الخراساني قال : كانا رجلين شركين لهما ثمانية آلاف دينار وقيل : كانا أخوين ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار فاقتسماها فاشترى أحدهما أرضا بألف دينار فقال صاحبه : اللهمّ إنّ فلانا قد اشترى أرضا بألف دينار وإني مشتر منك أرضا في الجنة بألف دينار فتصدّق بها ، ثم إن صاحبه بنى دارا بألف دينار فقال صاحبه : اللهمّ إنّ فلانا بنى دارا بألف دينار وإني اشتريت منك دارا في الجنة بألف دينار فتصدّق بها ، ثم تزوّج صاحبه امرأة فأنفق عليها ألف دينار فقال هذا : اللهمّ إني أخطب إليك من نساء الجنة بألف دينار فتصدّق بها ثم إنّ صاحبه اشترى خدما ومتاعا بألف دينار فقال هذا : اللهمّ إني أشتري خدما ومتاعا من الجنة بألف دينار فتصدّق بها ، ثم أصابته حاجة شديدة فقال : لو أتيت صاحبي لعل ينالني منه معروف فجلس على طريقه حتى مرّ به في حشمه فقام إليه فنظر إليه الآخر فعرفه فقال له : فلان؟ قال : نعم. قال : ما شأنك؟ قال : أصابتني حاجة بعدك فأتيت لتعينني بخير قال : فما فعل مالك وقد اقتسمنا مالا وأخذت شطره فقص عليه قصته فقال : وإنك لمن المصدّقين بهذا اذهب فلا أعطيك شيئا فطرده. وروي أنه لما أتاه أخذ بيده فجعل يطوف به ويريه أموال نفسه فنزل فيهما (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ) أي : اذكر لهم خبر رجلين ؛ (جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ ،) أي : بستانين يسر ما فيهما من الأشجار من يدخلهما (مِنْ أَعْنابٍ) لأنها من أشجار البلاد الباردة وتصبر على الحر وهي فاكهة وقوت بالعنب والزبيب والخل وغيرها ، ثم إنه تعالى وصف الجنتين بصفات الصفة الأولى قوله تعالى : (وَحَفَفْناهُما) أي : اطفناهما من جوانبهما (بِنَخْلٍ) لأنها من أشجار البلاد الحارّة ، وتصبر على الحرور بما منعت عن الأعناب بعض أسباب العاهات وثمرها فاكهة بالبسر والرطب وقوت بالتمر والخلّ ، فكان النخل كالأكليل من وراء العنب.

تنبيه : الحفاف الجانب وجمعه أحفة يقال : أحف به القوم ، أي : أطافوا بجوانبه. الصفة الثانية قوله تعالى : (وَجَعَلْنا بَيْنَهُما) أي : أرضي الجنتين (زَرْعاً) لبعد شمول الآفة للكل لأنّ زمان الزرع ومكانه غير زمان ثمار الشجر ومكانه وذلك هو العمدة في القوت فكانت الجنتان أرضا جامعة لخير الفاكهة وأفضل الأقوات وعمارتهما متواصلة متشابكة لم يتوسطها ما يقطعهما ويفصل بينهما مع سعة الأطراف وتباعد الأكتاف وحسن الهيئات والأوصاف.

الصفة الثالثة : قوله تعالى : (كِلْتَا ،) أي : كل واحدة من (الْجَنَّتَيْنِ) المذكورتين (آتَتْ أُكُلَها) أي : ما يطلب منها ويؤكل من ثمر وحب كاملا غير منسوب شيء منهما إلى نقص ولا رداءة وهو بمعنى (وَلَمْ تَظْلِمْ) أي : ولم تنقص (مِنْهُ شَيْئاً) يعهد في سائر البساتين فإن الثمار تتم في عام وتنقص في عام غالبا والظلم النقصان تقول : الرجل ظلمني حقي أي : نقصني.

تنبيه : كلا اسم مفرد معرفة يؤكد به مذكران معرفتان وكلتا اسم مفرد ومعرفة يؤكد به مؤنثان معرفتان وإنما إذا أضيفا إلى المظهر كانا بالألف في الأحوال الثلاثة كقولك : جاءني كلا أخويك

٤١٥

ورأيت كلا أخويك ومررت بكلا أخويك وجاءني كلتا أختيك ورأيت كلتا أختيك ومررت بكلتا أختيك. وإذا أضيفا إلى المضمر كانا في الرفع بالألف وفي الجرّ والنصب بالياء وبعضهم يقول مع المضمر بالألف في الأحوال الثلاثة أيضا فقوله تعالى : (آتَتْ أُكُلَها) حمل على اللفظ لأنّ كلتا لفظ مفرد ولو قيل : آتتا على المعنى لجاز.

الصفة الرابعة : قوله تعالى : (وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً) أي : وسطهما وبينهما ومنه قوله تعالى : (وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ) [التوبة ، ٤٧] ومنه يقال : خللت القوم ، أي : دخلت القوم وذلك ليدوم شربهما ويستغنيا عن المطر عند القحط ويزيد بهاؤهما.

الصفة الخامسة : قوله تعالى : (وَكانَ لَهُ) أي : صاحب الجنتين (ثَمَرٌ) أي : أنواع من المال سوى الجنتين قال ابن عباس : من ذهب وفضة وغير ذلك من أثمر ماله إذا كثر وعن مجاهد الذهب والفضة خاصة ، أي : كان مع الجنتين أشياء من الأموال ليكون متمكنا من العمار بالأعوان والآلات وجميع ما يريد وقرأ أبو عمرو وثمر هنا وثمره الآتي بسكون الميم فيهما بعد ضم الثاء المثلثة ، وقرأ عاصم بفتح المثلثة والميم فيهما والباقون بضم المثلثة والميم فيهما ذكر أهل اللغة أنّ الضم أنواع المال من الذهب والفضة وغيرهما وبالفتح حمل الشجر قال قطرب : وكان أبو عمرو بن العلاء يقول : الثمر المال والولد وأنشد للحارث بن حلزة (١) :

ولقد رأيت معاشرا

قد أثمروا مالا وولدا

وقال النابغة (٢) :

مهلا فداء لك الأقوام كلهم

وما أثمر من مال ومن ولد

(فَقالَ) أي : هذا الكافر (لِصاحِبِهِ) أي : المسلم المجعول مثلا للفقراء المؤمنين (وَهُوَ) أي : صاحب الجنتين (يُحاوِرُهُ) أي : يراجعه الكلام من حار يحور إذا رجع افتخارا عليه وتقبيحا لحاله بالنسبة إليه والمسلم يحاوره بالوعظ وتقبيح الركون إلى الدنيا (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً) لما ترى من جناتي وثماري ، وقرأ نافع بمد الألف بعد النون والباقون بالقصر هذا في الوصل ، وأمّا في الوقف فبالألف للجميع ، وسكن قالون وأبو عمرو والكسائي هاء (وَهُوَ) وضمها الباقون ورقق ورش راء (يُحاوِرُهُ وَأَعَزُّ نَفَراً) أي : ناسا يقومون معي في المهمات وينفعون عند الضرورات لأنّ ذلك لازم لكثرة المال غالبا وترى أكثر الأغنياء من المسلمين وإن لم يطلقوا بمثل هذا ألسنتهم فإنّ ألسنة أحوالهم ناطقة به منادية عليه.

(وَدَخَلَ جَنَّتَهُ) بصاحبه يطوف به فيها ويفاخره بها وأفرد الجنة لإرادة الجنس ودلالة ما أفاده الكلام من أنهما لاتصالهما كالجنة الواحدة وإشارة إلى أنه لا جنة له غيرها لأنه لا حظّ له في الآخرة (وَهُوَ) أي : والحال أنه (ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) لاعتماده على ماله والإعراض عن ربه ، ثم

__________________

(١) البيت من مجزوء الكامل ، وهو للحارث بن حلزة في ديوانه ص ٤٦ ، وجمهرة اللغة ص ١٠٠٠ ، ١١٢٠ ، والأغاني ١١ / ٤٤ ، وشعراء النصرانية ص ٤١٧ ، وبلا نسبة في لسان العرب (ولد) ، وتهذيب اللغة ١٤ / ١٧٧ ، وتاج العروس (ولد).

(٢) البيت من البسيط ، وهو للنابغة الذبياني في ديوانه ص ٢٦ ، والأشباه والنظائر ٧ / ٩٠ ، وخزانة الأدب ٦ / ١٨١ ، ولسان العرب (فدي) ، وبلا نسبة في شرح المفصل ٤ / ٧٣.

٤١٦

استأنف بيان ظلمه بقوله تعالى : (قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ) أي : تنعدم (هذِهِ) أي : الجنة (أَبَداً) لطول أمله وتمادي غفلته واغتراره بجهله.

ثم زاد في الطغيان والبطر بقصر النظر على الحاضر فأنكر البعث بقوله : (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) أي : كائنة استلذاذا بما هو فيه وإخلادا إليه واعتمادا عليه وقوله : (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي) المحسن إليّ في هذه الدار في الساعة إقسام منه على أنه إن ردّ إلى ربه على سبيل الفرض والتقدير وعلى ما يزعم صاحبه أنّ الساعة قائمة (لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها) أي : من هذه الجنة (مُنْقَلَباً) أي : مرجعا لأنه لم يعطني الجنة في الدنيا إلا ليعطيني في الآخرة أفضل منها قال ذلك طمعا وتمنيا على الله وادعاء لكرامته عليه ومكانته عنده ، وأنه ما أولاه الجنتين إلا لاستحقاقه واستئهاله وأنّ معه هذا الاستحقاق أينما توجه كقوله : إنّ لي عنده الحسنى لأوتين مالا وولدا.

(قالَ لَهُ صاحِبُهُ) أي : المؤمن (وَهُوَ ،) أي : والحال أنّ ذلك الصاحب (يُحاوِرُهُ) أي : يراجعه منكرا عليه (أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ،) أي : خلق أصلك آدم من تراب لأنّ خلق أصله سبب في خلقه فكان خلقه خلقا له (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) متولدة من أغذية أصلها تراب هي مادّتك القريبة (ثُمَّ سَوَّاكَ) أي : عدلك بعد أن أولدك وطورك في أطوار النشأة (رَجُلاً) أي : كملك إنسانا ذكرا بالغا مبلغ الرجال جعل كفره بالبعث كفرا بالله تعالى لأنّ منشأه الشك في كمال قدرة الله تعالى ولذلك ترتب الإنكار على خلقه إياه من التراب ، فإنّ من قدر على بدء خلقه مرّة قدر على أن يعيده منه.

ولما أنكر على صاحبه أخبر عن اعتقاده بما يضاد اعتقاد صاحبه ، فقال مؤكدا لأجل إنكار صاحبه مستدركا لأجل كفرانه. (لكِنَّا) أصله لكن أنا نقلت حركة الهمزة إلى النون وحذفت الهمزة ثم أدغمت النون في مثلها كما قال القائل (١) :

وترمينني بالطرف أي : أنت مذنب

وتقلينني لكنّ إياك لا أقلي

أي : لكن أنا لا أقليك. ولما كان سبحانه وتعالى لا شيء أظهر منه ولا شيء أبطن منه أشار إلى ذلك جميعا بإضماره قبل الذكر فقال : (هُوَ) أي : الظاهر أتم ظهور فلا يخفى أصلا ويجوز أن يكون الضمير للذي خلقك (اللهُ ،) أي : المحيط بصفات الكمال (رَبِّي) وحده لم يحسن إليّ خلقا ورزقا أحد غيره وهذا اعتقادي في الماضي والحال. وقرأ ابن عامر بإثبات الألف بعد النون وقفا ووصلا لاتباع المرسوم والباقون بإثبات الألف بعد النون وقفا وحذفها وصلا. فإن قيل : قوله : (لكِنَّا) استدراك لماذا؟ أجيب : بأنه لقوله (أَكَفَرْتَ) فكأنه قال لأخيه : أكفرت بالله لكني مؤمن موحد ، كما تقول : زيد غائب لكن عمرو حاضر.

وذكر القفال في قول المؤمن : (وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي) أي : المحسن إليّ في عبادتي (أَحَداً) وجوها أحدها : أني لا أرى الفقر والغنى إلا منه فأحمده إذا أعطى وأصبر إذا ابتلى ، ولا أكفر عند ما ينعم عليّ ولا أرى كثرة الأموال والأعوان من نفسي وذلك لأنّ الكافر لما اغتر بكثرة المال

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة في تذكرة النحاة ص ٢٣ ، والجنى الداني ص ٢٣٣ ، وجواهر الأدب ص ٢١٨ ، ٤١١ ، وخزانة الأدب ١١ / ٢٥٥ ، ٢٢٩ ، والدرر ٤ / ٣١ ، ٥ / ١٢١ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٢٣٤ ، وشرح المفصل ٨ / ١٤١ ، ومغني اللبيب ١ / ٧٦ ، وهمع الهوامع ١ / ٢٤٨ ، ٢ / ٧١.

٤١٧

والجاه فكأنه قد أثبت لله شريكا في إعطاء العز والغنى. وثانيها : لعل ذلك الكافر مع كونه منكرا للبعث كان عابد صنم فبيّن هذا المؤمن فساد قوله بإثبات الشركاء. وثالثها : أنّ هذا الكافر لما عجز الله تعالى عن البعث والحشر فقد جعله مساويا للخلق في هذا العجز ، وإذا أثبت المساواة فقد أثبت الشريك.

ثم قال المؤمن للكافر : (وَلَوْ لا إِذْ ،) أي : وهلا حين (دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ) عند إعجابك بها ما يدل على تفويضك الأمر فيها وفي غيرها إلى الله تعالى وهو (ما شاءَ اللهُ) أي : الأمر ما شاء الله أو ما شاء الله كائن على أنّ ما موصولة ، أي : وأي شيء شاء الله كان على أنها شرطية والجواب محذوف ، أي : إقرارا بأنها وما فيها بمشيئة الله تعالى إن شاء أبقاها وإن شاء أهلكها ، وقرأ ابن ذكوان وحمزة بالإمالة والباقون بالفتح وإذا وقف حمزة وهشام على شاء أبدل الهمزة ألفا مع المدّ والتوسط والقصر ، وأظهر إذ عند الدال نافع وابن كثير وعاصم والباقون بالإدغام وهلا قلت : (لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ) اعترافا بالعجز على نفسك والقدرة لله وأنّ ما تيسر لك من عمارتها وتدبير أمرها فبمعونة الله تعالى وإقداره أو لا يقوى أحد في بدنه ولا في غير ذلك إلا بالله. وفي الحديث «من أعطي خيرا من أهل أو مال فيقول عند ذلك ما شاء الله لا قوّة إلا بالله لم ير فيه مكروها» (١) ثم إنّ المؤمن لما أعلم الكافر بالإيمان أجابه عن افتخاره بالمال والنفس فقال : (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً) أي : من جهة المال والولد ، ويحتمل أن يكون (أَنَا) فصلا وأن يكون تأكيدا للمفعول الأوّل. وقرأ قالون وأبو عمرو بإثبات الياء وصلا وحذفها وقفا ، وابن كثير بإثباتها وصلا ووقفا ، والباقون بالحذف وقفا ووصلا.

وقوله تعالى : (فَعَسى رَبِّي) أي : المحسن إليّ (أَنْ يُؤْتِيَنِ) من خزائن رزقه (خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ) إمّا في الدنيا وإمّا في الآخرة لإيماني جواب الشرط (وَيُرْسِلَ عَلَيْها ،) أي : جنتك (حُسْباناً) جمع حسبانة ، أي : صواعق (مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ) بعد كونها قرّة للعين بما تهتز به من الأشجار والزروع (صَعِيداً زَلَقاً) أي : أرضا ملساء باستئصال بنيانها وأشجارها فلا ينبت فيها نبات ولا يثبت عليها قدم وقوله : (أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً) أي : غائرا في الأرض لا تناله الأيدي والدلاء مصدر وصف به كالزلق (فَلَنْ تَسْتَطِيعَ) أنت (لَهُ) أي : للماء الغائر (طَلَباً) يصير بحيث لا تقدر على ردّه إلى موضعه.

ثم إنه أخبر الله تعالى أنه حقق ما قدّره هذا المؤمن فقال : (وَأُحِيطَ) أي : وقعت الإحاطة بالهلاك وبني للمفعول لأنّ النكد حاصل بإحاطة الهلاك من غير نظر إلى فاعل مخصوص والدلالة على سهولته (بِثَمَرِهِ) أي : الرجل المشرك كله واستؤصل هالكا ما في السهل منه وما في الجبل وما يصبر منه على البرد والحر وما لا يصبر. قال بعض المفسرين : إنّ الله تعالى أرسل عليها نارا فأهلكتها وغار ماؤها (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ) ندما ويضرب إحداهما على الأخرى تحسرا فتقلب الكفين كناية عن الندم والتحسر لأنّ النادم يقلب كفيه ظهرا لبطن كما يكنى عن ذلك بعض الكف والسقوط في اليد لأنه في معنى الندم فعدي تعديته كأنه قيل : فأصبح يندم (عَلى ما أَنْفَقَ فِيها) أي : في عمارتها ونمائها (وَهِيَ خاوِيَةٌ) أي : ساقطة (عَلى عُرُوشِها) أي : دعائمها التي كانت تحتها

__________________

(١) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.

٤١٨

فسقطت على الأرض وسقطت هي فوقها. وقوله تعالى : (وَيَقُولُ) عطف على يقلب أو حال من ضميره (يا) للتنبيه (لَيْتَنِي) تمنيا لرد ما فاته لحيرته وذهول عقله ودهشته وعدم اعتماده على الله تعالى من غير إشراك بالاعتماد على الفاني (لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً) كما قال له صاحبه فندم حيث لا ينفعه الندم على ما فرّط في الماضي لأجل ما فاته على الدنيا لا حرصا على الإيمان لحصول الفوز في العقبى لقصور عقله ووقوفه مع المحسوسات المشاهدة. فإن قيل : إنّ هذا الكلام يوهم أن جنته إنما هلكت بشؤم شركه وليس مرادا لأنّ أنواع البلاء أكثرها إنما يقع للمؤمنين قال تعالى : (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ) [الزخرف ، ٣٣]. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خص البلاء بالأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل» (١). وأيضا لما قال : (يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً) فقد ندم على الشرك ورغب في التوحيد فوجب أن يصير مؤمنا فلم قال تعالى بعده :

(وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ) أي : جماعة من نفره الذين اغتر بهم ولا من غيرهم (يَنْصُرُونَهُ) مما وقع فيه (مِنْ دُونِ اللهِ) عند هلاكها (وَما كانَ) هو (مُنْتَصِراً) بنفسه بل ليس الأمر في ذلك إلا لله وحده. أجيب : عن الأوّل بأنه لما عظمت حسراته لأجل أنه أنفق عمره في تحصيل الدنيا وكان معرضا في عمره كله عن طلب الدين فلما ضاعت الدنيا بالكلية بقي محروما من الدنيا والدين ، وعن الثاني بأنه إنما ندم على الشرك لاعتقاده أنه لو كان موحدا غير مشرك لبقيت عليه جنته فهو إنما رغب في ذلك لأجل طلب الدنيا فلذلك لم يقبل الله توحيده. وقرأ حمزة والكسائي يكن بالتحتيتة على التذكير والباقون بالفوقية على التأنيث. ولما أنتج هذا المثل قطعا أنه لا أمر لغير الله تعالى المرجو لنصر أوليائه بعد ذلهم ولإغنائهم بعد فقرهم ولإذلال أعدائهم بعد عزهم وكبرهم وإفقارهم بعد إغنائهم وحده وأن غيره إنما هو كالخيال لا حقيقة له ، صرّح بذلك في قوله تعالى :

(هُنالِكَ) أي : في مثل هذه الشدائد العظيمة (الْوَلايَةُ لِلَّهِ ،) أي : الذي له الكمال كله ، وقرأ حمزة والكسائي بكسر الواو وأي الملك والباقون بفتحها ، أي : النصرة وقوله تعالى : (الْحَقِ) قرأه أبو عمرو والكسائي برفع القاف على الاستئناف والقطع تعليلا تنبيها على أنّ فزعهم في مثل هذه الأزمان إليه تعالى دون غيره برهان قاطع على أنه الحق وما سواه باطل وأنّ الفخر بالعرض الزائل من أجهل الجهل ، وأنّ المؤمنين لا يصيبهم فقر ولا يسوغ طردهم لأجله وأنه يوشك أن يعود فقرهم غنى وضعفهم قوّة وقرأه الباقون بخفضها على الوصف ، أي : الثابت الذي لا يحول يوما ولا يزول ولا يغفل ساعة ولا ينام ولا ولاية لغيره بوجه (هُوَ خَيْرٌ ثَواباً) من ثواب غيره لو كان يثيب (وَخَيْرٌ عُقْباً) أي : عاقبة للمؤمنين ، وقرأ عاصم وحمزة بسكون القاف والباقون بضمها ونصب على التمييز.

ولما تمّ المثل لدنياهم الخاصة بهم التي أنظرتهم فكانت سببا لشقاوتهم وهم يحسبون أنها عين إسعادهم ضرب لدار الدنيا العامّة لجميع الناس في قلة ثوابها وسرعة فنائها وأنّ من تكبر كان أخس منها فقال : (وَاضْرِبْ) أي : صير (لَهُمْ) أي : لهؤلاء الكفار المغترّين بالعرض الفاني

__________________

(١) أخرجه بنحوه الترمذي في الزهد باب ٥٧ ، وابن ماجه في الفتن باب ٢٣ ، والدارمي في الرقاق باب ٦٧ ، وأحمد في المسند ١ / ١٧٢ ، ١٧٤ ، ١٨٠ ، ١٨٥.

٤١٩

المفتخرين بكثرة ذكر الأموال والأولاد وعزة النفر. وقوله تعالى : (مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا) مفعول أوّل ثم ذكر المثل بقوله تعالى : (كَماءٍ) وهو المفعول الثاني (أَنْزَلْناهُ) بعظمتنا وقدرتنا وقال تعالى : (مِنَ السَّماءِ) تنبيها على بليغ القدرة في إمساكه في العلو وإنزاله في وقت الحاجة (فَاخْتَلَطَ) أي : فتعقب وتسبب عن إنزاله أنه اختلط (بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ) أي : التف بسببه حتى خالط بعضه بعضا من كثرته وتكاثفه كما قال تعالى : (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) [الحج ، ٥]. وقيل : اختلط ذلك الماء بالنبات حتى روى واهتز ونما وكان حق اللفظ على هذا التفسير فاختلط بنبات الأرض لكن لما كان كل من المختلطين موصوفا بصفة صاحبه عكس للمبالغة في كثرته ثم إذا انقطع ذلك بالمطر مدّة جف ذلك النبات (فَأَصْبَحَ هَشِيماً) أي : يابسا متفرّقة أجزاؤه (تَذْرُوهُ) أي : تنثره وتفرّقه (الرِّياحُ) فتذهب به والمعنى : أنه تعالى شبه الدنيا بنبات حسن فيبس فتكسر ففرّقته الرياح حتى يصير عما قليل كأنه بقدرة الله تعالى لم يكن وقرأ حمزة والكسائي بالتوحيد والباقون بالجمع (وَكانَ اللهُ) أي : المختص بصفات الكمال (عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من دون ذلك وغيره إنشاء وإفناء وإعادة. (مُقْتَدِراً) أزلا وأبدا بتكوينه أوّلا وتنميته وسطا وإبطاله آخرا فأحوال الدنيا أيضا كذلك تظهر أوّلا في غاية الحسن والنضارة ثم تتزايد قليلا قليلا ثم تأخذ في الانحطاط إلى أن ينتهي إلى الهلاك والفناء ومثل هذا الشيء ليس للعاقل أن يبتهج به.

تنبيه : قوله تعالى : (فَأَصْبَحَ) يجوز أن يكون على بابه فإنّ أكثر ما يطرق من الآفات صباحا كقوله تعالى : (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ) [الكهف ، ٤٢] ويجوز أن يكون بمعنى صار من غير تقييد كقول القائل (١) :

أصبحت لا أحمل السلاح ولا

أملك رأس البعير إن نفرا

ولما بيّن سبحانه وتعالى أنّ الدنيا سريعة الانقراض والانقضاء مشرفة على الزوال والبوار والفناء بيّن بقوله تعالى :

(الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (٤٦) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (٤٧) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (٤٨) وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (٤٩) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (٥٠) ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (٥١) وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (٥٢) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (٥٣))

(الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا) إدخال هذا الجزئيّ تحت هذا الكلي فينعقد به قياس بين

__________________

(١) البيت من المنسرح ، وهو للربيع بن ضبع في أمالي المرتضى ١ / ٢٥٥ ، وحماسة البحتري ص ٢٠١ ، وخزانة الأدب ٧ / ٣٨٤ ، وشرح التصريح ٢ / ٣٦ ، والكتاب ١ / ٨٩ ، ولسان العرب (ضمن) ، والمقاصد النحوية ٣ / ٣٩٨ ، وبلا نسبة في الرد على النحاة ص ١١٤ ، وشرح المفصل ٧ / ١٠٥ ، والمحتسب ٢ / ٩٩.

٤٢٠