تفسير الخطيب الشربيني - ج ٢

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري

تفسير الخطيب الشربيني - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4207-0

الصفحات: ٧١٧

الزيادة ، ولذلك قلبها ابن كثير وابن عامر هاء في الوقف ، ووقف الباقون بالتاء كالرسم ، وفي الوصل بالتاء للجميع ، وفتح التاء في الوصل ابن عامر ، وكسرها الباقون (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) قال أهل التفسير : رأى يوسف عليه الصلاة والسّلام في منامه ، وكان ابن اثنتي عشرة سنة ، وقيل : سبع عشرة ، وقيل : سبع سنين ليلة الجمعة ، وكانت ليلة القدر كأنّ أحد عشر كوكبا نزلت من السماء ومعها الشمس والقمر ، فسجدوا له وفسروا الكواكب بإخوته ، وكانوا أحد عشر يستضاء بهم كما يستضاء بالنجوم ، والشمس والقمر بأبيه وأمّه بجعل الشمس للأمّ ؛ لأنها مؤنثة والقمر للأب ؛ لأنه مذكر. والذي رواه البيضاوي تبعا «للكشاف» عن جابر من أنّ يهوديا قال للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أخبرني عن النجوم التي رآهن يوسف فأخبره بأسمائها فقال اليهودي : إي : والله إنها لأسماؤها. قال ابن الجوزي : إنه موضوع ، وقوله : (رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) استئناف لبيان حالهم التي رآهم عليها فلا تكرار ؛ لأنّ الرؤية الأولى تدل على أنه شاهد الكواكب والشمس والقمر والثانية تدل على أنه شاهد كونها ساجدة له.

وقال بعضهم : إنه لما قال : إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر قيل له : كيف رأيت؟ قال : رأيتهم لي ساجدين. وقال آخرون : يجوز أن يكون أحدهما من الرؤية والآخر من الرؤيا ، وهذا القائل لم يبين أنّ أيهما يحمل على الرؤية وأيهما يحمل على الرؤيا؟ قال الرازي : فذكر قولا مجملا غير مبين : فإن قيل : قوله : (رَأَيْتُهُمْ) وقوله : (ساجِدِينَ) لا يليق إلا بالعقلاء والكواكب جمادات فكيف جاءت اللفظة المخصوصة بالعقلاء في حق الجمادات؟ أجيب : بأنها لما وصفت بالسجود صارت كأنها تعقل وأخبر عنها كما أخبر عمن يعقل كما قال تعالى في صفة الأصنام : (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) [الأعراف ، ١٩٨] وكما في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) [النمل ، ١٨]. فإن قيل : لم أفرد الشمس والقمر بالذكر مع أنهما من جملة الكواكب؟ أجيب : بأنه أفردهما لفضلهما وشرفهما على سائر الكواكب كقوله تعالى : (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) [البقرة ، ٩٨] وهل المراد بالسجود نفس السجود حقيقة أو التواضع؟ كلاهما محتمل ، والأصل في الكلام حمله على الحقيقة. قال أهل التفسير : إن يعقوب عليه‌السلام كان شديد الحب ليوسف عليه‌السلام فحسده إخوته لهذا السبب ، وظهر ذلك ليعقوب فلما رأى يوسف هذه الرؤيا ، وكان تأويلها أن أبويه وإخوته يخضعون له ، وخاف عليه حسدهم وبغيهم.

(قالَ) له أبوه (يا بُنَيَ) بصيغة التصغير للشفقة أو لصغر سنه على ما تقدّم ، وقرأ حفص في الوصل بفتح الياء ، والباقون بالكسر والتشديد للجميع (لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ ،) أي : لا تخبرهم برؤياك فإنهم يعرفون تأويلها (فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً ،) أي : فيحتالوا في هلاكك. فإن قيل : لم لم يقل : فيكيدوك كما قال : فكيدوني؟ أجيب : بأنّ هذه اللام تأكيد للصلة كقوله : (لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) [يوسف ، ٤٣] وكقوله : نصحتك ونصحت لك ، وشكوتك وشكوت لك. وقيل : صلة كقوله : (لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) [الأعراف ، ١٥٤]. (إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ،) أي : ظاهر العداوة كما فعل بآدم وحوّاء فلا يألو جهدا في تسويلهم وإثارة الحسد فيهم حتى يحملهم على الكيد ، وعن أبي قتادة قال : كنت أرأى الرؤيا تمرضني حتى سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «الرؤيا الصالحة من الله والحلم من الشيطان فإذا رأى أحدكم ما يحبه فلا يحدّث به إلا من يحب وإذا رأى ما يكره فلا

١٠١

يحدث به وليتفل عن يساره ثلاثا وليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم وشرّها فإنها لا تضرّه» (١).

وعن أبي سعيد الخدري أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا رأى أحدكم الرؤيا يحبها فإنها من الله فليحمد الله عليها وليحدث بها وإذا رأى غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان فليستعذ بالله من شرها ولا يذكرها لأحد فإنها لا تضرّه». وعن أبي رزين العقيلي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «رؤيا المؤمن جزء من أربعين جزءا من النبوّة ، وهي على رجل طائر ما لم يحدّث بها فإذا حدّث بها سقطت» (٢) قال : وأحسبه قال : «ولا يحدّث بها إلا لبيبا أو حبيبا» وإنما أضيفت الرؤيا المحبوبة إلى الله إضافة تشريف بخلاف الرؤيا المكروهة وإن كانتا جميعا من خلق الله تعالى وتدبيره وإرادته ولا فعل للشيطان فيهما ، ولكنه يحضر المكروهة ويرتضيها ، فيستحب إذا رأى الشخص في منامه ما يحب أن يحدّث به من يحب ، وإذا رأى ما يكره فلا يحدّث به وليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم من شرها ، وليتفل ثلاثا ، وليتحول عن جنبه الآخر فإنها لا تضرّه ، فإنّ الله تعالى جعل هذه الأسباب سببا لسلامته من المكروه كما جعل الصدقة سببا لوقاية المال. قال الحكماء : إنّ الرؤيا الرديئة يظهر تعبيرها عن قريب والرؤيا الجيدة إنما يظهر تعبيرها بعد حين ، قالوا : والسبب فيه أن رحمة الله تعالى تقتضي أن لا يحصل الإعلام بوصول الشر إلا عند قرب وصوله حتى يكون الحزن والغم أقل ، وأمّا الإعلام بالخير فإنه يحصل متقدّما على ظهوره بزمن طويل حتى تكون البهجة الحاصلة بسبب توقع حضور ذلك الخير أكثر وأتم ، ولهذا لم تظهر رؤيا يوسف عليه‌السلام إلا بعد أربعين سنة ، وهو قول أكثر المفسرين ، وقال الحسن البصري : كان بينهما ثمانون سنة حتى اجتمع على أبويه وإخوته وخروا له ساجدين.

(وَكَذلِكَ ،) أي : وكما اجتباك ربك للاطلاع على هذه الرؤيا العظيمة الدالة على شرف وعز وكمال نفس (يَجْتَبِيكَ ،) أي : يختارك ويصطفيك (رَبُّكَ) بالدرجات العالية واجتباء الله تخصيصه بفيض إلهي يحصل منه أنواع الكرامات بلا سعي من العبد ، وذلك مخصوص بالأنبياء وبعض من يقاربهم من الصدّيقين والشهداء والصالحين وقوله : (وَيُعَلِّمُكَ) كلام مستأنف خارج عن التشبيه والتقدير وهو يعلمك (مِنْ ،) أي : بعض (تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) من تأويل الرؤيا وغيرها من كتب الله تعالى والأخبار المروية عن الأنبياء المتقدّمين ، وكان يوسف عليه‌السلام في تعبير الرؤيا وغيرها غاية ، والتأويل ما تؤول إليه عاقبة الأمر (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) بالنبوّة. قال ابن عباس : لأنّ منصب النبوّة ، أي : ومع الرسالة أعلى من جميع المناصب ، وكل الخلق دون درجة الأنبياء ، فهذا من تمام النعمة عليهم ؛ لأنّ جميع مناصب الخلق دون منصب الرسالة والنبوّة فالكمال المطلق والتمام المطلق في حق البشر ليس إلا النبوّة والرسالة ، وقيل : يجتبيك بالنبوّة ويتم نعمته عليك بسعادات الدنيا وسعادات الآخرة ، أمّا سعادات الدنيا فالإكثار من الأولاد والخدم والأتباع والتوسع في المال والجاه والإجلال في قلوب الخلق وحسن الثناء والحمد ، وأمّا سعادات الآخرة فالعلوم الكثيرة والأخلاق الفاضلة والاستغراق في معرفة الله تعالى (وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ ،) أي : أولاده وهذا يقتضي حصول تمام النعمة لآل يعقوب ، وتمام النعمة هو النبوّة والرسالة كما مرّ فلزم حصولها لآل يعقوب وأيضا أن يوسف عليه‌السلام قال : إني رأيت أحد عشر كوكبا وكان

__________________

(١) أخرجه البخاري في التعبير حديث ٦٩٩٥.

(٢) أخرجه الترمذي في الرؤيا حديث ٢٢٧٨.

١٠٢

تأويله أحد عشر نفسا لهم فضل وكمال ويستضيء بعلمهم ودينهم أهل الأرض ؛ لأنه لا شيء أضوأ من الكواكب وبها يهتدى ، وذلك يقتضي أن تكون جملة أولاد يعقوب أنبياء ورسلا.

فإن قيل : كيف يجوز أن يكونوا أنبياء وقد أقدموا على ما أقدموا عليه في حق يوسف عليه‌السلام؟ أجيب : بأنّ ذلك وقع منهم قبل النبوّة ، والعصمة من المعاصي إنما تعتبر بعد النبوّة لا قبلها على خلاف فيه. (كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ) بالنبوّة والرسالة ، وقيل : إتمام النعمة على إبراهيم عليه‌السلام خلاصه من النار واتخاذه خليلا ، وعلى إسحاق خلاصه من الذبح وفداؤه بذبح عظيم على قول أن إسحاق هو الذبيح. (مِنْ قَبْلُ ،) أي : من قبل هذا الزمان وقوله : (إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ) عطف بيان لأبويك ثم إن يعقوب عليه‌السلام لما وعده بهذه الدرجات الثلاثة ختم الكلام بقوله : (إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ ،) أي : بليغ العلم (حَكِيمٌ ،) أي : بليغ الحكمة وهي وضع الأشياء في أتقن مواضعها.

(لَقَدْ كانَ فِي) خبر (يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ) وهم أحد عشر ؛ يهوذا وروبيل وشمعون ولاوي وزبلون قال البقاعي : بزاي وباء موحدة ويشجر وأمّهم ليا بنت ليان وهي ابنة خال يعقوب وولد له من سريتين إحداهما زلفى ، والأخرى يلقم كذا قاله البغويّ. وقال الرازي : والأخرى بلهمة أربعة أولاد وأسماؤهم دان ونفتالي ؛ قال البقاعي : بنون مفتوحة وفاء ساكنة ومثناة فوقية ولام بعدها ياء ، وجاد وأشر ، ثم توفيت ليا فتزوّج بأختها راحيل فولدت له يوسف وبنيامين ، وقيل : جمع بينهما ولم يكن الجمع محرما حينئذ (آياتٌ ،) أي : علامات ودلائل على قدرة الله تعالى وحكمته في كل شيء (لِلسَّائِلِينَ) عن قصصهم.

قال الرازيّ : ولمن لم يسأل عنها وهو كقوله تعالى : (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ) [فصلت ، ١٠] وقيل : آيات على نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك أنّ اليهود سألوه عن قصة يوسف ، وقيل : سألوه عن سبب انتقال ولد يعقوب من أرض كنعان إلى أرض مصر فذكر لهم قصة يوسف فوجدوها موافقة لما في التوراة ، فعجبوا منه فكان دلالة على نبوّته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه لم يقرأ الكتب المتقدّمة ولم يجالس العلماء وأصحاب الأخبار ، ولم يأخذ عنهم شيئا ، فدل ذلك على أنّ ما يأتي به وحي سماوي أوحاه الله تعالى إليه وعرفه به ، وهذه السورة تشتمل على أنواع من العبر والمواعظ والحكم منها رؤيا يوسف عليه‌السلام وما حقق الله تعالى فيها من حسد إخوته وما آل إليه أمره من الملك ، ومنها ما اشتمل على حزن يعقوب وصبره على فقد ولده وما آل إليه أمره من بلوغ المراد ، وغير ذلك من الآيات التي إذا فكر فيها الإنسان اعتبر ، وقرأ ابن كثير آية على التوحيد ، والباقون على الجمع.

(إِذْ ،) أي : واذكر إذ (قالُوا ،) أي : بعض إخوة يوسف لبعض بعد أن بلغتهم الرؤيا وقالوا : ما يرضى أن تسجد له إخوته حتى يسجد له أبواه (لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ ،) أي : بنيامين (أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا) اللام لام الابتداء وفيها تأكيد وتحقيق لمضمون الجملة أرادوا أنّ زيادة محبته لهما أمر ثابت لا شبهة فيه ، وخبر المبتدأ أحب. ووحد لأن أفعل يستوي فيه الواحد وما فوقه مذكرا كان أو مؤنثا إذا لم يعرّف أو لم يضف ، وقيل : اللام لام قسم تقديره : والله ليوسف ، وإنما قالوا : وأخوه وهم جميعا إخوته ؛ لأنّ أمّهما كانت واحدة ، والواو في قولهم : (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) واو الحال ، أي : يفضلهما في المحبة علينا وهما اثنان صغيران لا كفاية فيهما ولا منفعة ، ونحن جماعة أقوياء نقوم بمرافقه فنحن أحق بزيادة المحبة منهما لفضلنا بالكثرة والمنفعة عليهما ، والعصبة

١٠٣

والعصابة العشرة فما فوقها. وقيل : إلى الأربعين سموا بذلك ؛ لأنهم جماعة تعصب بهم الأمور ويستكفى بهم النوائب (إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ ،) أي : خطأ (مُبِينٍ ،) أي : بيّن في إيثاره حب يوسف وأخيه علينا والقرب المقتضي للحب في كلنا واحد ؛ لأنّا في النبوّة سواء ولنا مزية تقتضي تفضيلنا وهي أنا عصبة لنا من النفع له والذّب عنه والكفاية ما ليس لهما.

تنبيه : هاهنا سؤالات : الأوّل : إنّ من المعلوم أنّ تفضيل بعض الأولاد على بعض يورث الحقد والحسد فلم أقدم يعقوب عليه‌السلام على ذلك؟ أجيب : بأنه إنما فضلهما في المحبة والمحبة ليست في وسع البشر فكان معذورا فيها ولا يلحقه في ذلك لوم.

الثاني : كيف اعترضوا على أبيهم وهم يعلمون أنه نبيّ وهم مؤمنون به؟ وأجيب : بأنهم وإن كانوا مؤمنين بنبوّته لكن جوّزوا أن يكون فعله باجتهاد ، ثم إنّ اجتهادهم أدّى إلى تخطئة أبيهم في ذلك الاجتهاد لكونهم أكبر سنا وأكثر نفعا وغاب عنهم أنّ تخصيصهما بالبرّ كان لوجوه : أحدها : أنّ أمّهما ماتت ، ثانيها : أنه كان في يوسف من آثار الرشد والنجابة ما لم يجده في سائر أولاده ، ثالثها : أنه وإن كان صغيرا إلا أنه كان يخدم أباه بأنواع من الخدمة أعلى وأشرف مما كان يصدر عن سائر أولاده ، والحاصل أنّ هذه المسألة كانت اجتهادية وكانت مخلوطة بميل النفس وموجبات الفطرة فلا يلزم من وقوع الاختلاف فيها طعن أحد الخصمين في دين الآخر.

الثالث : أنهم نسبوا أباهم إلى الضلال عن رعاية مصالح الدنيا والبعد عن طريق الرشد لا الضلال في الدين. الرابع : أنّ قولهم : (لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا) محض حسد ، والحسد من أمّهات الكبائر لا سيما وقد أقدموا بسبب ذلك الحسد على أمور مذمومة منها قولهم :

(اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً ،) أي : بحيث يحصل اليأس من اجتماعه بأبيه ، ومنها إلقاؤه في ذل العبودية ، ومنها أنهم أبقوا أباهم في الحزن الدائم والأسف العظيم ، ومنها إقدامهم على الكذب وكل ذلك يقدح في العصمة والنبوّة؟ أجيب : بما تقدّم أنّ ذلك كان قبل النبوّة ، وقرأ نافع وابن كثير وهشام والكسائي بضم التنوين من مبين في الوصل ، والباقون بالكسر ، فإن وقف القارئ على مبين وامتحن في الابتداء يبتدئ بالضم للجميع ، وقولهم : (يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ) جواب الأمر ، أي : يصف لكم وجه أبيكم فيقبل بكليته عليكم ولا يلتفت عنكم إلى غيركم ولا ينازعكم في محبته أحد ، وقولهم : (وَتَكُونُوا) مجزوم بالعطف على (يَخْلُ لَكُمْ) أو منصوب بإضمار أن (مِنْ بَعْدِهِ ،) أي : قتل يوسف أو طرحه (قَوْماً صالِحِينَ) بأن تتوبوا إلى الله تعالى بعد فعلكم فإنه يعفو عنكم ، وقال مقاتل : يصلح أمركم فيما بينكم وبين أبيكم.

(قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ) هو يهوذا وكان أحسنهم رأيا فيه ، وهو الذي قال : (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ) [يوسف ، ٨٠] وقيل : روبيل وكان أكبرهم سنا (لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ ،) أي : اطرحوه (فِي غَيابَتِ الْجُبِّ ،) أي : في أسفله وظلمته ، والغيابة كل موضع ستر شيئا وغيبه عن النظر قال القائل (١) :

فإن أنا يوما غيبتني غيابتي

فسيروا بسيري في العشيرة والأهل

أراد غيابة حفرته التي يدفن فيها ، والجب البئر الكبيرة التي ليست مطوية سميت جبا لأنها

__________________

(١) البيت للمتنخل في الكشاف ٢ / ٤٢٢.

١٠٤

قطعت قطعا ولم يحصل فيها شيء غير القطع من طيّ أو ما أشبهه ، وإنما ذكر الغيابة مع الجب دلالة على أن المشير أشار بطرحه في موضع مظلم من الجب لا يلحقه نظر الناظرين. قال بعض أهل العلم : إنهم عزموا على قتله وعصمه الله تعالى رحمة بهم ولو فعلوا لهلكوا أجمعين ، واختلف في موضع ذلك الجب ، فقال قتادة : هو ببيت المقدس وقال وهب : هو بأرض الأردن. وقال مقاتل : هو على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب. وقرأ نافع بألف بين الباء والتاء على الجمع والباقون بغير ألف على التوحيد (يَلْتَقِطْهُ ،) أي : يأخذه (بَعْضُ السَّيَّارَةِ) جمع سيار ، أي : المبالغ في السير ، وذلك الجب كان معروفا يرد عليه كثير من المسافرين ، فإذا أخذوه ذهبوا به إلى ناحية أخرى فنستريح منه (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ ،) أي : ما أردتم من التفريق فاكتفوا بذلك.

ولما أجمعوا على التفريق بين يوسف وأبيه بضرب من الحيل (قالُوا) إعمالا للحيلة في الوصول إليه مستفهمين على وجه التعجب ؛ لأنه كان أحس منهم السوء فكان يحذرهم عليه (يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَ) الحال (إِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ ،) أي : قائمون بمصلحته وحفظه.

تنبيه : اتفق القراء على إخفاء النون الساكنة عند النون المتحرّكة واتفقوا أيضا على إدغامها مع الإشمام.

(أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً ،) أي : إلى الصحراء (يَرْتَعْ ،) أي : نتسع في أكل الفواكه ونحوها وأصل الرتع أكل البهائم في الخصب في زمن الربيع ويستعار للإنسان إذا أريد به الأكل الكثير (وَنَلْعَبُ) روي أنه قيل لأبي عمرو : كيف يقولون نلعب وهم أنبياء؟ فقال : لم يكونوا يومئذ أنبياء ، وأيضا جاز أن يكون المراد باللعب الإقدام على المباحات لأجل انشراح الصدر كما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لجابر : «فهلا بكرا تلاعبها ، وتلاعبك» (١) وأيضا كان لعبهم الاستباق والانتضال والغرض منه المحاربة والمقاتلة مع الكفار ، والدليل عليه قولهم (إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ) وإنما سموه لعبا لأنه في صورته.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالنون فيهما ، والباقون بالياء ، وسكن العين أبو عمرو وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي ، وكسرها الباقون في الوصل ، ولقنبل وجه آخر وهو أنه يثبت الياء في نرتع بعد العين وقفا ووصلا (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ،) أي : بليغون في الحفظ له حتى نردّه إليك سالما. قال أبو حيان : وانتصب (غَداً) على الظرف وهو ظرف مستقبل يطلق على اليوم الذي يلي يومك وعلى الزمن المستقبل من غير تقييد ، وأصل غدا غدو فحذفت الواو انتهى.

ثم إنّ يعقوب عليه‌السلام اعتذر لهم بعذرين الأوّل : ما حكاه الله تعالى عنه بقوله : (قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ ،) أي : ذهابكم به ، والحزن هنا ألم القلب بفراق المحبوب ؛ لأنه كان لا يقدر أن يصبر عنه ساعة ، وقرأ نافع بضم الياء وكسر الزاي ، والباقون بفتح الياء وضم الزاي ،

__________________

(١) أخرجه البخاري في البيوع باب ٣٤ ، والوكالة باب ١٢ ، والدعوات باب ٥٣ ، والمغازي باب ١٨ ، والنكاح باب ١٠ ، ١٢١ ، ١٢٢ ، والنفقات باب ١٢ ، والدعوات باب ٥٣ ، ومسلم في الرضاع حديث ٥٤ ، ٥٥ ، ٥٦ ، ٥٨ ، وأبو داود في النكاح باب ٣ ، والنسائي في النكاح باب ١٠ ، وابن ماجه في النكاح باب ٧ ، والدارمي في النكاح باب ٣٢ ، وأحمد في المسند ٣ / ٢٩٤ ، ٣٠٢ ، ٣٠٨ ، ٣١٤ ، ٣٦٣ ، ٣٦٩ ، ٣٧٤ ، ٣٧٦.

١٠٥

والثاني : قوله : (وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ) بالرتع واللعب أو لقلة اهتمامكم به ، وكان يعقوب عليه‌السلام رأى في النوم أنّ الذئب شدّ على يوسف فكان يحذره فمن أجل هذا ذكر ذلك ، وكأنه لقنهم العلة ، وفي أمثال العرب البلاء موكل بالمنطق ، والمراد به الجنس ، وكانت أرضهم كثيرة الذئاب.

(قالُوا) مجيبين عن الثاني بما يلين الأب لإرساله مؤكدين لتطييب خاطره دالين على القسم بلامه (لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ ،) أي : والحال أنّا (عُصْبَةٌ ،) أي : جماعة عشرة رجال بمثلهم تعصب الأمور وتكفى الخطوب ، وأجابوا عن القسم بما أغنى عن جواب الشرط بقولهم : (إِنَّا إِذاً ،) أي : إذا كان هذا (لَخاسِرُونَ ،) أي : كاملون في الخسارة ؛ لأنا إذا ضيّعنا أخانا فنحن لما سواه من أموالنا أشد تضييعا ، وأعرضوا عن جواب الأوّل ؛ لأن حقدهم وغيظهم كان بسبب العذر الأوّل وهو شدّة حبه له ، فلما سمعوا ذلك المعنى تغافلوا عنه وأقله أن يقولوا : ما وجه الشح بفراقه يوما والسماح بفراقنا كل يوم. وقرأ الذيب ورش والسوسي والكسائي بإبدال الهمزة ياء وقفا ووصلا ، وحمزة وقفا لا وصلا ، والباقون بالهمزة وقفا ووصلا. وقوله تعالى :

(فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٥) وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (١٦) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (١٧) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١٨) وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٩) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (٢٠) وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢١) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٢٢) وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢٣) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (٢٤))

(فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ) فيه إضمار واختصار تقديره فأرسله معهم فلما ذهبوا به (وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ ،) أي : وعزموا على إلقائه فيها ولا بدّ من تقدير جواب ، وهو فجعلوه فيها وحذف الجواب في القرآن كثير بشرط أن يكون المذكور دليلا عليه وهنا كذلك ، قال وهب وغيره من أهل السير والأخبار : إن إخوة يوسف قالوا له : ما تشتاق أن تخرج معنا إلى مواشينا فتصيد وتستبق؟ قال : بلى. قالوا : فاسأل أباك أن يرسلك معنا قال يوسف : أفعل ، فدخلوا جميعا على أبيهم وقالوا : يا أبانا إن يوسف قد أحب أن يخرج معنا إلى مواشينا ، فقال يعقوب : ما تقول يا بنيّ؟ قال : نعم يا أبت إني أرى من إخوتي اللين واللطف فأحب أن تأذن لي ، وكان يعقوب عليه الصلاة والسّلام يكره مفارقته ويحب مرضاته ، فأذن له فأرسله معهم ، فلما خرجوا من عند أبيهم جعلوا يحملونه على رقابهم وأبوهم ينظر إليهم ، فلما بعدوا عنه وصاروا إلى الصحراء ألقوه على الأرض وأظهروا له ما في أنفسهم من العداوة وأغلظوا له القول وجعلوا يضربونه فجعلوا كلما جاء

١٠٦

إلى واحد منهم واستغاث به يضربه فلم ير منهم رحيما فضربوه حتى كادوا يقتلونه وهو يصيح يا أبتاه ويا يعقوب لو رأيت يوسف وما نزل به من إخوته لأحزنك ذلك وأبكاك يا أبتاه ما أسرع ما نسوا عهدك وجعل يبكي بكاء شديدا ، فأخذه روبيل فجلد به الأرض ، ثم جلس على صدره وأراد قتله فقال له : مهلا يا أخي لا تقتلني فقال له : يا ابن راحيل أنت صاحب الأحلام الكاذبة قل لرؤياك تخلصك من أيدينا ، ولوى عنقه ، فاستغاث يوسف بيهوذا ، وقال له : اتق الله فيّ وحل بيني وبين من يريد قتلي فأدركته رحمة ورقة ، فقال يهوذا : يا إخوتاه ما على هذا عاهدتموني ، فانطلقوا به إلى الجب ليطرحوه فيه ، فجاؤوا به على بئر على غير الطريق واسع الأسفل ضيق الرأس ، فجعلوا يدلونه في البئر فيتعلق بشفير البئر فربطوا يديه ونزعوا قميصه ، فقال : يا إخوتاه ردّوا عليّ قميصي أستتر به في الجب فقالوا : ادع الشمس والقمر والكواكب تخلصك وتؤنسك فقال : إني لم أر شيئا فألقوه فيها ، وكان في البئر ماء فسقط فيه ، ثم أوى إلى صخرة كانت في البئر فقام عليها فنادوه فظنّ أنها رحمة أدركته فأجابهم فأرادوا أن يرضخوه بصخرة ليقتلوه ، فمنعهم يهوذا من ذلك وكان يهوذا يأتيه بالطعام وبقي فيها ثلاث ليال.

(وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ) في الجب في صغره وهو ابن سبع عشرة سنة أو دونها كما أوحي إلى يحيى وعيسى عليهما‌السلام في صغرهما ، وفي القصص أنّ إبراهيم عليه‌السلام حين ألقي في النار جرّد عن ثيابه فأتاه جبريل عليه‌السلام بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه ودفعه إبراهيم عليه‌السلام إلى إسحاق وإسحاق إلى يعقوب ، فجعله يعقوب في تميمة علقها بيوسف فأخرجها جبريل وألبسه إياها (لَتُنَبِّئَنَّهُمْ ،) أي : لتخبرنهم بعد هذا اليوم (بِأَمْرِهِمْ ،) أي : بصنعهم (هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ،) أي : أنك يوسف لعلوّ شأنك وبعده عن أوهامهم وطول العهد المغير للهيئات كما قال تعالى : (فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) [يوسف ، ٥٨] والمقصود من ذلك تقوية قلبه وأنه سيخلص مما هو فيه من المحنة ، ويصير مستوليا عليهم ، ويصيرون تحت أمره ونهيه وقهره. روي أنهم لما دخلوا عليه لطلب الحنطة عرفهم وهم له منكرون ودعا بالصواع فوضعه على يده ثم نقره فطنّ فقال : إنه ليخبرني هذا الجام إنه كان لكم أخ من أبيكم يقال له : يوسف فطرحتموه وقلتم لأبيكم : أكله الذئب ، وقيل : لا يشعرون بإيحائنا إليك وأنت في البئر بأنك ستخبرهم بصنيعهم هذا ، والفائدة في إخفاء ذلك الوحي عنهم أنهم لو عرفوه فربما ازداد حسدهم وكانوا يقصدون قتله ، وقيل : إنّ المراد من هذا الوحي الإلهام كما في قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى) [القصص ، ٧] وقوله تعالى : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) [النحل ، ٦٨](وَ) لما كان من المعلوم أنه ليس بعد هذا الفعل الذي فعلوه إلا الاعتذار (جاؤُ أَباهُمْ) دون يوسف (عِشاءً) في ظلمة الليل لئلا يتفرس أبوهم في وجوههم إذا رآها في ضياء النهار ضدّ ما جاؤوا به من الاعتذار وقد قيل : لا تطلب الحاجة في الليل فإنّ الحياء في العينين ولا تعتذر بالنهار من ذنب فتتلجلج في الاعتذار (يَبْكُونَ) والبكاء جريان الدمع من العين ، والآية تدل على أنه لا يدل على الصدق لاحتمال التصنع ، روي أنّ امرأة حاكمت إلى شريح فبكت فقال الشعبي : يا أبا أمية أما تراها تبكي فقال : قد جاء إخوة يوسف يبكون وهم ظلمة كذبة لا ينبغي للإنسان أن يقضي إلا بالحق فعند ذلك فزع يعقوب عليه‌السلام فقال : هل أصابكم في غنمكم شيء؟ قالوا : لا. قال : فما فعل يوسف؟. (قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ) قال الزجاج : يسابق بعضنا بعضا في الرمي ، ومنه قوله عليه الصلاة والسّلام : «لا سبق إلا في خف أو نصل أو

١٠٧

حافر» (١) يعني بالنضل الرمي ، وقيل : العدو لنتبين أينا أسرع عدوا (وَتَرَكْنا يُوسُفَ) أخانا (عِنْدَ مَتاعِنا ،) أي : ما كان معنا مما نحتاج إليه في ذلك الوقت من ثياب وزاد ونحو ذلك (فَأَكَلَهُ ،) أي : فتسبب عن انفراده أن أكله (الذِّئْبُ وَما ،) أي : والحال أنك ما (أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ ،) أي : صدّق لما علموا أنه لا يصدّقهم بغير أمارة (لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) في هذه القصة لمحبة يوسف عندك فكيف وأنت تسيء الظنّ بنا؟ وقيل : لا تصدّقنا ؛ لأنه لا دليل لنا على صدقنا وإن كنا صادقين عند الله تعالى.

(وَ) لما علموا أنه لا يصدّقهم بغير أمارة (جاؤُ عَلى قَمِيصِهِ ،) أي : يوسف عليه‌السلام (بِدَمٍ كَذِبٍ) قال الفراء : أي : مكذوب فيه إلا أنه وصفه بالمصدر على تقدير : ذي كذب أو مكذوب أطلق على المصدر مبالغة ؛ لأنه غير مطابق للواقع ؛ لأنهم ادّعوا أنه دم يوسف عليه‌السلام والواقع أنه دم سخلة ذبحوها ولطخوا القميص بذلك الدم. قال القاضي : ولعلّ غرضهم في نزع قميصه عند إلقائه في غيابة الجب أن يفعلوا هذا توكيدا لصدقهم إذ يبعد أن يفعلوا ذلك طمعا في نفس القميص ولا بدّ في المعصية من أن يقترن بها الخذلان ، فلو خرقوه مع لطخه بالدم لكان الاتهام أقوى فلما شاهد يعقوب عليه‌السلام القميص صحيحا علم كذبهم ، روي أنّ يعقوب عليه‌السلام أخذ القميص منهم ، وألقاه على وجهه وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص وقال : تالله ما رأيت كاليوم ذئبا أحلم من هذا أكل ابني ولم يمزق قميصه.

تنبيه : على قميصه محله النصب على الظرفية كأنه قيل : وجاؤوا فوق قميصه بدم كما تقول :

جاء على جماله بأحماله ، ولا يصح أن يكون حالا متقدّمة ؛ لأنّ حال المجرور لا يتقدّم عليه. قال الشعبي : قصة يوسف كلها في قميصه ، وذلك أنهم لما ألقوه في الجب نزعوا قميصه ولطخوه بالدم وعرضوه على أبيه ولما شهد الشاهد قال : (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ) [يوسف ، ٢٦] ولما أتى بقميصه إلى يعقوب وألقي على وجهه ارتدّ بصيرا.

ثم ذكر تعالى أنّ إخوة يوسف لما ذكروا ذلك الكلام واحتجوا على صدقهم بالقميص الملطخ بالدم (قالَ) يعقوب عليه‌السلام (بَلْ سَوَّلَتْ ،) أي : زينت (لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) ففعلتموه به ، واختلف في السبب الذي عرف به كونهم كاذبين على وجوه : الأوّل : أنه كان يعرف الحسد الشديد في قلوبهم. الثاني : كان عالما بأنه حيّ ؛ لأنه عليه‌السلام قال ليوسف : (وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) [يوسف ، ٦] وذلك دليل على كذبهم في ذلك القول ، الثالث : أنه لما رأى قميصه صحيحا قال : كذبتم لو أكله الذئب لخرق ثوبه ، وقيل : إنه لما قال ذلك قال بعضهم : بل قتله اللصوص فقال : كيف قتلوه وتركوا قميصه وهم إلى قميصه أحوج منهم إلى قتله فلما اختلفت أقوالهم عرف بسبب ذلك كذبهم وقوله : (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) مرفوع بالابتداء لكونه موصوفا ، وخبره محذوف والتقدير : فصبر جميل أولى من الجزع ، ومنهم من أضمر المبتدأ قال الخليل : الذي أفعله صبر جميل وقال قطرب : معناه فصبري صبر جميل. وقال الفراء : فهو صبر جميل. وعن الحسن أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن الصبر الجميل؟ فقال : «صبر لا شكوى فيه فمن بث لم يصبر كما قال يعقوب (إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي

__________________

(١) أخرجه أبو داود حديث ٢٥٧٤ ، والترمذي حديث ٢٢ ، وابن ماجه حديث ٤٤ ، ٢٨٧٨ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٥٦ ، ٣٥٨ ، ٤٧٤.

١٠٨

وَحُزْنِي إِلَى اللهِ)(١). وقال مجاهد : فصبر جميل من غير جزع. وقال الثوري : إنّ من الصبر أن لا تحدّث بوجعك ولا بمصيبتك ولا تزكي نفسك. وروي أنّ يعقوب عليه‌السلام كان قد سقط حاجباه وكان يرفعهما بخرقة فقيل له : ما هذا؟ فقال : طول الزمان وكثرة الأحزان فأوحى الله تعالى إليه يا يعقوب أتشكوني؟ فقال : يا رب خطيئة أخطأتها فاغفرها لي.

وروي عن عائشة رضي الله تعالى عنها في قصة الإفك أنها قالت : والله لئن حلفت لا تصدّقوني ولئن اعتذرت لا تعذروني فمثلي ومثلكم كمثل يعقوب وولده والله المستعان على ما تصفون فأنزل الله تعالى في عذرها ما أنزل.

وقوله : (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) يدل على أنّ الصبر على قسمين قد يكون جميلا ، وقد يكون غير جميل ، فالصبر الجميل أن ينكشف له أنّ هذا البلاء من الحق فاستغراقه في شهود نور المبلي يمنعه من الاشتغال بالشكاية من البلاء ولذلك قيل : المحبة التامّة لا تزداد بالوفاء ولا تنقص بالجفاء ؛ لأنها لو ازدادت بالوفاء لكان المحبوب هو النصيب والخط وموصل النصيب لا يكون محبوبا بالذات بل بالعرض ، فهذا هو الصبر الجميل وأمّا الصبر لا للرضا بقضاء الله تعالى بل كان لسائر الأغراض فذلك الصبر لا يكون جميلا. فإن قيل : الصبر على قضاء الله تعالى واجب ، وأمّا الصبر على ظلم الظالمين فغير واجب ، بل الواجب إزالته لا سيما في الضرر العائد إلى الغير ، فلم صبر يعقوب على ذلك ولم يبالغ في البحث مع شدّة رغبته في حضور يوسف ونهاية حبه له وكان من بيت عظيم شريف وكان الناس يعرفونه ويعتقدون فيه؟.

أجيب : بأنه يحتمل أن يكون منع من الطلب بوحي تشديدا للمحنة عليه زيادة في أجره ، أو أنه لو بالغ في البحث لربما أقدموا على إيذائه ولم يمكنوه من الطلب والفحص فرأى أنّ الأصوب الصبر والسكوت وتفويض الأمر بالكلية إلى الله تعالى وقال : (وَاللهُ الْمُسْتَعانُ ،) أي : المطلوب منه العون (عَلى ما تَصِفُونَ ،) أي : تذكرون من أمر يوسف ، والمعنى : أنّ إقدامه على الصبر لا يكون إلا بمعونة الله تعالى ؛ لأنّ الدواعي النفسانية تدعوه إلى إظهار الجزع ، وهي قوية والدواعي الروحانية تدعوه إلى الصبر ، فكأنّ المحاربة وقعت بين الصنفين فما لم تحصل إعانة الله تعالى لم تحصل الغلبة ، فقوله : (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) يجري مجرى قوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) [الفاتحة ، ٤] وقوله : (وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) يجري مجرى قوله : (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة ، ٥].

ولما أراد الله تعالى خلاص يوسف من الجب بين سببه بقوله تعالى : (وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ) وهم القوم المسافرون سموا بذلك ؛ لأنهم يسيرون في الأرض وكانوا رفقة من مدين يريدون مصر ، فأخطؤوا الطريق فانطلقوا يهيمون على غير طريق ، فهبطوا على أرض فيها جب يوسف وكان الجبّ في قفرة بعيدة عن العمران ، أي : لم يكن إلا للرعاة. روي أنّ ماءه كان ملحا فعذب حين ألقي يوسف فيه ، فلما نزلوا أرسلوا رجلا يقال له : مالك بن ذعر لطلب الماء فذلك قوله تعالى : (فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ ،) أي : الذي يرد الماء ليستقي منه ، والوارد هو الذي يتقدّم الرفقة إلى الماء فيهيئ الأرشية والدلاء (فَأَدْلى ،) أي : أرسل (دَلْوَهُ) في البئر يقال : أدليت الدلو إذا أرسلتها في

__________________

(١) أخرجه ابن حجر في الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ٨٩ ، وابن كثير في تفسيره ٤ / ٣٠٣ ، والطبري في تفسيره ١٢ / ٩٩.

١٠٩

البئر ودلوتها إذا أخرجتها ، والدلو معروف والجمع الدلاء فلما أرسلها تعلق بالحبل يوسف عليه‌السلام فلما خرج فإذا هو بغلام أحسن ما يكون قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعطي يوسف شطر الحسن» (١). ويقال : إنه ورث ذلك الجمال من جدّته سارة ، وكانت جدّته قد أعطيت سدس الحسن قال ابن إسحاق : ذهب يوسف وأمّه بثلثي الحسن. وحكى الثعلبي عن كعب الأحبار قال : كان يوسف حسن الوجه جعد الشعر ضخم العينين مستوي الخلق أبيض اللون غليظ الساعدين والعضدين والساقين خميص البطن صغير السرّة ، وكان إذا تبسم رأيت النور في ضواحكه ، وإذا تكلم رأيت شعاع النور من ثناياه لا يستطيع أحد وصفه ، وكان حسنه كضوء النهار عند الليل ، وكان يشبه آدم عليه‌السلام يوم خلقه الله وصوّره قبل أن يصيب الخطيئة ، فلما رآه مالك بن ذعر (قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ) نادى البشرى بشارة لنفسه ، كأنّه قال تعالى فهذا أوانك.

وعن الأعمش أنه قال : دعا امرأة اسمها بشرى فقال : يا بشرى. وعن السدي أنّ المدلي نادى صاحبه وكان اسمه بشرى فقال : يا بشرى. كما قرأه حمزة وعاصم والكسائي ، فإنهم قرؤوا بحذف الياء بعد الألف ، والباقون بإثبات الياء. وقيل : ذهب به فلما دنا من أصحابه صاح بذلك. وروي أنّ جدران البئر كانت تبكي على يوسف حين أخرج منها واختلف في ضمير (وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً) إلى من يعود؟ وفيه قولان :

الأوّل : أنه عائد إلى الوارد وأصحابه أخفوا من الرفقة أنهم وجدوه بالجب ، وذلك أنهم قالوا : إن قلنا للسيارة : التقطناه شاركونا ، وإن قلنا : اشتريناه سألونا الشركة فالأصوب أن نقول : إنّ أهلا لنا جعلوه بضاعة عندنا على أن نبيعه لهم بمصر.

والثاني : ونقل عن ابن عباس أنه قال : وأسرّوه يعني إخوة يوسف أسرّوا شأنه ، وذلك أنّ يهوذا كان يأتيه بالطعام كل يوم فلم يجده في البئر فأخبر إخوته فطلبوه ، فإذا هم بمالك بن ذعر وأصحابه نزول فأتوهم فإذا هم بيوسف فقالوا : هذا عبد لنا أبق منا وتابعهم يوسف على ذلك ؛ لأنهم توعدوه بالقتل بلسان العبرانية. قال الرازي : والأوّل أولى ؛ لأنّ قوله : (وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً) يدل على أنّ المراد أنهم أسرّوه حال ما حكموا بأنه بضاعة ، وذلك إنما يليق بالوارد لا بإخوة يوسف.

تنبيه : البضاعة القطعة من المال تجعل للتجارة من بضعت الشيء إذا قطعته. قال الزجاج : وبضاعة منصوب على الحال كأنه قال : وأسرّوه حال ما جعلوه بضاعة ولما جعل تعالى هذا البلاء سببا لوصوله إلى مصر ، ثم صارت وقائعه إلى أن صار ملكا بمصر ، وحصل ذلك الذي رآه في النوم ، فكان العمل الذي عمله الأعداء في دفعه عن ذلك المطلوب صيّره الله تعالى سببا لحصول ذلك المطلوب ، فلهذا المعنى قال تعالى : (وَاللهُ عَلِيمٌ ،) أي : بالغ العلم (بِما يَعْمَلُونَ ،) أي : لم يخف عليه ما فعلوه بيوسف وأبيهم.

(وَشَرَوْهُ ،) أي : باعوه إذ قد يطلق لفظ الشراء على البيع يقال : شريت الشيء بمعنى : بعته وإنما حمل هذا الشراء على البيع ؛ لأنّ الضمير في (شَرَوْهُ) وفي (كانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) يرجع

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ٣ / ٢٨٦ ، والعجلوني في كشف الخفاء ١ / ١٦٠ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٣٢٤٠٠.

١١٠

إلى شيء واحد ، وذلك أنّ إخوته زهدوا فيه فباعوه ، وقيل : إنّ الضمير يعود إلى مالك بن ذعر وأصحابه ، وعلى هذا يكون لفظ الشراء على بابه.

وقال محمد بن إسحاق : ربك أعلم أإخوته باعوه أم السيارة ، واختلفوا في معنى قوله تعالى : (بِثَمَنٍ بَخْسٍ) فقال الضحاك : ، أي : حرام ، لأنّ ثمن الحرّ حرام وسمي الحرام بخسا ؛ لأنه مبخوس البركة. وقال ابن مسعود : أي : زيوف ، وقال عكرمة : أي : بثمن قليل ، ويدل لهذا قوله تعالى : (دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ) لأنهم كانوا في ذلك الزمان لا يزنون ما كان أقل من أربعين درهما إنما كانوا يأخذون ما دونها عدا ، فإذا بلغتها وهي أوقية وزنوها ، واختلفوا في عدد تلك الدراهم فقال ابن عباس : كانت عشرين درهما فاقتسموها درهمين درهمين ، وعلى هذا لم يأخذ أخوه بنيامين شقيقه منها شيئا ، وقال مجاهد : كانت اثنتين وعشرين درهما. وقال عكرمة : أربعين درهما. (وَكانُوا ،) أي : إخوته (فِيهِ ،) أي : يوسف (مِنَ الزَّاهِدِينَ) لأنهم لم يعلموا منزلته عند الله تعالى ، ومعنى الزهد قلة الرغبة يقال : زهد فلان في كذا إذا لم يرغب فيه ، وأصله القلة ، يقال : رجل زهيد إذا كان قليل الطمع ، وقيل : كانوا في الثمن من الزاهدين ؛ لأنهم لم يكن قصدهم تحصيل الثمن ، وإنما كان قصدهم تبعيد يوسف عن أبيه. وقيل : الضمير في (كانُوا) للسيارة ؛ لأنهم التقطوه ، والملتقط للشيء متهاون به خائف من انتزاعه مستعجل في بيعه لا جرم باعوه بأوكس الأثمان.

روي في الأخبار أنّ مالك بن ذعر انطلق هو وأصحابه بيوسف وتبعهم إخوته يقولون : استوثقوا منه ؛ لأنه آبق فذهبوا به حتى أتوا مصر وعرضه مالك على البيع فاشتراه قطفير أو اطفير وهو العزيز الذي كان على خزائن مصر ، والملك يومئذ الريان بن الوليد رجل من العمالقة ، وقد آمن بيوسف ومات في حياة يوسف فملك بعده قابوس بن مصعب فدعاه يوسف إلى الإسلام فأبى ، واشتراه العزيز وهو ابن سبع عشرة سنة ، وأقام في منزله ثلاث عشرة سنة ، واستوزره ريان بن الوليد وهو ابن ثلاثين سنة وآتاه الله تعالى العلم والحكمة وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة ، وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة ، وقيل : كان الملك في أيامه فرعون موسى عاش أربعمائة سنة بدليل قوله تعالى : (وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ) [غافر ، ٣٤] وقيل : فرعون موسى من أولاد فرعون يوسف ، وقيل : اشتراه العزيز بعشرين دينارا وزوجي نعل وثوبين أبيضين.

وقال وهب بن منبه : قدمت السيارة بيوسف مصر فدخلوا به السوق يعرضونه للبيع فترافع الناس في ثمنه حتى بلغ ثمنه وزنه ذهبا ووزنه فضة ووزنه مسكا وحريرا ، وكان وزنه أربعمائة رطل وكان عمره حينئذ سبع عشرة سنة ، وقيل : ثلاث عشرة سنة ، فابتاعه قطفير من مالك بهذا الثمن فذلك قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ) واسمها زليخا وقيل : راعيل (أَكْرِمِي مَثْواهُ) قال الرازي : اعلم أن شيئا من هذه الروايات لم يدل عليه القرآن ولم يثبت أيضا في خبر صحيح وتفسير كتاب الله تعالى لا يتوقف على شيء من هذه الروايات فاللائق بالعاقل أن يحترز من ذكرها انتهى. ولكن البغوي ذكرها وتبعه على ذلك جماعة من المفسرين واللام في امرأته متعلقة بقال لا باشتراه ، والمثوى موضع الإقامة ، أي : اجعلي منزله ومقامه عندنا كريما ، أي : حسنا مرضيا بدليل قول يوسف : (إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ) والمراد تفقديه بالإحسان وتعهديه بحسن الملكية حتى تكون نفسه طيبة في صحبتنا ساكنة في كنفنا.

١١١

قال المحققون : أمر العزيز امرأته بإكرام مثواه دون إكرام نفسه يدل على أنه كان ينظر إليه على سبيل الإجلال والتعظيم وهو كما يقال : سلام الله على المجلس العالي. ولما أمر بإكرام مثواه علّل ذلك بأن قال : (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا ،) أي : يقوم بإصلاح مهماتنا ، أو نبيعه بالربح إن أردنا بيعه (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً ،) أي : نتبناه وكان حصورا ليس له ولد.

قال ابن مسعود : أفرس الناس ثلاثة العزيز في يوسف حيث قال لامرأته : (أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا ،) وابنة شعيب حين قالت لأبيها في موسى : (اسْتَأْجِرْهُ ،) وأبو بكر في عمر حيث استخلفه. (وَكَذلِكَ ،) أي : وكما نجيناه من القتل والجب وعطفنا عليه قلب العزيز (مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ ،) أي : أرض مصر. قال البقاعي : التي هي كالأرض كلها لكثرة منافعها بالملك فيها لتمكنه من الحكم بالعدل والنبوّة ، وقوله تعالى : (وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ ،) أي : تعبير الرؤيا عطف على مقدر متعلق بمكنّا ، أي : لنمكنه أو الواو زائدة (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ ،) أي : الأمر الذي يريده ؛ لأنه تعالى فعال لما يريد ، ولا دافع لقضائه ولا مانع عن حكمه في أرضه وسمائه أو على أمر يوسف أراد إخوته قتله ، فغلب أمره عليهم ، وأرادوا أن يلتقطه بعض السيارة ليندرس اسمه ، فغلب أمره وظهر اسمه واشتهر ، ثم باعوه ليكون مملوكا فغلب الله أمره حتى صار ملكا وسجدوا بين يديه ، ثم أرادوا أن يضرّوا أباهم ويطيبوا قلبه حتى يخلو لهم وجهه فغلب أمره تعالى فأظهره على مكرهم ، واحتالت عليه امرأة العزيز لتخدعه عن نفسه فغلب أمره تعالى فعصمه حتى لم يهمّ بسوء بل هرب منه غاية الهرب ، ثم بذلت جهدها في إذلاله وإلقاء التهمة عليه فأبى الله تعالى إلا إعزازه وبراءته ، ثم أراد يوسف عليه‌السلام ذكر الساقي له فغلب أمره تعالى فأنساه ذكره حتى مضى الأجل الذي ضربه الله تعالى له وكم من أمر كان في هذه القصة وفي غيرها يرشد إلى أنه لا أمر لغيره (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ) وهم الكفار (لا يَعْلَمُونَ) أنّ الأمر كله بيد الله تعالى ، أو أنّ أكثر الناس لا يعلمون ما هو صانع بيوسف وما يريد منه فمن تأمّل في الدنيا وعجائب أحوالها عرف وتيقن أنّ الأمر كله لله ، وأنّ قضاء الله تعالى غالب.

ولما بين تعالى أنّ إخوته أساؤوا إليه وصبر على تلك الشدائد والمحن ومكنه في الأرض اتبعه الأمر بتمام النعمة عليه بقوله تعالى : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ ،) أي : منتهى شبابه وقوّته وشدّته تقول العرب : بلغ فلان أشدّه إذا انتهى منتهاه في شبابه وقوّته ، وهذا اللفظ مستعمل في الواحد والجمع يقال : بلغ فلان أشدّه وبلغوا أشدّهم وهو ثلاث وثلاثون سنة. وقال السدي : بلغ ثلاثين سنة ، وقال الضحاك : عشرين سنة. وقال الكلبي : الأشد ما بين ثمانية عشر إلى ثلاثين ، وقيل : أقصاه اثنان وستون سنة. قال الأطباء : إنّ الإنسان يحدث في أوّل الأمر ويتزايد كل يوم شيئا فشيئا إلى أن ينتهي إلى غاية الكمال ، ثم يأخذ في التراجع إلى أن ينتهي إلى العدم والمحاق كالقمر. (آتَيْناهُ حُكْماً ،) أي : حكمة وهو العلم المؤيد بالعمل أو حكما بين الناس (وَعِلْماً ،) أي : علم تأويل الأحاديث ، وقيل : المراد بالحكم النبوّة والرسالة.

وتقدّم أنّ قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا) أنه وحي حقيقة. قال الرازي : فلا يبعد أن يقال : إنّ ذلك الوحي إليه في ذلك الوقت لا لأجل بعثته إلى الخلق بل لأجل تقوية قلبه وإزالة الحزن عن صدره ؛ ولأجل أن يستأنس بحضور جبريل عليه‌السلام (وَكَذلِكَ ،) أي : ومثل ذلك الجزاء الذي جزيناه به (نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) قال ابن عباس : يعني المؤمنين ، وعنه أيضا يعني المهتدين ، وقال الضحاك :

١١٢

يعني الصابرين على النوائب كما صبر يوسف عليه‌السلام. وعن الحسن : من أحسن عبادة ربه في شبيبته آتاه الله الحكمة في اكتهاله.

ولما أخبر تعالى أنّ سبب النعمة عليه إحسانه اتبعه دليله فقال تعالى : (وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها ،) أي : امرأة العزيز راودت يوسف (عَنْ نَفْسِهِ) لأنها لما رأته في غاية الحسن والجمال طمعت فيه ، ويقال : إنّ زوجها كان عاجزا ، والمراودة مفاعلة من راد يرود إذا جاء وذهب كان المعنى خادعته عن نفسه ، أي : فعلت ما يفعل المخادع لصاحبه عن الشيء الذي لا يريد أن يخرجه من يده يحتال أن يغلبه عليه ويأخذه منه ، وهو عبارة عن التمحل لمواقعته إياها (وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ ،) أي : أطبقتها وكانت سبعة ، والتشديد للتكثير أو للمبالغة في الإيثاق ، لأنّ مثل هذا الفعل لا يكون إلا في ستر وخفية لا سيما إذا كان حراما ومع قيام الخوف الشديد (وَقالَتْ) له (هَيْتَ) أي تهيأت وتصنعت (لَكَ) خاصة فأقبل إليّ وامتثل أمري. قال الواحدي : هيت لك اسم للفعل نحو رويد وصه ومه ، ومعناه : هلم في قول جميع أهل اللغة ، وقرأ نافع وابن عامر بكسر الهاء ، والباقون بالفتح وقرأ هشام بعد الهاء بهمزة ساكنة ، والباقون بياء ساكنة ، وقرأ ابن كثير بضم التاء وفتحها ، والباقون بالفتح (قالَ) لها يوسف عليه‌السلام (مَعاذَ اللهِ ،) أي : أعوذ بالله وأعتصم به وألجأ إليه مما تدعينني إليه (إِنَّهُ ،) أي : الذي اشتراني (رَبِّي ،) أي : سيدي (أَحْسَنَ مَثْوايَ ،) أي : أكرم منزلي فلا أخونه في أهله وقيل : إنه أي : الله ربي أحسن مثواي ، أي : آواني ومن بلاء الجب أنجاني (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ،) أي : إن فعلت هذه الفعلة فأنا ظالم ولا يفلح الظالمون.

(وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها ،) أي : قصدت مخالطته وقصد مخالطتها ، والهمّ بالشيء قصده والعزم عليه ، ومنه الهمام وهو الذي إذا هم بشيء أمضاه والمراد بهمته ميل الطبع ومنازعة الشهوة لا القصد الاختياري ، وذلك مما لا يدخل تحت التكليف بل الحقيق بالمدح والأجر الجزيل من الله تعالى من يكف نفسه عن الفعل عند قيام هذا الهمّ ، ولهذا قال بعض أهل الحقائق : الهمّ قسمان : همّ ثابت وهو إذا كان معه عزم وعقد ورضا مثل هم امرأة العزيز ، فالعبد مأخوذ به ، وهمّ عارض وهو الخطرة وحديث النفس من غير اختيار ولا عزم مثل هم يوسف عليه‌السلام ، والعبد غير مأخوذ به ما لم يتكلم أو يعمل ، كما روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يقول الله عزوجل : إذا تحدّث عبدي بأن يعمل حسنة فأنا أكتبها حسنة ما لم يعملها فإذا عملها فأنا اكتبها له بعشرة أمثالها ، وإذا تحدّث بأن يعمل سيئة فأنا أغفرها له ما لم يعملها فإذا عملها فأنا أكتبها له بمثلها» (١).

قال في «الكشاف» : ويجوز أن يريد بقوله : (وَهَمَّ بِها) شارف أن يهم بها كما يقول الرجل : قتلته لو لم أخف الله ، يريد مشارفة القتل ومشافهته كأنّه شرع فيه (لَوْ لا أَنْ رَأى ،) أي : بعين قلبه (بُرْهانَ رَبِّهِ ،) أي : الذي آتاه إياه من الحكم والعلم ، أي : لهمّ بها لكنه كان البرهان حاضرا لديه حضور من يراه بالعين فلم يهمّ أصلا مع كونه في غاية الاستعداد لذلك لما آتاه الله تعالى من القوّة مع كونه في سن الشباب ، فلو لا المراقبة لهمّ بها لتوفر الداعي غير أنّ نور الشهود محاها أصلا ،

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ٢ / ٣١٥ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٧ / ٢٩٣.

١١٣

وهذا التقدير هو اللائق بمثل مقامه عليه‌السلام مع أنه الذي تدلّ عليه أساليب هذه الآيات من جعله من المخلصين والمحسنين المصروف عنهم السوء وأنّ السجن أحب إليه من ذلك مع قيام القاطع على كذب ما تضمنه قولها : (ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً) الآية من مطلق الإرادة ومع ما يتحتم من تقدير ما ذكر بعد لو لا في خصوص هذا التركيب من أساليب كلام العرب ، فإنه يجب أن يكون المقدّر بعد كل شرط من معنى ما دل عليه ما قبله ، وهذا مثل قوله تعالى : (إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها) [القصص ، ١٠] ، أي : لأبدت به ، وأما ما ورد عن السلف مما يعارض ذلك من تفسيرهم بها بأن حل الهميان وجلس بها مجلس المجامع وبأنه حلّ تكة سراويله وقعد بين شعبها الأربع وهي مستلقية على قفاها ، ومن تفسير البرهان بأنه سمع صوتا : إياك وإياها فلم يكترث له ، فسمعه ثانيا فلم يعمل به ، فسمعه ثالثا أعرض عنها فلم ينجع فيه حتى مثل له يعقوب عاضا على أنملته ، وقيل : ضرب بيده على صدره فخرجت شهوته من أنامله ، وقيل : كل ولد يعقوب ولد له اثنا عشر ولدا إلا يوسف فإنه ولد له أحد عشر ولدا من أجل ما نقص من شهوته حين همّ ، وقيل : صيح به يا يوسف لا تكن كالطائر كان له ريش فلما زنا قعد لا ريش له ، وقيل : بدت كف فيما بينهما ليس لها عضد ولا معصم مكتوب فيها : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (١٠) كِراماً كاتِبِينَ) [الانفطار ، ١٠ ، ١١] فلم ينصرف ثم رأى فيها : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً) [الإسراء ، ٣٢] فلم ينته ثم رأى فيها (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) [البقرة ، ٢٨١] فلم ينجع فيه فقال الله تعالى لجبريل عليه‌السلام : أدرك عبدي قبل أن يدرك الخطيئة ، فانحط جبريل وهو يقول : يا يوسف أتعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب في ديوان الأنبياء؟ وقيل : رأى تمثال العزيز. وقيل : قامت المرأة إلى صنم كان هناك فسترته وقالت : أستحي أن يرانا ، فقال يوسف : استحيت مما لا يسمع ولا يبصر ولا أستحي من السميع العليم بذات الصدور ، فلم يصح منه شيء عن أحد منهم مع أنّ هذه الأقوال التي وردت عنهم إذا جمعت تناقضت وتكاذبت. قال الزمخشريّ : وهذا ونحوه ممن يورده أهل الجبر والحشو الذين دينهم بهت لله وأنبيائه فأخزى الله أولئك في إيرادهم ما يؤدّي إلى أن يكون إنزال الله السورة التي هي أحسن القصص في القرآن العربي المبين ليقتدي بنبيّ من أنبياء الله تعالى فيما ذكروه وأهل العدل والتوحيد. ليسوا من مقالاتهم ورواياتهم بحمد الله بسبيل وأطال في ردّ ذلك ، وكذا فعل الرازي.

وقيل : وهمّ بها ، أي : بزجرها ووعظها. وقيل : همّ بها ، أي : غمه امتناعه منها. وقيل : همّ بها ، أي : نظر إليها وقيل : همّ بضربها ودفعها. وقيل : هذا كله قبل نبوّته ، وقد ذكر بعضهم ما زال النساء يملن إلى يوسف عليه‌السلام ميل شهوة حتى نبأه الله تعالى فألقى عليه هيبة النبوّة فشغلت هيبته كل من رآه عن حسنه (كَذلِكَ ،) أي : مثل ذلك التثبيت نثبته في كل أمر (لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ ،) أي : الهمّ بالزنا وغيره (وَالْفَحْشاءَ) أي : الزنا وغيره ، وقيل : السوء مقدمات الفاحشة من القبلة والنظر بالشهوة ، والفحشاء هي الزنا ، فكأنه قيل : لم فعل به هذا؟ فقيل : (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا ،) أي : الذين عظمناهم (الْمُخْلَصِينَ ،) أي : في عبادتنا الذين هم خير صرف لا يخالطهم غش ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بكسر اللام بعد الخاء ، والباقون بالفتح.

قال الرازي : فوروده باسم الفاعل دل على كونه آتيا بالطاعات والقربات مع صفة الإخلاص ، ووروده باسم المفعول يدلّ على أنّ الله تعالى استخلصه واصطفاه لحضرته ، وعلى كلا اللفظين فإنه

١١٤

من أدل الألفاظ على كونه منزها عما أضافوه إليه وهذا مع قول إبليس : (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [الحجر : ٣٩ ، ٤٠] شهادة من إبليس أنّ يوسف عليه‌السلام بريء من الهمّ فمن نسبه إلى الهمّ إن كانوا من أتباع دين الله فليقبلوا شهادة الله تعالى على طهارته ، وإن كانوا من أتباع إبليس وجنوده فليقبلوا شهادة إبليس على طهارته ، قال : ولعلهم يقولون كنا في أوّل الأمر تلامذة إبليس إلا أنا زدنا وفجرنا عليه في السفاهة كما قال الجزوري (١) :

وكنت فتى من جند إبليس فارتقى

بي الأمر حتى صار إبليس من جندي

فلو مات قبلي كنت أحسن بعده

طرائق فسق ليس يحسنها بعدي

ثم ذكر سبحانه وتعالى مبالغة في الامتناع بالجدّ في الهرب دليلا على إخلاصه وأنه لم يهمّ أصلا فقال :

(وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٥) قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٦) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٧) فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (٢٨) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (٢٩) وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٠) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (٣١) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (٣٢) قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٣) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٤) ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (٣٥) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٣٦) قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٣٧) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٣٨) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٣٩) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٤٠) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (٤١) وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (٤٢))

(وَاسْتَبَقَا الْبابَ ،) أي : أوجد المسابقة بغاية الرغبة من كل منهما هذا للهرب منها ، وهذه

__________________

(١) البيتان لم أجدهما في المصادر والمراجع التي بين يدي.

١١٥

لمنعه ، فكل منهما بذل أقصى جهده في السبق ، فلحقته عند الباب الأقصى مع أنه قد كان سبقها بقوّة الرجولية وقوّة الداعية إلى الفرار إلى الله تعالى ، ولكن عاقه إتقانها للمكر بكون الأبواب كانت مغلقة فكان يشتغل بفتحها فتعلقت بأدنى ما وصلت إليه من قميصه وهو ما كان من ورائه خوف فواته فاشتد تعلقها به مع إعراضه هو عنها وهربه منها ففتحه فأراد الخروج فمنعته (وَ) لم تزل تنازعه حتى (قَدَّتْ ،) أي : شقت (قَمِيصَهُ) وكان القدّ (مِنْ دُبُرٍ ،) أي : الناحية من الخلف منه ، وانقطعت منه قطعة فبقيت في يدها (وَأَلْفَيا ،) أي : وجدا (سَيِّدَها ،) أي : زوجها قطفير وهو العزيز تقول المرأة لبعلها : سيدي ولم يقل : سيدهما ؛ لأنّ ملك يوسف لم يصح فلم يكن سيدا له على الحقيقة (لَدَى ،) أي : عند (الْبابَ) جالسا مع ابن عمّ المرأة. فإن قيل : كيف وجد الباب وقد جمعه في قوله : (وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ؟) أجيب : بأنه أراد الباب البراني الذي هو المخرج من الدار والمخلص من العار ، فقد روى كعب الأحبار : أنّ يوسف لما هرب جعل فراش القفل يتناثر ويسقط حتى خرج من الأبواب فلما رأت المرأة ابن عمها هابته وخافت التهمة فسابقت يوسف بالقول و (قالَتْ) لزوجها (ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً ،) أي : فاحشة زنا أو غيره ، ثم خافت عليه أن يقتل وذلك لشدّة حبها له فقالت : (إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ ،) أي : يحبس في السجن ويمنع التصرّف (أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ ،) أي : مؤلم بأن يضرب بالسياط ونحوها ، وإنما بدأت بالسجن قبل العذاب ؛ لأنّ المحب لا يشتهي إيلام المحبوب ، وإنما أرادت أن يسجن عندها يوما أو يومين ولم ترد السجن الطويل فإنه لا يعبر عنه بهذه العبارة ، بل يقال : يجب أن يجعل من المسجونين ، ألا ترى أن فرعون هكذا قال في حق موسى عليه‌السلام في قوله : (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) [الشعراء ، ٢٩].

فلما سمع يوسف عليه‌السلام مقالتها (قالَ) مبرئا نفسه (هِيَ) بضمير الغيبة لاستحيائه بمواجهتها بإشارة أو ضمير خطاب (راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي ،) أي : طلبت مني الفاحشة فأبيت وفررت منها ، وذلك أنّ يوسف عليه‌السلام ما كان يريد أن يذكر ذلك القول ولا يهتك سترها ولكن لما قالت هي ما قالت ولطخت عرضه احتاج إلى إزالة هذه التهمة عن نفسه ، وصدقه لعمري فيما قال لا يحتاج إلى بيان أكثر من الحال الذي كان فيه وهو أنهما عند الباب ولو كان الطلب منه لما كان إلا في محلها الذي تجلس فيه وهو صدر البيت وأشرف موضع فيه ، وأيضا هو عبد لهم والعبد لا يمكنه أن يتسلط على مولاه إلى هذا الحال ، وأيضا أنّ المرأة زينت نفسها على أكمل الوجوه ، وأما يوسف فما كان عليه أثر من آثار تزيين النفس فكان إلحاق هذه الفتنة بالمرأة أولى.

ثم إنه تعالى أظهر ليوسف عليه‌السلام دليلا آخر يقوي تلك الدلائل المذكورة ، ويدل على أنه بريء من الريب وأنّ المرأة هي المذنبة وهو قوله تعالى : (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها ،) أي : وحكم حاكم من أهل المرأة ، واختلفوا في هذا الشاهد ، فقال سعيد بن جبير والضحاك : كان صبيا في المهد أنطقه الله تعالى كرامة ليوسف عليه‌السلام.

وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «تكلم في المهد أربعة وهم صغار شاهد يوسف وابن ماشطة بنت فرعون وعيسى ابن مريم وصاحب جريج الراهب» (١) رواه الإمام أحمد ، وفي الصحيحين أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لم

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ١ / ٣٠١ ، والحاكم في المستدرك ٢ / ٤٩٧ ، والسيوطي في الدر المنثور ٤ / ١٥ ، وابن كثير في تفسيره ٤ / ٣١٠ ، ٥ / ٢٧ ، والقرطبي في تفسيره ٩ / ١٧٢.

١١٦

يتكلم في المهد إلا ثلاثة ؛ عيسى ابن مريم وصاحب جريج وصبيّ كان يرضع أمّه فمرّ راكب حسن الهيئة فقالت أمّه : اللهم اجعل ابني مثل هذا فقال الصبي : اللهم لا تجعلني مثله» (١) وبهذا الاعتبار صاروا خمسة وزاد الثعلبي سادسا وهو يحيى بن زكريا عليهما‌السلام وزاد غيره على ذلك ، ولعل الحصر فيما ذكر في الحديث كان قبل العلم بالزيادة فلا تناقض وأوصلهم السيوطي إلى أحد عشر ونظمهم فقال :

تكلم في المهد النبي محمد

ويحيى وعيسى والخليل ومريم

ومبري جريج ثم شاهد يوسف

وطفل لدى الأخدود يرويه مسلم

وطفل عليه مرّ بالأمّة التي

يقال لها تزني ولا تتكلم

وماشطة في عهد فرعون طفلها

وفي زمن الهادي المبارك يختم

وقالت طائفة عظيمة من المفسرين : إنها كان لها ابن عم وكان رجلا حكيما واتفق في ذلك الوقت أنه كان مع الملك يريد أن يدخل عليها فقال : قد سمعنا الجلبة من وراء الباب وشق القميص إلا أنّا لا ندري أيكما قدّام صاحبه ولكن (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ ،) أي : من قدام (فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ) (وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ ،) أي : من خلف (فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ) لأنه لو لا إدباره منها وإقبالها عليه لما وقع ذلك ، فعرف سيدها صحة ذلك بلا شبهة كما قال تعالى :

(فَلَمَّا رَأى ،) أي : سيدها (قَمِيصَهُ ،) أي : يوسف عليه‌السلام (قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ) لها زوجها قطفير وقد قطع بصدقه وكذبها مؤكدا لأجل إنكارها (إِنَّهُ ،) أي : هذا القذف له (مِنْ كَيْدِكُنَ) معشر النساء ، والكيد طلب الإنسان بما يكره (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) والعظيم ما ينقص مقدار غيره عنه حسا أو معنى. فإن قيل : كيف وصف كيد النساء بالعظم مع قوله تعالى : (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) [النساء ، ٢٨] وهلا كان مكر الرجال أقوى من مكر النساء؟ أجيب : بأنّ الإنسان ضعيف بالنسبة لخلق ما هو أعظم منه كخلق السموات والأرض وبأن كيدهنّ أدق من كيد الرجال وألطف وأخفى ؛ لأنّ الشيطان عليهنّ لنقصهنّ أقدر ومكرهنّ في هذا الباب أعظم من كيد جميع البشر ؛ لأنّ لهنّ من المكر والحيل والكيد في إتمام مرادهن ما لا يقدر عليه الرجال في هذا الباب ؛ ولأنّ كيدهنّ في هذا الباب يورث العار ما لا يورثه كيد الرجال.

ولما ظهر للقوم براءة يوسف من ذلك الفعل المنكر حكى تعالى أنه قال : (يُوسُفُ ،) أي : يا يوسف (أَعْرِضْ ،) أي : انصرف بكليتك مجاوزا (عَنْ هذا) الحديث فلا تذكره لأحد حتى لا يشيع وينشر بين الناس ، ثم التفت إلى المرأة وقال لها : (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ ،) أي : توبي إلى الله تعالى مما رميتي يوسف به من الخطيئة وهو بريء منها (إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ ،) أي : الآثمين.

قال أبو بكر الأصم : إنّ ذلك الزوج كان قليل الغيرة فاكتفى منها بالاستغفار ، وقيل : إنّ القائل المذكور هو الشاهد. فإن قيل : كيف قال من الخاطئين بلفظ التذكير؟ أجيب : بأنه قال ذلك تغليبا للذكور على الإناث أو أن المراد أنك من نسل الخاطئين ، فمن ذلك النسل سرى ذلك العرق الخبيث فيك ، ثم شاع الخبر واشتهر.

(وَقالَ نِسْوَةٌ ،) أي : وقال جماعة من النساء وكنّ خمسا : امرأة الساقي ، وامرأة الخباز ،

__________________

(١) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء حديث ٣٤٣٦ ، ومسلم في البر حديث ٢٥٥٠.

١١٧

وامرأة صاحب الدواب ، وامرأة صاحب السجن ، وامرأة الحاجب ، والنسوة اسم مفرد لجمع المرأة وتأنيثه غير حقيقي ، ولذلك لم يلحق فعله تاء التأنيث وقوله : (فِي الْمَدِينَةِ ،) أي : مدينة مصر ظرف ، أي : أشعن الحكاية في مصر أو صفة نسوة ، وقيل : مدينة عين شمس. (امْرَأَتُ الْعَزِيزِ) وإنما أضفنها إلى زوجها إرادة لإشاعة الخبر ، لأنّ النفس إلى سماع أخبار أولي الأخطار أميل ويردن قطفير والعزيز الملك بلسان العرب ورسم امرأة بالتاء المجرورة ووقف عليها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالهاء والباقون بالتاء ، وأما الوصل فهو بالتاء للجميع (تُراوِدُ فَتاها ،) أي : عبدها الكنعاني ، يقال : فتاي وفتاتي ، أي : عبدي وجاريتي (عَنْ نَفْسِهِ ،) أي : تطلب منه الفاحشة وهو يمتنع منها (قَدْ شَغَفَها حُبًّا ،) أي : شق شغاف قلبها وهو حجابه حتى وصل إلى فؤادها ، وحبا نصب على التمييز ، وقيل : جلدة رقيقة يقال لها : لسان القلب قال النابغة (١) :

وقد حال همّ دون ذلك والج

مكان انشغاف تبتغيه الأصابع

وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم بإظهار دال قد عند الشين ، والباقون بالإدغام (إِنَّا لَنَراها ،) أي : نعلم أمرها علما هو كالرؤية (فِي ضَلالٍ ،) أي : خطأ (مُبِينٍ ،) أي : بين ظاهر حيث تركت ما يجب على أمثالها من العفاف والستر بسبب حبها إياه.

(فَلَمَّا سَمِعَتْ) زليخا (بِمَكْرِهِنَّ ،) أي : قولهن وإنما سمي ذلك مكرا لوجوه :

الأوّل : أنّ النسوة إنما ذكرن ذلك الكلام استدعاء لرؤية يوسف عليه‌السلام ، والنظر إلى وجهه ؛ لأنهنّ عرفن أنهنّ إذا قلن ذلك عرضت يوسف عليهنّ ليتمهد عذرها عندهنّ.

الثاني : أنّ زليخا أسرّت إليهنّ حبها ليوسف عليه‌السلام وطلبت منهنّ كتمان هذا السرّ فلما أظهرن السرّ كان ذلك مكرا.

الثالث : أنهنّ وقعنّ في غيبتها والغيبة إنما تذكر على سبيل الخفية فأشبهت المكر (أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَ) تدعوهنّ لتقيم عذرها عندهنّ. قال وهب : اتخذت مأدبة ودعت أربعين امرأة من أشراف مدينتها فيهنّ الخمس (وَأَعْتَدَتْ ،) أي : أعددت (لَهُنَّ مُتَّكَأً ،) أي : طعاما يقطع بالسكين ، وهو الأترج وإنما سمي الطعام متكأ ؛ لأنه يتكأ عنده. قال جميل (٢) :

فظللنا بنعمة واتكأنا

وشربنا الحلال من قلله

والمتكأ ما يتكأ عليه عند الطعام والشراب والحديث ؛ لأنهم كانوا يتكئون للطعام والشراب والحديث كعادة المترفين ، ولذلك جاء النهي عنه في الحديث أن يأكل الرجل متكئا. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا آكل متكئا» (٣) وقيل : إنها زينت البيت بألوان الفواكه والأطعمة ووضعت الوسائد ودعت النسوة

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو في ديوان النابغة الذبياني ص ٣٢ ، ولسان العرب (شغف) ، وجمهرة اللغة ص ٨٦٩ ، ٨٧٣ ، وكتاب العين ٤ / ٣٦٠ ، وتاج العروس (شغف).

(٢) البيت من الخفيف ، وهو لجميل بن معمر في ديوانه ص ١٨٩ ، ولسان العرب (قلل) ، وأساس البلاغة (قلل) ، (وطأ) ، والأغاني ٨ / ٩٤ ، وخزانة الأدب ٢ / ٢٤ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٣٦٦ ، والمعاني الكبير ص ٤٥٧ ، وتاج العروس (قلل).

(٣) أخرجه البخاري في الأطعمة حديث ٥٣٩٨ ، وأبو داود في الأطعمة حديث ٣٧٦٩ ، والترمذي في الأطعمة حديث ١٨٣٠ ، وابن ماجه في الأطعمة حديث ٣٢٦٢.

١١٨

اللاتي عيرنها بحب يوسف عليه‌السلام (وَآتَتْ ،) أي : أعطت (كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً ،) أي : لتأكل بها ، وكانت عادتهنّ أن يأكلن اللحم والفواكه بالسكين (وَقالَتِ) زليخا ليوسف عليه‌السلام (اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ ،) أي : النسوة ، وكان يخاف من مخالفتها فخرج عليهنّ يوسف وكانت قد زينته واختبأته في مكان.

وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي بكسر التاء في الوصل ، والباقون بالضم ، وأمّا الابتداء فجميع القراء يبتدؤون الهمزة بالضم (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ ،) أي : النسوة (أَكْبَرْنَهُ ،) أي : أعظمنه ودهشن عند رؤيته ، واتفق الأكثرون على أنهنّ إنما أكبرنه بمحبتهنّ الجمال الفائق ، والحسن الكامل وكان يوسف قد أعطي شطر الحسن ، وقال عكرمة : كان فضل يوسف في الحسن كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب.

وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «رأيت يوسف ليلة أسري بي إلى السماء كالقمر ليلة البدر» (١) ذكره البغويّ بغير سند ، وقال ابن إسحاق : كان يوسف إذا سار في أزقة مصر يتلألأ وجهه على الجدران كما يرى نور الشمس من الماء عليها ويقال : إنه ورث حسن آدم عليه‌السلام يوم خلقه الله تعالى قبل أن يخرج من الجنة ، وقيل : ورث الجمال من جدّته سارة ، وقيل : أكبرنه يعني حضن ، والهاء للسكت يقال : أكبرت المرأة إذا حاضت ، وحقيقته دخلت في الكبر ؛ لأنها بالحيض تخرج من حدّ الصغر إلى حدّ الكبر ، وكأنّ أبا الطيب أخذ من هذا التفسير قوله (٢) :

خف الله واستر ذا الجمال ببرقع

فإن لحت حاضت في الخدور العواتق

وقيل : أمنين قال الكميت (٣) :

ولما رأته الخيل من رأس شاهق

صهلن وأمنين المنيّ المدفقا

وقال الرازي : إنما أكبرنه ؛ لأنهنّ رأين عليه نور النبوّة وسيما الرسالة ، وآثار الخضوع والإخبات وشاهدن فيه شهادة الهيبة ، وهيبة ملكية وهي عدم الالتفات إلى المطعوم والمنكوح وعدم الاعتداد بهنّ ، وكان الجمال العظيم مقرونا بتلك الهيبة ، فوقع الرعب والمهابة منه في قلوبهنّ. (وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ،) أي : جرحنها بالسكاكين التي معهنّ ، وهنّ يحسبن أنهنّ يقطعنّ الأترج ، ولم يجدن الألم من فرط الدهشة بيوسف ، وقال وهب : مات جماعة منهنّ (وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ،) أي : تنزيها له ، الرسم بغير ألف بعد الشين.

وقرأ أبو عمرو في الوصل دون الوقف بألف بعد الشين والباقون بغير ألف وقفا ووصلا (ما هذا ،) أي : يوسف عليه‌السلام (بَشَراً) وإعمال ما عمل ليس هي اللغة القدمى الحجازية ويدل عليها هذه الآية وقوله تعالى : (ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ) [المجادلة ، ٢](إِنْ ،) أي : ما (هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ،) أي : على الله لما حواه من الحسن الذي لا يكون عادة في النسمة البشرية ، فإنّ الجمع بين الجمال الرائق والكمال الفائق والعصمة البالغة من خواص الملائكة.

(قالَتْ ،) أي : زليخا للنسوة لما رأين يوسف ودهشن عند رؤيته (فَذلِكُنَّ ،) أي : فهذا هو

__________________

(١) أخرجه المتقي الهندي في كنز العمال ٣٢٤٠٩.

(٢) البيت من الطويل ، وهو في ديوان المتنبي ١ / ١٢٢ (طبعة دار الكتب العلمية).

(٣) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

١١٩

(الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ ،) أي : في محبته قبل أن تتصوّرنّه حق تصوره ولو تصورتنه بما عاينتن لعذرتنني ، ثم إنها صرحت بما فعلت فقالت : (وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ،) أي : فامتنع من ذلك الفعل الذي طلبت ، وإنما صرحت بذلك ؛ لأنها علمت أنها لا ملامة عليها منهنّ ، وأنهنّ قد أصابهنّ ما أصابها عند رؤيته ، ثم قالت : (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ ،) أي : وإن لم يطاوعني فيما دعوته إليه (لَيُسْجَنَنَّ ،) أي : ليعاقبن بالحبس (وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ ،) أي : الذليلين المهانين ، فقال النسوة ليوسف : أطع مولاتك فيما دعتك إليه ، فاختار يوسف عليه‌السلام السجن على ما دعت إليه فلذلك (قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) وإن كان هذا مما تشتهيه النفس ، وذلك مما تكرهه نظرا إلى العاقبة ، فإنّ الأوّل فيه الذم في الدنيا والعقاب في الآخرة ، والثاني فيه المدح في الدنيا والثواب الدائم في الآخرة. فإن قيل : إنّ الدعاء كان منها فلم أضافه إليهنّ جميعا؟ أجيب : بأنهنّ خوّفنه من مخالفتها وزين له مطاوعتها ، وقيل : إنهنّ دعونه إلى أنفسهنّ. قال بعض العلماء : لو لم يقل السجن أحب إليّ لم يبتل بالسجن والأولى بالعبد أن يسأل الله تعالى العافية ، ولذلك ردّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على من كان يسأل الله الصبر بقوله له : «سألت الله البلاء فاسأله العافية» (١) رواه الترمذي (وَإِلَّا ،) أي : وإن لم (تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ ،) أي : فيما أردن مني بالتثبيت على العصمة (أَصْبُ ،) أي : أمل (إِلَيْهِنَ) يقال : صبا فلان إلى كذا إذا مال إليه واشتاقه (وَأَكُنْ ،) أي : أصر (مِنَ الْجاهِلِينَ ،) أي : من السفهاء بارتكاب ما يدعونني إليه ، فإن الحكيم لا يفعل القبيح وفي ذلك دليل على أن من ارتكب ذنبا إنما يرتكبه عن جهالة ، والقصد بذلك الدعاء ولذلك قال تعالى : (فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ ،) أي : فأجاب الله تعالى دعاءه الذي تضمنه هذا الثناء ؛ لأنّ الكريم يغنيه التلويح عن التصريح كما قيل (٢) :

إذا أثنى عليك المرء يوما

كفاك من تعرّضه الثناء

(فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ ،) أي : فثبته بالعصمة حتى وطن نفسه على مشقة السجن وآثرها على اللذة المتضمنة للعصيان (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ ،) أي : لدعاء الملتجئين إليه (الْعَلِيمُ ،) أي : للضمائر والنيات فيجيب ما صح فيه القصد وطاب منه العزم.

(ثُمَّ بَدا ،) أي : ظهر (لَهُمْ ،) أي : العزيز وأصحابه (مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ ،) أي : الدالة على براءة يوسف عليه‌السلام كشهادة الصبيّ وقدّ القميص وقطع النساء أيديهنّ واستعصامه عنهنّ (لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى ،) أي : إلى (حِينٍ) ينقطع فيه كلام الناس ، وذلك أنّ المرأة قالت لزوجها : إن هذا العبد العبراني قد فضحني في الناس يقول لهم : إني راودته عن نفسه وأنا لا أقدر على إظهار عذري فإمّا أن تأذن لي فأخرج وأعتذر وإمّا أن تحسبه كما حبستني ، فعند ذلك وقع في قلب العزيز أنّ الأصلح حبسه حتى يسقط عن ألسنة الناس ذكر هذا الحديث وحتى تقل الفضيحة فسجنه.

تنبيه : في فاعل بدا أربعة أوجه : أحسنها أنه ضمير يعود على السجن بفتح السين ، أي : ظهر لهم حبسه. والثاني : أنّ الفاعل ضمير المصدر المفهوم من الفعل وهو بدا ، أي : بدا لهم بداء. والثالث : أنه مضمر يدل عليه السياق ، أي : بدا لهم رأي. والرابع : أنه محذوف وليسجننه قائم

__________________

(١) أخرجه الترمذي في الدعوات حديث ٣٥٢٧.

(٢) البيت من الوافر ، وهو لأمية بن أبي الصلت في الأغاني ٨ / ٣٤١.

١٢٠