تفسير الراغب الأصفهاني - ج ١

الحسين بن محمّد بن المفضّل أبوالقاسم الأصفهاني [ الراغب الأصفهاني ]

تفسير الراغب الأصفهاني - ج ١

المؤلف:

الحسين بن محمّد بن المفضّل أبوالقاسم الأصفهاني [ الراغب الأصفهاني ]


المحقق: د. عادل بن علي الشدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدار الوطن للنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٨٣٩
الجزء ١ الجزء ٢

١ ـ قال الراغب في أول كلامه على سورة آل عمران : «الأصل في حروف التّهجي السكون ، وكان حكم الميم حكم غيره ، لكن حرّك لالتقاء الساكنين ، وفتح استثقالا للكسرة فيه من أجل الياء قبله. ومن قال : إنما فتح لأنه ألقي عليه حركة الهمزة فخطأ ، لأن هذه الهمزة تسقط في الدرج إلا في قولهم : يا الله. والهمزة التي تلقي حركتها على ما قبلها هي الثابتة في الوصل والوقف. نحو : من ابوك؟ إذا قلت : من أبوك؟ فيروى عن عاصم وغيره سكون الميم وقطع الألف ، وليس ذلك بصحيح عند النحويين ، لكون الألف فيه للوصل» (١).

فالراغب في هذا المثال ضعف قول الفرّاء القائل بأن الميم في قوله : (الم) إنما فتحت لأنه ألقي عليها حركة الهمزة من لفظ الجلالة (الله) ، ولم يكتف الراغب بتخطئة القول ، بل ذكر سبب ردّه له ورفضه إياه.

ثم ذكر الراغب قراءة عاصم وغيره من القراء لقوله : (الم* اللهُ) بسكون الميم وقطع الألف ، ونظرا لأن الأمر يتناول قراءة متواترة ، كان الراغب حريصا عند ما قال : «وليس ذلك بصحيح عند النحويين» فلم يطلق القول بعدم الصحة ، لأنه من المعلوم أن القراءة إذا ثبتت بالتواتر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو عن قراء الصحابة ، فلا عبرة بتضعيف النحويين لها.

٢ ـ وناقش الراغب قولا آخر للفرّاء ، وذلك عند قوله تعالى :

__________________

(١) الرسالة ص (٤٠١ ، ٤٠٢).

٢٤١

(يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ)(١) فقال : إن قيل : ما وجه ذلك وقد كانوا ثلاثة أمثالهم ، فقد روي أن المشركين كانوا تسعمائة وخمسين إلى ألف ، والمسلمين كانوا ثلاثمائة وبضعة عشرة؟ قيل : في ذلك أقوال : أحدها : ما قاله الفرّاء : وهو أن يقول الرجل لغيره : أحتاج إلى مثلك ، أي أحتاج إليك وإلى آخر ، وعلى هذا أحتاج إلى مثليك ، يكون محتاجا إلى ثلاثة ، فكأنه قيل : يرونهم ثلاثة أمثالهم ، وهذا لا يساعده اللفظ ، لأنه لو كان كما يقول لقال : يرونهم ومثليهم» (٢).

٣ ـ والراغب قد يعرض للقضية بما فيها من مناقشات العلماء لآراء بعضهم البعض ، دون أن يرجّح رأيا على آخر ، كما فعل في قوله تعالى : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ)(٣) قال : «اللهم تقديره عند سيبويه يا الله ، والميمان بدل من ياء ، ولا يستعمل ذلك إلا في هذه اللفظة فقط.

وعند الفرّاء تقديره : يا الله أمنا بخير ، فجعلا بمنزلة لفظ واحد ، وحذف الهمزة منه كقولهم : هلم. وأصله هل أم. وقال البصريون : لو كان كما ذكر الفرّاء لاستغنى به عن جواب الشرط ، إذا قيل : يا الله أمنا بخير لكون ذلك مكررا» (٤).

ويظهر من هذا المثال استيعاب الراغب لأقوال العلماء في

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ١٣.

(٢) الرسالة ص (٤٤٤ ، ٤٤٥).

(٣) سورة آل عمران ، الآية : ٢٦.

(٤) الرسالة ص (٤٨٨ ـ ٤٩٠).

٢٤٢

المسألة ، وأدلة كل فريق منهم ، وهذا الاستيعاب والمعرفة من الأمور اللازمة لكل ناقد في أي فرع من فروع المعرفة ، وإلا فكيف يحكم على الأقوال ، ويناقشها ، ويفاضل بينها من يجهلها ، أو يجهل بعضها ، أو يجهل أدلتها وقواعدها.

٤ ـ ومن ذلك أيضا ما ذكره الراغب من تضعيف الزّجّاج لقول أبي عبيدة ، وذلك عند قوله تعالى : (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ)(١). قال الراغب : «وقال أبو عبيدة : عنى ببعض الذي حرّم الكلّ ، واحتجّ بقوله :

أو يرتبط بعض النفوس حمامها.

وقال الزجاج : هذا فاسد ، لأن البعض لا يكون بمعنى الكل ، وعنى لبيد ببعض النفوس نفسه خاصة فعرّض ، لأن عيسى حلّل بعض المحرمات ، وهو الذي كانوا حرّموا على أنفسهم» (٢).

٥ ـ والراغب كثيرا ما يعلّل أقوال اللغويين ، ويستدلّ لها ، ومن ذلك :

قال الراغب : «وقول أبي عبيدة : الحواريون صفوة الأنبياء. فنظر منه إلى حواري عيسى عليه‌السلام ، وإلى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم» (٣).

وقال الراغب : «وقوله : (حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ)(٤) في موضع الحال عند الفرّاء. قال : وتقديره : قد حصرت صدورهم. وتقوّى

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ٥٠.

(٢) الرسالة ص (٥٧٨ ، ٥٧٩).

(٣) الرسالة ص (٥٨٤ ، ٥٨٥).

(٤) سورة النساء ، الآية : ٩٠.

٢٤٣

ذلك بقراءة الحسن (أو جاؤوكم حصرة صدورهم)» (١).

٦ ـ والراغب لا يقوم بتضعيف القول ـ في الغالب ، إلا ويذكر علّة تضعيفه ـ مثال ذلك عند قوله تعالى : (أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ)(٢) نقل الراغب عن المبرد قوله : «لا يكون (أن) في كلامهم مقتضيا (للا) وإنما تقدير ذلك : كراهة أن يؤتى أحد ، وجعل المعنى كما تقدم.

وعقّب الراغب على كلام المبرد بقوله : «وهذا التقدير بعيد ، لأجل أن أحدا هنا يختصّ بالنفي وما في معناه وعلى تقديره ، ويكون مستعملا في الإيجاب. على أن بعض النحويين ذكروا أن أحدا هاهنا هو المستعمل في الإثبات في نحو (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ)(٣).

٧ ـ ومما يدل على أن الراغب لا يلجأ إلى تضعيف القول إذا كان هناك ما يشهد له ، ما ذكره عن الفرّاء في قوله تعالى : (لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ)(٤) ، فقد ذكر الراغب أن قوله : (لَيْسُوا سَواءً) كلام تام ، أي لا يستوون. ثم قال : (أُمَّةٌ قائِمَةٌ) أي منهم أمة قائمة. ورأي الراغب هذا هو اختيار ابن جرير والزجاج والنحاس. ثم قال الراغب : «وقال الفرّاء : ذكر أمة قائمة وحذف الأخرى ، كقول الشاعر : فما أدري أرشد طلابها

__________________

(١) الرسالة ص (١٣٨٢).

(٢) سورة آل عمران ، الآية : ٧٣.

(٣) سورة الإخلاص ، الآية : ١. وانظر الرسالة ص (٦٤٤ ، ٦٤٥).

(٤) سورة آل عمران ، الآية : ١١٣.

٢٤٤

وتقديره أم غي» ومع أن الراغب لا يرى هذا القول ، إلا أنه وجّهه قائلا : «وما قاله إنما يصح إذا جعل (أمة) بدلا من الضمير في (ليسوا) ، أو جعل الواو فيه كالواو في (أكلوني البراغيث) ويجعل (أمة) اسم ليس ، وتكون المفاضلة بين أمة قائمة وأمة غير قائمة» (١).

٨ ـ وقد يعرّض الراغب للقول ولا يضعفه ، ولكنه يختار غيره ، كما فعل مع قول الزجاج في قوله تعالى : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٢) قال الراغب : «وقد قال الزجاج : لا تحسبن. مكرّر لطول القصة. قال : والعرب تعيد إذا طالت القصة حسبت وما أشبهها ، إعلاما أن الذي جرى متصل بالأول ، تقول : لا تظن زيدا إذا جاءك وكلمك بكذا فلا تظنه صادقا. وقيل : الفاء زائدة».

ثم قال الراغب : «والوجه في ذلك عندي أن قوله : لا تحسبن. على الخبر ، وتقدير الكلام فيه ، وذلك إشارة إلى يوم القيامة بعد أن يدخل الكفار النار ، ويقال لهم : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ)(٣). والمعنى : والله إنك لا تحسبهم حينئذ أنهم بمفازة من العذاب. أي لهم سبيل إلى الخلاص ، فلا تحسبنهم الآن ، وهذا نهي والأول خبر» (٤).

٩ ـ وقد يضعّف الراغب القول ـ أحيانا ـ دون ذكر سبب وعلة

__________________

(١) الرسالة ص (٨٠٤ ، ٨٠٦).

(٢) سورة آل عمران ، الآية : ١٨٨.

(٣) سورة المؤمنون ، الآية : ١٠٨.

(٤) الرسالة ص (١٠٣٤).

٢٤٥

التضعيف ، فقد قال عند قوله تعالى : (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً)(١) الآية .. : «وقال قطرب : الكلالة لمن عدا الأبوين والأخ وليس بشيء ..» (٢).

١٠ ـ وقد يضعّف القول بسبب عدم وروده عن اللغويين ، كما في قول الجرجاني عند قوله تعالى : (أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ)(٣) قال : «وقال الجرجاني في كتاب النظم : تقديره (جاءوكم حصرت صدورهم) فحذف (إن). والفعل الماضي يقع في الشرط موقع المستقبل. وفيما ادعاه من إضمار (إن) ، عهدة ، فما أرى أهل اللغة يطابقونه عليه» (٤).

سابعا : عنايته بالنحو والإعراب :

ذكر الراغب علم النحو ضمن العلوم التي شرط على المفسر معرفتها ، فهو من العلوم اللازمة في فهم القرآن ومعرفة تفسيره وأحكامه ومعانيه ، وقد أشار الإمام مكي بن أبي طالب إلى أهمية الإعراب في تفسير كلام الله تعالى بقوله : «فإني رأيت أفضل علم صرفت إليه الهمم ، وتعبت فيه الخواطر ، وسارع إليه ذوو العقول علم كتاب الله تعالى ، إذ هو الصراط المستقيم والدين المبين والحبل المتين» (٥).

__________________

(١) سورة النساء ، الآية : ١٢.

(٢) الرسالة ص (١١٣٢ ، ١١٣٣).

(٣) سورة النساء ، الآية : ٩٠.

(٤) الرسالة ص (١٣٨٣).

(٥) انظر : مشكل إعراب القرآن ص (٦٣).

٢٤٦

ثم قال : «ورأيت من أعظم ما يجب على الطالب لعلوم القرآن ، الراغب في تجويد ألفاظه ، وفهم معانيه ، ومعرفة قراءاته ولغاته ، وأفضل ما القارئ إليه يحتاج معرفة إعرابه ، والوقوف على تصرّف حركاته وسواكنه ؛ ليكون بذلك سالما من اللحن فيه ، مستعينا على إحكام اللفظ به ، مطلعا على المعاني التي تختلف باختلاف الحركات ، متفهما لما أراد الله به من عباده ، إذ بمعرفة حقائق الإعراب تعرف أكثر المعاني ، ويتجلي الإشكال ، فتظهر الفوائد ، ويفهم الخطاب ، وتصح معرفة حقيقة المراد» (١).

وقد ظهر جليّا في تفسير الراغب أثر الإعراب في اختلاف المعنى والتفسير ، وسوف نسوق لذلك بعض الأمثلة ، التي توضح هذا الأثر ، والتي تبين مدى اهتمام الراغب وعنايته بعلم النحو :

١ ـ قال الراغب : «إن قيل : ما معنى (وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ)(٢)؟ وذلك يقتضي جواز نبي ليس بصالح ، قيل : قوله (مِنَ الصَّالِحِينَ) متعلق بمضمر ، أي وهو من الصالحين ، وذلك مما أكّد به قوله : (ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ)(٣) ، ومعناه : من أولاد الصالحين» (٤).

تبيّن من هذا المثال أثر الإعراب في معنى الآية ، وأنه لو لا القول بتعلق الآية بمضمر لاقتضى جواز وجود نبي ليس بصالح ، وهذا يبين أن النحو عند الراغب خادم للمعنى القرآني ، لذلك فإننا لا نجد

__________________

(١) مشكل إعراب القرآن ص (٦٣).

(٢) سورة آل عمران ، الآية : ٣٩.

(٣) سورة آل عمران ، الآية : ٣٤.

(٤) الرسالة ص (٥٤٢ ، ٥٤٣).

٢٤٧

الراغب ينساق وراء الصناعة النحوية ، فيصطدم مع المعاني القرآنية المقررة ، وإنما يعالج قضايا النحو من الناحية التي تخدم تفسير القرآن ، وتبرز معانيه.

٢ ـ وعند قوله تعالى : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ)(١) أشار الراغب إلى أن المعنى في هذا المثال لم يختلف باختلاف الإعراب ، فقال : «وهؤلاء» هاهنا جار مجرى (الذين) و (حججتم) صلته. وقيل : بل هو تابع لأنتم ، جار مجرى عطف البيان. و (حججتم) هو الخبر. والمعنى لا يتغير باختلاف التقديرين (٢).

٣ ـ ومن ذلك ما ذكره الراغب عند قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ)(٣) قال الراغب بعد أن ذكر بعض الأقوال في معنى الآية : «وقيل إن توبتهم غير مقبولة في حال ما هم ضالون ، فالتوبة والضلال متنافيان لا يجتمعان. فالواو في قوله : (وَأُولئِكَ) على هذا واو الحال» (٤).

٤ ـ ومن ذلك أيضا قال الراغب : «وقوله : (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ)(٥) لم يجزمه ، لأنه إذا جعل جوابا اقتضى أن النصرة عنهم ممنوعة في حال المقابلة فقط. وإذا رفع اقتضى أنهم ممنوعون عنها في كل حال» (٦).

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ٦٦.

(٢) الرسالة ص (٦٢١).

(٣) سورة آل عمران ، الآية : ٩٠.

(٤) الرسالة ص (٧٠٨).

(٥) سورة آل عمران ، الآية : ١١١.

(٦) الرسالة ص (٧٩٧ ، ٧٩٨).

٢٤٨

٥ ـ ومن آثار اختلاف المعنى لاختلاف الإعراب : ما ذكره الراغب عند تفسير الآية الأولى من سورة النساء بقوله : «إن قيل : ما وجه عطف الأرحام على الله ، والتقوى في الحقيقة من الله ومن عذابه ، لا من الرحم ، وقد كان الوجه أن يقال : اتقوا الله في الأرحام أو للأرحام؟ قيل : أجيب عن ذلك بأوجه».

ثم ذكر الراغب ثلاثة أوجه مختلفة في الآية ، كان سبب اختلافها هو اختلاف العلماء في تقدير المحذوف ، فمنهم من قال : المعنى : اتقوا عقوبة الله ، واتقوا عقوبة قطع الأرحام.

ومنهم من قال : المعنى : اتقوا الله في الرحم. فحذف الجار ، وأقيم حرف العطف مقامه.

ومنهم من قال : المعنى : اتقوا الله ، وقوا الأرحام (١).

٦ ـ والراغب يذكر بعض القواعد النحوية أثناء تناوله للآيات بالإعراب ، ومن ذلك :

أ ـ قوله : «وإنما يجوز البدل فيما إذا كان بدل بقدر المبدل منه ، فأما إذا نقص فليس إلا الاستئناف نحو : مررت بثلاثة : صريع وجريح» (٢).

ب ـ قوله : إن قيل : لم رفع (يكون) (٣) ولم ينصب على جواب الأمر؟ قيل : جواب الأمر يجب أن يكون غيره ، نحو : ائتني فأكرمك.

__________________

(١) الرسالة ص (١٠٧٥ ، ١٠٧٦).

(٢) الرسالة ص (٤٤٤).

(٣) في قوله تعالى : (ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) سورة آل عمران ، الآية : ٥٩.

٢٤٩

وتقديره : ائتني فإنك إن تأتني أكرمك. ولو جعل (فيكون) جوابا لكان تقديره : كن فإنك إن تكن تكن ، وهذا لا يصح ، لأن معنى الجواب معنى الشرط ، وإذا رفع فتقديره : فهو يكون» (١).

ج ـ قوله : «والتمييز على ثلاثة أضرب : الأول أن يدل ما قبله على عدد فلا يجمع ، نحو : عشرون درهما.

والثاني : أن يشتبه ، فلا بد من جمع إذا أريد الجمع ، نحو قولهم : أفره القوم عبيدا.

والثالث : أن يستوي الواحد والجمع ، لكونه معلوما منهما المعنى على حد نحو قولهم : فلان أحسن القوم عينا ، لأنه يعلم أن القوم لم يشتركوا في عين واحدة» (٢).

د ـ قوله : «والفرق بين العطف والنصب على الصرف هو أنه إذا كان عطفا يراد حصول الفعلين مجتمعين كانا أو مفترقين ، وإذا نصب فالمراد حصول الفعلين معا ونفيهما معا» (٣).

٦ ـ وكما هي عادة الراغب في النقد والتمحيص ، فإنه ربما رجّح أحد الأوجه الإعرابية على غيره ، وربما ضعّف أحد الأوجه ، وكذلك فإنه ربما ردّ على بعض النحويين أثناء تناوله الآية بالإعراب.

__________________

(١) الرسالة ص (٦٠٢ ، ٦٠٣).

(٢) الرسالة ص (١٠٩٨).

(٣) الرسالة ص (٨٨٧).

٢٥٠

أ ـ فمثال ترجيحه أحد الأوجه الإعرابية قوله : «وقوله : (ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ)(١) مفعول (تَجِدُ وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ) معطوف عليه ، كأنه قيل : وما عملت من سوء محضرا و (تَوَدُّ) في موضع الحال.

وقيل : (وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ) استئناف ، إما جزاء ، وتودّ جوابه ، وعلى هذا لو قرئ (تود) بالفتح أو بالكسر لجاز. وإما أن يكون متضمنا لمعنى الشرط ، وإن لم يكن في تقدير الجزم نحو : الذي يأتيني له درهم ، والأولى أن يكون معطوفا كما تقدم» (٢).

ب ـ ومثال تضعيفه أحد الأوجه الإعرابية ما ذكره عند قوله تعالى : (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ)(٣) بقوله : «إن قيل : كيف يصحّ أن يكون (تُؤْمِنُوا) مفعوله (أَنْ يُؤْتى) وقد عدّي إلى قوله : (لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) و (آمن) لا يصح أن يعدّى إلى مفعولين بغير حرف العطف؟ قيل : إن اللام تتعلّق به لا على حدّ المفعول به ، وتقدير الكلام : لا تقروا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع. وقوله من قال : اللام زائدة نحو (رَدِفَ لَكُمْ)(٤) فبعيد ، لأن (آمن) هذا لا يتعدى إلا بالجار» (٥).

ومثال ذلك أيضا تضعيفه أحد الأوجه الإعرابية في قوله تعالى :

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ٣٠.

(٢) الرسالة ص (٥١٦). ونظر : ترجيحه لأحد الأوجه الإعرابية ص (١٠٣٤ ، ١٠٣٥).

(٣) سورة آل عمران ، الآية : ٧٣.

(٤) سورة النمل ، الآية : ٧٢.

(٥) الرسالة ص (٦٣٩ ، ٦٤٠).

٢٥١

(إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ)(١) فبعد أن ذكر وجهين إعرابيين سكت عنهما ، ذكر وجها ثالثا بقوله : «وقال بعضهم : تقديره : لا تنكحوا ما نكح آباؤكم إنه كان فاحشة ، وهذا لا يصحّ من أجل اللفظ ، فإن ما يتصل بما بعد أن لا يقدّم عليه ، ولا تقول : عمرا إن زيدا يضرب ، وتعني أن زيدا يضرب عمرا» (٢).

ج ـ ومثال ردّه على بعض النحويين قوله : «وإدخال الواو في قوله : (وَلَوِ افْتَدى بِهِ)(٣) لعموم المعنى ، ومعناه : لا يقبل منهم ذلك ، وإن أخرجه للقربة في الدنيا ، إذ كان لا يتقبل الله إلا من المتقين ، ويجوز أن يعنى ذلك في الآخرة ، ومعناه : لو ملك ذلك فأخرجه لم يكن ينفعه ، وليست الواو بزائدة ، كما ظن بعضهم ، لأنه حينئذ يسقط معنى عموم الحالين» (٤).

وعند قوله تعالى : (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً)(٥) قال الراغب : «وقال بعض النحويين : (لا يَضُرُّكُمْ) مرفوع رفعا صحيحا وتقديره : فلا يضركم ، وحذف الفاء كقول الشاعر : من يفعل الحسنات الله يشكرها».

ثم قال الراغب : «وهذا إنما يجوز في ضرورة الشعر» (٦).

__________________

(١) سورة النساء ، الآية : ٢٢.

(٢) الرسالة ص (١١٦٠ ، ١١٦١).

(٣) سورة آل عمران ، الآية : ٩١.

(٤) الرسالة ص (٧٠٨ ، ٧٠٩).

(٥) سورة آل عمران ، الآية : ١٢٠.

(٦) الرسالة ص (٨٣١ ، ٨٣٢).

٢٥٢

ثامنا : عنايته بالبلاغة :

اهتم الراغب بالبلاغة القرآنية ، كما اهتم بغيرها من علوم القرآن ، غير أن الراغب لم يكثر من الحديث عن أوجه البلاغة القرآنية ، بحيث تطغى على مهمته كمفسر ، فإن مهمة المفسر الأولى هي بيان المعاني القرآنية والأحكام الربانية ، وعلوم اللغة الأخرى لا بد أن تكون خادمة لهذا المقصد ، غير منفصلة عنه أو طاغية عليه ، فليس القرآن كتاب بلاغة أو إعراب ، وإنما هو كتاب هداية وإرشاد وإصلاح.

وقد ذكرت في مبحث التعليل اللغوي أنواعا من التعليلات البلاغية ، مثل : تعليل التكرار ، تعليل التقديم والتأخير ، تعليل التخصيص ، تعليل الحذف ، تعليل اختيار الألفاظ.

وسوف أذكر هنا بعض الأمثلة الأخرى ، التي تبيّن عناية الراغب ببلاغة النصّ القرآني ، وتشير إلى تطرّقه إلى بعض المصطلحات البلاغية ، وقضايا البلاغة التي تشير إلى إعجاز القرآن وحسن نظمه.

١ ـ ذكر الراغب الاعتراض كصورة من الصور البلاغية ، فقال : «فقوله : (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ)(١) اعتراض بين بعض الجملة وبعضها تسديدا لها ، وجوابا لهم.

وكذلك قوله : (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ)(٢) جواب لهم ، والاعتراض

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ٧٣.

(٢) سورة آل عمران ، الآية : ٧٣.

٢٥٣

بين المتصلين من الجملة بما فيه تحقيق لمقتضاها من بلاغات كلامهم ، وعلى ذلك قوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً* أُولئِكَ)(١) فقوله : (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) فصل بين اسم إن وخبره ، لتحقيق مقتضى الكلام» (٢).

٢ ـ وذكر الراغب أن قوله تعالى : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)(٣) بين قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ) الآيتين (٤). وقوله : (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ)(٥) من الاعتراض المسمى في كتب البلاغة : الالتفات» (٦).

٣ ـ وذكر الراغب الالتفات مرة أخرى عند تفسيره لقوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ)(٧) فقال : «وفصل بين بعض هذا الحكم وبعضه بفصلين : أحدهما قوله : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ). والثاني : حكم الأمة ، كيف ينبغي أن تكون صفتها حتى يجوز التزوّج بها. ومثل هذا الاعتراض يسمى في البلاغة الالتفات» (٨).

٤ ـ وأشار الراغب في بعض المواضع إلى خروج الاستفهام عن

__________________

(١) سورة الكهف ، الآيتان : ٣٠ ، ٣١.

(٢) الرسالة ص (٦٤١ ، ٦٤٢).

(٣) سورة آل عمران ، الآية : ٩٢.

(٤) سورة آل عمران ، الآيتان : ٩٠ ، ٩١.

(٥) سورة آل عمران ، الآية : ٩٣.

(٦) الرسالة ص (٧٢٢).

(٧) سورة النساء ، الآية : ٢٥.

(٨) الرسالة ص (١١٨٥).

٢٥٤

معناه إلى معان أخرى ، فقد قال عند قوله تعالى : (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ)(١) «ولفظ (كيف) وإن كان استفهاما ، فالقصد به النفي هاهنا ، وعلى هذا قول الشاعر :

ألا هل أخو عيش لذيذ بدائم

 ...

فأدخل الباء في خبر هل ، لما أراد معنى ليس» (٢).

٥ ـ وقال أيضا : وقوله (لِمَ)(٣) وإن كان أصله استفهاما ، فالمقصد به هاهنا الإنكار ، والتنبيه أن لا جواب لهم» (٤).

٦ ـ عند قوله تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ) الآية (٥) ، قال : معنى (أَمْ حَسِبْتُمْ :) لا تحسبوا. واستعارة الاستفهام للنهي ، مبالغة في المعنى» (٦).

٧ ـ والراغب يذكر فوائد بعض الحروف البلاغية ، كما في قوله : «ودخول الفاء في قوله : (فَإِنَّ اللهَ)(٧) لتضمّن الكلام معنى الجزاء ، كأنه قيل : إن تابوا وأصلحوا يغفر لهم» (٨).

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ٨٦.

(٢) الرسالة ص (٦٩٧ ، ٦٩٨).

(٣) في قوله تعالى : قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ سورة آل عمران ، الآية : ٩٨.

(٤) الرسالة ص (٧٤٧).

(٥) سورة آل عمران ، الآية : ١٤٢.

(٦) الرسالة ص (٨٨٤).

(٧) سورة آل عمران ، الآية : ٨٩.

(٨) الرسالة ص (٧٠٥).

٢٥٥

٨ ـ وقال أيضا : «وإدخال الواو في قوله : (وَلَوِ افْتَدى بِهِ)(١) لعموم المعنى ، ومعناه : لا يقبل منهم ذلك ، وإن أخرجه للقربة في الدنيا ، إذ كان لا يتقبل الله إلا من المتقين» (٢).

٩ ـ وذكر الراغب التقابل عند قوله تعالى : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ* وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(٣). قال الراغب : «إن قيل : المقابلة في الاثنين غير صحيحة ، فإن التقابل الصحيح أن يكون المذكور في الثانية عكس المذكور في الأولى ، وليس قوله : (فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) عكسا لقوله : (أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) قيل : مراعاة التقابل على ضربين : تقابل اللفظ ، وتقابل المعنى ، وهو أفضلهما عند أصحاب المعاني ، فالتقابل حاصل من حيث المعنى» (٤).

١٠ ـ وذكر الراغب التقابل أيضا عند قوله تعالى : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ)(٥) فقال : «السراء والضراء إشارة إلى حالي السعة والضيق ، كاليسر والعسر ، وإلى حالي السرور والاغتمام ، وقد فسرّ بهما ، واللفظ يتناولهما ، فإن السراء يقابلها الغم ، والضراء يقابلها النفع ، فأخذ اللفظان المختلفا التقابل ، ليدل كلّ واحد على

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ٩١.

(٢) الرسالة ص (٧٠٨ ، ٧٠٩).

(٣) سورة آل عمران ، الآيتان : ١٠٦ ، ١٠٧.

(٤) الرسالة ص (٧٨٦).

(٥) سورة آل عمران ، الآية : ١٣٤.

٢٥٦

مقابله ، وهذا من دقائق إيجازات البلاغة» (١).

١١ ـ وعند قوله تعالى : (أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ)(٢) ، فرّق الراغب بين الاستخبار والاستفهام (٣) ، فقال : «إن قيل : كان الوجه أن يقال : ألستم قد كفرتم؟ فلفظ الاستفهام في القرآن محمول على الإنكار ، والإنكار متى تجرّد عن حرف النفي ، يكون للنفي نحو قوله : (قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي)(٤) وإذا كان للإثبات قرن به حرف النفي؟ قيل : الألف في الأصل للاستخبار. والاستخبار أعم من الاستفهام ، وكلّ استفهام استخبار ، وليس كل استخبار استفهاما ، والمستخبر قد يقصد إلى أخذ إقرار المستخبر ، أو إلى إلجائه إلى الإقرار بما ينكره. وقوله : (أَكَفَرْتُمْ) استخبار على هذا الوجه ، وتقريع لهم ، وعلى ذلك قوله : (أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ)(٥).

١٢ ـ عند قوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)(٦) ذكر الراغب وجها بلاغيّا لقوله : (كُنْتُمْ) بدلا من (أنتم) ، فأشار إلى «أن ما تشارك فيه الأصول الثلاث : الماضي والحال والمستقبل ، لا فرق بين أن تقول : كنت كذا أو أنت كذا ، لأن القصد ليس إلى تخصيص الزمان ، بل إلى ذكر ثبوت ذلك الشيء ، وأيّا من ذلك ذكرت ، فإنه لا يقتضي من حيث اللفظ نفي الآخر ، وإذا كان كذلك كان أولى

__________________

(١) الرسالة ص (٨٥٩).

(٢) سورة آل عمران ، الآية : ١٠٦.

(٣) انظر : الرسالة ص (٧٨٧ ، ٧٨٨).

(٤) سورة المائدة ، الآية : ١١٦.

(٥) سورة الشعراء ، الآية : ١٦٥.

(٦) سورة آل عمران ، الآية : ١١٠.

٢٥٧

الألفاظ بمثله (كان) لأنه يقتضي الحصول ، ولا يقتضي تغيير الشيء من حيث اللفظ ، ولهذا أورد تعالى جلّ أوصافه على ذلك ، نحو : (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً)(١).

١٣ ـ وتعرّض الراغب لصحة الاستثناء في قوله : (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ)(٢) عند ما تساءل : إن قيل : كيف قال : (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ) ولا يصح في الإثبات أن يقال : اعتصمت إلا بحبل فلان ، والاستثناء في الإثبات لا يكون إلا من لفظ عام؟

قيل : إن قوله : (أَيْنَ ما ثُقِفُوا)(٣) مقتض لمعنى العموم ، كأنه قيل : بكل حال. فصحّ أن يقال : إلا بحبل (٤).

١٤ ـ وعند قوله تعالى : (وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ)(٥) ذكر الراغب بلاغة لفظ الإفراد بقوله : «ولفظ الإفراد أولى في هذا الموضع ، لأنه يتضمن أنهم يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ، ويتضمّن أنهم يؤمنون بتفاصيل كل كتاب بخلاف من قال فيهم : (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ)(٦).

١٥ ـ وذكر الراغب الاستعارة عند قوله تعالى : (فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍ)(٧) فذكر قولا بأن ذلك على الاستعارة ، وضرب من

__________________

(١) سورة النساء ، الآية : ٩٦. وانظر : الرسالة ص (٧٩٠ ـ ٧٩٢).

(٢) سورة آل عمران ، الآية : ١١٢.

(٣) سورة آل عمران ، الآية : ١١٢.

(٤) الرسالة ص (٨٠٢ ، ٨٠٣).

(٥) سورة آل عمران ، الآية : ١١٩.

(٦) سورة النساء ، الآية : ١٥٠. وانظر : الرسالة ص (٨٢٧).

(٧) سورة آل عمران ، الآية : ١٥٣.

٢٥٨

التهكّم في كلامهم ، كقوله :

تحية بينهم ضرب وجيع» (١).

١٦ ـ وذكر الاستعارة أيضا عند قوله تعالى : (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً)(٢) فقال : «ومنهم من جعله استعارة لطمأنينة جأشهم وزوال خوفهم ..» (٣).

١٧ ـ وذكر الاستعارة كذلك عند قوله تعالى : (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)(٤) فقال : «الخبيث مستعار للعمل السيء ، والطيب للعمل الصالح ، تشبيها للذكر المسموع بالنشر المشموم» (٥).

١٨ ـ وقال الراغب : «وقوله تعالى : (لِيَذُوقُوا الْعَذابَ)(٦) استعارة متناهية في وصول الألم إلى الباطن ، وعلى ذلك استعير لهم الطعام في قوله : (وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً)(٧) وذكر مع الذوق المس في قوله : (ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ)(٨) تنبيها أن ذلك استعارة» (٩).

__________________

(١) الرسالة ص (٩٢٣).

(٢) سورة آل عمران ، الآية : ١٥٤.

(٣) الرسالة ص (٩٣٠).

(٤) سورة آل عمران ، الآية : ١٧٩.

(٥) الرسالة ص (١٠٠٧ ، ١٠٠٨).

(٦) سورة النساء ، الآية : ٥٦.

(٧) سورة المزمل ، الآية : ١٣.

(٨) سورة القمر ، الآية : ٤٨.

(٩) الرسالة ص (١٢٨٠).

٢٥٩

المحور الخامس : مجالات النظر في تفسير الراغب

تعددت مجالات النظر في تفسير الراغب الأصفهاني ، وأعني بذلك استخدام العقل في فهم كثير من معاني الآيات القرآنية وأسرارها ، ولم يكن ذلك إلا بعد النظر والتأمّل والتدبّر في تلك الآيات ، ويمكن الحديث عن مجالات النظر في تفسير الراغب من خلال النقاط التالية :

أولا : مكانة العقل عند الراغب.

ثانيا : استخدامه للقياس والقضايا المنطقية :

ثالثا : نظره في حكمة الترتيب.

رابعا : حرصه على دفع توهّم التعارض بين أدلة الوحي.

خامسا : قدرته على السبر والتقسيم.

أولا : مكانة العقل في تفسير الراغب :

جعل الراغب معرفة الأدلة العقلية شرطا من شروط المفسر ، وجعل أيضا العقل صنو الشرع في هداية الإنسان ، حيث ذكر في قوله تعالى : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً)(١) أن للإنسان هاديين : الشرع والعقل كالأصل للشرع ، فبيّن تعالى أن الذي أتاكم به من الشرع لو كان من عند غير الله لكان مقتضى العقل يخالفه ، فلما لم يوجد بينه وبين العقل منافاة علم أنه من عند الله» (٢).

__________________

(١) سورة النساء ، الآية : ٨٢.

(٢) الرسالة ص (١٣٤٩).

٢٦٠