والفلاسفة؟ فأمّا السّلف ، فإنهم أمسكوا عن ذلك ، لقوله تعالى : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) ، فلمّا رأوا أنّ القوم سألوا عن الرّوح فلم يجابوا ، والوحي ينزل ، والرّسول حيّ ، علموا أنّ السّكوت عمّا لم يحط بحقيقة علمه أولى. والثاني : أنّ المراد بهذا الرّوح ؛ ملك من الملائكة على خلقة هائلة ، روي عن عليّ عليهالسلام ، وابن عباس ، ومقاتل. والثالث : أنّ الرّوح : خلق من خلق الله عزوجل صوّرهم على صور بني آدم ، رواه مجاهد عن ابن عباس. والرابع : أنه جبريل عليهالسلام ، قاله الحسن ، وقتادة. والخامس : أنه القرآن ، روي عن الحسن أيضا. والسادس : أنه عيسى ابن مريم ، حكاه الماوردي. قال أبو سليمان الدّمشقي : قد ذكر الله تعالى الرّوح في مواضع من القرآن ، فغالب ظنّي أنّ النّاقلين نقلوا تفسيره من موضعه إلى موضع لا يليق به ، وظنّوه مثله ، وإنما هو الرّوح الذي يحيى به ابن آدم. وقوله تعالى : (مِنْ أَمْرِ رَبِّي) أي : من علمه الذي منع أن يعرفه أحد.
قوله تعالى : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) في المخاطبين بهذا قولان (١) : أحدهما : أنهم اليهود ، قاله الأكثرون. والثاني : أنهم جميع الخلق ، علمهم قليل بالإضافة إلى علم الله عزوجل ، ذكره الماوردي. فإن قيل : كيف الجمع بين هذه الآية ، وبين قوله تعالى : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) (٢)؟ فالجواب : أنّ ما أوتيه الناس من العلم ، وإن كان كثيرا ، فهو بالإضافة إلى علم الله قليل.
(وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (٨٦) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (٨٧))
قوله تعالى : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) قال الزّجّاج : المعنى : لو شئنا لمحوناه من القلوب والكتب ، حتى لا يوجد له أثر ، (ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً) أي : لا تجد من يتوكّل علينا في ردّ شيء منه ، (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) هذا استثناء ليس من الأوّل ، والمعنى : لكنّ الله رحمك فأثبت ذلك في قلبك وقلوب المؤمنين.
وقال ابن الأنباري : المعنى : لكنّ رحمة من ربّك تمنع من أن تسلب القرآن ، وكان المشركون قد خاطبوا نساءهم من المسلمين في الرّجوع إلى دين آبائهم ، فهدّدهم الله عزوجل بسلب النّعمة ، فكان ظاهر الخطاب للرّسول ، ومعنى التّهدّد للأمّة. وقال أبو سليمان : «ثم لا تجد لك به» أي : بما نفعله بك ، من إذهاب ما عندك «وكيلا» يدفعنا عمّا نريده بك. وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال : يسرّى على القرآن في ليلة واحدة ، فيجيء جبريل من جوف الليل ، فيذهب به من صدورهم ومن بيوتهم ، فيصبحون لا يقرءون آية ، ولا يحسنونها (٣). وردّ أبو سليمان الدّمشقي صحة هذا الحديث بقوله عليه الصّلاة والسلام :
__________________
(١) قال الطبري في «تفسيره» ٨ / ١٤٤ : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : خرج الكلام خطابا لمن خوطب به ، والمراد به جميع الخلق ، لأن علم كلّ أحد سوى الله ، وإن كثر هو في علم الله قليل.
(٢) سورة البقرة : ٢٦٩.
(٣) هذا الأثر أخرجه الطبراني في «الكبير» ٨٧٠٠ عن ابن مسعود ، ورجاله رجال الصحيح ، غير شداد بن معقل ، وهو ثقة قاله الهيثمي في «المجمع» ٧ / ٣٢٩ ـ ١٢٤٦٥. ولبعضه شواهد في المرفوع. عند أبي يعلى ٦٦٣٤ من حديث أبي هريرة «أول ما يرفع من هذه الأمة الحياء والأمانة وآخر ما يبقى منها الصلاة ...» وفيه أشعث بن