واحتجّوا بأنّها خبر ، والأخبار لا تحتمل النّسخ ، ثم افترق هؤلاء فرقتين ، إحداهما قالت : هي على ظاهرها ، وقاتل المؤمن مخلّد في النار ، والفرقة الثانية قالت : هي عامّة قد دخلها التّخصيص بدليل أنه لو قتله كافر ، ثم أسلم الكافر ، انهدرت عنه العقوبة في الدّنيا والآخرة ، فإذا ثبت كونها من العامّ المخصّص ، فأيّ دليل صلح للتّخصيص وجب العمل به. ومن أسباب التّخصيص أن يكون قتله مستحلّا ، فيستحقّ الخلود لاستحلاله. وقال قوم : هي مخصوصة في حقّ من لم يتب ، واستدلّوا بقوله تعالى في «الفرقان» : (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (١). وقال آخرون : هي منسوخة بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (٢).
__________________
(١) سورة الفرقان : ٧٠.
(٢) سورة النساء : ٤٨. قال الشوكاني رحمهالله في «تفسيره» ١ / ٥٧٦ : وقد اختلف العلماء هل لقاتل العمد من توبة أم لا توبة له؟ فروى البخاري عن سعيد بن جبير قال : اختلف فيه علماء أهل الكوفة ، فرحلت فيها إلى ابن عباس فسألته عنها فقال : نزلت هذه الآية : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً) وهي آخر ما نزل وما نسخها شيء ، وقد روى النسائي نحو هذا وروى النسائي عن زيد بن ثابت نحوه ، وممن ذهب : إلى أنه لا توبة له من السلف أبو هريرة ، وعبد الله بن عمر ، وأبو سلمة ، وعبيد بن عمير ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك بن مزاحم ، نقله ابن أبي حاتم عنهم. وذهب الجمهور : إلى أن التوبة منه مقبولة ، واستدلوا بمثل قوله تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) وقوله : (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) وقوله : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) قالوا أيضا : والجمع ممكن بين آية النساء هذه وآية الفرقان ، فيكون معناهما : جزاؤه جهنم إلا من تاب ، لا سيما وقد اتحد السبب ـ وهو القتل ـ والموجب ، وهو التوعد بالعقاب. واستدلوا أيضا : بالحديث المذكور في الصحيحين عن عبادة بن الصامت أنه صلىاللهعليهوسلم قال : «بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ، ولا تزنوا ، ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق ، ثم قال : فمن أصاب من ذلك شيئا فستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه ، وبحديث أبي هريرة الذي أخرجه مسلم في صحيحه وغيره : في الذي قتل مائة نفس ، وذهب جماعة منهم أبو حنيفة وأصحابه والشافعي : إلى أن القاتل عمدا دخل تحت المشيئة تاب أو لم يتب. والحق : أن باب التوبة لم يغلق دون كل عاص ، بل هو مفتوح لكل من قصده ورام الدخول منه ، وإذا كان الشرك وهو أعظم الذنوب وأشدها تمحوه التوبة إلى الله ، ويقبل من صاحبه الخروج منه ، والدخول في باب التوبة ، فكيف ما دونه من المعاصي التي من جملتها القتل عمدا؟ لكن لا بد في توبة قاتل العمد من الاعتراف بالقتل ، وتسليم نفسه للقصاص إن كان واجبا ، أو تسليم الدية إن لم يكن القصاص واجبا ، وكان القاتل غنيا متمكنا من تسليمها أو بعضها ، وأما مجرد التوبة من القاتل عمدا ، وعزمه على أن لا يعود إلى قتل أحد ، من دون اعتراف ، ولا تسليم نفس ، فنحن لا نقطع بقبولها ، والله أرحم الراحمين ، هو الذي يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون. وقال ابن كثير رحمهالله في «تفسيره» ١ / ٥٥٠ : وأما مطالبة المقتول القاتل يوم القيامة فإنه حق من حقوق الآدميين وهي لا تسقط بالتوبة ، ولكن لا بد من ردّها إليهم ولا فرق بين المقتول والمسروق منه ، والمغصوب منه والمقذوف وسائر حقوق الآدميين ، فإن الإجماع منعقد على أنها لا تسقط بالتوبة ، ولكنه لا بد من ردها إليهم في صحة التوبة ، فإن تعذر ذلك فلا بد من المطالبة يوم القيامة ، لكن لا يلزم من وقوع المطالبة وقوع المجازاة ، إذ قد يكون للقاتل أعمال صالحة تصرف إلى المقتول أو بعضها ، ثم يفضل له أجر يدخل به الجنة ، أو يعوض الله المقتول بما يشاء من فضله من قصور الجنة ونعيمها ورفع درجته فيها ونحو ذلك والله أعلم.
واختلف الأئمة هل تجب عليه كفارة عتق رقبة ، أو صيام شهرين متتابعين ، أو إطعام على قولين فالشافعي وأصحابه وطائفة من العلماء يقولون : نعم يجب عليه لأنه إذا وجبت عليه الكفارة في الخطأ فلأن تجب عليه