السيّدة سكينة

السيد عبد الرزاق الموسوي المقرّم

السيّدة سكينة

المؤلف:

السيد عبد الرزاق الموسوي المقرّم


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الأضواء
الطبعة: ١
الصفحات: ١٥٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

البيت العلوي الطاهر الشانئ لهذا العنصر الأموي الحائد عن سنن الصراط السوي .

ولم يثبت تشيعه من طرق صحيحة وإن أرسله المؤرخون حتى انطلى على جملة من الشيعة فذكروه في رجالهم وذهب عنهم أن هذه الأكذوبة أمر دبر بليل ، إنما افتعلوها ليحملوا الشيعة أوزاراً مما أثبته من المنكرات ومما يشهد بعدم وثوق أولئك المؤرخين بتشيعه مع إرسالهم له أنا نراهم يبخسون في تراجمهم حقوق علماء الإمامية ويرمونهم بالطامات من عيب في الدين أو نقص في المروءة أو مروق عن الورع (١) .

مع إكبارهم لكل من مال عن أهل البيت فإعظامهم هذا الرجل بالمدح البالغ حده مع وقوفهم على خلاعته وخفة عقله وبذاءة لسانه وفسق جوارحه ليس إلا لما ذكرناه من تحامله على أهل البيت ، ومن انضوى إلى رايتهم ودعا إلى مبدئهم واعترف بنزاهتهم إعلاماً بأن الرجل من الشيعة وهو أعرف بما هم عليه .

لكن النظرة الدقيقة في التاريخ تفيدنا أن الرجل كما أنه مرواني النسب مرواني النزعة ولذلك ألف لأقاربه الأمويين من ملوك الأندلس

____________________

(١) لاحظ العتب الجميل على أهل الجرح والتعديل ص ٤٠ طبع مصر سنة ١٣٤٢ هجـ تعرف الرجال الذين طعنوا فيهم ولم يأتوا بشيء سوى الموالاة لأهل البيت كما تعرف الرجال المائلين عن أهل البيت فلقد أكثروا من توثيقهم وإطرائهم وقد ذكر عن تهذيب التهذيب لابن حجر بترجمة عمر ابن سعد أنه قال : عمر بن سعد تابعي ثقة وهو الذي قتل الحسين ، ثم قال ابن أبي عقيل بعد هذا ( لا حول ولا قوة إلا بالله )

إن كان هذا نبيّاً

فالكلب لا شك ربّي

٦١
 &

كتباً وصيرها إليهم سراً فأتته الجائزة منهم سراً (١) .

وأرسل كتاب الأغاني إلى الحكم الثاني المستنصر وهو في الأندلس قبل أن يخرجه إلى العراق فأرسل إليه الحكم ألف دينار من الذهب العين (٢) .

على أنه ليس في كتبه وشعره أي صراحة بانتمائه إلى مذهب أهل البيت (ع) عدا إشعارات لا تعدو أن تكون تزلفاً منه إلى ملوك وقته آل حمدان وأمرائه ممن ينتمون إلى ولاء العترة الطاهرة وذرية الرسول (ص) ويصلون مادحيهم بعطائهم الجزيل .

ومن ذلك تأليف كتاب [ المقاتل ] فإنه ألفه إلى من عرفت من ملوك الشيعة طمعاً في وفرهم وحصناً لما رامه من المطاعن في أهل البيت حتى تبعد عنه وصمة الافتعال .

وقد اشتمل كتاب المقاتل على كثير من الموضوعات .

وأما كتابه [ الأغاني ] فاسمه وموضوعه وسبر أغواره شواهد واضحة على انحرافه عن الطريقة المثلى واندفاعه إلى تدوين ما تحدو إليه الأهواء والشهوات ، فهو كما قال فيه صاحب [ روضات الجنات ] بترجمة الرجل : ( إن من يتصفحه لم ير فيه إلا هزلاً وإضلالاً وبقصص أرباب الملاهي اشتغالاً وعن علوم أهل البيت اعتزالاً ) .

____________________

(١) معجم الأدباء ج ١٣ ـ ص ١٠٠ ط ثاني ، وتاريخ أبي الفداء ج ٢ ـ ص ١٠٨ ومرآة الجنان لليافعي ج ٢ ـ ص ٣٥٩ .

(٢) تاريخ الفكر الأندلسي ص ١١ ترجمه عن الإسبانية حسين مؤنس ، وص ٣٠ من ترجمة أبي علي القالي بقلم محمد عبد الجواد الأصمعي أول الأمالي طبعة دار الكتب العربية .

٦٢
 &

ويقول القاضي محمود بن محمد عرنوس : إن كتاب الأغاني اشتمل على كثير من الأخبار الواهية بل الموضوعة (١) .

وأما مقام أبي الفرج في الحديث والرواية فكما حدث الخطيب البغدادي عن أبي عبد الله الحسين بن محمد بن القاسم بن طباطبا العلوي قال : سمعت أبا الحسن النوبختي يقول : كان أبو الفرج الأصبهاني أكذب الناس إنه يدخل سوق الوراقين وهي عامرة مملوءة بالكتب فيشتري كثيراً من الصحف ويحملها إلى بيته ثم تكون رواياته كلها منه (٢) .

وقال ابن حجر : قد اتهم أبو الفرج بكثرة ما كتب والظاهر أنه صدوق (٣) .

وهذا الاستظهار منه يرشدنا إلى شك العلماء فيه وإلا لذكر من يعتمد عليه ويوثقه ويجزم به ولم يجعله محل الاستظهار .

فهذا ابن الجوزي : لا يثق برواية أبي الفرج محتجاً بأنه يصرح بكتبه بما يوجب الفسق عليه وتهاونه بشرب الخمور ، وربما حكي ذلك عن نفسه ومن تأمل كتاب [ الأغاني ] رأى كل قبيح ومنكر (٤) .

وسجل ابن كثير الحنبلي هذه العقيدة في أبي الفرج من دون تعقيب (٥) .

____________________

(١) تاريخ القضاء في الإسلام ص ١٨٢ .

(٢) تاريخ بغداد ج ١١ ـ ص ٣٩٩ .

(٣) لسان الميزان ج ٤ ـ ص ٢٢١ .

(٤) المنتظم ج ٧ ـ ص ٤٠ حوادث سنة ٣٥٦ .

(٥) البداية ج ١١ ـ ص ٢٦٣ .

٦٣
 &

ويكفي في انحيازه عن الورع بذاءة لسانه وسبابه المقذع وهجائه الناس واستهانته أكل لحومهم والنيل من الأعراض فهو من المخالفين للإمامية قطعاً ، وأنه من المتورطين في السيئات المتحاملين على المؤمنين بالمنكرات ولم تخف هذه الظاهرة على العلامة الحلي فذكره في القسم الثاني من الخلاصة المعقود لمن يتوقف في رواياته .

( مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) (١) .

____________________

(١) الأعراف ، الآية ١٨٦ .

٦٤
 &

نظرة الدكتور زكي مبارك في الأغاني

إن كلمة الأستاذ زكي مبارك صورت الرجل وكتابه الأغاني بما يفيد القارئ زيادة بصيرة مما عليه من الخلاعة والمروق عن الدين وفراغ الكتاب [ الأغاني ] عن الحقائق التاريخية .

قال في وصف الكتاب :

إن في مقدمة كتاب الأغاني عبارات صريحة في أن المؤلف قصر اهتمامه على امتاع النفوس والقلوب والأذواق ، فكتابه مجموعة تغذي بها الأندية ومجامع السمر ومواطن اللهو ومغاني الشرب ، وقد اهتم بالغناء الذي عرف له قصة تستفاد وحديثاً يستحسن وعلل ذلك بقوله : إذ ليس لكل الأغاني خبر نعرفه ولا في ما له خبر فائدة ولا لكل ما فيه بعض الفائدة رونق يروق الناظر ويلهي السامع .

وهذا التعبير هو الوصف الصادق لما اختاره الأصبهاني أن يدور عليه كتابه حين أراد أن يقدم ما راقه من أيام العرب وقصص الملوك في الجاهلية والخلفاء في الإسلام ، وخصوصاً إذ لاحظنا أن كلامه يشعر بأنه مستعد لإهمال ما فيه بعض الفائدة إذ خلا من ذلك الرونق الذي يروق الناظر ويلهي السامع ، فهو إذن يساير القراء المتطلعين إلى النواحي الطريفة من أخبار الملوك والخلفاء والوزراء

٦٥
 &

والكتّاب والشعراء ولهذا النحو في التأليف قيمة عظيمة إذا فهمه القارئ على الوجه الصحيح .

ولكن الخطر كل الخطر أن يطمئن الباحثون إلى أن لروايات الأغاني قيمة تأريخية وأن يبنوا على أساسها ما يشاؤون من حقائق التأريخ .

وقد جاءت أحاديث الأغاني مروية بالسند والرواية بالسند شيء ساحر فتن به كثير من الناس وظنوه علماً دقيقاً له آداب وشروط واعتماداً على هذا العلم الدقيق اطمأن كثير من الباحثين إلى روايات الأغاني ، فضلوا وأضلوا في حقائق التأريخ .

ويشهد له أن صاحب الأغاني حدث بسنده عن ابن اخ رزقان عن أبيه قال أدركت مولى لعمرو بن أبي ربيعة شيخاً كبيراً فقلت له حدثني عن عمرو بحديث غريب .

وكلمة غريب لها معناها فيما نحن بسبيله من أخذ الرواة بالتلفيق والاختلاق فإن البحث عن الأوضاع الغريبة من أحاديث ابن أبي ربيعة تدل على ظمأ النفوس إلى النادر المستطرف من القصص والأحاديث وما عسى أن يكون ذلك الخبر الغريب ؟ هو خبر يشبه من أكثر نواحيه قصة حج أبي نواس التي اخترعها ابن دريد .

وقد استمر صاحب الأغاني ينقل من أخبار عمرو بن أبي ربيعة ما طاب له من غير نقد ولا تمحيص ، ولكنه فطن في بعض ما رواه إلى تلفيق الرواة حين عرض إلى تزويج الثريا وخروجها إلى مصر وعمر غائب فقال :

[ وهذا الخبر عندي مصنوع وشعره مضعف يدل على ذلك ولكني ذكرته كما وقع إليّ ] .

٦٦
 &

وهنا يدلنا صاحب الأغاني على ارتيابه في بعض الأخبار ولكن لماذا يذكر ما ارتاب فيه كما يقع إليه من دون تمحيص وتحقيق ، نعم أراد أن يقدم ما يروق الناظر ويلهي السامع كما ذكر في مقدمة كتابه هذا ولو مضينا نحصي ما في روايات الأغاني من التلفيق لطال بنا القول فلنكتف بهذه الإشارة .

هذا ما يتعلق بكتاب الأغاني وأما ما يتعلق بأبي الفرج نفسه فنقول :

إن الأصبهاني كان مسرفاً أشنع الاسراف في اللذات والشهوات وقد كان لهذا الجانب من تكوينه الخلقي أثر ظاهر في كتابه ، فإن كتاب الأغاني أحفل كتاب بأخبار الخلاعة والمجون ، وهو حين يعرض للشعراء والكتّاب يهتم بسرد الجوانب الضعيفة من أخلاقهم الشخصية ويهمل الجوانب الحديثة إهمالاً ظاهراً يدل على أنه كان قليل العناية بتدوين أخبار الجد والرزانة والتجمل والاعتدال .

وهذه الناحية من الأصبهاني أفسدت كثيراً من آراء المؤلفين الذين اعتمدوا عليه .

وإن إكثار الأصبهاني من تتبع سقطات الشعراء وتلمس هفوات الكتاب جعل في كتابه جواً مشبعاً بأوزار الإثم والغواية وأذاع في الناس فكرة خاطئة هي اقترن العبقرية بالنزق والطيش والخروج من رعاية العرف والدين .

ولو خلينا الأخبار المروية جانباً ونظرنا فيما حدث به أبو الفرج عن نفسه لعرفنا مبلغ حذقه في وضع الأقاصيص .

قال : كنت في أيام الشبيبة والصبا آلف فتى من أولاد الجند في

٦٧
 &

السنة التي توفي فيها معز الدولة وولي بختيار ، وكانت لأبيه حال كبير ومنزلة من الدولة ورتبة ، وكان الفتى في نهاية من الحسن وسلاسة الخلق وكرم الطبع يحب الأدب ويميل إلى أهله ، ومضت لي معه سير لو حفظت لكانت كتاباً مفرداً ، وقد كنت آتي إليه فيدخلني إلى حجرة لطيفة كانت مفردة له فنجتمع على الشراب والشطرنج وما أشبههما فأتيته يوماً وجلس على دكة بباب داره منتظراً له ولما أبطأ عليّ قمت لأجل لقاء صديق ثم أعود ، فهجس لي أن كتبت على الحائط الذي كنا نستند عليه .

يا من أظل بباب داره

ويطول حبسي لانتظاره

وحياة طرفك واحوراره

ومجال صدغك في مداره

لا حلت عمري عن هواك

ولو صليت بحرِّ ناره

فلما عاد ووقف على الأبيات غضب من فعلي لئلا يقف عليه من يحتشمه وكان شديد الكتمان خصوصاً من أبيه فكتب تحتها :

( ما هذه الشناعة ومن فسح لك هذه الإذاعة وما أوجب خروجك عن الطاعة ، ولكن أنا جنيت على نفسي وعليك ملكتك فطغيت وأطعتك فتعديت ما أحتشم أن أقول هذا تعرض للإعراض عنك والسلام ) .

فعلمت أنني قد أخطأت وسقطت ـ شهد الله ـ قوتي فأخذتني الندامة والحيرة ثم أذن لي فدخلت فقبلت يده فمنعني وقلت يا سيدي غلطة غلطتها وهفوة هفوتها فإن لم تتجاوز عنها وتعف هلكت فقال لي : أنت في أوسع العذر بعد أن لا يكون لها أخت .

ولم تمض إلا مديدة حتى قبض على أبيه وهرب فاحتاج إلى الاستتار فلم يأنس هو ولا أهله إلا أن يكون عندي فأنا على غفلة إذ

٦٨
 &

دخل في خف وإزار فكادت مرارتي تنفطر فرحاً فلقيته أقبل رجليه وهو يضحك ويقول : يأتيها رزقها وهي نائمة هذا يا حبيبي بخت من لا يصوم ولا يصلي في الحقيقة ، وكان أخف الناس روحاً وبتنا في تلك الليلة عروسين لا نعقل سكراً واصطحبنا وقلت هذه الأبيات :

بت وبات الحبيب ندماني

من بعد نأي وطول هجران

نشرب فضية معتقة

بحانة الشط منذ أزمانِ

وكلما دارت الكؤوس لنا

ألثمني فاه ثم غناني

الحمد لله لا شريك له

أطاعني الدهربعد عصيان

ولم يزل مقيماً عندي نحو شهر حتى استقام أمر أبيه ثم عاد إلى داره ، فهذه الأخبار التي رواها أبو الفرج عن نفسه تعين اتجاهاته الذوقية في الحياة ومن هنا جاء غرامه يتعقب أخبار الخلاعة والمجون فيمن ترجم له من الشعراء انتهى باختصار (١) .

فإذا كان هذا مقام أبي الفرج في الدين والورع والعفة ومقام كتابه في الحقائق فهل تبقى قيمة لما يحدث فيه ما لم يدعم بقرائن صحيحة ، خصوصاً بعد أن عرفنا حال من يحدث عنهم ويعتمد في كتابه على روايتهم كآل الزبير وأشعب الطامع والهيثم بن عدي وصالح بن حسان إلى أمثالهم من مجهولين .

وإنك لتجد في هذه الرسالة النقل عن كتاب الأغاني فهو من باب ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم أو لأن تلك النقول لا تنافي شيئاً من مقام من نقل عنه ، وليس النقل للإعتماد على الكتاب أو على ما فيه من روايات لم نعرف حال سندها .

____________________

(١) النثر الفني ج ١ ، ص ٢٣٥ وص ٢٤٤ ، وروى القصة ياقوت في معجم الأدباء ج ٥ ، ص ١٦٠ .

٦٩
 &

السيّدة سكينة السيّد عبد الرزّاق المقرّم

٧٠
 &

رجال الأغاني

إني لا أجد القارئ بعد هذا البيان الضافي مرتاباً في كذب ما حدث به أبو الفرج في حق السيدة ( سكينة ) ابنة سيد شباب أهل الجنة الحسين ابن أمير المؤمنين (ع) فإن الأحاديث التي جاء بها وجدناها مروية عمن ذكرناهم من آل الزبير وأمثالهم من المعروفين بالافتعال أو العداوة لآل الرسول (ص) ، ولم يردعهم أي رادع عن الكذب الذي هو أقبح المعاصي ومفتاح كل شر وطريق يسلك به إلى الفتن ويلحق البغضاء والإحن وعثرة في سبيل النجاح والسعادة ولذلك حرمته الشريعة ( كتاباً وسنة ) وعضدهما العقل وإجماع المسلمين .

فلا تقف على صاحب مروءة يكذب في قوله أو خدن شرف يمين في حديثه أو أخي بصيرة يفتعل في قضيته أو رب حجى يتقول فيها يقول استقباحاً منهم لتلك الشنعة المذهبة للاعتبار المزيحة لماء الوجه المسقطة لمنصة الاعتماد ، وأقبح مصاديق الفرية والافتعال إذا كان على لسان صاحب الشريعة أو من يحذو حذوه من خلفاء المعصومين (ع) فإن فيه علاوة على القبح الذاتي ادخال ما ليس من الشريعة فيها ، وهذا هو التشريع المحرم والبدعة التي لا تقال عثرتها إن تعلق الكذب بحكم من أحكام الشريعة .

٧١
 &

وإن كان الكذب في ثناء رجل لا يستحقه ففيه إغراء بالجهل وإن كان في نسبة الفاحشة إلى مؤمن فذلك إيذاء وهتك الستر .

وأشد أفراد الكذب إذا كان وقيعة في الذرية الطاهرة آل الرسول (ص) الذين شاء لهم المولى سبحانه حسن السمعة وشرف المخبر وهو أجر الرسالة الذي صدر الأمر به ( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ) (١) فإنه عام لسائر أفراد الذرية تكريماً لصاحب الدعوة الإلٰهية وتمريناً للملأ الديني على البخوع لعامة بنيه ، وردعاً للأغرار منهم عما لا يليق بساحة سلفهم وشرفهم الوضاح .

وقد عرفت الحديث عن النبي (ص) في إكرام أولاده : الصالح لله والطالح له وان الولد العاق يلحق بالنسب ، كما عرفت أن السياسة القاسية في العهد الأموي والعباسي استهوت رجالاً جرهم الطمع إلى استنزاف ما في أيدي القوم من الثراء المتدفق ، فدسوا في الأحاديث خزايات تندى منها جبهة الإنسانية قصدوا بها الحط من مقام البيت العلوي عن مستوى الفضيلة فانطلت تلكم المخازي على الأجيال المتأخرة فحسبوها مروية عن صاحب الرسالة ، وعن عظماء الصحابة أو أنها من القضايا والحوادث التي لها نصيب من مستوى الحقيقة .

ومن هنا وضع العلماء علم الرجال ليتميز أولئك الدساسون من غيرهم ، وإن محاورة الحتات بن يزيد أبو منازل مع معاوية تفيدنا فقهاً بما عليه ابن هند من بذل الأموال لمقاصده وغاياته ضد أهل البيت ، فإنه وفد مع الأحنف وجارية بن قدامة على معاوية فأعطى معاوية كلا من الأحنف وجارية مائة ألف وأعطى الحتات سبعين ألفاً فعتب عليه حيث أنقصه عن صحبه ، فقال معاوية : إني اشتريت

____________________

(١) سورة الشورى ، الآية ٢٣ .

٧٢
 &

منهم دينهم ووكلت إلى رأيك في عثمان فقال الحتات : فاشتر مني ديني مثلهم فأتم له الجائزة (١) .

وسمع الأحنف رجلاً يقول لمعاوية لو لم تول يزيد أمور المسلمين لأضعتها ، فعتب عليه ، فقال الرجل : إني أعلم أن شر من خلق الله هذا وابنه ولكنهم استوثقوا من هذه الأموال بالأقفال (٢) .

وعلى هذا فهل ترى هؤلاء إلى أمثالهم يتورعون عن موافقة الخلفاء بافتعال أحاديث وقضايا توافق رغباتهم ، وهل يمكن للكاتب الركون إليهم في نقل الحقائق ، وقد عرفت حديث ( مقاتل ) الذي ملئت الطوامير بمروياته مع المنصور فإنه قال له : إذا شئت وضعت أحاديث في فضل العباس ولك (٣) .

إني لا أستغرب من هؤلاء الرواة المتروكة أقوالهم بنص علماء الرجال إذا تحدثوا بما سولت لهم نفوسهم مما دب ودرج ، وإنما الغريب من مؤرخ يزعم أنه يتحرى الحقائق ثم يستند إلى المتفكهين بقذف المسلمين المحبين لإشاعة الفاحشة .

ولم يغب عنه ما في تدوين هذه المفتريات من الخروج على قدس الكتاب المجيد المانع من هتك ستر المؤمن ونسبة القبيح إليه وكيف يغيب عنه ، وكل مسلم يقرأ نهاره وليله قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) (٤) .

____________________

(١) الطبري ج ٦ ، ص ١٣٥ .

(٢) ابن خلكان بترجمة الأحنف .

(٣) تاريخ بغداد ج ١٣ ، ص ١٦٧ .

(٤) سورة النور ، الآية ١٩ .

٧٣
 &

والسر فيه أن كشف العوار يوقع النفرة بين الناس ويؤول إلى التباغض ويفت في عضد الاجتماع ويفك عرى الوئام ويؤدي إلى اختلال النظام ، ولهذا حرم سبحانه وتعالى ( الغيبة ) التي هي ذكر الشخص بما يكره و ( النميمة ) وهي السعاية بين الاثنين بنقل قول السوء من كل منهما للآخر وهكذا ما يجري مجراهما من المحرمات المنافية لحرمة المؤمنين الملقحة للعداوة بينهم المقلقة للسلام .

وفي الحديث عنه (ص) : لو تكاشفتم لما تدافنتم (١) فإن النكتة فيه أن كشف السرائر وإيقاف الناس عليها يوجب النفرة والمباينة والاستثقال حتى من دفنه وتشييعه ولو يشاهده عرضة للكلاب .

فإشاعة الفاحشة كما يستوجب تلك الأمور أيضاً يضاد الإرادة الإلٰهية المستتبعة لرأفة المولى تعالى ولطفه وكراهته للفتن والشرور ونشوب الإحن فالمرتكب لها محارب لله تعالى غادر لحقوق الناس بتلك المغبات الوخيمة وللتحفظ عن هذه الشائنة لم يكتف المولى سبحانه بالوعيد الأخروي حتى أضاف إليه العقاب الدنيوي ، وهو الحد إن كان قذفاً بالزنى واللواط والسحق ، والتعزير إن كانت الفاحشة المذاعة في الناس قذفاً بغير ذلك فقال تعالى : ( لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ) ثم نبه جلَّ شأنه على شيء دقيق فقال ( للَّهَ يَعْلَمُ ) ما تكنه الضمائر من المحبة لإشاعة الفاحشة واظهار ما يريد الله ستره « وأنتم لا تعلمون » ما يترتب على ذلك من الخطر والفساد .

فالنهي عن إشاعة الفاحشة كما يتوجه إلى الرواة يشمل من يدون أقوالهم من دون تثبت في النقل فيرسلها في كتابه لأغراض

____________________

(١) تهذيب كامل المبرد ج ١ ، ص ٥٤ ، وعيون أخبار الرضا للصدوق ص ٢١٦ ، والأمالي للصدوق ص ٢٦٧ مجلس ٦٨ .

٧٤
 &

دنيوية وشهوات نفسانية ، وهذا جهل وطغيان فإن المولى الجليل القابض على أزمة العباد القادر على الانتقام منهم عند التمرد على قدسه ومخالفة أمره ونهيه يصفح عنهم ويتلطف عليهم بفيض بره وإحسانه ويخصهم بالخير كله ويثيبهم بالثواب الجزيل تجاه عمل ضئيل ، ويصفح عن المآثم الكبيرة طيلة عمر العبد إن صدرت « التوبة » من صميم الخاطر والندم على ما فرط في جنب الله تعالى والعزم على أن لا يعود إلى مثله ، اللهم إلا أن يغتصب العبد حقوق الناس فالتوبة عنه إما بارضائهم أو إرجاعها إليهم ، وفي الحديث : « لو علم الله تعالى أن عبداً ينيب إليه آخر الدهر لمد في عمره إلى ذلك الوقت » (١) .

وإن تعجب فعجب أن العبد يعصيه وهو في قبضته وفي مستوى قدرته يعيش ويمرح ويسرف ويقترف الآثام ، لكنه سبحانه يفيض عليه نعمه ظاهرة وباطنة لعله يؤوب إلى السعادة ويتوب عما اجترحه من السيئات ، ولو كانت حالة العبد هذه مع أبيه العطوف عليه وأمه الحنون لرفضاه .

فكما أنه جلّ شأنه يحب للمؤمن النعيم الخالد عطاء غير مجذوذ أيضاً يود له بقاء الحرمة بين الناس ، وإسدال الستر على عثراته وهذا هو الجميل في لسان المعصوم « يا من أظهر الجميل وستر القبيح » .

____________________

(١) شرح الصحيفة للسيد علي خان ص ٣٤٦ روضة ٣٧ .

٧٥
 &

السيّدة سكينة السيّد عبد الرزّاق المقرّم

٧٦
 &

سكينة من ذوي القربى

لقد وضح من جميع ما ذكرناه للمتأمل البصير أن في التحدث عن سكينة بنت الحسين (ع) وأمثالها من أهل هذا البيت الطاهر بما يشين الأخلاق والدين ، كما أنه إشاعة للفاحشة الممنوع منها بنص الكتاب الكريم ، وأحاديث الرسول (ص) فيه خروج على حكم القرآن الناص على مودة القربى .

( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) ولم يخف السر في هذا الحكم لأن سادات هذا العنصر الطاهر لما كانوا منبع أنوار الهداية وعندهم مفاتيح الرشاد ، ومن ناحيتهم ثبتت المعارف الإلٰهية وبأياديهم الناصعة يهتدي الناس إلى سنن النجاح فرض الله تعالى حبهم المؤدي إلى اتباع تعاليمهم وجعله أجراً للرسالة .

وتعميم الحكم لسائر أفرادهم الذين لم يقطع بانحراف عقيدة أحدهم عما جاء به جدهم الأعظم (ص) لأجل تمرين الملأ الديني على البخوع لعامتهم الحادي إلى سلوك مناهجتهم وردعاً للأغرار منهم عما لا يليق بسلفهم وشرفهم الوضاح .

مضافاً إلى ما ورد من الأحاديث الكثيرة بإكرامهم ومساعدتهم على النوائب ودفع الشرور عنهم ، وأن إكرام غير الصالح إنما هو

٧٧
 &

لأجل الرسول الأقدس وتكريماً لمقامه ( لأجل عين ألف عين تكرم ) .

فإذا كانت الحالة هذه في الذرية الطاهرة وإن نقم من بعضهم بعض الأعمال فكيف بالأبرياء منهم الذين لم يسجل العلم اليقيني عليهم ما يشين الدين والأخلاق والمروءة غير أحاديث عرفنا منشأها ومستقاها .

ومن هؤلاء بضعة النبوة سكينة ابنة الحسين فإن الوقيعة فيها بتلك السفاسف التي سجلها أبو الفرج وغيره كان مصدرها آل الزبير وأمثالهم المعروفين بالعداء لأهل البيت (ع) :

أكرم بعين المصطفى جدهم

ولا تهن من آله أعينا

٧٨
 &

سكينة إلى كربلاء

تنص دراسات التربية على تأثير الناشىء بنفسيات البيئة ونزعاتها تكفيها بما جبل عليه رجالات البيت من الطموح إلى الرقيّ في العلم والترفع عن الدنايا ، فالعامل الوحيد لتكيف الناشىء بالصفات الفاضلة أو أضدادها ما يتدراسه أرباب البيت المتربي فيه وليدهم ، ومن الضروري أن يتخذ الخلف طريقة سلفه ويتحرى التخلق بما عليه من ملكات إما أن تأخذ به إلى أعلى مستوى الثقافة أو تنحط إلى هوة الضعة ، وفي الغالب تجد المشاكلة بين الجيل الأول والثاني في المعارف والآداب والصناعات والعادات ، اللهم إلا أن يسود ذلك تطور يغلب تلك المقتضيات .

وإذا فتشنا بيوتات العالم فلا نجد بيتاً يتحرى المناهج الإلٰهية والسير على ضوء تعاليم الشريعة الخالدة إلا البيت العلوي ، لأنه ضم رجالات العصمة المودع عندهم أسرار التكوين وعلم الطبائع وفقه الشريعة والنظم الاجتماعية منحة من منشىء كيانهم جلّ شأنه ، فمن هذا البيت تؤخذ المعارف ويدرس الخلق الكامل :

بيت علا سمك الضراح رفعة

فكان أعلى شرفاً وأرفعا

بيت من القدس وناهيك به

محط أسرار الهدى وموضعا

أعزه الله فما تهبط في

كعبته الأملاك إلا خضعا

٧٩
 &

فكان مأوى الملتجى والمرتجي

فما أعز شأنه وأمنعا (١)

وإذا كان أئمة الهدى من عترة المصطفى الذين جعلهم الله حجة على البشر بعد النبوة يعلمون الأمة ما فيه مناجحهم ويأخذ بهم إلى سعادة الدارين ، فلا يضنون بمن يتربى في حجورهم من ذكور وإناث عن إضاءة الطريق الموصل لهم إلى الغايات السامية والتنكب عما لا يلائم خطتهم ، ويستحيل على من تغذى در الإمامة تربى في حجور الطاهرين ودرس التعاليم الإلٰهية الاسفاف مع أهل المجون والأهواء .

والسيدة سكينة حضنتها الحجور الزاكية وتلقت من أبيها سيد الشهداء التعاليم الراقية والآداب الإلٰهية ودرست القيم الإسلامية وجارت في المجاهدة والرياضة جدتها الصديقة وعمتها العقيلة حتى حازت أرقى مراتب العبادة التي يرضاها رب العالمين ، ومن هنا منحها الإمام الحجة الواقف على نفسيات البشر ومقادير أعمالهم أرقى صفة تليق بامرأة كاملة تفانت في طاعة الله تعالى وهي « خيرة النساء » .

من هذا وذاك صحبها « أبي الضيم » إلى محل شهادته في جملة من انتخبهم الباري سبحانه دعاة لدينه فشاهدت بين تلك الثنايا والعقبات الآيات المنذرة بتدابير النفوس ، وتخاذل القوم عن نصر الهدى واجتماعهم على إزهاق نفس ريحانة الرسول (ص) وإراقة « دمه الطاهر » ، وأنهم قادمون على عصبة لا ترقب فيهم إلاً ولا ذمة فلم تعبأ بتلكم الأهوال التي يشيب لها فود الطفل تسليماً للقضاء وطاعة للرحمن عز شأنه .

____________________

(١) من قصيدة في الصديقة الزهراء للعلامة السيد محمد حسين الكيشوان النجفي .

٨٠