السيّدة سكينة

السيد عبد الرزاق الموسوي المقرّم

السيّدة سكينة

المؤلف:

السيد عبد الرزاق الموسوي المقرّم


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الأضواء
الطبعة: ١
الصفحات: ١٥٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

وهو يعلم أن ما يفعله على وفق المصلحة الواقعية التي ارتضاها رب العالمين ونصت به الصحيفة المخصوصة به .

أليس هو القائل لجابر الأنصاري لما قال له :

ألا تصالح كما صالح أخوك الحسن ؟

فقال الحسين :

إن أخي فعل بأمر من الله ورسوله وأنا أفعل بأمر من الله ورسوله .

ألم يكن الأصلح للحسين مداراة أخيه المجتبى والتسليم له ـ لو صدقت المزاعم والأوهام ـ ويكون كعبد الله بن جعفر لما أبدى له الإمام نظرية الصلح فخضع لرأيه وسلم له ، أمن الجائز أن يكون عبد الله أعرف بحكم الوقت من السبط الشهيد ؟

ويحدث ابن شهرآشوب في المناقب ج ٢ ، ص ١٤٣ طبع إيران أن الحسين ما تكلم بحضرة الحسن إعظاماً له ، ولا تكلم محمد بن الحنفية بحضرة الحسين إعظاماً له ، وفي مشكاة الأنوار للطبرسي ص ١٥٤ كان أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق (ع) يقول : ما مشى الحسين بين يدي الحسن قط ولا بدره بمنطق قط إذا اجتمعا تعظيماً وإجلالاً له .

فهل يجوز العقل مع هذه الآداب الإلٰهية أن يخالف سيد الشهداء أخاه حجة الوقت ويخطئ رأيه ، مع علمه بأنه لا يفعل إلا وفق المصلحة الربوبية .

١٢١
 &

السيّدة سكينة السيّد عبد الرزّاق المقرّم

١٢٢
 &

نظرة إجمالية

علمنا من شتى النواحي مستنبطين من مدونات التاريخ وجوامع الحديث ومما عرفناه من مواقف أئمة الهدى من الإصلاح والتهذيب وخضوع من دونهم من ذوي قراباتهم ، إلا أفراداً أخرجهم النص الصريح أن السيدة سكينة لم تكن متروكة سدى ترتكب الشنع وتقتحم المخاريق ، وإنما كانت بمرصد من أخيها زين العابدين وابنه الباقر والصادق وبعين رعايتهم لها وهب أن الخلافة الصورية والسلطة العامة كانت مبتزة منهم ، لكن لم تبتز منهم القدرة على نسائهم وعائلتهم ، كيف وكل من سوقة الناس يقدر على من تحت حيطته من أهل بيته فيكبحهم عما يحط بكرامته أو لا يراه من صالحهم لجهات أخرى .

فهل من المعقول أن الإمام زين العابدين (ع) يدع أخته الكريمة عليه في حيث تنيخ فيه الضعة والصغار ، وهو القائل لأبي خالد الكابلي حين دخل عليه ورأى الباب مفتوحاً فتعجب من ذلك :

لا تعجب إن الخادمة خرجت من الدار ولا علم لها بفتح الباب ولا يجوز لبنات رسول الله أن يخرجن فيصفقن الباب (١) .

____________________

(١) مدينة المعاجز ص ٣١٨ ، حديث ٨٦ .

١٢٣
 &

أمن المعقول أنه لا يجوز لهن رد الباب وليس فيه إلا الخروج إلى مظنة رؤية الأجنبي لهن من وراء الأزر والأخمرة ، ويكون من الجائز لهن التبرج إلى الأجانب والمحادثة معهم والخوض في مجاملاتهم خصوصاً ما تمنع منه الشريعة وهو سماع الغناء وعقد المجالس للمغنين .

ثم ما بال الإمام الباقر (ع) يذر عمته السيدة بين تلكم المخازي ، وما بال الأباة الهاشميون يغضون الطرف عما هنالك من بواعث العيب والنقص ، فإلى من يدخرون الإصلاح وهم يتركون عقائل بيتهم ، وإلى أي زمن يرجئونه إن أخروه عن أيام حياتهم في خفراتهم ؟

وهذه جبلة فطر الله عليها الأمم جمعاء فضلاً عمن قيضهم المولى سبحانه لهداية البشر وإرشادهم إلى ما هو الأصلح ، وقد كان في الأمة العربية من لا يرضخ لمنافيات الغيرة والشهامة وإن بلغوا في القساوة كل مبلغ حتى كان من أمرهم أن وأدوا البنات كيلا يلحقهم بسببهن العار ، وكانوا لا يزوجون المرأة من الرجل إذا شبب بها (١) .

ولما شبب عبد الله بن مصعب المعروف بعائذ الكلب بامرأة من بني نصر بن دهمان وكان اسمها « جمل » عمد إليها إخوتها فقتلوها غيرة منهم (٢) .

ولما بلغ الحجاج الثقفي أن محمد بن عبد الله النميري شبب بأخته زينب أسمعه السباب المقذع ولم يتركه حتى كتب إلى عبد الملك بن مروان بذلك (٣) ، ولما شبب وضاح بامرأة الوليد قتله (٤) .

____________________

(١) شرح أمالي القالي للبكري ج ٢ ، ص ٦٥٩ .

(٢) المصدر .

(٣) شرح أمالي القالي ج ٢ ، ص ٦٥٨ .

(٤) آداب اللغة العربية لجرجي زيدان ج ١ ، ص ٢٨٣ .

١٢٤
 &

وشبب الهذلي بابنة جندل بن معبد من بني الحساس فساء ذلك أباها فعدا عليه وقتله ثم أحرقه (١) .

وكان ابن رهيمة يشبب بزينب بنت عكرمة بن عبد الرحمن بن الحرث ابن هشام فاستعدى عليه أخوها هشام بن عبد الملك فأمر بضربه خمسمائة سوط وأباح دمه إن وجد يفعل مثل ذلك .

وغضب يزيد بن معاوية على عبد الرحمن بن حسان لما شبب بأخته رملة بنت معاوية واستعدى عليه أباه معاوية بن أبي سفيان (٢) .

واشترى ابن معبد « سحيم » الشاعر فلما شبب سحيم بابنته عميرة وشهرها عدا ابن معبد عليه فأحرقه بالنار (٣) .

وفي هذه الشواهد مقنع للتعريف بما جبلت عليه نفوس العرب من الغيرة والشهامة ، فكيف بالهاشميين منهم الذين لم يرضخوا للدنايا وترفعوا عن كل ما يمس كرامتهم فتراهم ينكرون على من يتناول أعراض غيرهم فضلاً عن أعراضهم .

فهذا الحسن بن زيد بن الحسن المثنى بن الإمام السبط الحسن ابن أمير المؤمنين (ع) بلغه يوم كان والياً على المدينة ان ابن المولى الشاعر يشبب بحرم المسلمين ، فأغلظ القول له وتهدده ولم يتركه حتى حلف بالأيمان المغلظة أنه لم يقصد امرأة بعينها وإنما عنى في شعره قوسه وسماها « ليلى » .

____________________

(١) شرح أمالي القالي ج ٢ ، ص ٧٢١ .

(٢) شرح أمالي القالي للبكري ج ٢ ، ص ٧٢١ .

(٣) شرح أمالي القالي للبكري ج ٢ ، ص ٧٢١ .

١٢٥
 &

ولقد أنكر الرشيد على إسحاق الموصلي لما غناه بشعر عمر بن أبي ربيعة وفيه لفظ سكينة ولم يتعين أنها ابنة الحسين ولأجل المشابهة في الاسم قال له :

لعن الله الفاسق ولعنك معه ويحك أتغنيني بأحاديث الفاسق في سكينة ، ألا تتحفظ في غنائك وتدري ما يخرج من رأسك ؟

فهل والحالة هذه ترى الهاشميين الذين هم في المدينة يغضون الطرف عما تفعله خفرة من نسائهم من المخاريق والشنع ، وإذا لم يسعهم ذلك معها فهلا يسعهم أن يوصدوا الأبواب دون من يريد الاجتماع معها من شعراء ومغنين مع أنه لم يكن لهؤلاء أنصار يخاف منهم سوء العاقبة ؟

ثم هل يعذر إمام قيضه الله تعالى لتأديب البشر عامة وتحت سيطرته من لم يتأدب بآداب الشريعة الذي قيض لأحيائها وهو ومن جرى مجراه من أئمة الهدى يوصون شيعتهم بمنع المرأة عن الابتذال ومزاولة الرجال فيقولون : المرأة عيّ وعورة فداووا عيّهنّ بالسكوت وعوراتهن بالبيوت (١) وأنها إذا خرجت من بيتها لعنها كل ملك في السماء حتى ترجع إلى بيتها ، وإن تعطرت وخرجت حتى يوجد ريحها فهي زانية ، وأنها تلعن حتى ترجع إلى بيتها وليس لها أن تجلس مع الرجال في الخلاء ولا أن تتعلم الكتابة ولا سورة يوسف لما فيها من الفتن ، وعليها أن تتعلم سورة النور لما فيها من التهديد والزجر ، ولا تنزل الغرف فيراها الأجانب ، وليس عليها أذان ولا

____________________

(١) الوسائل للحر العاملي ج ٣ ، ص ٣٠ ، باب ١٣٠ عن أبي عبد الله عن النبي (ص) .

١٢٦
 &

إقامة كيلا يسمع صوتها الرجال ولا جمعة وجماعة ، ولا عيادة مريض ولا تشييع جنازة ولا الإجهار بالتلبية ، ولا الهرولة بين الصفا والمروة ولا استلام الحجر ، ولا تولي القضاء ، ولا الإمارة ، ولا المشاورة في الأمور (١) .

وفي وصية أمير المؤمنين (ع) للحسن :

وإن استعطت أن لا يعرفن غيرك فافعل .

أيصح على هذا الحال نسبة المسامحة إلى إمام الأمة (ع) بإسدال الستر على السيدة وكبحها عن محادثة الرجال أم ينسب إليه المروق عن طاعته وعدم قدرته على التوصل إلى ذلك بكل صورة .

كبرت كلمة تخرج من أفواههم ، إن يقولوا إلا زوراً .

ويا فض فم القائل إن لهج بشيء من ذلك .

والذي يهون الخطب أن أحاديث أبي الفرج لا قيمة لها في حق السيدة الزكية بعد أن كان مصدرها الزبير بن بكار وابن أخيه مصعب والهيثم بن عدي وأضرابهم ممن هو شانىء لهذا البيت الطاهر ، أو مستأجر لسياسة الوقت ، وأن تاريخ حياة السيدة سكينة مما نطق به أقوام أخذهم الحنق على حمله الوحي وسادات الأمة كما لوثوا ساحة غيرها من رجالات هذا البيت الرفيع وخفراته بعد أن أعوزتهم الوسائل إلى الطعن في قدس الأئمة الطاهرين فطفقوا يحطون من كرامة أبنائهم وذوي قراباتهم من أمثال هذه النواحي وهم لا يعلمون

____________________

(١) الوسائل للحر العاملي ج ٣ ، ص ٢٧ باب ١١٧ جملة مما يحرم على النساء وما يكره .

١٢٧
 &

أن المستقبل الكشاف سيوقف أرباب البحث على نواياهم السيئة ودحر ما افتعلوه ، فإن للحق أنصاراً ولا بد للباغي من مصرع .

وقد عرفت فيما تقدم أن سكينة التي تجتمع مع عمر بن أبي ربيعة في محفل الغناء هي ابنة خالد بن مصعب بن الزبير ومنه تعرف كيف زحزح آل الزبير هذه الشناعة عن ابنتهم وألصقوها بمن شابهتها في الاسم ، فراجت هذه الأكذوبة حتى على من زعم أنه محص الحقائق ، وأخذت به الثقافة إلى حد بعيد وفي الحقيقة لا يعرف من أين تؤكل الكتف .

ولعل هذا البيان الضافي لم يدع القارئ مندوحة عن الإذعان بأن المصونة الطاهرة هي تلك البريئة من كل شين وعار ، والرضية المخفورة تحت خباء النبوة وبين سرادق الإمامة يكتنفا الشرف ويحفّ بها الصون من جميع نواحيها ولم تبرح ترفل في مطارف من الحصافة قشيبة ، ولها أشواطها البعيدة في مستوى الآداب الأحمدية تزينها العفة والحياء وتجللها الرزانة والوقار ويزدان بذكرها المدح والثناء وإن كان لأرباب الأهواء والمطامع حول حياتها جلبة وتركاض فدعهم يخوضوا ويلعبوا ويلههم الأمل الخائب والأمنية والمخفقة والظن المكدي .

وإن كلمة الحسين في حقها :

« أما سكينة فغالب عليها الاستغراق مع الله تعالى » .

نتشوف منها منزلة كبرى في اليقين والتجرد عن هذه العوارض الدنيوية الفانية .

إن هذه الجلبة بسرد هاتيك القصص الخرافية كما غرت أبا الفرج اغتر بها من جاء بعده من المؤرخين ، فنشروا فضائح في حق

١٢٨
 &

السيدة البريئة سودوا بها صفحة التاريخ حسباناً منهم أن صاحب الأغاني ومن تقدمه لا يرسل ما لا تعويل عليه ، وعرفت بما أوضحناه أن هؤلاء كحاطب ليل لم يريدوا إلا جمع أضغاث من هنا وهنا فألبسوها أطماراً من الظنون والأهوام .

١٢٩
 &

السيّدة سكينة السيّد عبد الرزّاق المقرّم

١٣٠
 &

الرباب

التاريخ دراسات لما يعبر في الزمن من خير وشر ودليل لمعرفة سير البشر في المعارف والصناعات والسياسيات والعادات والمؤهلات للرقي الانحطاط ومرآة صافية يتشوف منها الأعمال الصالحة والتعاليم النافعة وسير الأبطال إلى أهدافهم المرموقة وما يؤثر عن العظماء من مزايا وآثار تكون قدوة في اقتصاص أثرهم والسير على هداهم ، ومن المؤسف جداً إهمال المؤرخين ورواة الحوادث واجبهم فنشروا فضائح وستروا فضائل طاعة للأمراء الذين استعبدوهم بالمال أو خضوعاً للنزعات والأحقاد فجنوا على الحقائق الراهنة وأضاعوا الأمانة المودعة عندهم ، فزويت معارف الرجال وأعمالهم الصالحة واختلط الصحيح بالسقيم وديف السم بالعسل ، وأن كلمة ( مقاتل ) للمنصور الدوانيقي ( أتحب أن أضع لك في فضل العباس ) (١) تفيدنا فقهاً بتأثير الأطماع في النفوس وسحق العقائد ، وإن أوجب غضب الرب سبحانه وتعالى خصوصاً إذا كان الوضع على لسان صاحب الشريعة ، وقد نبه على وخامة عاقبته فقال (ص) : ستكثر القالة من بعدي فمن كذب عليّ

____________________

(١) تاريخ بغداد ج ١٣ ، ص ١٦٧ .

١٣١
 &

فليتبوأ مقعده من النار (١) . قال السبكي : المؤرخون على جرف هار لتسليطهم على أعراض الناس ونقلهم مجرد ما يبلغهم من صادق أو كاذب (٢) ، وربما وضعوا من أناس ورفعوا آخرين ، إما لتعصب أو جهل أو اعتماداً على نقل من لا يوثق به ، والجهل في المؤرخين أكثر منه في أهل الجرح والتعديل وقل ما أرى مؤرخاً خالياً عن التعصب (٣) ولقد كان عيسى بن داب يضع للعباسيين وعوانة بن الحكم يضع لبني أمية (٤) ومعاوية يستعبد سمرة بن جندب وأبا هريرة وأنس وزيد بن أرقم وعروة بن الزبير (٥) لأهدافه وغاياته ، فأكثروا من فضائل السلف والطعن في أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب وولده ، وشوهوا أحكام الشريعة وتجرؤوا على قدس الرسالة فنسبوا إليه السهو مرة (٦) والخطأ أخرى (٧) وأن السحر أثر فيه حتى خيل إليه أنه يفعل الشيء ولم يفعله واستمر الحال إلى سنة (٨) .

____________________

(١) الاحتجاج للطبرسي ص ٢٤٧ طبع النجف في احتجاج الجواد على يحيى ابن أكثم .

(٢) معيد النعم ص ٧٤ ، باب ٤٦ .

(٣) طبقات الشافية الكبرى ج ١ ، ص ١٩٧ ترجمة أحمد بن صالح المصري .

(٤) معجم الأدباء ج ١٦ ، ص ١٦٢ ترجمة عيسى بن داب .

(٥) شرح النهج لابن أبي الحديد ج ١ ، ص ٣٦٣ .

(٦) صحيح البخاري في باب ما جاء في سجود السهو ، وفي فتح الباري ج ٣ ، ص ٦٠ ذكر حديث ذي اليدين في السهو النبي ، وذكره القاضي عياض في الشفا باب عصمة أقواله .

(٧) شرح الشفا للخفاجي ج ٤ ، ص ٢٥٦ وعمدة القاري شرح البخاري ج ١ ، ص ٥٧٧ باب كتابة العلم ، وجلاء العينين للألوسي ص ٢٦٨ .

(٨) المغني لابن قدامة الحنبلي ج ٨ ، ص ١٥٠ ، والبخاري كتاب الطب ، وإرشاد الساري شرح البخاري ج ٨ ، ص ٤٠٣ ، والزواجر لابن حجر ، ج ٢ ، ص ٨٢ .

١٣٢
 &

إذاً فمن أين تبصر الأجيال المستقبلة الحوادث الصحيحة لتسير على ضوء هدى العظماء الذين لا يخضعون للدنيه ويبذلون في تحصيل السعادة كل غال ورخيص .

ومن هنا أظلم الطريق ولم يهتد الباحث إلى الصحيح في نسب ( الرباب ) زوجة الحسين (ع) والقصة التي يحكيها أبو الفرج الأصفهاني في مقال الطالبيين بترجمة عبد الله بن الحسين عن مجاهد عن محمد بن السائب الكلبي لا تأخذ بنا إلى جهة نيرة ، فإن القارئ لا يشك في تسطيرها على غير الواقع لغاية الحط من مقام أمير المؤمنين الذي يقول كنت أتبع رسول الله اتباع الفصيل أثر أمّه يرفع لي كل يوم علماً من أخلاقه ويأمرني بالاقتداء به أرى نور الوحي وأشم ريح النبوة (١) .

فإن الأخلاق المحمدية التي تحلى بها صاحب الخلافة الكبرى تتنافى مع الأسطورة التي يقصها مجاهد وابن الكلبي مع أن علماء الرجال تكلموا في مجاهد ولم يقبل جملة منهم مروياته ومحمد بن هشام بن السائب الكلبي مجهول الحال عند علماء الشيعة ، ولم يعتمد عليه علماء السنة (٢) فما يتحدثان عنه في قصة زواج الحسين منها يرمى به عرض الجدار ولم يخف افتعالها على من يقرأها بروية .

ونصها المسطور في مقاتل الطالبيين بترجمة عبد الله بن الحسين (ع) أن رجلاً دخل المسجد أيام خلافة عمر بن الخطاب فحياه بتحية الإسلام وسأله عمر عن اسمه ، فقال : أنا نصراني أنا امرؤ القيس بن عدي الكلبي ، وعرض عليه عمر الإسلام فأسلم وعقد له على من

____________________

(١) نهج البلاغة ج ١ ص ٤١٧ من خطبته الفاصعة .

(٢) راجع عنهما تهذيب التهذيب لابن حجر ، ج ١٠ ، ص ٤٢ ، وج ٩ ، ص ١٧٨ .

١٣٣
 &

أسلم بالشام من قضاعة ، ولما حمل اللواء وأدبر تبعه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ومعه ابناه حسن وحسين ، فقال له : أنا ابن عم رسول الله وصهره وهذان ابناي وقد رغبنا في صهرك فأنكحنا ، فقال : أنكحتك يا علي ابنتي المحياة وأنكحت الحسن اختها سلمى وأنكحت الحسين اختها الرباب .

وهذه القصة لا مساس لها بالواقع فإن الإمعان في شخصية أمير المؤمنين المتحلية بألخلاق الشريعة والعادات المألوفة يفيدنا الجزم بمنافاة إسراعه في المصاهرة من هذا النصراني الذي هو جديد عهد بالإسلام والمسلمين ، وكل أحد إذا راجع وجدانه يجد منه الإنكار على من يرتكب مثل هذا الذي لا يتفق مع الآداب العرفية ، حتى لو كان سوقة فضلاً عمن هو مؤهل للزعامة الكبرى وفرضه المولى سبحانه وتعالى خليفة على البشر عامة بعد النبوة ، وحاشا مثل أمير المؤمنين أن يكون مقهوراً لحكم الشهوة وتحفزه الغريزة الجنسية إلى ما تتنفر منه العامة والخاصة .

ومما يبعد القصة إهمالها اختيار رأي البنات في الرضا والعدم كما أنها لم تعين المهر مع أن الشريعة المقدسة قررت اختيار الزوجة في الرضا بالزوج ومعرفة الزوجة بالمهر لازم والالتزام بفضولية العقد ووقوفه على الإجازة ، وأن لها مهر أمثالها لو لم يسم الصداق إنما يتم مع فرض التنازل إلى التسليم بمسارعة أمير المؤمنين وخوف فوات هذا ( الكنز ) منه لو لم يبادر إلى مذاكرة الرجل في بناته .

على أنا معشر الإمامية نلتزم بأن الله تعالى مكن الإمام الحجة المؤهل للرياسة العامة من العلم الواسع لقطع شبه المعاندين أو لتركيز عقايد المتبعين للحق وعليه فأمير المؤمنين على يقين من أن بنات هذا الرجل لا يغلبه عليهن أحد لو انتظر الفرصة المناسبة .

١٣٤
 &

لكن الأحقاد أبت إلا أن تشوه مقام ( ولي الله ) وتسجل على سيد الأوصياء (ع) ما تتقزز منه النفوس لعل أن يوجد في الأجيال من يتقبل هذه الأكذوبة فينحاز عنه ، وقد أصاب واضعها الغرض فقد آمن بها من لا خبرة له بمكانة ( باب مدينة علم الرسول ) المتحلي بأخلاقه الكريمة .

وهناك شيء آخر وهو بقاء الرباب حائلاً عند الحسين أكثر من عشرين سنة ، فإن التزويج منها كان في خلافة عمر بن الخطاب ولا أقل من التقدير بآخر أيامه فإنه قتل ٢٥ سنة وولادة سكينة على أقل التقدير في سنة ٤٧ فتكون يوم الطف ابنة ١٣ سنة والعادة تبعد بقاءها حائلاً هذه المدة الطويلة ، وإذا كان الزواج في أوائل خلافته تكون المسافة أبعد .

وعلى هذا فلا حجة واضحة تأخذ بنا إلى الإيمان بهذه الأسطورة مع أن ابن كثير في البداية ج ٨ ، ص ٢١٧ يسمى أباها ( أنيف ) ولم ينسبه إلى أحد ولم يذكر هذه الأسطورة .

وعلى كل حال فالرباب من خيرات النساء وأفضلهن جاء بها الحسين مع حرمه إلى الطف وحملت معهن إلى الكوفة والشام ورجعت مع الحرم إلى المدينة فأقامت فيها لا تهدأ ليلاً ولا نهاراً من البكاء على الحسين ولم تستظل تحت سقف حتى ماتت بعد قتله بسنة كمداً (١) .

وليس بصحيح ما قيل : إنها أقامت على قبر الحسين سنة (٢) تنوح الليل والنهار وذلك بعد الرجوع من الشام ومرورهم بكربلاء

____________________

(١) كامل ابن الأثير ج ٤ ، ص ٣٦ .

(٢) ابن الأثير .

١٣٥
 &

فإن العقيلة زينب الكبرى هي المتكفلة بحياطة الحرم وحفظهم وكلاءتهم فلا تستطيع أن تفارقها بتلك البيداء المقفرة من دون عاطف ولا متحنن وهي امرأة عزلاء لا حامي لها ولا كفيل .

وكيف كان ففي تلك السنة التي عاشت فيها خطبها الأشراف فأبت ، وقالت : ما كنت لأتخذ حماً بعد رسول الله (ص) (١) .

وحق لها إذا امتنعت من التزويج فإنها لا ترى أي أحد يوازي سيد شباب أهل الجنة لتحظى به أو أن هناك من يباري من هو من النبي (ص) بمنزلة هارون من موسى (ع) لتفوز بمصاهرته :

من يباريهم وفي الشمس معنى

مجهد متعب لمن باراها

قادة علمهم ورأي حجاهم

مسمعاً كل حكمة منظراها

ورثوا من محمد سبق أولا

ها وحازوا ما لم تحز أخراها

وهم الأعين الصحيحات تهدي

كل عين مكفوفة عيناها

كم لهم ألسن عن الله تنبي

هي أقلام حكمة قد براها

لم يكونوا للعرش إلا كنوزاً

خافيات سبحان من أبداها (٢)

على أن الرواية جاءت عن أمامة بنت زينب ربيبة رسول الله (ص) ، وكانت في عداد أزواج أمير المؤمنين عنه (ع) أن أزواج النبي (ص) والوصي (ع) لا يتزوجن بعده فلم تتزوج امرأة ولا أم ولد بعد أمير المؤمنين عملاً بهذا الحديث (٣) .

____________________

(١) تذكرة الخواص ص ١٥٠ ، وابن الأثير ج ٤ ، ص ٣٦ ، والأغاني ج ١٤ ، ص ١٥٨ .

(٢) من ألفية ملا كاظم الأزري .

(٣) المجلسي في البحار ج ٩ ، ص ٦٢١ عن قوت القلوب .

١٣٦
 &

والرباب هذه هي التي طلبت رأس الحسين من ابن زياد فلما رأته أخذته ووضعته في حجرها وقبلته وقالت (١) :

وا حسينا فلا نسيت حسيناً

أقصدته أسنة الأعداء

غادروه بكربلاء صريعاً

لا سقى الله جانبي كربلاء

وهذان البيتان وراهما ياقوت في معجم البلدان ج ٧ ـ ص ٢٢٩ لعاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل في رثاء الحسين ، وادعى أنها زوجته وكان عجز البيت الثاني في روايته :

( لا سقى الغيث بعده كربلاء )

ولانفراده بهذا عما عليه أهل النسب والتراجم والسيرة من عدم عدها في أزواج السبط الشهيد لا يؤبه به .

وكان من رثاء الرباب لسيد الشهداء (ع) :

إن الذي كان نوراً يستضاء به

بكربلاء قتيل غير مدفون

سبط النبي جزاك الله صالحة

عنا وجنبت خسران الموازين

قد كنت لي جبلاً صعباً ألوذ به

وكنت تصحبنا بالرحم والدين

من لليتامى ومن للسائلين ومن

يغني ويؤوي إليه كل مسكين

والله لا أبتغي صهراً بصهركم

حتى أغيَّب بين الرمل والطين

ولما رجعت من الشام أقامت المأتم على الحسين وبكت النساء معها حتى جفت دموعهن :

____________________

(١) تذكرة الخواص ص ١٤٧ ، وتاريخ القرماني ص ٤ .

١٣٧
 &

تنعى ليوث البأس من فتيانها

وغيوثها إن عمت البأساء

تبكيهم بدم فقل بالمهجة الحرَّى

تسيل العبرة الحمراء

ناحت فلما غضضت من صوتها

بزفيرها أنفاسها الصعداء

حنت ولكن الحنين بكى وقد

ناحت ولكن نوحها إيماء

ولما أعلمتها بعض جواريها بأن السويق يسيل الدمعة أمرت أن يصنع السويق ، وقالت إنما نريد أن نقوى على البكاء (١) .

ويقول ابن كثير توفيت الرباب بنت أنيف امرأة الحسين بن علي (ع) في سنة ٦٢ وكانت حاضرة أهل العراق إذ هم يعدون في السبت أو الجمعة على زوجها الحسين بن علي ابن بنت رسول الله (٢) .

ولدت الرباب من الحسين (ع) سكينة وعبد الله فأما عبد الله فقتل رضيعاً في حجر أبيه يوم الطف وذلك لما قتل أهل بيته وصحبه وبقي وحده استسلم للقضاء الإلٰهي بذبحه مظلوماً ممنوعاً من الورود .

وجاء إلى عياله يودعهم ويأمرهم بلبس الأزر والصبر على ما يحل بهم من البلاء وعرفهم بأن الله تعالى يجعل عاقبة أمرهم إلى خير ويعذب عدوهم بأنواع العذاب .

ثم دعا بولده الرضيع يودعه فأتته زينب بابنه عبد الله فأجلسه في حجره يودعه ويقبله (٣) ويقول :

بعداً لهؤلاء القوم إذا كان جدك المصطفى خصمهم (٤) .

____________________

(١) البحار للمجلسي ج ١٠ ، ص ٢٣٥ عن الكافي .

(٢) البدايةج ٨ ، ص ٢١٧ .

(٣) اللهوف ص ٦٥ .

(٤) البحار ج ١٠ ، ص ١٠٣ .

١٣٨
 &

ثم أتى به نحو القوم يطلب له الماء فرماه حرملة بسهم وذبحه فتلقى الحسين الدم بكفه ورمى به نحو السماء فلم يسقط منه قطرة (١) .

وقال هون ما نزل بي أنه بعين الله (٢) اللهم لا يكون أهون عليك من فصيل إلٰهي إن كنت حبست عنا النصر فاجعله لما هو خير منه وانتقم لنا من الظالمين (٣) واجعل ما حل بنا في العاجل ذخيرة لنا في الآجل (٤) اللهم أنت الشاهد على قوم قتلوا أشبه الناس برسولك محمد (ص) (٥) وسمع (ع) قائلاً يقول : دعه يا حسين فإن له مرضعاً في الجنة (٦) .

ثم نزل عن فرسه وحفر له بجفن سيفه ودفنه مرملاً بدمه (٧) .

ويقال إنه وضعه مع قتلى أهل بيت (٨) .

وأما سكينة فقد ذكر المؤرخون أنه لقب لها من أمها الرباب (٩)

____________________

(١) حديث الإمام الباقر (ع) وزيارة الناحية التي يقول فيها حجة آل محمد (ع) : السلام على عبد الله الرضيع المرمي الصريع المصعد بدمه إلى السما المذبوح في حجر أبيه ، لعن الله راميه حرملة بن كاهل الأسدي وذويه .

(٢) ابن شهرآشوب ج ٢ ـ ص ٢٢٢ .

(٣) ابن نما ص ٣٦ .

(٤) نظلم الزهراء ص ١٢٢ .

(٥) المنتخب .

(٦) تذكرة الخواص ص ١٤٤ ، والقمقام لميرزا فرهاد ص ٣٨٥ .

(٧) احتجاج الطبرسي ص ١٦٣ ط النجف .

(٨) إرشاد المفيد وابن نما ص ٣٧ .

(٩) ابن خلكان في الوفيات بترجمتها وشذرات الذهب ج ١ ، ص ١٥٤ ، ونور الأبصار ص ١٥٧ .

١٣٩
 &

وكأنه لسكونها وهدوئها وعليه فالمناسب فتح السين المهملة وكسر الكاف التي بعدها لا كما يجري على الألسن من ضم السين وفتح الكاف وهذا الرأي نسبه الصبان إلى المشهور فإنه قال :

المشهور على الألسنة في اسمها أنه مكبر بفتح السين وكسر الكاف (١) .

والمحكي عن شرح أسماء رجال المشكاة أنه مصغَّر بضم السين وفتح الكاف ومثله في القاموس .

وأما اسمها فالذي اختاره ابن تغري بردي أنه آمنة (٢) ورواية أبي إسحاق المالكي تؤكده فإن فيها قول سكينة :

إنكم سميتموني باسم جدتي أم رسول الله (ص) آمنة بنت وهب .

ويحكي أبو الفرج القول بأنه أمينة وأميمة .

ولم يتضح لنا سنة ولادتها ولا مقدار عمرها وان أمكننا القول بأنها قاربت السبعين بعد ملاحظة سنة وفاتها وكونها يوم الطف بالغة مبلغ النساء ولا أقل من التقدير بالعشرة . وذكرنا ولادتها سنة ٤٧ .

كما صح لنا ولادتها بالمدينة ووفاتها فيها (٣) يوم الخميس

____________________

(١) اسعاف الراغبين بهامش نور الأبصار ص ٢٠٢ .

(٢) النجوم الزاهرة ج ١ ، ص ٢٧٦ .

(٣) تهذيب الأسماء للنووي ج ١ ، ص ١٦٣ ومعاوف ابن قتيبة وتذكرة الخواص وابن خلكان بترجمتها والكواكب الدرية للمناوي ج ١ ص ٥٨ .

١٤٠