محاضرات في أصول الفقه - ج ١

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٠٠

أحدهما ما لوحظ فيه كثرة معينة من جانب القلة والكثرة وله حدّ خاص من الطرفين كالأعداد ، فان الخمسة ـ مثلا ـ مركبة من أعداد معينة بحيث لو زاد عليها واحد أو نقص بطل الصدق لا محالة.

وثانيهما ـ ما لوحظ فيه اجزاء معينة من جانب القلة فقط وله حد خاص من هذا الطرف ، وأما من جانب الكثرة ودخول الزائد فقد أخذ لا بشرط ، وذلك مثل الكلمة والكلام والدار وأمثال ذلك فان فيها ما أخذ مقوماً للمركب ، وما أخذ المركب بالإضافة إليه لا بشرط ، ومن الظاهر ان اعتبار اللا بشرطية في المعنى كما يمكن ان يكون باعتبار الصدق الخارجي كذلك يمكن أن يكون باعتبار دخول الزائد في المركب. كما انه لا مانع من أن يكون المقوم للمركب الاعتباري أحد أمور على سبيل البدل ، وقد مثلنا لذلك في الدورة السالفة بلفظ الحلوى فانه موضوع للمركب المطبوخ من شكر وغيره سواء كان ذلك الغير دقيق أرز أو حنطة أو نحو ذلك.

ولما كانت ال «صلاة» من المركبات الاعتبارية فانك عرفت انها مركبة من مقولات متعددة كمقولة الوضع ، ومقولة الكيف ونحوها ، وقد برهن في محله ان المقولات أجناس عاليات ومتباينات بالذات فلا تندرج تحت مقولة واحدة ، لاستحالة تحقق الاتحاد الحقيقي بين مقولتين بل لا يمكن بين افراد مقولة واحدة فما ظنك بالمقولات فلا مانع من الالتزام بكونها موضوعة للأركان فصاعداً.

والوجه في ذلك هو ان معنى كل مركب اعتباري لا بد ان يعرف من قبل مخترعه سواء كان ذلك المخترع هو الشارع المقدس أم غيره ، وعليه فقد استفدنا من النصوص الكثيرة ان حقيقة الصلاة التي يدور صدق عنوان ال «صلاة» مدارها وجوداً وعدماً عبارة عن التكبيرة والركوع والسجود ، والطهارة من الحدث على ما سنتكلم فيها عن قريب إن شاء الله تعالى ، واما بقية الاجزاء والشرائط فهي عند وجودها داخلة في المسمى ، وعند عدمها خارجة عنه وغير مضر بصدقة.

١٦١

وهذا معنى كون الأركان مأخوذة لا بشرط بالقياس إلى دخول الزائد ، وقد عرفت انه لا مانع من الالتزام بذلك في الماهيات الاعتبارية وكم له من نظير.

وان شئت فقل ان المركبات الاعتبارية أمرها سعة وضيقاً بيد معتبرها فقد يعتبر التركيب بين أمرين أو أمور بشرط لا كما في الاعداد وقد يعتبر التركيب بين أمرين أو أزيد لا بشرط بالإضافة إلى دخول الزائد كما هو الحال في كثير من تلك المركبات فالصلاة من هذا القبيل فانها موضوعة للأركان فصاعداً ، ومما يدل على ذلك هو ان إطلاقها على جميع مراتبها المختلفة كماً وكيفاً على نسق واحد ، بلا لحاظ عناية في شيء منها فلو كانت الصلاة موضوعة للأركان بشرط لا فلم يصح إطلاقها على الواجد لتمام الاجزاء والشرائط بلا عناية مع انا نرى وجداناً عدم الفرق بين إطلاقها على الواجد ، وإطلاقها على الفاقد أصلا.

وقد تلخص من ذلك أن دخول شيء واحد في ماهية مركبة مرة ، وخروجه عنها مرة أخرى انما يكون مستحيلا في الماهيات الحقيقية ، دون المركبات الاعتبارية

وعلى ضوء ذلك قد ظهر الجواب عن الإيراد الثاني أيضاً فان لفظ ال «صلاة» موضوع لمعنى وسيع جامع لجميع مراتب الأركان على اختلافها كماً وكيفاً ، وله عرض عريض فباعتباره يصدق على الناقص والتام والقليل والكثير على نحو واحد كصدق كلمة «الدار» على جميع افرادها المختلفة زيادة ونقيصة كماً وكيفاً إذاً لا نحتاج إلى تصوير جامع بين الأركان ليعود الإشكال.

وبتعبير واضح ان الأركان وان كانت تختلف باختلاف حالات المكلفين كما أفاده شيخنا الأستاذ ـ قده ـ إلا انه لا يضر بما ذكرناه من أن لفظ ال «صلاة» موضوع بإزاء الأركان بعرضها العريض ، ولا يوجب علينا تصوير جامع بين مراتبها المتفاوتة فانه موضوع لها كذلك على سبيل البدل ، وقد عرفت انه لا مانع من أن يكون مقوم المركب الاعتباري أحد الأمور على سبيل البدل.

ومن ذلك يتبين ان ما ذكرناه غير مبنى على جواز التشكيك في الماهية أو في

١٦٢

الوجود ، فانه سواء قلنا به في الماهية أو الوجود؟ أم لم نقل؟ فما ذكرناه أمر على طبق المرتكزات العرفية في أكثر المركبات الاعتبارية.

واما ما أفاده ـ قده ـ من ان إدراك التشكيك في الوجود أمر فوق إدراك البشر فلا يعلم إلا بالكشف والمجاهدة ففساده غني عن البيان ، كما لا يخفى على أهله.

وبما ذكرناه يظهر فساد الإيراد الثالث أيضاً وذلك لأن الأركان قد يصدق عليها الصلاة الصحيحة فكيف يمنع عن صدق الصلاة عليها حتى على الأعم فلو كبر المصلى ونسي جميع الاجزاء والشرائط غير الأركان والوقت والقبلة حتى فرع منها يحكم بصحة صلاته بلا إشكال ، ولم يستشكل في ذلك أحد من الفقهاء.

ومن هنا يظهر بطلان ما أفيد ثانياً من ان لفظ ال «صلاة» يصدق على الفاقد لبعض الأركان فيما إذا كان واجداً لسائر الاجزاء والشرائط ، ووجه الظهور هو ما عرفت من ان الروايات الكثيرة قد دلت على ان حقيقة ال «صلاة» التي تتقوم بها هي التكبيرة والركوع والسجود والطهارة من الحدث ، والمراد منها أعم من المائية والترابية كما ان المراد من الركوع والسجود أعم مما هو وظيفة المختار أو المضطر كما عرفت.

فقد أصبحت النتيجة انه لا مانع من الالتزام بان الموضوع له هو خصوص الأركان ولا يرد عليه شيء مما تقدم.

تذييل

قد نطقت روايات الباب والنصوص الكثيرة على ان الأركان أربعة وهي : (التكبيرة والركوع والسجود والطهارة).

اما الأولى فقد دلت نصوص عديدة (١) على أن التكبيرة ابتدأ «الصلاة»

__________________

(١) منها صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : التكبيرة الواحدة في افتتاح الصلاة تجزى والثلاث أفضل ، والسبع أفضل كله. الوسائل الباب «١» من

١٦٣

وبها افتتاحها ومعنى هذا هو ان «الصلاة» لا تتحقق بدون ذلك فالمصلي لو دخل في القراءة من دون أن يكبر لا يصدق أنه دخل فيها ، ومن هنا يظهر ان عدم ذكر التكبيرة في حديث لا تعاد انما هو من جهة ان الدخول في «الصلاة» لا يصدق بدونها حتى يصدق على الإتيان بها الإعادة فانها عرفاً وجود ثان للشيء بعد وجوده أولا.

أو فقل ان المستفاد من هذه الروايات هو أن الصلاة عمل خاص لا يمكن الدخول فيه بدون الافتتاح بالتكبيرة ولذا ورد في بعض الروايات لا صلاة بغير افتتاح وعليه فلو دخل المصلى بدونها نسياناً أو جهلا فلا يكون مشمولا للحديث.

واما الركوع والسجود والطهور فقد دلت صحيحة الحلبي أو حسنته (بابن هاشم) على ان الصلاة ثلاثة أثلاث : ثلث منها الطهور ، وثلث منها الركوع ، وثلث منها السجود الحديث (١) فقد حصرت الصحيحة الصلاة بهذه الثلاثة ، ولكن لا بد من رفع اليد عنها من هذه الجهة بما دل من الروايات على ان التكبيرة أيضاً ركن ومقوما لها كما عرفت.

بقي هنا شيء وهو ان التسليمة هل هي ركن للصلاة أيضاً؟ أم لا؟ وجهان بل قولان فذهب بعضهم إلى انها أيضاً ركن واستدل على ذلك بعدة من الروايات (٢)

__________________

تكبيرة الإحرام.

ومنها صحيحة زرارة قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الرّجل ينسى تكبيرة الافتتاح قال : يعيد الوسائل الباب «٢» من تكبيرة الإحرام.

ومنها موثقة عبيد بن زرارة قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أقام الصلاة فنسي ان يكبر حتى افتتح الصلاة قال : يعيد الصلاة الوسائل الباب «٢» من تكبيرة الإحرام.

ومنها صحيحة علي بن يقطين قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الرّجل ينسى ان يفتتح الصلاة حتى يركع قال : يعيد الصلاة الوسائل الباب «٢» من تكبيرة الإحرام.

(١) رواها في الوسائل في الباب «٩» من أبواب الركوع والسجود عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : الصلاة ثلاثة أثلاث ثلث طهور ، وثلث ركوع ، وثلث سجود.

(٢) في الوسائل الباب «١» من أبواب التسليمة مضمرة علي بن أسباط عنهم عليهم‌السلام في حديث

١٦٤

الدالة على أن اختتام الصلاة بالتسليم ، فهي دالة على أن ال «صلاة» لا تتحقق بدون التسليم وذهب جماعة منهم السيد (قده) في العروة إلى انها ليست بركن ، وهذا هو الأقوى ، ودليلنا على ذلك هو انها لم تذكر في حديث لا تعاد ، فلو ترك المصلى التسليمة في الصلاة نسياناً لم تجب عليه الإعادة في الوقت فضلا عن القضاء في خارجه وكيف كان فان قلنا بعدم كون التسليمة من الأركان كانت التسليمة أيضا خارجة عن المسمى.

فالنتيجة من جميع ما ذكرناه لحد الآن أمور :

(الأول) : ان لفظ ال «صلاة» موضوع للأركان فصاعداً ، وهذا على طبق الارتكازي العرفي كما هو الحال في كثير من المركبات الاعتبارية.

(الثاني) : ان اللفظ موضوع للأركان بمراتبها على سبيل البدل لا للجامع بينها ، فان الجامع غير معقول كما عرفت ولا لمرتبة خاصة منها وذلك من جهة أن إطلاق اللفظ على جميع مراتبها على نسق واحد. هذا ، وقد تقدم انه لا بأس بكون المقوم للمركب الاعتباري أحد أمور على نحو البدل.

(الثالث) : ان الأركان على ما نطقت به روايات الباب عبارة عن التكبيرة والركوع والسجود والطهارة والمراد الأعم من (المائية ، والترابية) كما أن المراد من الركوع والسجود أعم مما هو وظيفة المختار أو المضطر ، ولكن مع هذا كله يعتبر في صدق ال «صلاة» الموالاة ، بل الترتيب أيضاً ، واما الزائد عليها فعند الوجود داخل فيها وإلا فلا.

__________________

طويل إلى ان قال : يسمى عند الطعام ويفشي السلام ويصلى والناس نيام وله كل يوم خمس صلوات متواليات ينادى إلى الصلاة كنداء الجيش بالشعار ويفتتح بالتكبير ويختم بالتسليم في الوسائل في الباب ١ من أبواب التسليمة موثقة أبي بصير قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول في رجل صلى الصبح فلما جلس في الركعتين قبل ان يتشهد رعف قال فليخرج فليغسل أنفه ثم ليرجع فليتم صلاته فان آخر الصلاة التسليم.

١٦٥

(الرابع) : ان دخول شيء واحد في مركب مرة ، وخروجه عنه مرة أخرى مما لا بأس به في المركبات الاعتبارية ، بل هو على طبق الفهم العرفي كما لا يخفى.

الوجه الثاني من وجوه تصوير الجامع ما قيل من أن لفظ ال «صلاة» موضوع بإزاء معظم الاجزاء ، ويدور صدقه مداره وجوداً وعدماً ، وقد نسب شيخنا العلامة الأنصاري ـ قده ـ هذا الوجه إلى المشهور ، وكيف ما كان فقد أورد عليه المحقق صاحب الكفاية ـ قده ـ بوجهين :

(الأول) : ما أورده ـ قده ـ ثانياً على الوجه الأول من ان لازم ذلك. هو أن يكون استعمال لفظ ال «صلاة» فيما هو المأمور به باجزائه ، وشرائطه مجازاً وكان من باب استعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكل ، لا من باب إطلاق الكلي على فرده والطبيعي على مصداقه ، وهذا مما لا يلتزم به القائل بالأعم.

(الثاني) : انه عليه يتبادل ما هو المعتبر في المسمى فكان شيء واحد داخلا فيه تارة ، وخارجاً عنه أخرى بل مردداً بين أن يكون هو الخارج ، أو غيره عند اجتماع تمام الاجزاء ، وهو كما ترى سيما إذا لو حظ هذا مع ما عليه العبادات من الاختلاف الفاحش بحسب الحالات.

توضيحه : هو أنه لا ريب في اختلاف ال «صلاة» باختلاف حالات المكلفين من السفر والحضر والاختيار والاضطرار ، ونحو ذلك كما انه لا ريب في اختلافها في نفسها باختلاف أصنافها من حيث الكم ، والكيف. وعليه فمعظم الأجزاء يختلف من هاتين الناحيتين فيلزم دخول شيء واحد فيه مرة وخروجه عنه مرة أخرى بل عند اجتماع تمام الأجزاء لا تعين لما هو الداخل عما ليس هو بداخل فان نسبة كل جزء إلى المركب على حد سواء ، بل لا واقع له حينئذ إذ جعل عدة خاصة من معظم الأجزاء دون غيرها ترجيح بلا مرجح فيكون المركب حينئذ من قبيل الفرد المردد الّذي لا واقع له.

١٦٦

ولكن بما حققناه في الوجه الأول من أن المسمى قد اعتبر لا بشرط بالإضافة إلى الزائد قد تبين الجواب عن الإيراد الأول فان معظم الأجزاء الّذي أخذ مقوماً للمركب مأخوذ لا بشرط بالقياس إلى بقية الأجزاء فهي داخلة في المسمى عند وجودها وخارجة عنه عند عدمها.

وبهذا يظهر الجواب عن الإيراد الثاني أيضا ، فان عند اجتماع تمام الاجزاء كان المسمى هو تمام الأجزاء ، لا خصوص بعضها ليقال انه أمر مردد بين هذا وذاك

وان شئت فقل ان اللفظ لم يوضع بإزاء مفهوم معظم الأجزاء وإلا لترادف اللفظان وهو باطل قطعاً ، بل هو موضوع بإزاء واقع ذلك المفهوم ، ومعنونه وهو يختلف باختلاف المركب نفسه مثلا معظم اجزاء صلاة الصبح بحسب الكم غير معظم اجزاء صلاة العشاء فلو كان المعظم لصلاة الصبح أربعة أجزاء ـ مثلا ـ فلا محالة كان المعظم لصلاة المغرب ستة اجزاء .. وهكذا ، وعلى هذا فاللفظ موضوع بإزاء المعظم على سبيل وضعه للأركان بمعنى أن المقوم للمركب أحد أمور على نحو البدل ، فقد يكون المقوم أربعة أجزاء ، وقد يكون ثلاثة أجزاء ، وقد يكون خمسة أجزاء .. وهكذا ، وقد تقدم انه لا مانع من الالتزام بذلك في المركبات الاعتبارية ، وكم له من نظير فيها ، بل هو على وفق الارتكاز كما عرفت ، واما الزائد على المعظم فعند وجوده يدخل في المسمى ، وعند عدمه يخرج عنه فالموضوع له حينئذ هو مفهوم وسيع جامع لجميع شتاته ومتفرقاته لا خصوص المعظم بشرط لا ولا مرتبة خاصة منه ، ومن هنا يصدق على القليل والكثير والزائد والناقص على نسق واحد. نظير لفظ الكلام ، فانه موضوع في لغة العرب لما تركب من حرفين فصاعداً فالحرفان مقومان لصدق عنوان الكلام في لغة العرب ، واما الزائد عليهما من حرف أو حرفين ، أو أزيد فعند وجوده داخل في المسمى ، وعند عدمه خارج عنه.

ومن جميع ما ذكرناه يستبين انه لا بأس بهذا الوجه أيضاً مع الإغماض عن

١٦٧

الوجه الأول بان يكون اللفظ موضوعاً للمعظم لا بشرط ، هذا مع اعتبار الموالاة والترتيب أيضاً في المسمى إذ بدونهما لا يصدق على المعظم عنوان ال «صلاة».

(الوجه الثالث) : ما قيل من أن لفظ ال «صلاة» موضوع للمعنى الّذي يدور مداره التسمية عرفاً.

وفيه ان هذا الوجه بظاهره لا يرجع إلى معنى محصل ، وذلك لأن الصدق العرفي تابع لوجود المسمى في الواقع ومقام الثبوت فلا يعقل ان يكون وجود المسمى في الواقع ونفس الأمر تابعاً للصدق العرفي.

ولكن قد طهر مما ذكرناه ان مرجع هذا الوجه إلى الوجه الثاني ، فان المراد منه هو ان الكاشف عن وجود المسمى ليس إلا الفهم العرفي ، فانه طريق وحيد في مقام الإثبات إلى سعة المعنى ، أو ضيقه في مقام الثبوت ، وحيث ان لفظ ال «صلاة» يصدق عند العرف على معظم اجزائها ولا يصدق على غير المعظم يكشف عن انه موضوع بإزاء المعظم على الكيفية التي تقدمت ـ مثلا ـ لفظ ال (ماء) في لغة العرب موضوع لمعنى في الواقع ، ولكن الكاشف في مقام الإثبات عن مقدار سعته أو ضيقه لا يكون إلا الصدق العرفي فلو رأينا إطلاق العرف لفظ ال (ماء) على ماء الكبريت نستكشف عن انه موضوع لمعنى وسيع في الواقع.

وعلى الجملة فالمتبع في إثبات سعة المعنى ، أو ضيقه إنما هو فهم العرف والصدق عندهم دليل على سعة المعنى بالقياس إلى ذلك المورد ، كما ان عدم الصدق دليل على عدم السعة.

تتلخص نتيجة جميع ما ذكرناه لحد الآن في خطوط :

(الخطّ الأول) : فساد توهم الاشتراك في وضع ألفاظ العبادات كما سبق.

(الخطّ الثاني) : فساد توهم كون الوضع فيها عاماً والموضوع له خاصاً.

(الخطّ الثالث) : عدم إمكان تصوير جامع ذاتي مقولي على القول بالصحيح

(الخطّ الرابع) : إمكان تصوير جامع عنواني على هذا القول إلا انه ليس

١٦٨

بموضوع له كما عرفت.

(الخطّ الخامس) : جواز تصوير جامع ذاتي بين الأعم من الصحيحة والفاسدة فالنتيجة على ضوء هذه الخطوط الخمس قد أصبحت ان ألفاظ العبادات كا «لصلاة» ونحوها موضوعة للجامع بين الافراد الصحيحة ، والفاسدة لا لخصوص الجامع بين الأفراد الصحيحة.

ومن هنا لا مجال للنزاع في مقام الإثبات عن ان الألفاظ موضوعة للصحيح أو للأعم فان النزاع في هذا المقام متفرع على إمكان تصوير الجامع على كلا القولين معاً فإذا لم يمكن تصويره إلا على أحدهما فلا مجال له أصلا ، إذاً لا بد من الالتزام بالقول بالأعم ولا مناص عنه ، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى ان المرتكز في أذهان المتشرعة هو ان إطلاق لفظ ال «صلاة» على جميع افرادها الصحيحة ، والفاسدة على نسق واحد من دون لحاظ عناية في شيء منها ضرورة انهم يستعملون هذا اللفظ في الجميع غافلين عن لحاظ قرينة المجاز والعناية في موارد إطلاقه على الفرد الفاسد فلو كان اللفظ موضوعاً لخصوص الصحيح فلا محالة كان إطلاقه على الفاسد محتاجاً إلى لحاظ عناية وقرينة ، مع ان الأمر على خلاف ذلك وان الاستعمال في الجميع على نسق واحد فلا فرق بين قولنا فلان صلى «صلاة» صحيحة ، أو تلك ال «صلاة» صحيحة ، وبين قولنا فلان صلى «صلاة» فاسدة أو هذه ال «صلاة» فاسدة .. وهكذا ، وحيث ان استعمالات المتشرعة تابعة للاستعمالات الشرعية فتكشف تلك عن عموم المعنى الموضوع له عند الشارع المقدس أيضاً.

ثمرة المسألة

ذكروا لها ثمرات :

الأولى : ما اشتهر من أن الأعمي يتمسك بالبراءة في موارد الشك

١٦٩

في الأجزاء والشرائط ، والصحيحي يتمسك بقاعدة الاشتغال والاحتياط في تلك الموارد.

ولكن التحقيق ان الأمر ليس كذلك ولا فرق في التمسك بالبراءة ، أو الاشتغال بين القولين ـ أصلا ـ والوجه في ذلك :

هو انا إذا قلنا بالوضع للأعم فالتمسك بالبراءة مبتن على القول بانحلال العلم الإجماليّ في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين ، فانه ان قلنا بالانحلال وان العلم الإجمالي ينحل إلى علم تفصيلي وشك بدوي فلا مانع من الرجوع إلى البراءة عن وجوب الأكثر والتقييد الزائد فان مسألتنا هذه من إحدى صغريات كبرى مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين ، وذلك لأن تعلق التكليف في المقام بالطبيعي الجامع بين المطلق والمقيد معلوم لنا تفصيلا (وهو الماهية المهملة العارية عن جميع الخصوصيات) وانما هو شكنا في تعلقه به على نحو الإطلاق بمعنى عدم تقييده بشيء لا جزء ولا شرطاً ، أو على نحو التقييد به بأحد النحوين المزبورين ، فحينئذ إن قلنا بانحلال العلم الإجماليّ في تلك المسألة والرجوع إلى البراءة عن التكليف الزائد عن المقدار المعلوم كما هو كذلك فنقول هنا أيضاً بالانحلال والرجوع إلى البراءة عن التقييد الزائد. واما لو قلنا بعدم انحلال العلم الإجماليّ في تلك المسألة فلا بد من الاحتياط والرجوع إلى قاعدة الاشتغال وعلى ذلك فلا ملازمة بين القول الأعمي والرجوع إلى البراءة.

وأما على الصحيح فان قلنا بان متعلق التكليف عنوان بسيط ، وخارج عن الأجزاء والشرائط ، وانما هي سبب لوجوده فلا محالة يكون الشك في جزئية شيء أو شرطيته شكا في المحصل فلا بد من القول بالاشتغال إلا ان هذا مجرد فرض غير واقع في الخارج بل انه خلاف مفروض البحث إذا المفروض ان متعلق التكليف هو الجامع بين الأفراد الصحيحة ، ونسبته إلى الأجزاء والشرائط نسبة الطبيعي إلى افراده أو نسبة العنوان إلى معنونه ، وعلى كلا التقديرين فلا يكون المأمور به

١٧٠

مغايراً في الوجود مع الأجزاء والشرائط ومسبباً عنها.

وعلى الجملة ان كلا من السبب والمسبب موجود في الخارج بوجود مستقل على حياله واستقلاله كالقتل المسبب عن مقدمات خارجية أو الطهارة الخبثية المسببة عن الغسل بل الحدثية المسببة عن الوضوء والغسل والتيمم على قول ، فإذا كان المأمور به أمراً بسيطاً مسبباً عن شيء آخر ، ومترتباً عليه وجوداً فلا محالة يرجع الشك في جزئية شيء أو شرطيته بالإضافة إلى سببه إلى الشك في المحصل ، ولا إشكال في الرجوع معه إلى قاعدة الاشتغال في مورده ، ولكن المقام لا يكون من ذلك الباب ، فان الجامع الّذي فرض وجوده بين الأفراد الصحيحة لا يخلو أمره من أن يكون من الماهيات المتأصلة المركبة ، أو البسيطة ، أو من الماهيات الاعتبارية والعناوين الانتزاعية وعلى كل تقدير لا بد من أن يكون منطبقاً على الأجزاء والشرائط الخارجية انطباق الكلي على افراده ، ومعه لا يرجع الشك إلى الشك في المحصل ليكون المرجع فيه قاعدة الاشتغال.

اما على الأول فلان المفروض أن الجامع هو عين الأجزاء والشرائط فالأجزاء مع شرائطها بأنفسها متعلقة للأمر ، ووحدتها ليست وحدة حقيقية ، بل وحدة اعتبارية بداهة أنه لا تحصل من ضم ماهية الركوع إلى ماهية السجود ماهية ثالثة غير ماهيتهما ، وعليه فلا مانع من الرجوع إلى البراءة عند الشك في اعتبار شيء زائد على المقدار المعلوم بناء على صحة الانحلال في مسألة دوران الواجب بين الأقل والأكثر الارتباطيين ، لأن تعلق التكليف حينئذ بالمقدار المتيقن من الأجزاء وقيودها معلوم والشك في غيره شك في التكليف فالمرجع فيه البراءة وبناء على عدم الانحلال في تلك المسألة فالمرجع فيه قاعدة الاشتغال.

وأما على الثاني فكذلك لأن الطبيعي عين افراده خارجاً ومتحد معها عيناً فالأمر المتعلق به متعلق بالأجزاء مع شرائطها سواء قلنا بان متعلق الأوامر الطبائع أم قلنا بأنه الافراد اما على الثاني واضح. واما على الأول فلاتحاد الطبيعي معها

١٧١

غاية الأمر ان الخصوصيات الفردية غير دخيلة في ذلك فعلى كلا القولين يرجع الشك في اعتبار شيء جزء أو شرطاً إلى الشك في إطلاق المأمور به وتقييده لا إلى امر خارج عن دائرة المأمور به ، فبناء على الانحلال في تلك المسألة كان المرجع فيه البراءة عن التقييد المشكوك فيه.

واما على الثالث فالامر أيضاً كذلك لأن الأمر الانتزاعي لا وجود له خارجاً يتعلق به الأمر ، وانما الموجود حقيقة هو منشأ انتزاعه فالأمر في الحقيقة متعلق بمنشإ الانتزاع وهو في المقام نفس الأجزاء والشرائط ، وأخذ ذلك الأمر الانتزاع في لسان الدليل متعلقاً للأمر إنما هو لأجل الإشارة إلى ما هو متعلق الحكم في القضية.

فالنتيجة ان الشك في اعتبار جزء أو قيد على جميع التقادير يرجع إلى الشك في تقييد نفس المأمور به بقيد زائد على المقدار المتيقن فبناء على ما هو الصحيح من انحلال العلم الإجمالي عند دوران الأمر بين الأقل والأكثر نرجع هنا إلى البراءة.

وبتعبير آخر. انا قد بينا في مبحث النهي عن العبادات وأشرنا فيما تقدم أيضاً ان الصحة الفعلية التي هي منتزعة عن انطباق المأمور به على المأتي به خارجاً لا يعقل أخذها في متعلق الأمر لتأخرها عنه فالمتعلق على كلا القولين نفس الاجزاء مع قيودها الخاصة غاية الأمر انه على القول بالوضع للصحيح كان المسمى تمام الاجزاء مع تمام القيود ، وعلى القول بالوضع للأعم كان هو الأعم ، وعلى هذا كان الشك في اعتبار أمر زائد على المقدار الّذي نعلم بتعلق الأمر به من الاجزاء والشرائط مورداً للبراءة ، بلا فرق في ذلك بين القول بالصحيح والقول بالأعم.

فتلخص ان أخذ الصحة بمعنى التمامية في المسمى لا يمنع عن جريان البراءة على القول بالانحلال كما هو القوى.

فقد أصبحت النتيجة من جميع ما ذكرناه ان القول بوضع الألفاظ للأعم لا يلزمه جريان البراءة دائماً كما ان القول بوضعها للصحيح لا يلزمه الالتزام بالاشتغال

١٧٢

كذلك بل هما في ذلك سواء ، فان جريان البراءة وعدمه مبنيان على الانحلال وعدمه في تلك المسألة ، لا على الوضع للصحيح ، أو الأعم.

وعلى ضوء هذا يستبين فساد ما أفاده شيخنا الأستاذ ـ قده ـ من أنه على الصحيحي لا مناص من الرجوع إلى قاعدة الاشتغال ، كما أنه على الأعمي لا مناص من الرجوع إلى البراءة بتقريب ان تصوير الجامع على الصحيحي لا يمكن إلا بتقييد المسمى بعنوان بسيط خاص أما من ناحية علل الأحكام أو من ناحية معلولاتها ، وان هذا العنوان خارج عن المأتي به ومأخوذ في المأمور به ، وعليه فالشك في اعتبار شيء جزء أو شرطاً لا محالة يوجب الشك في حصول العنوان المزبور فيرجع الشك حينئذ إلى الشك في المحصل والمرجع فيه قاعدة الاشتغال دون البراءة.

والوجه في فساده هو ما سبق : من أن الجامع على القول بالصحيح على كل تقدير لا بد من ان ينطبق على الاجزاء والشرائط انطباق الكلي على فرده ، وعليه كان الشك في اعتبار جزء ، أو قيد في المأمور به من دوران المأمور به نفسه بين الأقل والأكثر ، فعلى القول بالانحلال كان المرجع فيه البراءة عن وجوب الأكثر فنتيجة ذلك : هي ان المأمور به بتمام اجزائه ، وشرائطه هو الأقل دون الأكثر وقد عرفت أن القول بالاشتغال مبنى على أن يكون المأمور به عنواناً بسيطاً مسبباً عن الأجزاء ، والشرائط الخارجيتين ، ومتحصلا منهما ، وهو خلاف المفروض.

وأما ما ذكره ـ قده ـ من انه على الصحيحي لا بد من تقييد المسمى بعنوان بسيط ، أما من ناحية العلل ، أو من ناحية المعلولات فيرده انه خلط بين الصحة الفعلية التي تنتزع عن انطباق المأمور به على المأتي به في الخارج ، والصحة بمعنى التمامية فالحاجة إلى التقييد إنما تكون فيما إذا كان النزاع بين الصحيحي ، والأعمي في أخذ الصحة الفعلية في المسمى ، وعدم أخذها فيه ، فانه على الصحيحي لا بد من تقييده بعنوان خاص كعنوان الناهي عن الفحشاء والمنكر ، أو نحوه مما هو مؤثر في حصول الغرض. ولكن قد تقدم انه لا يعقل أخذها في المأمور به فضلا عن

١٧٣

أخذها في المسمى فلا تكون الصحة بهذا المعنى مورداً للنزاع ، فان النزاع كما عرفت مراراً إنما هي في الصحة بمعنى التمامية ، ومن المعلوم انها ليست شيئاً آخر وراء نفس الأجزاء ، والشرائط بالأسر. ولا هي موضوع للآثار ، ولا مؤثرة في حصول الغرض ، وعليه فلا حاجة إلى تقييد المسمى بعنوان بسيط خارج عنهما.

ومن هنا يظهر ان هذه المسألة ليست من المسائل الأصولية والوجه في ذلك هو ما حققناه في أول الكتاب في مقام الفرق بين المسائل الأصولية ، ومسائل بقية العلوم من أن كل مسألة أصولية ترتكز على ركيزتين أساسيتين :

(الركيزة الأولى) : أن تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي الكلي الإلهي وبهذه الركيزة امتازت المسائل الأصولية عن القواعد الفقهية بأجمعها على بيان تقدم

(الركيزة الثانية) : ان يكون وقوعها في طريق الاستنباط بنفسها أي بلا ضم كبرى أو صغرى أصولية أخرى إليها ـ وبهذه الركيزة امتازت عن مسائل سائر العلوم الدخيلة في الاستنباط من النحو ، والصرف ، والرّجال ، والمنطق ، واللغة ، ونحو ذلك ، فان مسائل هذه العلوم وان كانت دخيلة في الاستنباط إلا انها ليست بحيث لو انضم إليها صغرياتها أنتجت نتيجة فقهية.

وعلى ضوء هذا البيان قد ظهر أن هذه المسألة ليست من المسائل الأصولية ، بل هي من المسائل اللغوية فلا تقع في طريق الاستنباط بلا ضم كبرى أصولية إليها وهي كبرى مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين.

ويترتب على ذلك ان هذه الثمرة ليست ثمرة لهذه المسألة ، بل هي ثمرة لمسألة الأقل والأكثر الارتباطيين ، وهي من مبادئ تلك المسألة فالبحث عنها محقق لموضوع البحث عن تلك المسألة ، وكذا الثمرة الآتية ، فانها ثمرة لمسألة المطلق والمقيد. دون هذه المسألة.

نعم هي محققة لموضوع التمسك بالإطلاق فالبحث عن جواز التمسك بالإطلاق وعدم جوازه وان كان بحثاً عن مسألة أصولية إلا ان البحث عن ثبوت الإطلاق

١٧٤

وعدمه بحث عن المبادئ.

(الثمرة الثانية) : ما ذكره جماعة منهم المحقق صاحب الكفاية ـ قده ـ من أنه يجوز التمسك بالإطلاق ، أو العموم على القول بالأعم عند الشك في اعتبار شيء جزء ، أو شرطاً ، ولا يجوز التمسك به على القول بالصحيح ، بل لا بد فيه من الرجوع إلى الأصول العملية.

بيان ذلك : ان التمسك بالإطلاق يتوقف على إثبات مقدمات :

(الأولى) : ان يكون الحكم في القضية وارداً على المقسم بين قسمين ، أو أقسام بان يكون له قابلية الانطباق على نوعين ، أو أنواع.

(الثانية) : ان يحرز كون المتكلم في مقام البيان ولو بأصل عقلائي ، ولم يكن في مقام الإهمال ، أو الإجمال.

(الثالثة) : أن يحرز انه لم ينصب قرينة على التعيين.

فإذا تمت هذه المقدمات استكشف بها الإطلاق في مقام الثبوت ، وان مراده الاستعمالي مطابق لمراده الجدي ، وليس لأية خصوصية مدخلية فيه ، فإذا شك في دخل خصوصية من الخصوصيات فيه يدفع ذلك بالإطلاق في مقام الإثبات وحيث أن هذه المقدمات تامة على القول بالوضع للأعم ، فان الحكم حينئذ قد تعلق بالطبيعي الجامع بين الأفراد الصحيحة ، والفاسدة فإذا أحرز ان المتكلم في مقام البيان ، ولم ينصب قرينة على التقييد فلا مانع من التمسك بالإطلاق لدفع ما شك في اعتباره جزء ، أو قيداً ، لأنه شك في اعتبار امر زائد على صدق اللفظ وفي مثله لا مانع عن التمسك بالإطلاق لإثبات عدم اعتباره.

وعلى الجملة فعلى القول بالأعم إذا تمت المقدمتان الأخيرتان يجوز التمسك بالإطلاق لدفع كل ما احتمل دخله في المأمور به جزء ، أو شرطاً ، لتمامية المقدمة الأولى على الفرض ، وعليه فما ثبت اعتباره شرعاً بأحد النحوين المزبورين فهو ، والزائد عليه حيث أنه مشكوك فيه ، ولم يعلم اعتباره فالمرجع فيه الإطلاق ،

١٧٥

به يثبت عدم اعتباره.

وهذا بخلاف القول بالوضع للصحيح ، فان المقدمة الأولى على هذا القول مفقودة ، إذا الحكم حينئذ لم يرد إلا على الواجد لتمام الاجزاء ، والشرائط فلو شك في جزئية شيء أو شرطيته فلا محالة يرجع الشك إلى الشك في صدق اللفظ على الفاقد للمشكوك فيه لاحتمال دخله في المسمى ، ومعه لا يمكن التمسك بالإطلاق.

فقد تحصل من ذلك : جواز التمسك بالإطلاق على القول بالأعم في موارد الشك في الأجزاء ، والشرائط ، وعدم جوازه على القول بالصحيح.

نعم على القول بالأعم لو شك في كون شيء ركناً للصلاة أو لم يكن فلا يجوز التمسك بالإطلاق لأن الشك فيه يرجع حينئذ إلى الشك في صدق اللفظ ومعه لا يمكن التمسك بالإطلاق ، كما مر بيانه.

وقد يورد على هذه الثمرة بوجوه :

(الأول) : انه لا فرق بين القولين في جواز التمسك بالإطلاق ، وعدم جوازه والوجه في ذلك : هو أن مناط الجواز كون المتكلم في مقام البيان ، وانه لم ينصب قرينة على التقييد ، وعليه فكما ان الأعمي يتمسك بالإطلاق فيما إذا احتمل دخل شيء في المأمور به زائداً على القدر المتيقن ، فكذلك الصحيحي يتمسك به إذا شك في اعتبار أمر زائد على المقدار المعلوم. من هنا يتمسكون الفقهاء (رض) بإطلاق صحيحة حماد التي وردت في مقام بيان الاجزاء ، والشرائط وبين الإمام عليه‌السلام فيها جميع اجزاء ال «صلاة» من التكبيرة والقراءة ، والركوع ، والسجود ، ونحوها ، وحيث لم يبين فيها الاستعاذة مثلا فيتمسك بإطلاقها على عدم وجوبها فلا فرق في ذلك بين القول بالوضع للصحيح والقول بالوضع للأعم ،

فتلخص : ان العبرة بكون المتكلم في مقام البيان وعدم إتيانه بقرينة في كلامه ، لا بكون الوضع للأعم أو الصحيح كما لا يخفى.

والجواب عنه قد ظهر مما تقدم وملخصه : ان التمسك بالإطلاق موقوف على

١٧٦

إحراز المقدمات الثلاث. أولها إحراز تعلق الحكم بالجامع بحسب المراد الاستعمالي وقابلية انقسامه إلى قسمين ، أو أقسام ، فهذه المقدمة لا بد من إحرازها وإلا فلا يعقل الإطلاق في مقام الثبوت كي يستكشف ذلك بالإطلاق في مقام الإثبات وحيث انه على القول بالصحيح قد تعلق الحكم بحصة خاصة ، وهي خصوص الحصة الصحيحة فالمقدمة الأولى مفقودة ، فالإطلاق اللفظي على القول بالصحيح غير معقول.

وأما ما استشهد على ذلك بتمسك الفقهاء (رض) بإطلاق صحيحة حماد المتقدمة فهو خلط بين الإطلاق الحالي ، والإطلاق اللفظي ، فان إطلاق الصحيحة إطلاق مقامي ، وهو أجنبي عن الإطلاق اللفظي المتقوم بإحراز صدق المفهوم على المورد المشكوك فيه ، والّذي لا يمكن التمسك به على الصحيحي هو الإطلاق اللفظي ، وأما الإطلاق المقامي فالتمسك به مشترك فيه بين القول بالصحيح والقول بالأعم والسر في ذلك : ان المعتبر في الإطلاق اللفظي أن يرد الحكم في القضية على الطبيعي الجامع القابل للانطباق على حصص عديدة ، ولا أقل من حصتين. وبعد ذلك تصل النوبة إلى إحراز بقية المقدمات من كون المتكلم في مقام البيان ، وعدم إتيانه بالقرينة على إرادة الخلاف. ولأجل ذلك لا يسع القائل بوضع الألفاظ للصحيح ان يتمسك بالإطلاق ، وذلك للشك في صدق المفهوم على الفاقد لما يحتمل دخله في المسمى. وأما الإطلاق الأحوالي فلا يعتبر فيه ذلك ، بل المعتبر فيه سكوت المتكلم عن البيان حين ما يورد الحكم على نفس الأجزاء ، والشرائط ، أو الافراد ـ مثلا ـ إذا كان المولى في مقام بيان ما يحتاجه اليوم من اللحم ، والخبز ، والأرز ، واللبن ، وغيرها من اللوازم ، فأمر عبده بشرائها ، ولم يذكر الدهن ـ مثلا ـ فبما انه كان في مقام البيان ، ولم يذكر ذلك فيستكشف منه عدم إرادته له وإلا لبينه.

ومن هنا لا نحتاج في هذا النحو من الإطلاق إلى وجود لفظ مطلق في القضية بل هو مناقض له كما عرفت آنفاً ، والإطلاق في الصحيحة من هذا القبيل ، فانه

١٧٧

سلام الله عليه كان في مقام بيان الاجزاء ، والشرائط ، فكلما لم يبينه يستكشف عدم دخله في المأمور به.

فالنتيجة ان أحد الإطلاقين أجنبي عن الإطلاق الآخر رأساً ، وجواز التمسك بأحدهما لا يستلزم جواز التمسك بالآخر ، كما انه لا فرق في جواز التمسك بالإطلاق الأحوالي بين القول بالوضع للصحيح ، والقول بالوضع للأعم. وأما الإطلاق اللفظي فلا يجوز التمسك به على القول بالصحيح دون الأعم. فما أورده القائل من الإشكال لا يرجع إلى معنى محصل.

(الثاني) : ان الأعمي كالصحيحي في عدم إمكان التمسك بالإطلاق عند الشك في اعتبار جزء أو قيد وذلك لأن أدلة العبادات جميعاً من الكتاب ، والسنة مجملة ولم ترد شيء منها في مقام البيان فإذا كان المتكلم فيها في مقام الإهمال ، أو الإجمال فلا يجوز التمسك بإطلاقها غاية الأمر ان عدم جواز التمسك على هذا القول من جهة واحدة وهي عدم ورود مطلقات العبادات في مقام البيان ، بل انها جميعاً في مقام التشريع والجعل بلا نظر لها إلى خصوصيتها من الكمية ، والكيفية. وعلى القول بالصحيح من ناحيتين : وهما عدم ورود المطلقات في مقام البيان وعدم تعلق الحكم بالجامع والمقسم ، فالنتيجة عدم صحة التمسك بالإطلاق على كلا القولين.

والجواب عنه : مضافاً إلى انه رجم بالغيب ان الأمر ليس كما ذكره القائل ، فان من الآيات الكريمة ما ورد في الكتاب ، وهو في مقام البيان كقوله تعالى : (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم) فالمفهوم من كلمة الصيام عرفاً كف النّفس عن الأكل ، والشرب ، وهو معناه اللغوي ، فالصيام بهذا المعنى كان ثابتاً في سائر الشرائع والأديان بقرينة قوله تعالى : (كلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) حيث لم يعتبر فيه سوى الكف عن الأكل والشرب عند تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود.

نعم ان ذلك يختلف كيفية باختلاف الشرائع ، ولكن كل ذلك الاختلاف

١٧٨

يرجع إلى الخارج عن ماهية الصيام بل قد يعتبر فيه كما في شرع الإسلام الكف عن عدة أمور اخر أيضاً كالجماع والارتماس في الماء والكذب على الله تعالى وعلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى الأئمة الأطهار عليهم‌السلام وان لم يكن الكف عنها معتبراً في بقية الشرائع والأديان. وعلى ذلك فلو شككنا في اعتبار شيء في هذه الماهية قيداً ، وعدم اعتباره كذلك فلا مانع من أن نرجع إلى إطلاق قوله تعالى كتب عليكم الصيام اه. وبه يثبت عدم اعتباره فحال الآية المباركة حال قوله تعالى : (أحل الله البيع) و (تجارة عن تراض) وما شاكلهما ، فكما انه لا مانع من التمسك بإطلاقها في باب المعاملات عند الشك في اعتبار شيء فيها ، فكذلك لا مانع من التمسك بإطلاق هذه الآية المباركة في باب الصوم عند الشك في دخل شيء في صحته شرعاً. هذا مضافاً إلى ما في السنة من الروايات المطلقة الواردة في مقام البيان منها قوله عليه‌السلام في التشهد (يتشهد) فان مقتضى إطلاقه عدم اعتبار أمر زائد على نفس الشهادتين فلو شك في اعتبار التوالي بينهما فيدفع بالإطلاق وكذا غيره من نصوص الباب فلاحظ.

هذا كله على تقدير تسليم أن يكون الضابط في كون المسألة أصولية ترتب ثمرة فعلية عليها إلا ان الأمر ليس كذلك ، فان الضابط للمسألة الأصولية إمكان وقوعها في طريق الاستنباط لا فعليته.

وملخص ما ذكرناه في الجواب عن هذا الإيراد امران :

(الأول) : ان المطلق الوارد في مقام البيان من الكتاب والسنة موجود ، وليس الأمر كما ذكره القائل.

(الثاني) : لو تنزلنا عن ذلك وسلمنا ان المتكلم لم يكن في مقام البيان في شيء من مطلقات العبادات إلا ان إمكان ترتب هذه الثمرة يكفينا لكون المسألة أصولية ، لما عرفت من أن الميزان فيها إمكان وقوعها في طريق استنباط حكم فرعي كلي لا فعلية ذلك كما تقدم.

١٧٩

نعم الّذي يرد هنا ما ذكرناه سابقاً من أن هذه الثمرة ليست ثمرة لهذه المسألة ولا تترتب عليها بلا واسطة ، بل هي من ثمرات كبرى مسألة المطلق والمقيد ، وهي من صغريات تلك الكبرى ومن مبادئها من جهة ان البحث فيها في الحقيقة عن ثبوت الإطلاق وعدم ثبوته ، والبحث عن جواز التمسك به وعدم جوازه بحث عن المسألة الأصولية. دونه.

(الثالث) : ان الإطلاق والتقييد في العبادات إنما يلاحظ بالإضافة إلى المأمور به ومتعلق الأمر ، لا بالقياس إلى المسمى بما هو ، ضرورة ان الإطلاق أو التقييد في كلام الشارع أو غيره إنما يكون بالقياس إلى مراده ، وانه مطلق أو مقيد لا إلى ما هو أجنبي عنه ، وعلى ذلك فلا فرق بين القولين ، فكما ان الصحيحي لا يمكنه التمسك بالإطلاق ، فكذلك الأعمي.

أما الصحيحي فلما عرفت من عدم إحرازه الصدق على الفاقد لما شك في اعتباره جزء أو شرطاً لاحتمال دخله في المسمى.

وأما الأعمي فلأجل أنه يعلم بثبوت تقييد المسمى بالصحّة ، وانها مأخوذة في المأمور به ومتعلق الأمر ، فان المأمور به حصة خاصة من المسمى وهي الحصة الصحيحة ، ضرورة ان الشارع لا يأمر بالحصة الفاسدة ، ولا بما هو الجامع بينه وبين الصحيح ، وعلى ذلك فلا يمكن التمسك بالإطلاق عند الشك في جزئية شيء ، أو شرطيته للشك حينئذ في صدق المأمور به على الفاقد للشيء المشكوك فيه.

وعلى الجملة فلا فرق بين أن تكون الصحة مأخوذة في المسمى ، وأن تكون مأخوذة في المأمور به فعلى كلا التقديرين لا يمكن التمسك بالإطلاق غاية الأمر ان الشك في الصدق على الصحيحي من جهة أخذ الصحة في المسمى ، وعلى الأعمي من جهة العلم بتقييد المأمور به بالصحّة لا محالة.

فالنتيجة : هي عدم جواز الأخذ بالإطلاق على كلا القولين إذاً لا ثمرة في البين.

١٨٠