محاضرات في أصول الفقه - ج ١

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٠٠

وجزء آخر يميزه عن غيره وهو «الناطق» فهما بعينهما معنى «الإنسان» بالتحليل العقلي ، كما هو شأن كل مفهوم بالإضافة إلى حكم العقل. وهذا لعله من الواضحات

ثم لا يخفى ان ما ذكره من أن صحة الحمل عند المستعلم علامة لإثبات الحقيقة لا محصل له ، وذلك لأن الصحة في مرتبة متأخرة عن إحراز ملاك الحمل بين المفهومين ، فلا بد أولا من تصورهما تفصيلا وإحراز الملاك المصحح لحمل أحدهما على الآخر ، ثم يحمل هذا على ذاك ، والعلم الارتكازي بالمعنى لا يكفي في صحة الحمل ، بل لا بد من الالتفات التفصيلي.

(ومنها) أي (علائم الحقيقة) الاطراد ، وذكروا عدم الاطراد من علائم المجاز

لا يخفى ان المراد من الاطراد ليس تكرار الاستعمال في معنى ، ضرورة انه إذا صح الاستعمال فيه مرة واحدة يصح فيه مرات عديدة ، من دون فرق في ذلك بين الاستعمال الحقيقي ، والمجازي.

ومن هنا فسر الاطراد شيخنا المحقق ـ قده ـ بمعنى آخر وإليك قوله : «مورد هاتين العلامتين ـ الاطراد وعدمه ـ ما إذا أطلق لفظ باعتبار معنى كلي على فرد يقطع بعدم كونه من حيث الفردية من المعاني الحقيقية ، لكنه يشك في ان ذلك الكلي كذلك أم لا؟ فإذا وجد صحة الإطلاق مطرداً باعتبار ذلك الكلي كشف عن كونه من المعاني الحقيقية ، لأن صحة الاستعمال فيه ، وإطلاقه على افراده مطرداً لا بد من أن تكون معلولة لأحد الأمرين : اما الوضع ، أو العلاقة ، وحيث لا اطراد لأنواع العلائق المصححة للتجوز ثبت الاستناد إلى الوضع ، فنفس الاطراد دليل على الحقيقة وان لم يعلم وجه الاستعمال على الحقيقة ، كما ان عدم الاطراد في غير مورد يكشف عن عدم الوضع له ، وإلا لزم تخلف المعلول عن العلة ، لأن الوضع علة صحة الاستعمال مطرداً ، وهذه العلامة علامة قطعية لو ثبت عدم اطراد علائق المجاز ، كما هو المعروف والمشاهد في جملة من الموارد» انتهى وحاصله ان إطلاق لفظ باعتبار معنى كلي على فرد مع القطع بعدم كون ذلك

١٢١

الفرد من حيث الفردية معنى حقيقياً ، ان كان مطرداً كشف عن كونه من المعاني الحقيقية ؛ وان لم يكن مطرداً كشف عن كونه من المعاني المجازية ـ مثلا ـ إطلاق لفظ «الأسد» على كل فرد من افراد (الحيوان المفترس) مع العلم بعدم كون الفرد بخصوصه من المعاني الحقيقية ، لما كان مطرداً كشف ذلك عن كون (الحيوان المفترس) معنى حقيقياً له ؛ وإطلاقه على كل فرد من افراد «الشجاع» لما لم يكن مطرداً ، فانه يصح إطلاقه باعتبار هذا المفهوم الكلي على «الإنسان» وعلى جملة من «الحيوانات» إلا انه لا يصح إطلاقه على (النملة الشجاع) ـ مثلا ـ كشف ذلك عن كونه من المعاني المجازية.

نعم ان إطلاق لفظ «الشجاع» باعتبار هذا المفهوم الكلي على جميع افراده حيث كان مطرداً كشف هذا عن كون ذلك الإطلاق حقيقياً.

ولكن الصحيح انه لا يمكن المساعدة عليه ، وذلك لأن المراد من الاطراد كما لا يمكن أن يكون تكرار الاستعمال ، لما مر ، كذلك لا يمكن ان يراد به التكرار في التطبيق أي تطبيق المعنى على مصاديقه ، وافراده.

بيان ذلك أن انطباق الطبيعي على افراده والكلي على مصاديقه أمر عقلي ، وأجنبي عن الاستعمال بالكلية ، فلا يعقل ان يكون المعنى كلياً ومع ذلك لا ينطبق على تمام افراده ومصاديقه ، ولا يصح إطلاقه عليها. فهذا من الواضحات الأولية وغير قابل للنزاع فيه أصلا.

واما عدم انطباق بعض المفاهيم في بعض الموارد فهو انما كان من جهة ضيق دائرة ذلك المفهوم من ناحية تخصصه بخصوصية ما عرفاً ، ومن الواضح ان مثل هذا المفهوم لا ينطبق إلا على افراد تلك الحصة خاصة ، دون غيرها ، فان سعة الانطباق وضيقه تابعان لسعة المفهوم وضيقه ، فإذا كان المفهوم وسيعاً كان الانطباق كذلك ، وإذا كان مفهوما ضيقاً كان الانطباق مثله ؛ وعلى كل فلا يعقل انطباقه على غير افراده وعدم انطباقه إلا على بعض افراده ـ مثلا ـ مفهوم

١٢٢

«الإنسان» إذا لاحظناه بما له من السعة والإطلاق فلا محالة ينطبق على جميع افراده فلا يعقل انطباقه على بعضها دون بعضها الآخر. وان لاحظناه بما له من الخصوصية ك «العالمية» أو «الهاشمية» أو «العربية» أو غير ذلك فلا يعقل انطباقه إلا على افراد هذه الحصة ، فعدم الاطراد بهذا المعنى ، أو الاطراد مشترك فيه بين المعنى الحقيقي ، والمعنى المجازي ، وتابع لسعة المعنى وضيقه ـ مثلا ـ لفظ ال «ماء» في لغة العرب موضوع (للجسم السيال البارد بالطبع) مع انه لا ينطبق على كل جسم سيال بارد بالطبع ، وليس ذلك إلا من جهة ان معناه حصة خاصة منه ، لا هو على إطلاقه وسريانه ، وعليه فلا محالة لا ينطبق إلا على افراد تلك الحصة ، دون غيرها ؛ وهكذا ، وعلى ذلك لا يكون عدم الاطراد كاشفاً عن عدم الحقيقة.

ومنه يظهر ان عدم اطراد إطلاق لفظ الأسد باعتبار مفهوم الشجاع على كل فرد من افراده ، لا يكون إلا من جهة ان صحة ذلك الإطلاق إنما كانت باعتبار حصة خاصة من ذلك الكلي ، لا هو بإطلاقه ، ومن المعلوم ان ذلك الإطلاق باعتبار تلك الحصة مطرد.

فالنتيجة لحد الآن أمور :

(الأول) : ان انطباق طبيعي المعنى على افراده ومصاديقه قهري ، وأجنبي عن الاستعمال رأساً.

(الثاني) : ان سعة الانطباق ، وضيقه تابعان لسعة المعنى ، وضيقه عرفا فان تعيين المفاهيم ، وخصوصياتها من حيث السعة والضيق أمر راجع إلى أهل العرف ، فان كان معنى اللفظ عندهم وسيعاً كان الانطباق أيضاً كذلك ، وان كان ضيقاً وحصة خاصة فالانطباق تابع له.

(الثالث) : انه لا فرق في ذلك بين المعنى الحقيقي ، والمعنى المجازي ، فهما على حد سواء في ذلك.

(الرابع) : ان الاطراد بهذا المعنى ، وعدمه أجنبيان عن الحقيقة والمجاز

١٢٣

والّذي ينبغي أن يقال في المقام هو ان الاطراد الكاشف عن الحقيقة في الجملة عبارة عن استعمال لفظ خاص في معنى مخصوص في موارد مختلفة بمحمولات عديدة ، مع إلغاء جميع ما يحتمل أن يكون قرينة على إرادة المجاز ، فهذا طريقة عملية لتعليم اللغات الأجنبية ، واستكشاف حقائقها العرفية.

توضيح ذلك : هو ان من جاء من بلد إلى بلد آخر لا يعرف لغاتهم إذا تصدى لتعليم اللغة السائرة في هذا البلد رأى ان أهل البلد يطلقون لفظاً ويريدون به معنى ، ويطلقون لفظاً آخر ويريدون به معنى آخر ، وهكذا ، ولكنه لا يعلم ان هذه الإطلاقات من الإطلاقات الحقيقية ، أو المجازية ، فإذا رأى أنهم يطلقون هذه الألفاظ ويريدون بها تلك المعاني في جميع الموارد حصل له العلم ، بأنها معاني حقيقية ، لأن جواز الاستعمال معلول لأحد أمرين : اما الوضع ، أو القرينة؟ وحيث فرض انتفاء القرينة من جهة الاطراد فلا محالة يكون مستنداً إلى الوضع ـ مثلا ـ إذا رأى أحد ان العرب يستعملون لفظ الماء في معناه المعهود ، ولكنه شك في انه من المعاني الحقيقية ، أو من المعاني المجازية ، فمن إلغاء ما يحتمل أن يكون قرينة من جهة الاطراد علم بأنه من المعاني الحقيقية ، ولا يكون فهمه منه مستنداً إلى قرينة حالية ، أو مقالية.

وبهذه الطريقة غالباً يتعلمون الأطفال والصبيان اللغات والألفاظ.

فقد تحصل من ذلك ان الاطراد بهذا التفسير الّذي ذكرناه علامة لإثبات الحقيقة ؛ بل ان هذا هو السبب الوحيد لمعرفة الحقيقة غالباً ، فان تصريح الواضع وان كان يعلم به الحقيقة إلا انه نادر جداً ، واما التبادر فهو وإن كان يثبت به الوضع ، كما عرفت إلا انه لا بد من أن يستند إلى العلم بالوضع ، إما من جهة تصريح الواضع ، أو من جهة الاطراد ، والأول نادر فيستند إلى الثاني لا محالة.

١٢٤

تعارض الأحوال

التخصيص ، والتقييد ، والمجاز ، والاشتراك ، والإضمار.

ذكروا لتقديم كل واحد منها على الآخر فيما إذا وقعت المعارضة بينها وجوها ولكن الصحيح : ما ذكره المحقق صاحب الكفاية ـ قده ـ من ان تلك الوجوه بأجمعها من الأمور الاستحسانية التي لا اعتداد بها ـ أصلا ـ في باب الألفاظ ، فان المتبع في ذلك الباب الظهورات العرفية التي قد جرت على متابعتها السيرة العقلائية في مسألة الاحتجاج واللجاج ، دون الاستحسانات العقلية ، والأمور الظنية ، إذ لم يترتب عليها أي أثر شرعي إلا إذا كانت موجبة للظهور العرفي ، فحينئذ العمل بالظهور ، لا بها كما لا يخفى ، فلا وجه لإطالة الكلام في ذلك أصلا.

الحقيقة الشرعية

الأمر السابع : في الحقيقة الشرعية الكلام في هذه المسألة يقع في جهات :

(الجهة الأولى) قال جماعة منهم : المحقق صاحب الكفاية ـ قده ـ تظهر الثمرة في المسألة بحمل الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة كألفاظ العبادات والمعاملات على المعاني الشرعية ، بناء على ثبوت الحقيقة الشرعية ، وعلى المعاني اللغوية ، بناء على عدم ثبوتها.

وقيل بالتوقف في المقام ، بناء على الثاني ، بدعوى ان الحقيقة الشرعية وإن لم تثبت إلا انه لا شبهة في صيرورة المعاني الشرعية من المجازات المشهورة من جهة كثرة استعمال هذه الألفاظ في تلك المعاني ، والمختار في تعارض الحقيقة مع المجاز المشهور التوقف ، بل المشهور على ذلك. إلا بناء على حجية أصالة الحقيقة.

١٢٥

تعبداً كما نسب إلى السيد المرتضى ـ قده ـ واما بناء على اعتبار الظهور فلا ظهور لها في معانيها الحقيقية هذا.

والتحقيق انه لا ثمرة لهذه المسألة ـ أصلا ـ وفاقا لشيخنا الأستاذ ـ قده ـ والوجه في ذلك هو ان الكبرى المذكورة وهي (حمل الألفاظ المستعملة في لسان الشارع على المعاني اللغوية أو التوقف بناء على عدم الثبوت وعلى المعاني الشرعية بناء على الثبوت) وان كانت مسلمة إلا ان الصغرى غير ثابتة ، لعدم الشك في المراد الاستعمالي من هذه الألفاظ ، سواء قلنا بثبوت الحقيقة الشرعية أم لم نقل ، فهي على التقديرين استعملت في عرف المتشرعة في المعاني الشرعية ، إذاً لا يبقى مورد نشك فيه في المراد الاستعمالي.

وعلى الجملة ان ألفاظ الكتاب والسنة قد وصلت إلينا من النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بواسطة الأئمة الأطهار عليهم‌السلام. ومن الواضح جداً ان الحقيقة الشرعية وان فرض انها لم تثبت إلا انه لا شبهة في ثبوت الحقيقة المتشرعية في زمن ما ، وعليه فليس لنا مورد نشك فيه في مراد الشارع المقدس من هذه الألفاظ ، حتى تظهر الثمرة المزبورة.

نعم لو فرض كلام وصل إلينا من النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بلا وساطة الأئمة الأطهار عليهم‌السلام فيمكن أن تظهر الثمرة فيه إذا فرض الشك في مراده صلى‌الله‌عليه‌وآله منه ، إلا أنه فرض في فرض ، فبالنتيجة انه لا ثمرة للبحث عن هذه المسألة أصلا ؛ بل هو بحث علمي فقط.

الجهة الثانية : قد تقدم ان الوضع على قسمين :

أحدهما : تعييني.

والثاني : تعيني.

اما الوضع التعييني في المقام بان (كان الشارع المقدس قد تصدى للرجع صريحاً) فهو مقطوع العدم ، ضرورة انه لو كان كذلك لنقل إلينا بالتواتر ، كيف

١٢٦

ولم ينقل حتى بخبر الواحد ، وذلك لعدم المانع منه ، مع توفر الداعي على نقله وليس الوضع كمسألة الخلافة ونحوها لتوفر الدواعي هناك على إخفائها وكتمانها ، دونه.

وأما الوضع التعييني بمعنى آخر بان يكون الوضع متحققاً بنفس الاستعمال كما ذكره المحقق صاحب الكفاية ـ قده ـ فيقع الكلام في إمكانه أولا ، وفي وقوعه ثانياً ، فهنا مقامان :

اما الكلام في المقام الأول فقد اختار شيخنا الأستاذ ـ قده ـ عدم إمكانه ، بدعوى أن حقيقة الاستعمال إفناء اللفظ في المعنى وإلقاء المعنى في الخارج ، بحيث تكون الألفاظ مغفولا عنها ، فالاستعمال يقتضى أن يكون النّظر إلى الألفاظ آلياً ، والوضع يستدعى أن يكون النّظر إلى الألفاظ استقلالياً ، فالجمع بين الوضع والاستعمال في شيء يلازم الجمع بين اللحاظ الآلي والاستقلالي. وهو غير معقول.

والتحقيق ان الوضع سواء كان بمعنى التعهد والالتزام النفسانيّ ، أو بمعنى اعتبار نفساني على تمام أنحائه في مرتبة متقدمة على الاستعمال. اما على الأول فواضح ضرورة ان التعهد والتباني بذكر لفظ خاص عند إرادة تفهيم معنى ما يكون مقدماً على الاستعمال لا محالة من دون فرق بين أن يكون إبراز هذا التعهد بمثل كلمة وضعت ، أو نحوها الدالة على التعهد بالمطابقة ؛ أو يكون المبرز نفس الاستعمال الدال على ذلك بالالتزام بمعونة القرينة. واما على الثاني فلان اعتبار الملازمة ، أو نحوها بين لفظ خاص ومعنى ما مقدم على الاستعمال بالضرورة ، وان كان المبرز لذلك الاعتبار نفس الاستعمال مع نصب القرينة على ذلك وكيف كان فالاستعمال متأخر عن الوضع لا محالة.

ونظير ذلك الهبة ، فانه تارة يبرزها بجملة (وهبتك) الدالة عليها بالمطابقة وأخرى يبرزها بجملة (خذ هذا الثوب) ـ مثلا ـ الدالة عليها بالالتزام.

١٢٧

فقد أصبحت النتيجة ان محذور لزوم الجمع بين اللحاظ الآلي والاستقلالي مندفع على جميع المسالك في تفسير حقيقة الوضع ، فان الوضع أمر نفساني ثابت في أفق النّفس ، والاستعمال أمر خارج عن أفق النّفس ؛ فالوضع سابق على الاستعمال دائماً. بل لو تنزلنا عن ذلك وسلمنا الجمع بين الوضع والاستعمال في آن واحد لم نسلم استلزامه الجمع بين اللحاظين الآلي والاستقلالي ، فان هذا اللازم مبتن على مذهب المشهور في مسألة الاستعمال ، حيث انهم يرون الألفاظ في مرحلة الاستعمال آليات ، وأما على مذهب الصحيح من أن حال الألفاظ حال المعاني في مقام الاستعمال فكما أن المعاني ملحوظة استقلالا ، فكذلك الألفاظ ومن هنا يلتفت المتكلم إلى خصوصيات الألفاظ الصادرة منه من كونها لغة عربية أو فارسية أو غير ذلك فلا يلزم من الجمع بين الوضع والاستعمال ، الجمع بين اللحاظين الآلي والاستقلالي.

فقد ظهر مما ذكرناه إمكان الوضع التعييني على أن يكون الدال عليه نفس الاستعمال ، مع نصب القرينة على ذلك.

واما الكلام في المقام الثاني فالظاهر انه لا شبهة في وقوع الوضع التعييني على هذا النحو خارجاً ، بل لعله كثير بين العرف والعقلاء في وضع الاعلام الشخصية والمعاني المستحدثة ، وعليه فدعوى ثبوت الحقيقة الشرعية بالوضع التعييني على النحو المزبور في الجملة غير بعيدة.

إنما الإشكال في أن ذلك الاستعمال ، هل هو استعمال حقيقي ، أو مجازي؟ أو لا هذا ، ولا ذاك؟ وجهان ، بل قولان : فقد اختار المحقق صاحب الكفاية ـ قده ـ الاحتمال الأخير ، بدعوى انه لا يكون من الاستعمال الحقيقي ، من جهة ان الاستعمال الحقيقي استعمال اللفظ في المعنى الموضوع له ، والمفروض انه لا وضع قبل هذا الاستعمال ، ليكون الاستعمال استعمالا فيه ؛ واما انه لا يكون من الاستعمال المجازي ، فلأجل ان الاستعمال المجازي استعمال اللفظ في المعنى

١٢٨

المناسب للمعنى الموضوع له ، والمفروض انه لا وضع قبل هذا الاستعمال ، ومعه لا يعقل المجاز ، فانحصر أن لا يكون ذلك الاستعمال حقيقياً ولا مجازياً ، وقد ذكرنا أن صحة الاستعمال لا تدور مدار كونه حقيقياً أو مجازياً؟ بل صح الاستعمال بدون أن يكون متصفاً بأحدهما إذا كان حسناً عند الطبع ، وقد عرفت ان إطلاق اللفظ وإرادة نوعه ، أو صنفه ، أو مثله من هذا القبيل. هذا محصل ما أفاده ـ قدس‌سره ـ.

وقد ظهر مما حققناه سابقاً ان الإطلاقات المذكورة ليست من قبيل الاستعمال في شيء على تفصيل تقدم.

كما انه قد تبين مما ذكرناه الآن ان هذا الاستعمال استعمال حقيقي وفي المعنى الموضوع له ، بيانه هو انك عرفت ان الوضع في مرتبة متقدمة على الاستعمال على جميع المسالك في تفسير الوضع ، وعليه فالوضع يحصل قبل الاستعمال ، فإذا كان كذلك فالاستعمال استعمال في الموضوع له ، وهذا واضح.

ثم لو تنزلنا عن ذلك وسلمنا ان الوضع ليس عبارة عن مجرد أمر نفساني من تعهد ، واعتبار ملازمة ، ونحو ذلك ، بل للإبراز دخل في حقيقة الوضع جزءا أو قيداً ، وبدونه لا يتحقق الوضع ، كما هو الحال في مثل عنوان البيع ، والتجارة ، والهبة ، والصلح ، وما شاكل ذلك ، فان هذه العناوين لا تتحقق عرفاً ولا تصدق خارجاً على مجرد الاعتبار النفسانيّ ما لم يبرزه في الخارج بمبرز من قول أو فعل ، فللإبراز دخل فيها جزءاً أو قيداً ـ مثلا ـ عنوان البيع لا يصدق عرفاً على مجرد اعتبار البائع ملكية المبيع لزيد ـ مثلا ـ واعتبار زيد تملكه لنفسه بعوض معلوم ما لم يبرزه البائع بقوله بعت ، أو ملكت ، والمشتري بقوله اشتريت ، أو قبلت ، فالبيع عبارة عن الأمر الاعتباري الخاصّ المبرز في الخارج بمبرز ، وهكذا غيره ، فلو سلمنا ان الوضع أيضا كذلك فلا يكون هذا الاستعمال استعمالا في غير ما وضع له ، والوجه في ذلك هو انه لا يعتبر في كون

١٢٩

الاستعمال حقيقياً واستعمالا في الموضوع له تقدم الوضع على الاستعمال ، بل غاية يقتضيه ذلك هو أن لا يكون الوضع متأخراً عن الاستعمال ، فيكفي في كون الاستعمال حقيقياً مقارنة الوضع معه زماناً ، والمفروض ان الوضع والاستعمال في مقامنا هذا كذلك ، وان كان الاستعمال مقدماً عليه طبعاً ورتبة باعتبار انه جزئه أو قيده ، إلا انه لا يوجب تقدمه عليه زماناً.

وقد تحصل من ذلك بوضوح ان هذا الاستعمال استعمال في الموضوع له ولو قلنا بان الوضع يتحقق بنفس ذلك الاستعمال ، وانه الجزء الأخير والمتمم لتحققه وكيف كان فقد ذكر صاحب الكفاية ـ قده ـ ما نصه :

فدعوى الوضع التعييني في الألفاظ المتداولة في لسان الشارع هكذا قريبة جداً ، ومدعى القطع به غير مجازف قطعاً ، ويدل عليه تبادر المعاني الشرعية منها في محاوراته ثم يؤيد ذلك بعدم وجود علاقة معتبرة بين المعاني الشرعية واللغوية في بعض الموارد ... إلخ. وهذا الّذي ذكره هو الصحيح.

ثم قال ـ قدس‌سره ـ «هذا كله بناء على كون معانيها مستحدثة في شرعنا ، وأما بناء على كونها ثابتة في الشرائع السابقة ، كما هو قضية غير واحد من الآيات مثل قوله تعالى : (كتب عليكم الصيام كما كتب ... إلخ) وقوله تعالى : (واذن في الناس بالحج) وقوله تعالى : (وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً) إلى غير ذلك ، فألفاظها حقائق لغوية لا شرعية ، واختلاف الشرائع فيها جزء وشرطاً لا يوجب اختلافها في الحقيقة والماهية ، إذ لعله كان من قبيل الاختلاف في المصاديق والمحققات ، كاختلافها بحسب الحالات في شرعنا ، كما لا يخفى. انتهى» وهذا الّذي أفاده ـ قده ـ.

يمكن الجواب عنه بوجهين.

(الوجه الأول) : ان ثبوت هذه المعاني في الشرائع السابقة لا يضر بثبوت الحقيقة الشرعية في شرعنا ، ضرورة ان مجرد الثبوت هناك لا يلازم التسمية بهذه

١٣٠

الألفاظ الخاصة ، وليس في المقام إلا التعبير عنها بهذه الألفاظ في الكتاب العزيز ؛ ومن الواضح انه لا يدل على وجود تلك الألفاظ في الشرائع السابقة ؛ بل هو لأجل اقتضاء مقام الإفادة ذلك ، كما هو الحال بالقياس إلى جميع الحكايات والقصص القرآنية التي كانت بالسريانية كما في لغة «عيسى» عليه‌السلام ، أو العبرانية كما في لغة «موسى» ، عليه‌السلام بل من المعلوم ان تلك المعاني كانت يعبر عنها بألفاظ سريانية ، أو عبرانية ، وقد نقلت عنها بهذه الألفاظ الخاصة في شريعتنا لاقتضاء مقام الإفادة ذلك.

وان شئت فقل ان معنى الحقيقة الشرعية ليس جعل المعنى واختراعه ، بل جعل اللفظ بإزاء معنى من المعاني ولا يفرق فيه بين كون المعنى قديماً أو حادثاً في هذه الشريعة. وما يتوهم من ان الصلاة بهذه اللفظة موجودة في إنجيل برنابا ، لا بلفظة أخرى عبرانية ، أو سريانية فكما ان المعاني لم تكن مستحدثة ، فكذلك الألفاظ التي يعبر بها عنها ، مدفوع بان وجود لفظ «الصلاة» في الإنجيل الرائج لا يدل على وجوده في أصله المعلوم انه لم يكن باللغة «العربية». هذا مضافاً إلى ان لفظ «الصلاة» الموجود في الإنجيل والتوراة لم يكن بالمعنى المركب من الاجزاء والشرائط والكيفية الخاصة ، بل كان بمعنى الدعاء ، فالصلاة بهذه الكيفية والاجزاء والشرائط والموانع مستحدثة لا محالة.

وربما قيل بان الألفاظ المذكورة موضوعة بإزاء تلك المعاني قبل (الشريعة الإسلامية) فالعرب قبلها كانوا قد تعهدوا لهذه المعاني في استعمالاتهم ، والتزموا بذكر هذه الألفاظ عند إرادة تفهيمها ، ومن هنا كانوا ينتقلون إلى معاني هذه الألفاظ من لدن نزول هذه الآيات الكريمة كقوله تعالى : (كتب عليكم الصيام ، كما كتب على الذين من قبلكم) وقوله تعالى : (وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً) إلى غير ذلك ، وهم لا يتوقفون في فهم هذه المعاني من تلك الألفاظ ، ومن المعلوم ان هذا يكشف كشفا قطعياً عن كونها حقيقة فيها قبل زمن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله فهي

١٣١

حقيقة لغوية وليست بحقيقة شرعية ، والقرآن الكريم قد تابعهم في استعمالها ، ليكون أوقع في النفوس ، حيث انهم كانوا مستأنسين بالتعبير عنها بهذه الألفاظ الخاصة.

والجواب عنه ان هذا وان كان ممكناً في نفسه إلا انه لا شاهد عليه ، لا من الآيات ؛ ولا من الروايات ، ولا من القرائن الخارجية.

اما الأخيرتان فظاهر.

واما الأولى فكذلك ، لأن شيئاً من هذه الآيات لا يشهد على ذلك ، فقوله تعالى : «كتب عليكم الصيام ... إلخ» ـ مثلا ـ لا يدل على ان الصوم بهذا اللفظ الخاصّ كان موجوداً قبل الشريعة ، غاية ما في الباب ان الآية تدل على ان الصوم كان موجوداً قبلها ، أما انه كان يعبر عنه بهذا اللفظ الخاصّ فهي ساكتة عن ذلك ، والتعبير عنه في الآية المباركة من جهة اقتضاء مقام الإفادة ذلك.

وأما انسباق هذه المعاني في أذهان القوم بمجرد نزول هذه الآيات فهو من جهة ان هذه الألفاظ قد صدرت عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل نزولها ، ثم بعد ذلك جاءت الآيات الكريمة فحكت عما جاء به النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد استند فهم العرب إلى ذلك لا محالة.

(الوجه الثاني) : انا لو سلمنا ان تسمية هذه المعاني بهذه الألفاظ بالحقيقة الشرعية تدور مدار كونها مستحدثة في شرعنا ، إلا ان ثمرة ثبوت الحقيقة الشرعية تترتب على القول بثبوت الحقيقة في لسان الشارع لا محالة ، ولا أثر لكون هذه المعاني قديمة وثابتة في الشرائع السابقة بالقياس إلى الثمرة المزبورة أصلا ، ولا يترتب على كونها معاني حديثة أثر ما عدا التسمية بالحقائق الشرعية ، فان الثمرة التي ذكرت في المسألة وهي (حمل الألفاظ في استعمالات الشارع المقدس على المعاني الشرعية بناء على الثبوت) لا تترتب على كون هذه المعاني مستحدثة في هذه الشريعة ، إذ المراد من هذه الألفاظ في استعمالات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هو هذه المعاني سواء قلنا بكونها معاني حديثة

١٣٢

في شريعتنا أم كانت معاني ثابتة في الشرائع السابقة؟ فعلى كلا التقديرين تعهد الشارع المقدس لهذه المعاني في استعمالاته قبال معانيها اللغوية ، كانت مسماة بالحقائق الشرعية أو بالحقائق اللغوية ، فلا فرق بين التسميتين في ثمرة النزاع أصلا.

فتلخص ان ما أفاده ـ قده ـ من توقف ثبوت الحقيقة الشرعية على كون هذه المعاني مستحدثة في هذه الشرعية على تقدير تسليمه لا يترتب على ذلك أي أثر.

واما القسم الثاني وهو (الوضع التعيني الّذي ينشأ من كثرة الاستعمال ، لا من الجعل والمواضعة) فثبوته في زمن الصادقين عليهما‌السلام معلوم ، بل وحتى في زمن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، بل ولا يبعد ثبوته في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بلسانه صلى‌الله‌عليه‌وآله ولسان تابعيه ، لكثرة استعمالات هذه الألفاظ في هذه المعاني وكثرة الأسئلة التي ترد من السائلين لا سيما في مثل لفظ «الصلاة» الّذي هو أكثر استعمالا من غيره من ألفاظ العبادات.

نعم ثبوته في خصوص لسانه صلى‌الله‌عليه‌وآله مشكل جداً ، لعدم العلم بكثرة استعمالاته صلى‌الله‌عليه‌وآله على حد توجب التعين ، وقد أشار إلى ذلك الإشكال المحقق صاحب الكفاية ـ قده ـ بقوله فتأمل.

وعليه فالروايات التي صدرت عنهم عليهم‌السلام واشتملت على هذه الألفاظ قد أصبحت معلومة المراد ، فانها تحمل على هذه المعاني بلا قرينة ، لثبوت الحقيقة المتشرعية في ز منهم عليهم‌السلام على الفرض ، ومعه تنتفي الثمرة التي كنا نتوقعها من هذا البحث ، باعتبار ان الروايات التي وصلت عن المعصومين عليهم‌السلام إلينا المشتملة على هذه الألفاظ كان المراد منها معلوماً فلا ثمرة ، بل لا داعي لهذا البحث بعد ذلك.

فقد أصبحت النتيجة لحد الآن في أمور :

(الأول) : ان الصحيح ثبوت الحقيقة الشرعية بالوضع التعييني المتحقق بنفس الاستعمال.

(الثاني) : ان قلنا بعدم الوضع التعييني فلا شبهة في ثبوت الوضع التعيني

١٣٣

في زمن الأئمة الأطهار عليهم‌السلام من جهة كثرة استعمالات المتشرعة تلك الألفاظ في المعاني الجديدة.

(الثالث) : انه لا ثمرة للبحث عن هذه المسألة أصلا ، فان ألفاظ الكتاب والسنة الواصلتين إلينا يداً بيد معلومتان من حيث المراد ، فلا نشك في المراد الاستعمالي منهما ، ولا يتوقف في حملها على المعاني الشرعية.

ومن هنا لا يهمنا إطالة البحث عن ان الحقيقة الشرعية ثابتة أو غير ثابتة فان الثمرة المذكورة غير مبتنية على ثبوت الحقيقة الشرعية.

الصحيح والأعم

(الأمر التاسع) : وقع الكلام بين الأعلام في أن ألفاظ العبادات ، والمعاملات هل تكون أسامي للصحيحة أو للأعم؟

قبل بيان ذلك ينبغي التنبيه على جهات :

(الجهة الأولى) : لا إشكال في جريان النزاع على القول بثبوت الحقيقة الشرعية ، فانه القدر المتيقن في المسألة.

وإنما الإشكال في جريانه على القول بعدم ثبوت الحقيقة الشرعية ، ولكن الظاهر ، بل المقطوع به جريان النزاع على هذا القول أيضا ؛ والوجه في ذلك : هو أن مرجع هذا القول إلى ان الشارع المقدس من لدن نزول القرآن الحكيم هل استعمل هذه الألفاظ في المعاني الصحيحة من جهة لحاظ علاقة بينها وبين المعاني اللغوية ، أو استعملها في الأعم من جهة لحاظ علاقة بينه وبين المعاني اللغوية؟ فعلى الأول يكون الأصل في استعمالات الشارع الاستعمال في الصحيح إلا إذا قامت قرينة على الخلاف ، وعلى الثاني ينعكس الأمر.

بل يجري النزاع حتى على القول بان هذه الألفاظ استعملت في لسان الشارع في معانيها اللغوية ، ولكنه أراد المعاني الشرعية من جهة نصب قرينة تدل على

١٣٤

ذلك بنحو تعدد الدال والمدلول ، كما نسب هذا القول إلى الباقلاني ؛ والوجه في ذلك : هو أن يقع النزاع في أن الشارع حين إرادته المعاني الشرعية بالقرينة ، هل نصب القرينة العامة على إرادة المعاني الصحيحة حتى يحتاج إرادة الأعم إلى قرينة خاصة؟ أو انه نصبها على إرادة الأعم فإرادة الصحيحة تحتاج إلى قرينة خاصة؟

(الجهة الثانية) : الظاهر ان الصحة بمعنى التمامية من حيث الاجزاء والشرائط التي يعبر عنها في لغة الفرس بكلمة (درستى) وهي معناها لغة وعرفاً.

وأما تفسير الفقهاء الصحة بمعنى إسقاط القضاء والإعادة ، والمتكلمين بمعنى موافقة الشريعة فكلاهما من باب التفسير باللازم ، فالصلاة ـ مثلا ـ إذا كانت تامة من حيث اجزائها وشرائطها كانت موافقة للشريعة ، ومسقطة للإعادة والقضاء وليس شيء من ذلك معنى الصحة ، ولا من الحيثيات التي يتم بها حقيقتها.

وهذا هو الحال في سائر المركبات (الشرعية والعرفية).

ومن ذلك ظهر فساد ما أفاده شيخنا المحقق ـ قده ـ حيث قال : ما لفظه «ان حيثية إسقاط القضاء وموافقة الشريعة وغيرهما ليست من لوازم التمامية بالدقة ، بل من الحيثيات التي يتم بها حقيقة التمامية ، حيث لا واقع للتمامية إلا التمامية من حيث إسقاط القضاء ، أو من حيث موافقة الأمر ، أو من حيث ترتب الأثر إلى غير ذلك ، واللازم ليس من متممات معنى ملزومه فتدبر ثم قال في هامش كتابه انه إشارة إلى ان اللازم ان كان من لوازم الوجود صح ما ذكر ، وان كان من لوازم الماهية فلا ، إذ لا منافاة في لازم الماهية وعارضها بين اللزوم وكونه محققاً لها كالفصل بالإضافة إلى الجنس ، فانه عرض خاص له ، مع ان تحصل الجنس بتحصله. انتهى».

وجه الظهور هو : ان إسقاط القضاء والإعادة وموافقة الشريعة وغيرهما جميعاً من آثار التمامية ولوازمها وهي (التمامية من حيث الاجزاء والشرائط) وليست من متممات حقيقتها ، ضرورة ان لها واقعية مع قطع النّظر عن هذه الآثار واللوازم

١٣٥

والظاهر انه وقع الخلط في كلامه ـ قده ـ بين تمامية الشيء في نفسه أعني بها تماميته من حيث الاجزاء والشرائط ، وتماميته بلحاظ مرحلة الامتثال والاجزاء ، فانه لا واقع لهذه التمامية مع قطع النّظر عن هذه الآثار واللوازم؟ أو وقع الخلط بين واقع التمامية وعنوانها ، فان عنوان التمامية عنوان انتزاعي منتزع عن الشيء باعتبار أثره ، فحيثية ترتب الآثار من متممات حقيقة ذلك العنوان. ولا واقع له إلا الواقعية من حيث ترتب الآثار ، ولكنه خارج عن محل الكلام ، فان كلمة (الصلاة) ـ مثلا ـ لم توضع بإزاء ذلك العنوان ضرورة ، بل وضعت بإزاء واقعه ومعنونه وهو الاجزاء والشرائط ، ومن الظاهر أن حيثية ترتب الآثار ليست من متممات حقيقة تمامية هذه الأجزاء والشرائط ، وعلى أي حال فلا وقع لما ذكره ـ قده ـ أصلا؟.

واما ما أفاده ـ قده ـ من أنه لا منافاة بين كون شيء لازماً لماهية وكونه محققاً لها ، فان الفصل لازم لماهية الجنس ، مع كونه محققاً لها في الخارج فهو ان كان صحيحاً ، إن ان اللازم لا يعقل أن يكون من متممات معنى ملزومه ، من دون فرق فيه بين لازم الوجود ولازم الماهية ، فماهية الفصل بما هي من لوازم ماهية الجنس لا يعقل أن تكون من متمماتها بالضرورة ، نعم الفصل بحسب وجوده محصل لوجود الجنس ومحقق له ، ولكنه بهذا الاعتبار ليس لازماً له ، فإطلاق قوله ـ قده ـ ان ذلك أي (اللازم ليس من متممات معنى ملزومه) إنما يتم في لازم الوجود دون لازم الماهية غير تام ، وكيف كان فالأمر ظاهر لا سترة فيه ، وقد تحصل من ذلك ان الصحة بمعنى تمامية المركب في نفسه وذاته أعنى بها (تماميته من حيث اجزائه وقيوده). ومن هنا يتبين أن البسيط لا يتصف بالصحّة والفساد بل يتصف بالوجود أو العدم.

كما ظهر ان الصحة والفساد أمران إضافيان يختلفان باختلاف حالات المكلفين ـ مثلا ـ «الصلاة» قصراً صحيحة للمسافر ، وفاسدة للحاضر ، كما انها

١٣٦

إذا وقعت إلى ما بين المشرق والمغرب صحيحة لمن لم يتمكن من تشخيص القبلة ، وفاسدة للمتمكن من ذلك .. وهكذا.

فتحصل ان الصحة التي هي داخلة في المسمى على أحد القولين في المسألة من حيث اجزائه وقيوده ، مع قطع النّظر عن أي أثر يترتب عليها ، فانها في مرتبة سابقة على ترتب الآثار.

ومن هنا يظهر ان الصحة الفعلية التي هي منتزعة من انطباق المأمور به على المأتي به خارجاً ، خارجة عن محل الكلام ، ضرورة انها في مرتبة متأخرة عن الأمر فكيف يعقل أخذها في المسمى وفي متعلق الأمر ، ومن الواضح ان المراد من الوضع للصحيح أو للأعم الوضع لما هو واقع في حيز الأمر ، وعلى ذلك فلا وجه للترديد والقول بان الصحة والفساد المبحوث عنهما في هذه المسألة هل هي بمعنى التمامية وعدمها من حيث موافقة الأمر؟ أو من حيث إسقاط القضاء والإعادة؟ أو من حيث استجماع الاجزاء والشرائط؟ أو من حيث ترتب الأثر وعدمه؟ أو غير ذلك؟ فانك قد عرفت ان المبحوث عنه لا يمكن أن يكون إلا التمامية وعدمها بالإضافة إلى الاجزاء والشرائط ، واما بقية الحيثيات فهي أجنبية عن معنى التمامية بالكلية ؛ بل هي من الآثار واللوازم المترتبة عليها في مرتبة متأخرة. وهذا واضح ، فلا وجه لإطالة الكلام في ذلك كما عن شيخنا المحقق ـ قده ـ.

(الجهة الثالثة) : لا شبهة في دخول الاجزاء جميعاً في محل النزاع بلا فرق بين الأركان كالركوع ، والسجود ، والتكبيرة ، وبين غيرها. وكذلك لا شبهة في دخول شرائط المأمور به في محل النزاع. وتوهم انها خارجة عن محل النزاع ، بدعوى ان مرتبة الاجزاء مرتبة المقتضى ، ومرتبة الشرائط متأخرة عن المقتضى فان الشرائط دخيلة في فعلية التأثير كما في تقريرات شيخنا العلامة الأنصاري ـ قده ـ ولا يجوز إدخالها في المسمى ، لتكون مساوية مع الاجزاء في الرتبة ، مدفوع بان تأخر الشرائط رتبة عن الاجزاء لا يستلزم عدم إمكان وضع اللفظ بإزاء المجموع

١٣٧

ضرورة ان الوضع بإزاء المتقدم والمتأخر رتبة بل زماناً من الواضحات الأولية كما لا يخفى فالتأخر في مقام العلية لا يوجب التأخر في مقام التسمية ، فان أحد المقامين أجنبي عن المقام الآخر بالكلية.

ولا إشكال أيضاً في ان كل ما لم يؤخذ في المأمور به جزءً أو شرطاً فهو خارج عن المسمى وان كان له دخل في الصحة ، وذلك كقصد القربة ، وعدم كون العبادة مزاحماً بواجب آخر الموجب لسقوط أمره ، وعدم كونه منهياً عنه. وهذا.

لا لأجل ما أفاده شيخنا الأستاذ ـ قده ـ من «استحالة أخذ جميع ذلك في المسمى ، لما ذكره في وجهها وحاصله ان الصحة من جهة عدم المزاحم وعدم النهي ومن جهة قصد القربة في مرتبة متأخرة عن المسمى وفرع تحققه ، لينهى عنه ، أو يوجد له مزاحم ، أو يقصد به التقرب ، وعليه فكيف يعقل اعتبارها في في المسمى وأخذها فيه فيكون من قبيل أخذ ما هو متأخر رتبة في المتقدم كذلك ، وهو غير معقول.

فانه يرد عليه ان وضع لفظ بإزاء شيئين طولين رتبة ، بل زماناً بمكان من الإمكان وليس فيه أي محذور إبداء ، ومقامنا من هذا القبيل ، إذ مجرد كون قصد القربة وعدم المزاحم وعدم النهي في طول الاجزاء المأمور بها وشرائطها لا يوجب استحالة أخذها في مسمى لفظ «الصلاة» ـ مثلا ـ ولا يوجب تقدم الشيء على نفسه ، وغير ذلك من المحاذير.

ومن الغريب استدلاله ـ قده ـ على استحالة أخذ هذه الأمور في المسمى بكونها متفرعة على تحقق المسمى في مرتبة سابقة عليها حتى يوجد له مزاحم ، أو ينهى عنه ، أو يقصد به القربة ، وذلك لأن قضية التفرع مبتنية على أن يكون المسمى متحققاً بدون هذه الأمور ولم يكن لها دخل في تحققه ، واما إذا فرض انها أيضاً مأخوذة فيه كالأجزاء ، والشرائط فلا تحقق له قبل هذه الأمور حتى يوجد له مزاحم ، أو غيره ، وعليه فلو فرض مزاحم للمأمور به ، أو فرض

١٣٨

النهي عنه ، أو أنه لم يقصد القربة به لم يتحقق المسمى ضرورة انتفاء المركب بانتفاء أحد اجزائه.

نعم غاية ما يلزم على هذا هو كون المسمى غير ما تعلق به الأمر ، وهذا ليس بمحذور امتناع عقلي» بل لأن دخل هذه الأمور في المسمى واضح البطلان ، ومن ثم لم يحتمل أحد دخل هذه الأمور في المسمى حتى على القول بان الألفاظ. موضوعة للصحيحة.

فالمتحصل مما ذكرناه هو ان الاجزاء وشرائط المأمور به جميعاً داخلتان في محل النزاع من دون شبهة وإشكال ، كما انه لا إشكال في خروج هذه الأمور عن محل النزاع.

(الجهة الرابعة) : انه لا بد على كلا القولين من تصوير جامع وحداني يشترك فيه جميع الأفراد.

اما بناء على أن يكون الموضوع له لأسماء العبادات ، والمعاملات عاماً كوضعها كما هو الصحيح فالامر واضح ، فان لفظ ال «صلاة» ونحوه من أسماء الأجناس ، وقد تقدم ان الموضوع له فيها عام ، غاية الأمر ان ذلك الجامع على أحد القولين حصة خاصة ، وعلى القول الآخر طبيعة مطلقة ، وهذا لا يوجب التفاوت في المقام.

واما بناء على أن يكون الموضوع له فيها خاصاً فالأمر أيضاً كذلك ، ضرورة ان تصور جميع الأفراد تفصيلا غير معقول ، لعدم تناهيها فلا بد حينئذ من تصورها بجامع يكون ذلك الجامع معرفا لها إجمالا وبوجه حتى يمكن وضع اللفظ بإزائها.

فبالنتيجة ان تصور الجامع على كلا القولين لا بد منه سواء قلنا بان الموضوع له عام أو خاص؟ واما الاشتراك اللفظي أو كون الألفاظ حقيقة في بعض الأصناف ومجازاً في الباقي فهو مقطوع البطلان ، كما يظهر ذلك من إطلاق لفظ ال «صلاة» ـ مثلا ـ على

١٣٩

أصنافها على نسق واحد من دون لحاظ عناية في شيء منها.

وبعد ذلك نقول الكلام يقع في مقامين :

(المقام الأول) : في العبادات.

(المقام الثاني) : في المعاملات.

اما الكلام في المقام الأول فيقع في تصوير الجامع بين افراد العبادات وقد عرفت ان تصويره بينها لا بد منه سواء قلنا بكونها موضوعة للصحيحة أم للأعم؟ ولكن شيخنا الأستاذ ـ قده ـ قد خالف في المقام وذهب إلى انه لا ضرورة تدعو إلى تصوير جامع وحداني يشترك فيه جميع الافراد ، وأفاد في وجه ذلك انه يمكن الالتزام بان الموضوع له في مثل لفظ ال «صلاة» ـ مثلا ـ أولا هو المرتبة العليا الواجدة لجميع الاجزاء والشرائط ، فان «الصلاة» باعتبار مراتبها عرض عريض ولها مرتبة عليا وهي «صلاة» المختار ، ولها مرتبة دنيا وهي «صلاة» الغرقى وبين الحدين متوسطات فلفظة ال «صلاة» ابتدأ موضوعة للمرتبة العليا على كلا القولين واستعمالها في غيرها من المراتب النازلة من باب الادعاء والتنزيل ، أو من باب الاشتراك في الأثر ، فالصحيحي يدعى ان استعمال لفظ ال «صلاة» في بقية المراتب الصحيحة ، اما من باب الادعاء وتنزيل الفاقد منزلة الواجد مسامحة فيما يصح فيه التنزيل ، أو من باب الاشتراك في الأثر واكتفاء الشارع به في مقام الامتثال ، كما في «صلاة» الغرقى ، فانه لا يمكن فيها الالتزام بالتنزيل المزبور ، والأعمي يدعى ان استعمالها في بقية مراتبها الأعم من الصحيحة والفاسدة من باب العناية والتنزيل ، أو من باب الاشتراك في الأثر فكل واحد من الأمرين موجب لجواز الاستعمال حتى في فاسد «صلاة» الغرقى من باب تنزيله منزلة الواجد منها المنزل منزلة التام الاجزاء والشرائط من جهة الاشتراك في الأثر.

نعم استثنى ـ قده ـ من ذلك القصر والإتمام ، فقال انهما في عرض واحد فلا بد من تصوير جامع بينهما ، ثم رتب على ذلك بطلان ثمرة النزاع بين قول الأعمي

١٤٠