موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ١

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٩٦

وقد بلّغت ونصحت فاقبلوا نصحي. والسلام على من اتبع الهدى (١).

فلمّا وصل الكتاب الى النجاشي أخذه ووضعه على عينيه ونزل عن سريره وجلس على الأرض اجلالا واعظاما ، ثمّ اسلم ودعا بحقّ من عاج وجعل فيه الكتاب (٢).

ثمّ أحضر جعفرا وأصحابه وأسلم على يدي جعفر وكتب بذلك الى رسول الله : «بسم الله الرّحمن الرّحيم ، الى محمّد رسول الله ، من النجاشي : الأصحم بن أبجر ، سلام عليك يا نبيّ الله ورحمة الله وبركاته ، من الله الّذي لا إله الّا هو ، الّذي هداني الى الإسلام.

أمّا بعد ؛ فقد بلغني كتابك ـ يا رسول الله ـ فيما ذكرت من أمر عيسى ، فو ربّ السماء والأرض إنّ عيسى ما يزيد على ما ذكرت ثفروقا (٣) انّه كما قلت. وقد عرفنا ما بعثت به إلينا ، وقد قرينا ابن عمك وأصحابه ، فأشهد أنّك رسول الله صادقا مصدّقا ، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك ، وأسلمت على يديه لله ربّ العالمين.

__________________

(١) أقدم من نقله عن ابن اسحاق : الطبري ٢ : ٦٥٢ ثمّ الحاكم الحسكاني في المستدرك ٢ : ٦٢٤. ثمّ الطبرسي في إعلام الورى : ٤٥. ثمّ ابن الأثير في اسد الغابة ١ : ٦٢ والكامل ٢ : ٦٣. وروى الرسالة ابن كثير في البداية ٣ : ٨٤ وابن القيم في زاد المعاد ٣ : ٦١ وأشار ابن سعد في الطبقات ١ : ٢٥٨ ورواها المستوفي في الوثائق السياسة : ٤٦ عن مصادر منها اعلام السائلين لابن طولون. وبحث حولها المحقق الأحمدي في مكاتيب الرسول ١ : ١٢١ ـ ١٣١.

(٢) مكاتيب الرسول ١ : ١٢٨ عن الطبقات والسيرة الحلبية وزيني دحلان بهامش الحلبية ٣ : ٦٧.

(٣) الثفروق : قمع التمر ، ويكنّى به عن قلة الشيء ، يقال : ماله ثفروق ، أي ليس له شيء.

٥٢١

وقد بعثت إليك بابني أزها ابن الأصحم بن أبجر (١) ، فإنّي لا أملك الّا نفسي ، وان شئت أن آتيك فعلت يا رسول الله ، فإنّي أشهد أنّ ما تقول حقّ ، والسلام عليك يا رسول الله» (٢).

هذه هي اجابة النجاشي على كتاب النبيّ إليه في دعوته الى الإسلام ضمن كتبه الى الملوك والرؤساء بعد صلح الحديبية وقبل خيبر في أوائل السنة السابعة من الهجرة ، على ما يبدو من فحوى الرسالة ، كما في كلّ المصادر التأريخية تقريبا ، ومن المستعبد أن يكون كتاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إليه وهذا الجواب من النجاشي عليه متزامنا مع بداية هجرة الحبشة كما يبدو هذا من الطبرسي في «اعلام الورى» عن الحاكم الحسكاني (٣).

ولنا عود على البحث في إرسال رُسله بكتبه إلى الملوك والرؤساء.

__________________

(١) في الروض الانف : أن عليا وجد أبا نيزر ابن النجاشي عند تاجر بمكّة فاشتراه منه واعتقه مكافأة لمّا صنع أبوه بالمسلمين. ويقال : إنّ الحبشة ارسلوا وفدا منهم الى أبي نيزر بعد أبيه النجاشي ليملّكوه فأبى عليهم وقال : ما كنت لا طلب الملك بعد أن منّ الله عليّ بالاسلام. ولم يكن لونه لون الحبشة بل كان حسن الوجه طويلا.

(٢) الطبري ٢ : ٦٥٣ عن ابن اسحاق ، وعنه في المستدرك ٢ : ٦٢٤ وعنه في إعلام الورى : ٤٦ واسد الغابة ١ : ٦٢ والكامل ٢ : ٦٣ والبداية ٣ : ٨٤ وزاد المعاد ٣ : ٦١ وصبح الاعشى ٦ : ٣٧٩ والمواهب اللدنية بشرح الزرقاني ٣ : ٣٧٩ والسيرة الحلبية ٣ : ٢٧٩ وسيرة زيني دحلان بهامش الحلبية ٣ : ٦٧. ومجموعة الوثائق السياسية : ٤٦ ، ومكاتيب الرسول ١ : ١٢١ ـ ١٣١. ومن الغريب مع كل هذه المصادر تشكيك السيد الحسني في سيرته في صحة رواية اسلام النجاشي بعد أن نقل رواية الرسالة عن البداية لابن كثير ، سيرة المصطفى : ١٨٣ ، ١٨٤.

(٣) وقد تزامن مع هذا الكتاب والجواب أمران آخران هما : خطبة النبيّ لأمّ حبيبة بواسطة

٥٢٢

وفد قريش الى النجاشي :

قال علي بن ابراهيم القمي في تفسيره : لمّا اشتدّت قريش في أذى رسول الله وأصحابه الّذين آمنوا به بمكّة قبل الهجرة ، أمرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يخرجوا الى الحبشة ، وأمر جعفر بن أبي طالب أن يخرج معهم.

فخرج جعفر ، ومعه سبعون رجلا من المسلمين حتّى ركبوا البحر.

__________________

النجاشي ، وتجهيزه المسلمين من الحبشة إليه الى المدينة ، وكتاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله خلو منهما بروايتيه ، وقد مرّ تقريب أن يكون ذلك برسالة شفوية مع حامل الكتاب عمرو بن اميّة الضّمري ، ولم يرو كتاب آخر في ذلك ، ومن المستعبد ذلك أيضا.

وتفرّد من بين المصادر مصدران نقلا جوابين آخرين للنجاشي على كتابين آخرين للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في الأمرين ، هما «سواطع الأنوار» و «الطراز المنقوش» : أنّ النجاشي كتب إليه في جواب كتابه في تزويج أمّ حبيبة :

«بسم الله الرّحمن الرّحيم ، الى محمّد ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ من النجاشي أصحمة (كذا) سلام عليك يا رسول الله من الله ورحمة الله وبركاته. أمّا بعد ؛ فإنّي قد زوّجتك امرأة من قومك وعلى دينك ، وهي السيدة أمّ حبيبة بنت أبي سفيان ، وأهديتك هدية جامعة : قميصا وسراويل وعطافا وخفّين ساذجين. والسلام عليك ورحمة الله وبركاته».

وكتب إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله في جواب كتابه صلى‌الله‌عليه‌وآله في تجهيز المسلمين الى المدينة :

«بسم الله الرّحمن الرّحيم ، الى محمّد ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ من النجاشي أصحمة (كذا) سلام عليك يا رسول الله من الله ورحمة الله وبركاته ، لا إله الّا الّذي هداني للإسلام ، أمّا بعد فقد ارسلت إليك ـ يا رسول الله ـ من كان عندي من أصحابك المهاجرين من مكّة الى بلادي ، وها أنا ارسلت إليك ابني اريجا (كذا) في ستين رجلا من أهل الحبشة ، وان شئت أتيتك بنفسي فعلت يا رسول الله ، فإنّي أشهد أنّ ما تقول حق ، والسلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته» كما في الوثائق السياسية : ٤٨ عن الباب الأوّل من الطراز المنقوش وسواطع الأنوار : ٨١.

٥٢٣

فلمّا بلغ قريش خروجهم بعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد الى النجاشي ، ليردّوهم إليهم ، وكان عمرو وعمارة متعاديين ... فبرئت بنو مخزوم من جناية عمارة ، وبرئت بنو سهم من جناية عمرو بن العاص (١).

فوردوا على النجاشي ، وكانوا قد حملوا إليه هدايا فقبلها منهم.

ثمّ قال عمرو بن العاص : أيّها الملك ، انّ قوما منّا خالفونا في ديننا وسبّوا آلهتنا وصاروا إليك ، فردّهم إلينا.

فبعث النجاشي الى جعفر فجاؤوا به.

فقال له : يا جعفر ، ما يقول هؤلاء؟ قال جعفر : أيّها الملك وما يقولون؟ قال : يسألون أن أردّكم إليهم. قال : أيّها الملك ، سلهم : أعبيد نحن لهم؟ فقال عمرو : لا ، بل أحرار كرام. قال : فسلهم : ألهم علينا ديون يطالبوننا بها؟ قال : لا ، مالنا عليكم ديون. قال : فلكم في أعناقنا دماء تطالبوننا بها؟ قال عمرو : لا. قال : فما تريدون منّا؟! آذيتمونا فخرجنا من بلادكم.

فقال عمرو بن العاص : أيّها الملك خالفونا في ديننا وسبّوا آلهتنا وأفسدوا شبابنا وفرّقوا جماعتنا ، فردّهم إلينا لنجمع أمرنا.

فقال جعفر : نعم أيّها الملك ، خالفناهم بأنّه بعث الله فينا نبيّا أمر بخلع الأنداد ، وترك الاستقسام بالأزلام ، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام (٢) ، وحرّم

__________________

(١) فلمّا ركبوا السفينة شربوا الخمر ، فقال عمارة لعمرو بن العاص ـ وكان قد اخرج معه أهله ـ قل لأهلك تقبّلني ، فقال عمرو : لا يجوز هذا! فسكت عمارة ، ولمّا انتشى عمرو ـ وكان على صدر السفينة ـ دفعه عمارة والقاه في البحر ، فتشبّث عمرو بصدر السفينة وأدركوه فأخرجوه.

(٢) وردت الزكاة في السور المكية منها في المزمّل في قوله سبحانه : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) (المزمل : ٢٠) وهي السورة الثالثة أو الرابعة ، وفي سورة الأعراف قوله سبحانه : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ)

٥٢٤

الظلم والجور ، وسفك الدماء بغير حقها ، والزنا ، والربا ، والميتة والدم (١) وأمرنا بالعدل والاحسان ، وإيتاء ذي القربى ، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي.

فقال النجاشي : بهذا بعث الله عيسى بن مريم عليه‌السلام! ثمّ قال : يا جعفر ، هل تحفظ ممّا أنزل الله على نبيّك شيئا؟ قال : نعم ، ثمّ قرأ عليه «سورة مريم» فلمّا بلغ الى قوله : (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً).

__________________

(الأعراف : ١٥٦) وهي السورة التاسعة والثلاثون أو الأربعون في النزول ، فهي قبل سورة مريم الرابعة والأربعين الّتي تلا منها جعفر على النجاشي. نعم يدّعى أنّها آيات مدنيات في سور مكية ، لأن تشريع الزكاة لم يكن في مكّة قبل الهجرة بل في المدينة بعد الهجرة ببضع سنين ولكن لا ملازمة بين التسليم بتشريع الزكاة في المدينة وبين قبول هذه الدعوى بكون الآيات مدنية في سور مكية ، الّا اذا سلّمنا بأن الزكاة في هذه الآيات بمعنى الزكاة المفروضة دون المندوبة ، ولنا مندوحة عن قبول ذلك بترجيح تفسير الزكاة في هذه الآيات بالزكاة بالمعنى اللغوي العام أي الصدقات المستحبة المندوب إليها. وبذلك نتوسع في معنى الأمر في كلام جعفر بما يعم الندب أيضا. وبهذا نتفصّى عن الاشكال بورود الزكاة في كلام جعفر.

ولكن لا مناص عن اشكال ورود الصيام في كلامه أيضا. الّا ان ذلك لا يقودنا الى القول بأن الرواية موضوعة كما ذهب إليه أحمد أمين في فجر الإسلام : ٧٦ ، كما لا يقودنا ذلك الى الالتزام بأن الصيام قد شرع في مكّة قبل الهجرة أي قبل نزول آيتها في السنة الثانية بعد الهجرة ضمن آيات سورة البقرة. بل نحتمل السهو في حديث أمّ سلمة أو أحد الرواة ، أو أن يكون ذلك مرجّحا لكون هذه المناظرة بعد وقعة الأحزاب أو بعد بدر كما رواه الحلبي في سيرته كما مرّ ، ولكن يلازم ذلك أن نلتزم بأن التشريعات الجديدة كانت تصلهم في الحبشة كيفما كان ، وليس ذلك ببعيد.

(١) ان أوّل ما نزل من القرآن في تحريم الميتة في الآية : ١٢١ من سورة الأنعام ، وهي السورة ٥٥ في ترتيب النزول ، فيحتمل أن تكون الهجرة بعدها ، ولا نجزم به اذ فيها : (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) وقبلنا فيه بقول الطبرسي بأن المراد به بيان النبيّ لا القرآن.

٥٢٥

فلمّا سمع النجاشي بهذا بكى بكاء شديدا وقال : هذا والله هو الحقّ.

فقال عمرو بن العاص : أيها الملك ، انّ هذا مخالفنا فردّه إلينا.

فرفع النجاشي يده فضرب بها وجه عمرو ، ثمّ قال : اسكت ، والله ـ يا هذا ـ لئن ذكرته بسوء لأفقدنك نفسك!

فقام عمرو بن العاص من عنده والدماء تسيل على وجهه ، وهو يقول : ان كان هذا كما تقول ـ أيها الملك ـ فإنّا لا نتعرض له.

ورجع عمرو الى قريش فأخبرهم أنّ جعفرا في أرض الحبشة في اكرم كرامة (١).

وروى ابن اسحاق بسنده عن زوج رسول الله أمّ سلمة هند ابنة أبي اميّة بن المغيرة المخزومي أنّها قالت : لمّا نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها النجاشي خير جار : أمنّا على ديننا وعبدنا الله تعالى لا نؤذى ولا نسمع شيئا نكرهه.

__________________

(١) وكانت على رأس النجاشي وصيفة له تذب عنه ، فنظرت الى عمارة بن الوليد ، فلمّا رجع عمرو بن العاص الى منزله قال لعمارة : لو راسلت جارية الملك ، فراسلها فأجابته ، فقال له عمرو : قل لها : تبعث إليك من طيب الملك شيئا. فقال لها ، فبعثت إليه ، فأخذ عمرو من ذلك الطيب ، فادخل عمرو الطيب على النجاشي وقال : أيّها الملك ان حرمة الملك عندنا وطاعته علينا وما يكرمنا اذا دخلنا بلاده ونأمن فيه : أن لا نغشه ولا نريبه ، وان صاحبي هذا الّذي معي قد أرسل الى حرمتك وخدعها فبعثت إليه من طيبك. ثمّ وضع الطيب بين يديه فغضب النجاشي وهمّ بقتل عمارة ، ثمّ قال : لا يجوز قتله فانهم دخلوا بلادي فلهم أمان ، ثمّ دعا السحرة فقال لهم : اعملوا به شيئا أشد عليه من القتل ، فأخذوه ونفخوا في احليله الزئبق فصار مع الوحش يغدو ويروح ولا يأنس بالناس ، فبعثت قريش بعد ذلك فكمنوا له في موضع حتّى ورد الماء مع الوحش فأخذوه ، فما زال يضطرب في أيديهم ويصيح حتّى مات ، كما في تفسير القمي ١ : ١٧٦ ـ ١٧٨ وعنه في اعلام الورى : ٤٣ ـ ٤٥ بلا أسناد وكذلك اليعقوبي ٢ : ٣٠ والأصفهاني عن الواقدي في الأغاني ٨ : ٥٠.

٥٢٦

فلمّا بلغ ذلك قريشا ائتمروا بينهم أن يبعثوا الى النجاشي فينا رجلين منهم جلدين ، وأن يهدوا للنجاشي هدايا ممّا يستطرف من متاع مكّة ، وكان من أعجب ما يأتيه منها الأدم ، فجمعوا له أدما كثيرا ، فلم يتركوا من بطارقته بطريقا الّا أهدوا له هدية. وبعثوا بذلك عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص ، وأمروهما بأمرهم فقالوا لهما : ادفعا الى كلّ بطريق هديته قبل أن تكلما النجاشي فيهم ، ثمّ قدّما الى النجاشي هداياه ، ثمّ سلاه أن يسلمهم إليكما قبل أن يكلمهم.

فخرجا حتّى قدما على النجاشي ... فلم يبق من بطارقته بطريق الّا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي ، وقالا لكلّ بطريق منهم : أنّه قد لجأ الى بلد الملك منّا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم ، وقد بعثنا الى الملك فيهم أشراف قومهم ليردّهم إليهم ، فاذا كلّمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولا يكلّمهم ، فان قومهم أعلم بما عابوا عليهم. فقالوا لهما ، نعم.

ثمّ انهما قدّما هداياهما الى النجاشي فقبلها منهما ، ثمّ كلّماه فقالا له :

أيّها الملك ، انه قد لجأ الى بلدك منّا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك ، وجاءوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت ، وقد بعثنا إليك أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم ، لتردّهم إليهم ، فهم أعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه.

فقالت بطارقته من حوله : صدقا أيها الملك ، فان قومهم اعلم بما عابوا عليهم ، فأسلمهم إليهما فليردّاهم الى بلادهم وقومهم.

فغضب النجاشي وقال : لا ها الله ، اذا لا أسلمهم إليهما ، ولا يكاد لقوم جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي ، حتّى ادعوهم فأسألهم عمّا يقول هذان في أمرهم ، فان كان كما يقولان أسلمتهم إليهما ورددتهم الى قومهم ، وان كانوا على غير ذلك منعتهم منهما وأحسنت جوارهم ما جاوروني.

٥٢٧

ثمّ أرسل الى أصحاب رسول الله ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ فدعاهم فلمّا جاءهم رسوله اجتمعوا وقال بعضهم لبعض : ما تقولون للرجل اذا جئتموه؟ قالوا : نقول ـ والله ـ ما علمنا وما أمرنا به نبيّنا ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ كائنا في ذلك ما هو كائن.

فلمّا جاءوا سألهم النجاشي ـ وقد دعا أساقفته حوله ـ فقال لهم : ما هذا الدين الّذي قد فارقتم فيه قومكم؟ ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الملل؟

فكان الّذي كلّمه جعفر بن أبي طالب فقال له : أيّها الملك ، كنّا قوما أهل جاهلية : نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ، ويأكل القويّ منا الضّعيف ؛ فكنّا على ذلك ، حتّى بعث الله إلينا رسولا منّا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه ، فدعانا الى الله لنوحّده ونعبده ، ونخلع ما كنّا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم وحسن الجوار ، والكفّ عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش ، وقول الزور ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنات ، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا ، وأمرنا بالصلاة والزكاة ـ وعدّد عليه امور الإسلام ثمّ قال ـ فصدّقناه وآمنّا به ، واتّبعناه على ما جاء به من الله : فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئا ، وحرّمنا ما حرّم علينا وأحللنا ما أحلّ لنا. فعدا علينا قومنا فعذّبونا وفتنونا عن ديننا ليردّونا من عبادة الله الى عبادة الأوثان ، وأن نستحلّ ما كنا نستحل من الخبائث. فلمّا قهرونا وظلمونا وضيّقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا الى بلادك واخترناك على من سواك ورغبنا في جوارك ورجونا أن لا نظلم عندك أيّها الملك.

٥٢٨

فقال له النجاشي : هل معك ممّا جاء به عن الله من شيء؟ فقال جعفر : نعم. قال النجاشي : فاقرأه عليّ. فقرأ صدرا من (كهيعص)(١) فبكى ـ والله ـ النجاشي حتّى اخضلّت لحيته وبكت أساقفته حتّى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم ، ثمّ قال النجاشي : إنّ هذا والّذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة. ثمّ قال لعمرو وعبيد الله : انطلقا فلا ـ والله ـ لا اسلمهم إليكما ولا يكادون. فخرجا من عنده.

وقال عمرو بن العاص : والله لآتينّه غدا عنهم بما استأصل به خضراءهم ؛ والله لاخبرنّه أنّهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد. وكان عبد الله بن ربيعة أتقى الرجلين فقال : لا أفعل فان لهم أرحاما.

فغدا عليه عمرو من الغد فقال له : أيّها الملك ، انّهم يقولون في عيسى ابن مريم قولا عظيما ، فأرسل إليهم فسلهم عمّا يقولون فيه : فأرسل إليهم ليسألهم عنه.

فاجتمع القوم فقال بعضهم لبعض : ما ذا تقولون في عيسى بن مريم اذا سألكم عنه؟ قالوا : نقول ـ والله ـ ما قال الله وما جاء به نبيّنا ، كائنا في ذلك ما هو كائن.

فلمّا دخلوا عليه قال لهم : ما ذا تقولون في عيسى بن مريم؟ فقال جعفر بن أبي طالب : نقول فيه بالّذي جاء به نبيّنا ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ : هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ، ألقاها الى مريم العذراء البتول.

فضرب النجاشي بيده الى الأرض فأخذ منها عودا ثمّ قال : والله ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود (أي بمقداره) فتناخرت بطارقته حوله ، فقال لهم : وإن نخرتم والله.

__________________

(١) مريم : ١ ، وهي السورة الرابعة والأربعون في ترتيب النزول.

٥٢٩

ثمّ قال للمسلمين : اذهبوا فانتم شيوم (آمنون) ومن سبّكم غرم ، من سبّكم غرم ، وما احبّ أن لي دبرا (اي جبلا) من ذهب وأني آذيت رجلا منكم.

ثمّ قال لرجاله : ردّوا عليهما هداياهما فلا حاجة لي بهما.

فخرجا من عنده مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا به.

وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار (١).

رضي الله عن أمّ المؤمنين أمّ سلمة اذ سلم لنا حديثها هذا المسند الوحيد عن هجرة الحبشة ووفد قريش إليها في طلبهم ، وهي أحد المهاجرين إليها الأكثر من ثمانين رجلا وامرأة ، ولم يسلم لنا سواه حديث مسند آخر عن أحد سواها من سائر المهاجرين الثمانين. اللهم الّا ما نقلناه عن القميّ في تفسيره مرسلا وبلا اسناد ، وما مرّ عن عمرو بن العاص ، مع ما بين هذه الأخبار الثلاثة من تفاوت بيّن ، ولا سيّما بين خبري أمّ سلمة وعمرو بن العاص ، ولا سيّما من جهة عدم اشارته الى أيّ شيء ممّا حدّثت عنه أمّ سلمة ممّا يتعلق به وبلقائه السابق بالنجاشي كوافد من قبل قريش في طلب المهاجرين ، بل هو يتحدث عن لقائه هذا الأخير وكأنّه أوّل لقاء له به فيما يرتبط بالإسلام ، وان كان ينقل عنه أنّه قال فيه : «مرحبا بصديقي» وأنّه سجد له كما كان يصنع ، فكأنّه يتنكّر لما كان منه في الوفادة عن قريش الى الحبشة.

خروج الحبشة على النجاشي :

قال ابن اسحاق : وحدثني جعفر بن محمّد عن أبيه (٢) قال : اجتمعت الحبشة فقالوا للنجاشي : انّك قد فارقت ديننا.

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة١ : ٣٥٧ ـ ٣٦٢.

(٢) ولذلك عدّ الشيخ الطوسي ابن اسحاق من أصحاب الصادق عليه‌السلام في رجاله : ٢٨١. كما عدّه في أصحاب الباقر عليه‌السلام : ١٣٥.

٥٣٠

فأرسل الى جعفر وأصحابه فهيّأ لهم سفنا وقال : اركبوا فيها وكونوا كما أنتم ، فان هزمت فامضوا حتّى تلحقوا بحيث شئتم ، وان ظفرت فاثبتوا.

ثمّ عمد الى كتاب فكتب فيه : هو يشهد أن لا إله الّا الله ، وأنّ محمّدا عبده ورسوله ، ويشهد أنّ عيسى بن مريم عبده ورسوله وروحه وكلمته ، القاها الى مريم ، ثمّ جعله في قبائه عند المنكب الأيمن ، وخرج الى الحبشة فقال :

يا معشر الحبشة! ألست أحق الناس بكم؟ قالوا : بلى ، قال : فكيف رأيتم سيرتي فيكم؟ قالوا : خير سيرة ، قال : فما بالكم؟ قالوا : فارقت ديننا وزعمت أنّ عيسى عبد! قال : فما تقولون أنتم في عيسى؟ قالوا : نقول : هو ابن الله ، فوضع يده على صدره على قبائه وقال : هو يشهد أنّ عيسى بن مريم لم يزد على هذا شيئا. ـ وهو يعني ما كتب ـ فرضوا وانصرفوا عنه (١).

وقد روى في آخر خبر أمّ سلمة قالت : فو الله انا لعلى ذلك إذ نزل به رجل من الحبشة ينازعه في ملكه ... وسار إليه النجاشي وبينهما عرض النيل (كذا).

فقال أصحاب رسول الله : من رجل يخرج حتّى يحضر الوقيعة ثمّ يأتينا بالخبر؟ فقال الزبير بن العوّام ـ وكان من أحدث القوم سنّا ـ أنا ، قالوا : فأنت ، فنفخوا له قربة فجعلها في صدره ثمّ سبح عليها حتّى خرج الى ناحية النيل الّتي بها ملتقى القوم ، ثمّ انطلق حتّى حضرهم. فو الله انا لعلى ذلك ، متوقعون لما هو كائن ، إذ طلع الزّبير وهو يسعى فلمع بثوبه وهو يقول : ألا أبشروا ، فقد ظفر النجاشي وأهلك الله عدوّه ومكّن له في بلاده ...

ورجع النجاشي وقد أهلك الله عدوّه ومكّن له في بلاده واستوسق عليه أمر الحبشة. فكنّا عنده في خير منزل حتّى قدمنا على رسول الله وهو بمكّة (٢).

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ١ : ٣٦٥.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ١ : ٣٦٢.

٥٣١

روى ابن اسحاق هذا الخبر عن ابن شهاب الزهري عن أمّ سلمة بواسطة قريبها أبي بكر بن عبد الرحمن المخزومي ، ثمّ قال ابن اسحاق : قال الزهري : فحدّثت عروة بن الزبير حديث أبي بكر بن عبد الرحمن عن أمّ سلمة (١) وغاية ما يفيده هذا الخبر تقرير عروة بن الزبير لخبر أمّ سلمة عن الزّبير ، ولم يرد الحديث بذلك عن هجرة الحبشة عن الزبير نفسه ولا بواسطة أحد أبنائه ولا سيّما عروة المحدث المؤرخ! وبعد هذا حدّث ابن اسحاق بحديث الامام الصادق عليه‌السلام عن خروج الحبشة على النجاشي ، وغاية ما فيه : أنّهم خرجوا عليه فأرسل الى جعفر وأصحابه قال : فان هزمت فامضوا ... وان ظفرت فاثبتوا ... وخرج الى الحبشة وقد صفّوا له ... فرضوا وانصرفوا ... وليس فيه أن الله أهلك عدوّه وظفر النجاشي. فهذه زيادة في خبر أمّ سلمة. بينما يعوزه ما في حديث الامام الصادق عليه‌السلام من تهيئة السفن وركوبهم فيها وانتظارهم لخبره. واذا كان لا بدّ من ترجيح ففي حديث الامام الصادق عليه‌السلام من المرجّحات ما ليس في الخبر عن أمّ سلمة.

ولا يفوتنا آخر خبر أمّ سلمة إذ قالت : حتّى قدمنا على رسول الله وهو بمكّة. ثمّ ليس في الخبر ولم يذكر ابن اسحاق أو ابن هشام متى كان هذا الرجوع؟ ثمّ هي تقول : قدمنا ، ولا تستثني أحدا. ولكنّ الظاهر أنّها عوّلت على المعلوم يوم حديثها لقريبها أبي بكر المخزومي. بينما يقول ابن اسحاق : وبلغ أصحاب رسول الله الّذين خرجوا الى أرض الحبشة إسلام أهل مكّة ، فأقبلوا لمّا بلغهم ذلك ، حتّى اذا دنوا من مكّة بلغهم أنّ ما كانوا تحدّثوا به من اسلام أهل مكّة كان باطلا ، فلم يدخل أحد الّا بجوار أو مستخفيا (٢) منهم : عثمان بن عفّان ومعه امرأته رقية بنت رسول الله ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ وأبو سلمة المخزومي ومعه امرأته أمّ سلمة

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ١ : ٣٦٣.

(٢) ابن اسحاق في السيرة ٢ : ٣.

٥٣٢

المخزومية. والسكران بن عمرو ومعه امرأته سودة بنت زمعة بن قيس. وأبو سبرة بن أبي رهم معه امرأته أمّ كلثوم بنت سهيل بن عمرو ، وعديله أبو حذيفة بن عتبة ومعه امرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو ، وأخوها عبد الله بن سهيل بن عمرو. وعامر بن ربيعة ومعه امرأته ليلى بنت أبي حمنة. فهؤلاء عشرة أزواج. ومن غيرهم : الزبير بن العوام ، ومصعب بن عمير ، وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح والمقداد بن عمرو ، وعبد الله ابن مسعود ، وعمّار بن ياسر ، وعثمان بن مظعون ، وأخواه : عبد الله وقدامة ، وابنه السائب بن عثمان. ومن ثمّ يقول ابن اسحاق : فجميع من قدم مكّة من أصحابه ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ من أرض الحبشة ثلاثة وثلاثون رجلا (١).

هذا وقد سبق منه القول بأنّهم كانوا : اثنين وثمانين رجلا وامرأة (٢).

وقال عن جميع من قدم المدينة من الّذين حملهم النجاشي مع عمرو ابن اميّة الضّمري في السفينتين الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّهم كانوا ستة عشر رجلا ، ومحمّد والحارث ابنا حاطب الجمحي مع امّهم فاطمة بنت المجلّل ، وعبد الله بن المطّلب الزّهري مع امّه رملة بنت أبي عوف السّهمي ، قدمتا بأبنائهما بعد هلاك أزواجهما في الحبشة ، في احدى السفينتين.

ثمّ عدّ تسعة (٣) نفر ممّن هلك من الرجال بأرض الحبشة مسلمين ، وواحدا منهم تنصّر بها ، هو عبيد الله بن جحش حليف بني اميّة وصهر أبي سفيان على ابنته رملة أمّ حبيبة ، لمّا قدم أرض الحبشة تنصّر بها فكان اذا مرّ بالمسلمين من أصحاب

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة٢ : ٣ ـ ١٠.

(٢) ابن اسحاق في السيرة١ : ٣٥٣.

(٣) ابن اسحاق في السيرة٤ : ١٠ عد سبعة ثمّ عدّ رجلا من أبنائهم ، وفي ٤ : ٧ عدّ ممن هلك المطّلب بن أزهر الزّهري ، ثمّ لم يعدّه ضمن الثمانية.

٥٣٣

رسول الله قال : فقحنا وصأصأتم (١) أي : انا قد فتّحنا أعيننا فأبصرنا ولم تفتحوا أعينكم فتبصروا وأنتم تلتمسون ذلك! ومات بها نصرانيا. ولذلك تزوّج امرأته رسول الله بواسطة النجاشي قبل رجوعهم الى المدينة بعد الحديبية وقبل خيبر. وكان معها ابنتها حبيبة ، وبها كانت تكنّى.

وعدّ ممّن هلك بماء شربوه في طريق الرجوع : موسى بن الحارث واختيه عائشة وزينب وامّهم ريطة ابنتي الحارث ولم يبق من الاسرة سوى ابنتهم فاطمة.

وبالجملة فقد عدّ ابن اسحاق عدا من قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مكّة ، وسوى من حملهم النجاشيّ في السفينتين ، ممّن تخلّف عن بدر وقدم بعد ذلك ، عدّهم : أربعة وثلاثين رجلا (٢) فهؤلاء مع من قدم مكّة : ثلاثة وثلاثون رجلا ، ومن حملهم النجاشي في السفينتين : ستة عشر رجلا ، فيكون المجموع : أربعة وثمانين رجلا ، سوى النساء. وقد عدّ جميع من هاجر الى أرض الحبشة من النساء : ستّ عشرة امرأة : سوى بناتهن اللاتي ولدن هنالك (٣) وعدّ ممن ولد من أبنائهم بأرض الحبشة : خمسة ، ومن البنات : خمسا أيضا (٤) فيكون المجموع : مائة وعشرة أشخاص من الرجال والنساء والبنين والبنات ، وهم مع من مات منهم والّذي تنصّر مائة وعشرون.

جوار أبي طالب ، والوليد :

قال ابن اسحاق : كانت أمّ أبي سلمة المخزومي : برة بنت عبد المطّلب ، اخت أبي طالب ، فكان أبو طالب خال أبي سلمة ، ولذلك دخل مكّة في جواره.

__________________

(١) ان الجرو ـ ولد الكلب ـ اذا أراد أن يفتح عينيه للنظر صأصأ ـ أي صوّت ـ قبل ذلك ، فاذا فتح عينيه أوّل ما يفتح وهو صغير قيل : فقح الجرو ، واستعارهما هنا للانسان فضربه لهم وله مثلا!

(٢) و (٣) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٠.

(٤) ابن اسحاق في السيرة٤ : ١١.

٥٣٤

ثمّ روى عن أبيه اسحاق بن يسار ، عن حفيد أبي سلمة : سلمة بن عبد الله بن عمر بن أبي سلمة ، أنّه حدّثه : أن أبا سلمة لمّا استجار بأبي طالب مشى إليه رجال من بني مخزوم فقالوا له : يا أبا طالب ، لقد منعت منّا ابن أخيك محمّدا ، فمالك ولصاحبنا تمنعه منّا؟ قال : انّه استجار بي ، وهو ابن اختي ، وان أنا لم أمنع ابن اختي لم أمنع ابن أخي.

فقام أبو لهب فقال : يا معشر قريش ، والله لقد اكثرتم على هذا الشيخ ، ما تزالون تتواثبون عليه في جواره من بين قومه ، والله لتنتهنّ عنه أو لنقومنّ معه في كل ما قام فيه حتّى يبلغ ما أراد!

فقالوا : بل ننصرف عمّا تكره يا أبا عتبة.

فحين سمعه أبو طالب يقول ما يقول رجا فيه أن يقوم معه في شأن رسول الله ، فقال (قصيدة) يحرّض بها أبا لهب على نصرته ونصرة رسول الله ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ.

ثمّ ذكر عشرة أبيات منها قوله :

جزى الله عنّا : عبد شمس ، ونوفلا

وتيما ، ومخزوما : عقوقا وماثما (١)

بتفريقهم من بعد ودّ والفة

جماعتنا ، كيما ينالوا المحارما

كذبتم ـ وبيت الله ـ نبزي (٢) محمّدا

ولمّا تروا يوما ـ لدى الشعب ـ قائما (٣)

ويظهر من هذا البيت الأخير أنّ ذلك كان في حين حصار الشعب ، فالنبيّ كان بجوار عمّه أبي طالب ، ودخل فيه معه ابن عمّة النبيّ أبو سلمة ، وكذلك احتمى

__________________

(١) بتخفيف الهمزة من المأثم ، وهذا من شواهد ما أشتهر عن قريش أنّهم كانوا يخفّفون الهمزة ، همزة الوسط لا الأوّل.

(٢) نبزي أي : ننفي محمّدا عن أنفسنا.

(٣) ابن اسحاق في السيرة٢ : ٨ ـ ١١.

٥٣٥

ذوو البيوتات والاسر بعشائرهم ، وهاجر بعضهم ومن سواهم الى الحبشة ، ورجع منهم من رجع بجوار أو اختفى ، وبقي الباقون في الحبشة ، فرجع بعضهم الى المدينة بعد بدر ، وكان آخر من رجع العشرون رجلا وامرأة في السفينتين بعد الحديبية وقبل خيبر.

وان كان ابو سلمة المخزومي قد ترك حمى عشيرته بني مخزوم مستجيرا بخاله أبي طالب ، فانّ عثمان بن مظعون الجمحي دخل بجوار من الوليد بن المغيرة المخزومي (١) ، ولكنّه :

لمّا رأى ما فيه أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من البلاء وهو يغدو ويروح في أمان من الوليد بن المغيرة ، قال : والله انّ غدوّي ورواحي آمنا بجوار رجل من أهل الشرك ، وأصحابي وأهل ديني يلقون من البلاء والأذى في الله ما لا يصيبني ، لنقص كبير في نفسي.

ثمّ مشى الى الوليد بن المغيرة فقال له : يا أبا عبد شمس ، وفت ذمّتك ، قد رددت إليك جوارك ... قال : فانطلق الى المسجد فاردد عليّ جواري علانية كما أجرتك علانية. فانطلقا فخرجا حتّى أتيا المسجد ، فقال الوليد : هذا عثمان قد جاء يردّ عليّ جواري. قال : صدق ، قد وجدته وفيّا كريم الجوار ولكنّي قد أحببت أن لا أستجير بغير الله ، فقد رددت عليه جواره. ثمّ انصرف.

وكان لبيد بن ربيعة الشاعر جالسا في مجلس قريش ينشدهم ، فجلس معهم عثمان ، فقال لبيد : ألا كلّ شيء ـ ما خلا الله ـ باطل. فقال عثمان : صدقت. قال لبيد : وكلّ نعيم ـ لا محالة ـ زائل. فقال عثمان : نعيم الجنة لا يزول. فقال لبيد : يا معشر قريش ، والله ما كان يؤذى جليسكم فمتى حدث هذا فيكم؟

__________________

(١) فهذا الخبر أيضا من الأخبار الّتي تنافي هلاك الوليد مع المستهزئين الستة.

٥٣٦

فقال رجل من القوم : انّ هذا سفيه في سفهاء معه قد فارقوا ديننا ، فلا تجدنّ في نفسك من قوله.

فردّ عليه عثمان حتّى استشرى أمرهما وعظم ، فقام إليه الرجل فلطم عينه فخضّرها (١).

والحوار في الخبر ـ إن صحّ ـ بين الرجل من قريش ولبيد الشاعر يشعر بعدم انتشار أخبار الإسلام بما يبلغ الشاعر لبيد بن ربيعة ، وكذلك ينمّ عن عدم منابذة المسلمين للمشركين كافة بما يحترز معه ابن مظعون عن مجالستهم في أنديتهم ومجالسهم والاستماع الى شعرائهم.

بينما مرّ في خبر أبي سلمة المخزومي شعر أبي طالب يقول :

كذبتم وبيت الله نبزي محمّدا

ولمّا تروا يوما ـ لدى الشعب ـ قائما

ويظهر منه ـ كما مرّ ـ أن ذلك كان في حين حصار الشعب ، وقد ذكر القمي والطبرسي والراوندي وابن شهرآشوب أنّ مدة الحصار كانت أربع سنين (٢) وقد قال الثلاثة ـ ما عدا القمي ـ : إنّ أبا طالب مات بعد ذلك بشهرين. وقد روى الصدوق عن الصادق عليه‌السلام : أنّ أبا طالب لمّا حضرته الوفاة أوحى الله عزوجل الى رسول الله : اخرج منها فليس لك بها ناصر فهاجر الى المدينة (٣) وروى العياشي عن علي بن الحسين عليهما‌السلام : أن رسول الله لمّا فقد عمه أبا طالب أوحى الله إليه :

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة٢ : ٨ ـ ١٠ وقد اطلق الخضرة على السواد هنا كما قد يطلق السواد على الخضرة فيقال : سواد العراق يراد خضرة زروعها ، إذ الخضرة من بعيد زرقاء داكنة مكدّرة اللون.

(٢) تفسير القمي ١ : ٣٨٠ إعلام الورى : ٥٠ وقصص الأنبياء : ٣٢٩ والمناقب ١ : ٦٥.

(٣) اكمال الدين : ١٧٢.

٥٣٧

يا محمّد اخرج من القرية الظالم أهلها وهاجر الى المدينة فليس لك اليوم بمكّة ناصر (١).

وعليه فان بدء حصار الشعب كان متزامنا أو متقاربا مع بداية الهجرة الى الحبشة ، في شهر رجب من السنة الخامسة من مبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) وبما أن بعثته كانت في شهر رجب على مذهب أهل البيت عليهم‌السلام كما مرّت أخباره ، فذلك يعني أن هجرة الحبشة كانت في نهاية السنة الخامسة وبداية السادسة. وعلى قول ابن شهرآشوب : فلمّا توفي ابو طالب خرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الى الطائف وأقام فيه شهرا ثمّ انصرف الى مكّة ومكث بها سنة وستة أشهر في جوار المطعم بن عدي (١) فالمجموع اكثر من عشر سنين بعد البعثة. ولذلك فنحن ننتقل هنا الى حديث شعب أبي طالب رضى الله عنه.

حديث شعب أبي طالب رضى الله عنه :

روى نصر بن مزاحم المنقري (م ٢١٢ هـ) بسنده عن أبي روق الهمداني عن ورقة لابن عمر الارحبي في إمارة الحجّاج بن يوسف الثقفي : أنّ علياً عليه السلام كتب إلى معاوية في جواب كتاب منه إليه مع أبي مسلم الخولاني الشامي كتاباً جاء فيه :

«فأراد قومنا قتل نبيّنا واجتياح أصلنا ، وهمّوا بنا الهموم وفعلوا بنا

__________________

(١) تفسير العياشي ١ : ٢٥٧.

(٢) مجمع البيان ٣ : ٣٦٠ والمنتقى للكازروني : ٤٤ كما في البحار ١٨ : ٤٢٢.

(٣) مناقب ابن شهرآشوب ١ : ١٧٣.

(٤) في معجم معالم مكة التاريخية للبلادي : أن اسمه اليوم شعب علي ، وهو محل منازل بني هاشم من قبل النبوة ، وفيه مولد الرسول صلّى الله عليه وآله وفي موضعه مكتبة مكة المكرمة ، وازيل ما عداها سنة (١٤١٠ هـ) وحال بعض أهل الخير دون هدمها لتكون متحفاً ، فوق المسجد الحرام بثلاثمائة متر تقريباً عن يسارها أبو قبيس وعن يمينها الخنادم وبين يديها وسوق الليل في شارع الغزة. وراجع مجلة ميقات الحج ع ٥ : ٢٢١.

٥٣٨

ذكر أبو جعفر الاسكافي في كتابه «نقض العثمانية» : أن أمير المؤمنين عليا عليه‌السلام قال في خطبة له مشهورة : «فتعاقدوا أن لا يعاملونا ولا يناكحونا ، وأوقدت الحرب علينا نيرانها ، واضطرّونا الى جبل وعر ، مؤمننا يرجو الثواب ، وكافرنا يحامي عن الأهل ؛ ولقد كانت القبائل كلها اجتمعت عليهم ، وقطعوا عنهم المارّة والميرة ، فكانوا يتوقّعون الموت جوعا ، صباحا ومساء ، لا يرون وجها ولا فرجا ، قد اضمحلّ عزمهم وانقطع رجاؤهم» (٤).

__________________

(١) الحلس : البساط تحت الفراش ، وكساء رقيق تحت برذعة البعير ، وهما ملازمان ، فيكنّى بذلك عن الملازمة ، فأحلسونا أي ألزمونا الخوف ، أي جعلوا الخوف ملازماً لنا كملازمة الحلس للبيت والبعير.

(٢) وقعة صفين : ٨٥ و ٨٩ ـ ٩١.

(٣) شرح النهج للمعتزلي ١٣ : ٢٥٤ عن نقض العثمانية للاسكافي. هذا وقد روى المقطع من الكتاب الرضيّ في الكتاب ٩ من كتب نهج البلاغة وشرّحه المعتزلي في ١٤ : ٤٧ ـ ٨٤. ورواه أخوه المرتضى في العيون والمحاسن عن شيخه المفيد : ٢٨٧ ط ـ المؤتمر ـ والدينوري في الأخبار الطوال : ١٥٤ والبلاذري في أنساب الأشراف : ٢٧٧ عن الكلبي عن أبي مخنف عن أبي روق الهمداني أيضاً. والأندلسي في العقد الفريد ٢ : ٣٣٥ والخوارزمي في المناقب : ١٧٦.

(٤) نقض العثمانية للاسكافي : وعنه في شرح النهج للمعتزلي ١٣ : ٢٥٤.

٥٣٩

قال الشيخ الطبرسي في «إعلام الورى» : اجتمعوا في دار الندوة وكتبوا بينهم صحيفة : أن لا يواكلوا بني هاشم ولا يكلموهم ولا يبايعوهم ولا يزوّجوهم ولا يتزوّجوا إليهم ولا يحضروا معهم ، حتّى يدفعوا إليهم (رسول الله) ليقتلوه ، وأنهم يد واحدة على محمّد ، يقتلونه غيلة أو صراحا. وختموا الصحيفة بأربعين خاتما ختمها كلّ رجل من رؤساء قريش بخاتمه وعلّقوها في الكعبة ، وتابعهم أبو لهب على ذلك ، ولم يدخل فيها مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد المطّلب (١).

وقال القمي في تفسيره : فلمّا اجتمعت قريش على قتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وكتبوا الصحيفة القاطعة جمع أبو طالب بني هاشم وحلف لهم بالبيت والركن والمقام والمشاعر في الكعبة : لئن شاكت محمّدا شوكة لأثبنّ عليكم ، أو لآتينّ عليكم! وأدخله «الشعب» وكان يحرسه بالليل والنهار قائما على رأسه بالسيف أربع سنين (٢).

وقال الطبرسي : وكان يحرسه بالليل والنهار : فاذا جاء الليل قام بالسيف عليه ورسول الله مضطجع ، ثمّ يقيمه ويضجعه في موضع آخر ، فلا يزال الليل كلّه هكذا. ووكّل به ولده وولد أخيه (؟) يحرسونه بالنهار.

وكان أبو جهل ، والعاص بن وائل السهمي ، والنضر بن الحارث بن كلدة ، وعقبة بن أبي معيط يخرجون الى الطرقات الّتي تدخل مكّة ، فمن رأوا معه ميرة نهوه أن يبيع بني هاشم شيئا ، ويحذّرونه إن باع شيئا أن ينهبوا ماله.

__________________

(١) اعلام الورى : ٤٩ و ٥٠ وتلميذه الراوندي في قصص الأنبياء : ٣٢٩. والخرائج والجرائح ١ : ١٤٢ الحديث ٢٣٠ وذكره قبل في : ٨٥ الحديث ١٤١ وفيه : كانت في الكعبة فخافوا عليها السرق فجعلوها عند اُم أبي جهل!

(٢) تفسير القمي ١ : ٣٨٠.

٥٤٠