موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ١

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٩٦

وبقيت فاطمة في البيت ثلاثة أيام ، وأهل مكّة يتحدثون بذلك في أفواه السكك ، وتتحدث المخدّرات في خدورهن. فلمّا كان بعد ثلاثة أيام انفتح البيت من الموضع الّذي كانت دخلت فيه ، فخرجت فاطمة وعليّ على يديها» (١).

وروى الفتّال النيسابوري في «روضة الواعظين» خبرا مختصرا عن علي بن الحسين عليهما‌السلام قال :

«إنّ فاطمة بنت أسد ، ضربها الطلق وهي في الطواف ، فدخلت الكعبة ، فولدت أمير المؤمنين فيها» (٢).

وفي آخر خبر موسى بن جعفر عليه‌السلام قال : «فولدت عليا في الكعبة ، طاهرا مطهّرا لم يكن فيه كثافة (كذا) وولد مختونا مقطوع السرة ، ووجهه يضيء كالشمس ، فسمّاه أبو طالب عليا ، وحمله النبي وأتى به الى البيت» (٣).

وفي عام الولادة قال صاحب مجلة «العمران» المصرية : عبد المسيح الانطاكي : «وعام مولده عليه صلوات الله هو العام المبارك الّذي بدئ فيه برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأخذ يسمع الهتاف من الأحجار والأشجار ومن السماء ، وكشف عن بصره فشاهد أنوارا واشخاصا ، وفي هذا العام ابتدأ بالتبتل والانقطاع والعزلة في جبل حراء. وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله ييمّن بذلك العام وبولادة سيدنا علي عليه‌السلام ، وكان يسميه «سنة الخير والبركة».

وعند ما بلغته البشرى بولادة المرتضى قال المصطفى :

__________________

(١) أمالي الطوسي ٢ : ٣١٧ بثلاثة طرق ورواه ابن شهرآشوب في المناقب ١ : ٣٥٩ عنه عليه‌السلام مختصرا.

(٢) روضة الواعظين : ١٠٠.

(٣) الفصول المهمة : ١٤ ط الحيدرية.

٢٨١

«لقد ولد لنا الليلة مولود ، يفتح الله علينا به أبوابا كثيرة من النعمة والرحمة» وكان قوله هذا أوّل نبوته ، فإنّ المرتضى ـ عليه صلوات الله ـ كان ناصره والمحامي عنه وكاشف الغماء عن وجهه ، وبسيفه ثبت الإسلام ورسخت دعائمه وتمهدت قواعده» (١).

حلف الفضول :

وانتهى الفجار في شوال ، وفي ذي القعدة كان حلف الفضول (٢).

قال اليعقوبي «وكان سبب حلف الفضول : أن قريشا تحالفت أحلافا كثيرة على الحمية والمنعة :

فتحالف المطيبون ؛ وهم : بنو عبد مناف ، وبنو أسد ، وبنو زهرة ، وبنو «تيم» ، وبنو الحارث بن فهر ، على أن لا يسلموا الكعبة ، ما أقام جراء ، وثبير ، وما بلّ بحر صوفة وصنعت عاتكة أو البيضاء بنت عبد المطّلب طيبا فغمسوا أيديهم فيه (فسمّوا المطيّبين).

__________________

(١) مجلة العمران المصرية ، كما في كتاب : علي وليد الكعبة : ٦١ ولم يعين عدد المجلة ولا سنتها.

علّق الصحافي المصري عبد المسيح الأنطاكي بكلامه هذا على قصيدته «العلوية المباركة» الّتي تحتوي على خمسة آلاف بيت في حياة أمير المؤمنين عليه‌السلام من دون أن يستند في ذلك الى مصدر من حديث أو تأريخ ، وان كان كلامه هذا ممّا يساعد عليه الاعتبار بسائر الأخبار المعتبرة.

وعلى المعتبر من الخبر في تأريخ ولادته عليه‌السلام يكون عمره عند بعثة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله عشر سنين ، وعلى ما رواه الطوسي عن ابن عياش وابن غياث يكون عمره في الثانية عشرة وعلى الأكثر في الثالثة عشرة ، وعند اعلان الدعوة وتعميمها في الخامسة عشرة أو السادسة عشرة من عمره.

(٢) مروج الذهب ٢ : ٢٧٠.

٢٨٢

وتحالفت اللعقة ؛ وهم : بنو عبد الدار ، وبنو مخزوم ، وبنو جمح ، وبنو سهم ، وبنو عدي ؛ على أن يمنع بعضهم بعضا ويعقل بعضهم عن بعض ، وذبحوا بقرة فغمسوا أيديهم في دمها ، (فسمّوا لعقة الدّم ، والأحلاف).

فكانت قريش (أي الأحلاف) تظلم في الحرم الغريب ومن لا عشيرة له :

حتّى أتى رجل من بني أسد بن خزيمة بتجارة فاشتراها رجل من بني سهم (١) فأخذها السهميّ وأبى أن يعطيه الثمن ؛ فكلّم قريشا واستجار بها وسألها اعانته على أخذ حقّه فلم يأخذ له أحد بحقّه ؛ فصعد الأسدي أبا قبيس فنادى بأعلى صوته :

يا آل فهر لمظلوم بضاعته

ببطن مكّة نائي الأهل والنفر

إنّ الحرام لمن تمّت كرامته

ولا حرام لثوب الفاجر الغدر

وقيل : إنّ الرجل كان قيس بن شيبة السّلمي باع متاعا من أبي خلف الجمحي وذهب بحقّه ، فقال هذا الشعر. وقيل : بل قال :

يا آل قصيّ كيف هذا في الحرم

وحرمة البيت وأخلاق الكرم

 اظلم ، لا يمنع منّي من ظلم (٢).

فكان أوّل من سعى في ذلك الزبير بن عبد المطّلب فمشى في قبائل قريش فاجتمعوا في دار الندوة ، وهم : بنو هاشم ، وبنو المطّلب ، وبنو زهرة ، وبنو تيم ، وبنو الحارث بن فهر ، فاتفقوا على أنّهم ينصفون المظلوم من الظالم. ثمّ ساروا الى دار عبد الله بن جدعان فتحالفوا هنالك. وقال الزبير ابن عبد المطّلب في ذلك :

__________________

(١) صرح البلاذري في أنساب الأشراف ٢ : ١٢ وكذلك المسعودي أنّه : العاص بن وائل السهمي أبو عمرو بن العاص ، ولعلّ الرواة اتّقوه فكنّوا عنه ولم يصرّحوا به. ورواها ابن أبي الحديد ١٥ : ٢٥ عن الزبير بن بكار وزاد في الشعر :

هل منصف من بني سهم فمرتجع

ما غيبوا ، أم حلال مال معتمر

(٢) اليعقوبي ٢ : ١٧.

٢٨٣

حلفت لنعقدن حلفا عليهم

وان كنّا جميعا أهل دار

نسمّيه الفضول اذا عقدنا

يعزّ به الغريب لدى الجوار

ويعلم من حوالي البيت أنّا

اباة الضّيم نهجر كلّ عار (١)

ثمّ انصفوا الرجل التاجر الغريب من القرشي العاص بن وائل السهمي (٢).

فروى ابن اسحاق بسنده عن رسول الله ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ أنّه كان يقول لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما احبّ أنّ لي به حمر النّعم ، ولو ادعى به في الإسلام لأجبت» (٣).

ثمّ روى : أنّه كان بين الحسين بن علي عليه‌السلام وبين الوليد بن عتبة بن أبي سفيان ـ والوليد يومئذ أمير على المدينة أمّره عليها عمّه معاوية بن أبي سفيان ـ منازعة في مال كان بينهما بذي المروة ـ قرية بوادي القرى ـ فكان الوليد تحامل على الحسين عليه‌السلام في حقّه ، فقال له الحسين : احلف بالله لتنصفنّي من حقّي أو لآخذنّ سيفي ثمّ لأقومن في مسجد رسول الله ، ثمّ لأدعونّ بحلف الفضول!.

وكان عبد الله بن الزبير عند الوليد فقال : وأنا أحلف بالله لئن دعا به لآخذنّ سيفي ثمّ لأقومنّ معه حتّى ينصف من حقه او نموت جميعا!.

__________________

(١) مروج الذهب ٢ : ٢٧١. الطبقات الكبرى ١ : ١٢٩ ط بيروت.

(٢) البداية والنهاية ٢ : ٢٩٢ والسيرة الحلبية ١ : ١٣٢ وسيرة دحلان ١ : ٥٣.

(٣) ابن اسحاق في السيرة١ : ١٤١ وأنساب الأشراف ٢ : ١٢ ـ ١٥ بخمسة طرق وألفاظ متقاربة واليعقوبي ٢ : ١٧ والبداية والنهاية ٢ : ٢٩٣ وتأريخ الخميس ١ : ٢٦١ والسيرة الحلبية ١ : ١٣١ والسيرة النبوية لدحلان ١ : ٥٣ وروى البلاذري انّه قدم مكّة رجل تاجر من خثعم ومعه ابنة له يقال لها : القتول ، فعلقها نبيه بن الحجاج السّهميّ فلم يبرح حتّى نقلها الى منزله بالقهر والغلبة! فدلّ أبوها على أهل حلف الفضول فأتاهم فأخذوها من نبيه ودفعوها الى أبيها (أنساب الأشراف ٢ : ١٤).

٢٨٤

وبلغ هذا المسور بن مخرمة بن نوفل الزهري فقال مثل ذلك!.

وبلغ ذلك الى عبد الرحمن بن عثمان التيمي فقال مثل ذلك!.

فلمّا بلغ ذلك الوليد بن عتبة انصف الحسين من حقه حتّى رضي عليه‌السلام (١) ثمّ روى : أن محمّد بن جبير بن مطعم العدوي قدم على عبد الملك بن مروان ـ وكان محمّد بن جبير أعلم الناس بقريش ـ فقال له عبد الملك : يا أبا سعيد ألم نكن نحن وانتم ـ يعني بني عبد شمس وبني نوفل ابن عبد مناف ـ في حلف الفضول؟ قال : أنت أعلم ، قال عبد الملك : لتخبرنّي يا أبا سعيد بالحق من ذلك. فقال : لا والله ، لقد خرجنا نحن وأنتم منه! قال : صدقت (٢).

وقد روى أبو هلال العسكري الخبر الّذي رواه ابن اسحاق عن تحامل الوليد على حقّ الإمام الحسين عليه‌السلام في أرض له بذي المروة ، على غير ما رواه ابن اسحاق ، فقال : كان بين الحسين عليه‌السلام وبين معاوية كلام في أرض للحسين. فقال الحسين لابن الزبير : خيّره في ثلاثة والرابعة الصّيلم ـ أي الصّدام المسلّح ـ : أن يجعلك أو ابن عمر بيني وبينه ، أو يشتريه منّي ، أو يقرّ بحقّي ثمّ يسألني أن أهبه له ، فإن أبى فو الذي نفسي بيده لأهتفنّ بحلف الفضول (٣).

وليس مفاد نداء ابن الزبير بحلف الفضول الى جانب الإمام الحسين عليه‌السلام أنّه كان وفيّا مخلصا في ذلك ، بل كان الى معاوية وعامله الوليد أقرب منه الى الحسين عليه‌السلام ، ولكنّه كان يتعزّز بهذا وأمثاله.

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ١ : ١٤٢ وأنساب الأشراف ٢ : ١٤ والبداية والنهاية ٢ : ٢٩٣ والسيرة الحلبية ١ : ١٣٢ والسيرة النبوية لدحلان ١ : ٥٣ والكامل لابن الأثير ٢ : ٤٢.

(٢) ابن اسحاق في السيرة١ : ١٤٣ والبلاذري في أنساب الأشراف ٢ : ١٤ عن الواقدي والكلبي وشرح النهج للمعتزلي ١٥ : ٢٢٧ عن الزبير بن بكار.

(٣) الأوائل ١ : ٧٣ ، ٧٤.

٢٨٥

فقد جاء في رواية لأبي الفرج : أنّ معاوية قدم المدينة فلم يزره الإمام الحسين عليه‌السلام فأظهر معاوية انزعاجه من ذلك ، فأغراه به ابن الزبير! فلم يستجب له معاوية ، فقال له ابن الزبير : أما والله انّي واياه ليد عليك بحلف الفضول! فقال له معاوية : من أنت وحلف الفضول؟! (١).

وممّا ورد في قدوم محمّد بن جبير بن مطعم على عبد الملك بن مروان وسؤاله منه عن دخول بني عبد شمس في حلف الفضول ، يظهر أنّهم كانوا بصدد تقرير هذا المعنى على الناس ، ولذلك روى راويتهم أبو هريرة : أنّ بني أميّة كانوا في حلف الفضول ، وأنّ أبا سفيان كان ممّن دعا الناس إليه مع العباس بن عبد المطّلب ، ولعلّ حشر العباس معه لتبعيد التهمة عن الرواية. وإن كان لم يتابعه عليه أحد بل أنكره غير واحد من المؤرّخين (٢).

وقد قرر غير واحد من المؤرّخين أنّ سببه كان عصيان العاص بن وائل السهمي على الرجل التاجر الغريب وحبسه حقّه ، وقد سبق أنّ بني سهم وبني عبد شمس كانوا من الأحلاف في لعقة الدّم ، فيكون معنى دعوة أبي سفيان إليه ودخول بني أميّة فيه أنّهم دخلوا في حلف خلاف حلف الأحلاف في لعقة الدّم ، وهذا ما لم يقله أحد.

وقد روى ابن اسحاق عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : ما كان من حلف في الجاهلية فإنّ الإسلام لم يزده الّا شدة (٣).

__________________

(١) الأغاني ٨ : ١٠٨ ط ساسي.

(٢) السنن الكبرى للبيهقي. والبداية والنهاية ٢ : ٢٩١ والسيرة الحلبية ١ : ١٣١ والسيرة النبوية لدحلان ١ : ٥٣.

(٣) ابن اسحاق في السيرة١ : ١٤٠ وعن الترمذي ٤ : ١٤٦ وفتح الباري ٨ : ١٧٣ والمصنف للحافظ عبد الرزاق ١٠ : ٣٧٠ وفي هامشه عن مسلم والدارمي.

٢٨٦

وروى ابن منظور هذا الحديث في «لسان العرب» فقال : يريد المعاقدة على الخير ونصرة الحقّ ، وبذا يجتمع هذا الحديث وحديث آخر له هو «لا حلف في الإسلام» على أن يكون المراد من هذا الحديث الثاني النهي عمّا كانت تفعله الجاهلية من المحالفة على الفتن والقتال بين القبائل والغارات.

وقيل : انّ الحديث الثاني وهو «لا حلف في الإسلام» جاء لاحقا ، قاله الرسول ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ زمن الفتح ، فهو ناسخ للحديث الأوّل (١).

ولعلّ خصوصية بعد الفتح أن يشمل امضاؤه صلى‌الله‌عليه‌وآله في هذا الحديث للحلف الّذي كان قد عقده جدّه عبد المطّلب مع جمع من خزاعة ، فلمّا قتلت قريش عددا من خزاعة استنصروا النبيّ استنادا إليه فكان فتح مكّة مستندا إليه.

وهذا يدلّ على أنّ الإسلام بما أنّه مع مقتضيات العقل والفطرة الطبيعية الإنسانية لذلك يستجيب لكلّ ما ينسجم مع أهدافه السامية ممّا فيه خير الانسان وصلاحه. وقد أمضى هذين الحلفين من عبد المطّلب مع خزاعة والزبير في حلف الفضول لما فيهما من الفضل والعدل ، ولو كان هناك أي حلف آخر ينسجم مع أهدافه لأمضاه كذلك. أمّا ما رووه عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ممّا يدلّ على لزوم التمسك بكلّ الأحلاف الجاهلية فإنّما هي دعوة خبيثة مريضة في أغراضها اللّاإسلامية.

أمّا عن علل استجابة من استجاب لهذا الحلف فبإمكاننا أن نعدّ ثلاثة عوامل :

أ ـ استجابة لنداء الوجدان الاخلاقي الانساني والدافع الفطّري وحكم عقولهم.

__________________

(١) لسان العرب مادة حلف ، وعنه في هامش ابن اسحاق في السيرة١ : ١٤٠.

٢٨٧

ب ـ حفاظا على قدسية مكّة المكرمة وكرامة أهلها في نفوس العرب أي ثأرا لكرامتهم.

ج ـ دفاعا عن منافعهم ومصالحهم المادية في قوافلهم ورحلاتهم التجارية ووفود العرب إليهم.

رعي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله للغنم :

لم يرو عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يرعى الأغنام ، اللهم الّا ما رواه الشيخ الصدوق في (علل الشرائع) ، بسنده الى الامام الصادق عليه‌السلام أنّه قال «ما بعث الله نبيّا قطّ حتّى يسترعيه الغنم ، يعلّمه بذلك رعيه الناس» وأيضا فيه عنه عليه‌السلام قال : «إنّ الله عزوجل أحبّ لأنبيائه من الأعمال : الحرث والرعي ، لئلا يكرهوا شيئا من قطر السماء» (١) ورواه الكليني في (فروع الكافي) هكذا «إنّ الله جعل أرزاق أنبيائه في الزرع والضرع ، لئلا يكرهوا شيئا من قطر السماء» (٢).

ورواه البخاري بسنده الى أبي هريرة عنه أنّه كان يقول «ما بعث الله نبيا الّا رعى الغنم. فقال أصحابه : وأنت؟ قال : نعم ، كنت أرعاها على قراريط ، لأهل

__________________

(١) علل الشرائع : ٢٣.

(٢) فروع الكافي ١ : ٤٠٣ أضف الى ذلك ما رواه الطبري في تأريخه بسنده عن محمّد ابن الحنفية عن أبيه علي عليه‌السلام قال : «سمعت رسول الله يقول : «قلت ليلة لغلام من قريش كان يرعى معي بأعلى مكّة ـ لو أبصرت لي غنمي حتّى أدخل مكّة ـ» (الطبري ٢ : ٢٧٩ ورواه عنه ابن أبي الحديد في شرح النهج).

وأضف إليه ما نقله الشيخ الطبرسي في «إعلام الورى» عن علي بن ابراهيم القمّي في كتابه قال : «وكان بين الجبال يرعى غنما لأبي طالب» (اعلام الورى : ٣٦ والمناقب ١ : ٤٣ وليس في تفسيره).

٢٨٨

مكّة» (١) وبما أنّ الخبر مشتمل على جملة «لأهل مكّة» لذلك ذكره البخاري في كتاب الإجارة ، ولذلك فسروا القراريط بأنّها : أجزاء الدراهم والدنانير يشترى بها الحوائج الحقيرة!

ولكن في شرح الحديث في (فتح الباري) نقل عن ابراهيم الحربي انّه كان يقول : انّ العرب ما كانت تعرف القراريط ، وإنمّا هي اسم لمكان في مكّة. ويؤيد هذا أنّ لفظ الخبر في بعض رواياته : بالقراريط ، وفي اخرى : بأجياد ، ممّا يفيد أنّ القراريط وأجيادا اسم لمكان واحد او متداخل او متقارب. ولا يضرّ لفظ : على قراريط ، اذ هو اسم جبل كما نقله الطريحي في (المجمع) عن الجوهري قال «وأما القيراط الّذي جاء في الحديث فقد جاء تفسيره فيه : أنّه مثل جبل احد» فيكون المعنى : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قد رعى الغنم على ذلك الجبل بأجياد ، وهذا هو الأوفق بالاعتبار فانّ الرعي لا يكون في سهل مكّة في البلد.

وحاول بعضهم أن يوجّه فهم البخاري للحديث بما نقل في (فتح الباري) عن بعضهم قولهم : لا يعرف مكان في مكّة بهذا الاسم. وردّه السيد المرتضى العاملي بقوله : انّ عدم معروفيته الآن لا يستلزم عدم معروفيته في ذلك الزمان (٢).

فلا يبقى الّا أن نشك قويا في أن يكون صلى‌الله‌عليه‌وآله قد رعى لغير أهله بأجر ، ولا يجدي البخاري لفظ رواية عن أبي هريرة : لأهل مكّة ، فإنّ بعضها يقول : لأهلي.

واذا كان الراوي هو أبو هريرة فلم يبق ما يعيّن معنى إجارة رسول الله نفسه لأهل مكّة.

على أنّ أبا هريرة ممّن لا يمكن الاعتماد عليه أصلا.

__________________

(١) فتح الباري وبهامشه البخاري ٤ : ٣٦٣ وابن اسحاق في السيرة١ : وعنه في السيرة الحلبية ١ : ١٢٥ وسيرة دحلان ١ : ٥١.

(٢) الصحيح ١ : ١٠٩.

٢٨٩

هذا ، وقد روى اليعقوبي وابن كثير عن عمّار بن ياسر أنّه قال : «أنّه ما كان أجيرا لأحد قط» (١).

وقد تقول في (فتح الباري) شرحا لفلسفة رعيه للغنم ، وتبعه بعض كتّاب السيرة كالحلبي وزيني دحلان (٢) ولا نراه يتفق والقواعد العقائدية بشأن الأنبياء والمرسلين. فان صحّ رعيه للغنم أصلا ـ وهو الصحيح ـ فلا علة له سوى ما جاء في رواية الشيخ الصدوق عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، في كتابه (علل الشرائع).

ويمكن تفصيل ذلك التعليل بما نقله السيد المرتضى العاملي من قول البعض : إنّ الرعي فيه تحمل مسئولية آحاد متفرقة ، وهو يناسب المهمة الّتي سوف توكل إليه ، الأمر الّذي من شأنه أن يروّض النفس ويزيدها اندفاعا نحو طلب الخير للآخرين من رعايته لهم والحرص على ما ينفعهم. وقد كان الله تعالى يهتم في رفع مستوى تحمّل وملكات وقدرات نبيّه ليواجه المسئولية العظمى ، ولكن بالطرق العادية والطبيعية ، كما هو معلوم» (٣).

السفر الثاني للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الى الشام ، وزواجه بخديجة :

روى القطب الراوندي في كتابه (الخرائج والجرائح) ، عن جابر (٤) أنّه قال : كان سبب تزويج خديجة محمّدا : أنّ أبا طالب قال : يا محمّد : إني اريد أن ازوّجك ،

__________________

(١) اليعقوبي ٢ : ٢١. والبداية والنهاية : ٢٩٦.

(٢) فتح الباري ٤ : ٣٦٤ وسيرة دحلان ١ : ٥١ والسيرة الحلبية ١ : ١٢٦ وقال فيه : انّ رعي الغنم صعب لأنه أصعب البهائم ، وهو يوجب أن يستشعر القلب رأفة ولطفا ؛ فاذا انتقل الى رعاية البشر كان قد هذّب أوّلا من الحدة الطبيعية والظلم الغريزي!.

(٣) الصحيح ١ : ١١٠.

(٤) جابر خزرجي من أنصار المدينة ، فلم يكن حاضراً يومئذٍ ، ولم يسند خبره إلى أحد قبله ، فهو مرسل.

٢٩٠

ولا مال لي اساعدك به ، وإنّ خديجة قرابتنا ، وتخرج كلّ سنة قريشا في مالها مع غلمانها ، يتّجر الرجل لها ويأخذ وقر بعير ممّا أتى به. فهل لك أن تخرج؟ قال : نعم.

فخرج أبو طالب إليها وقال لها ذلك ، ففرحت وقالت لغلامها ميسرة : أنت وهذا المال كلّه بحكم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وربحا في ذلك السفر ربحا كثيرا. فلمّا انصرفا قال ميسرة : لو تقدمت يا محمّد الى مكّة وبشّرت خديجة بما قد ربحنا لكان أنفع لك! فتقدّم محمّد على راحلته.

وكانت خديجة في ذلك اليوم جالسة في غرفة لها مع نسوة ، فظهر لها محمّد راكبا ، ونظرت خديجة الى غمامة عالية على رأسه تسير بسيره!. فقالت : إنّ لهذا الراكب لشأنا عظيما ليته جاء الى داري! فإذا هو محمّد قاصد الى دارها ، فنزلت حافية الى باب الدار! فلمّا رجع ميسرة حدّث : أنّه ما مرّ بشجرة ولا مدرة الّا قالت : السلام عليك يا رسول الله! ولمّا رأى بحيرا الراهب الغمامة تسير على رأسه حيثما سار تظلله النهار ، خدمنا.

فقالت : يا محمّد اخرج واحضرني عمّك أبا طالب الساعة.

ثمّ بعثت الى (ابن (٢)) عمّها ورقة بن نوفل بن أسد : أن زوّجني من محمّد اذا دخل عليك.

فلمّا حضر أبو طالب قالت : اخرجا الى (ابن) عمّي ليزوجني من محمّد ، فقد قلت له في ذلك.

فقاما ودخلا على (ابن) عمّها ، وخطبها أبو طالب منه (٣).

__________________

(٢) فيه وفي الكافي ٥ : ٣٧٥ والسيرة الحلبية ١ : ١٢٩ أنّ ورقة كان عمّ خديجة ، وهو غير صحيح لأنّ ورقة هو ابن نوفل بن أسد وخديجة هي بنت خويلد بن أسد ، فهما ابنا عم.

(٣) الخرائج والجرائح ١ : ١٤٠ الحديث ٢٢٧ بتصرف ، وعنه في بحارالأنوار ١٦ : ٣ و ٤.

٢٩١

الخاطب أبو طالب :

وروى الكليني في (فروع الكافي) بسنده عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام أنّه قال :

لمّا أراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يتزوج خديجة بنت خويلد ، أقبل أبو طالب في أهل بيته ومعه نفر من قريش حتّى دخل على ورقة بن نوفل (ابن) عمّ خديجة ، فابتدأ أبو طالب بالكلام فقال :

«الحمد لربّ هذا البيت ، الّذي جعلنا من زرع ابراهيم وذرية اسماعيل ، وأنزلنا حرما آمنا ، وجعلنا الحكّام على الناس ، وبارك لنا في بلدنا الّذي نحن فيه.

ثمّ انّ ابن أخي هذا ـ يعني رسول الله ـ لا يوزن برجل من قريش الّا رجح ، ولا يقاس بأحد منهم الّا عظم عنه ، ولا عدل له في الخلق ، وان كان مقلّا في المال ، فإنّ المال رفد جار وظل زائل. وله في خديجة رغبة ولها فيه رغبة. وقد جئناك لنخطبها إليك برضاها وأمرها. والمهر عليّ في مالي ، الّذي سألتموه ، عاجله وآجله. وله ـ وربّ هذا البيت ـ حظّ عظيم ودين شائع ورأي كامل» ثمّ سكت أبو طالب.

فتكلّم ابن عمّها وتلجلج ، وقصر عن جواب أبي طالب وأدركه القطع والبهر ، وكان رجلا من القسّيسين (١).

__________________

(١) وعليه فلا يصح ما رواه في البحار ١٦ : ١٩ عن الكازروني في كتابه (المنتقى) عن الواقدي قال : فلمّا أتمّ أبو طالب خطبته تكلّم ورقة بن نوفل فقال : «الحمد لله الّذي جعلنا كما ذكرت ، وفضّلنا على ما عدّدت ، فنحن سادة العرب وقادتها ، وأنتم أهل ذلك كلّه ، لا تنكر العشيرة فضلكم ، ولا يردّ أحد من الناس فخركم وشرفكم. وقد رغبنا بالاتصال بحبلكم وشرفكم. فاشهدوا عليّ ـ معاشر قريش ـ بأنّي قد زوجت خديجة بنت خويلد من محمّد بن عبد الله على أربعمائة دينار» ثمّ سكت ورقة.

٢٩٢

فقالت خديجة مبتدئة : يا (ابن) عمّاه انّك وان كنت أولى بنفسي منيّ في (الغياب) فلست أولى بي من نفسي في الشهود. قد زوّجتك يا محمّد نفسي ، والمهر عليّ في مالي ، فأمر عمّك فلينحر ناقة فليولم بها ، وادخل على أهلك.

فقال أبو طالب : اشهدوا عليها بقبولها محمّدا ، وضمانها المهر في مالها.

فقال بعض قريش : وا عجباه! المهر على النساء للرجال؟!

فغضب أبو طالب غضبا شديدا وقام على قدميه وقال : اذا كانوا مثل ابن أخي هذا طلبت الرجال بأغلى الأثمان وأعظم المهر ، واذا كانوا أمثالكم لم يزوّجوا الّا بالمهر الغالي!

ونحر أبو طالب ناقة. ودخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأهله (١).

من تولّى تزويج خديجة؟!

وروى الصدوق في : (كتاب من لا يحضره الفقيه) مرسلا : أنّه لمّا تزوج النبيّ خديجة بنت خويلد خطبها أبو طالب الى أبيها ـ ومن الناس من يقول الى عمّها ـ ثمّ روى الخطبة ثمّ قال : فتزوجها ودخل بها من الغد ، فكان أوّل ما حملت ولدت عبد الله بن محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢).

__________________

وتكلّم أبو طالب وقال : قد احببت أن يشركك عمّها ، فقال عمّها : اشهدوا عليّ ـ يا معشر قريش ـ أني قد أنكحت محمّد بن عبد الله خديجة بنت خويلد ، وشهد عليّ بذلك صناديد قريش. فأمرت خديجة جواريها أن يرقصن ويضربن بالدفوف! وقالت : يا محمّد مر عمّك أبا طالب ينحر بكرة من بكراتك واطعم الناس على الباب! وهلمّ فنم القيلولة مع أهلك!.

(١) البحار ١٦ : ١٣ ، ١٤ عن فروع الكافي ٥ : ٣٧٤.

(٢) البحار عن كتاب من لا يحضره الفقيه ٣ : ٣٩٧ ح ٤٣٩٨ وروى الخطبة الطبرسي في اعلام الورى : ١٤٠ وابن شهرآشوب في المناقب ١ : ٤١ ، ٤٢ عن الجويني في السيرة

٢٩٣

وروى ابن اسحاق في سيرته : أنّ خديجة بنت خويلد عرضت على رسول الله أن يخرج في مالها الى الشام تاجرا مع غلامها ميسرة ، فقبل رسول الله وخرج حتّى قدم الشام ، فباع سلعته واشترى ما أراد ، ثمّ أقبل قافلا الى مكّة ومعه ميسرة ، فلمّا قدم مكّة على خديجة حدّثها ميسرة عن قول الراهب وعمّا كان يرى من اظلال الملكين اياه.

فلمّا أخبرها ميسرة بما أخبرها به بعثت الى رسول الله فقالت له : يا بن عمّ ، انّي قد رغبت فيك لقرابتك وسطتك في قومك وأمانتك وحسن خلقك وصدق حديثك. ثمّ عرضت عليه نفسها.

فلمّا قالت ذلك لرسول الله ذكر ذلك لأعمامه. فخرج معه عمّه حمزة ابن عبد المطّلب حتّى دخل على خويلد بن أسد ، فخطبها إليه فتزوجها (١).

بل مرّ أنّ الّذي نهض معه صلى‌الله‌عليه‌وآله هو أبو طالب ، وهو الّذي خطب خطبة النكاح ، وكان أسنّ من حمزة ، وهو الّذي كفل محمّدا ، فلم يكن حمزة ليتزعم الأمر دون أبي طالب ، وأبو طالب هو أخو عبد الله لامّه دون سائر إخوانه أبناء عبد المطّلب. وحمزة لا يكبر النبي الّا بسنتين أو أربع.

وانفرد ابن اسحاق بأنّ خويلدا أبرم هذا الزواج ، أمّا غير ابن اسحاق

__________________

عن الحسن والواقدي وأبي صالح والعتبي ، وعن ابن بطة في الابانة ، وعن الزمخشري في ربيع الابرار وفي تفسيره ، وعن الخركوشي في شرف المصطفى وروى الخطبة اليعقوبي في تأريخه عن عمّار بن ياسر ٢ : ٢٠ والأوائل ١ : ١٦٢. والسيرة الحلبية ١ : ١٣٩.

(١) ابن اسحاق في السيرة١ : ١٩٩ ـ ٢٠١ وليس في ابن اسحاق في السيرةما رواه الحلبي في سيرته ١ : ١٣٨ عن ابن اسحاق : أنّ خديجة قالت له : يا محمّد الا تتزوج؟ قال من؟ قالت : أنا! قال : ومن لي بك؟ أنت أيم قريش وأنا يتيم قريش! وتردّه الأخبار المعتبرة في الباب سيّما ما في خطبة أبي طالب من نعت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وبني هاشم.

٢٩٤

فقد ذكروا أنّ خويلدا كان قد قتل في حرب الفجار أو مات في عامه (١) وأنّ الّذي زوج خديجة ابن عمّها ورقة بن نوفل بن أسد كما مرّ ، أو عمّها عمرو بن أسد (٢) ، أو أخوها عمرو بن خويلد بن أسد ، كما في (الروض الانف) و (شرح المواهب).

خديجة تعرض نفسها على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

وجاء في رواية اليعقوبي عن عمّار بن ياسر ما يفيد أنّ خبر سفر النبيّ بأموال خديجة الى الشام وأنّ خديجة احبّته حيث حدّثها غلامها ميسرة بأخباره ، وأنّها بعثت الى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فعرضت نفسها عليه ... كان هذا قد شاع في الناس يومذاك فكانوا يقولون : إنّها استاجرته بشيء من أموالها ، وكان عمّار بن ياسر يقول «أنا أعلم الناس بتزويج رسول الله خديجة بنت خويلد ... انّه ما كان ممّا يقول الناس انّها استأجرته بشيء ، ولا كان اجيرا لأحد قط ...

بل كنّا نمشي يوما بين الصفا والمروة اذ بخديجة بنت خويلد واختها هالة ، فلمّا رأت رسول الله جاءتني هالة اختها فقالت : يا عمّار ما لصاحبك حاجة في خديجة؟

__________________

(١) الخبر في طبقات ابن سعد ١ : ١٣٢ ، ١٣٣ عن الواقدي قال : الثبت عندنا المحفوظ عن أهل العلم من حديث عروة بن الزبير عن عائشة ، وعن عكرمة عن ابن عباس : أنّ عمّها عمرو بن أسد زوّجها رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم وأنّ أباها مات قبل الفجار. وذكره الطبري ٢ : ٢٨٢. والكامل ١ : ٢٥ ونقل أصل خبر وفاته في عام الفجار المجلسي في البحار ١٦ : ١٩ عن الكازروني في المنتقى عن الواقدي أيضا. وذكر الخبر اليعقوبي ٢ : ٢٠. وتأريخ الخميس ١ : ٢٦٤. والسيرة الحلبية ١ : ١٣٨. وكشف الغمّة ٢ : ١٣٩ عن كتاب معالم العترة النبوية للجنابذي الحنبلي عن ابن عباس أيضا. وذكر الطبرسي مثل ابن اسحاق في إعلام الورى : ١٣٩ ثمّ قال : وقيل : زوّجها عمّها عمرو بن أسد.

(٢) المصادر السابقة في الهامش ١.

٢٩٥

قلت : والله ما أدري. فرجعت فذكرت ذلك له ، فقال : ارجع فواضعها وعدها يوما نأتيها فيه ، ففعلت.

فلمّا كان ذلك اليوم أرسلت الى عمرو بن أسد (عمّها) وطرحت عليه حبرا ودهنت لحيته بدهن أصفر ...

ثمّ جاء رسول الله في نفر من أعمامه ، يتقدّمهم أبو طالب ، فخطب أبو طالب فقال. ثمّ روى الخطبة المذكورة ثمّ قال : فتزوجها وانصرف (١).

هذا ، ولم يرد لفظ الاستيجار فيما نعلم من الأخبار الّا في أخبار ثلاثة :

الأوّل : ما رواه الصدوق في (اكمال الدين) بسنده الى بكر بن عبد الله الأشجعي عن آبائه : أن رفاق رسول الله في سفره الى الشام قالوا لابي المويهب الراهب عنه : انّه يتيم أبي طالب أجير خديجة (٢).

ورواه ابن شهرآشوب في (المناقب) (٣).

الثاني : ما ساقه ابن شهرآشوب في «المناقب» أيضا قال : كانت خديجة قد استأجرت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على أن تعطيه بكرين ويسير مع غلامها ميسرة الى الشام (٤).

الثالث : ما رواه الدّولابي الحنفي في «الذرية الطاهرة» بسنده عن الزهري قال : لمّا استوى رسول الله وبلغ أشدّه ـ وليس له كثير مال ـ استأجرته خديجة ـ

__________________

(١) اليعقوبي ٢ : ٢٠ والبداية والنهاية : ٢٩٥. ونقل الخبر محقق البحار المرحوم الرباني الشيرازي بهامش البحار ١٦ : ١٩ وعلّق عليه يقول : «قلت : فيها غرابة وشذوذ ، ولم يرد ذلك من طرق الإمامية بل ورد من طريق لا يعتمد عليه» وذلك لأنّه يشتمل على أنّ خديجة سقته ذلك اليوم ، أي الخمر ، فلمّا أصبح أنكر ثمّ أمضاه! (٢) كشف الغمة ٢ : ١٣٥ ، ١٣٦. وذكر مثله الطبرسي في اعلام الورى : ١٣٩.

(٣) اكمال الدين : ١٨٦.

(٤) مناقب آل أبي طالب ١ : ٤١ ط قم.

٢٩٦

بنت خويلد الى سوق حباشة ـ وهو سوق بتهامة واستأجرت معه رجلا آخر من قريش. فقال رسول الله : ما رأيت من صاحبة لأجير خيرا من خديجة (١) ورواه الطبري في تأريخه عن ابن سعد صاحب الطبقات بسنده عن الزهري أيضا ، لكنّه عقّبه يقول : «قال محمّد بن سعد : قال الواقدي : فكلّ هذا مخلط» (٢).

هل كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أجيرا لخديجة أو مضاربا؟

ولئن كان ما افتتحنا به الفصل من خبر (الخرائج) عن جابر لا يعيّن نوع المعاملة وإنمّا يقول «يتّجر الرجل لها ويأخذ وقر بعير ممّا أتى به» ممّا هو أعمّ من الإجارة والوكالة والمضاربة ؛ فانّ ما جاء في التفسير المنسوب الى الإمام الحسن العسكري عن أبيه الهادي عليهما‌السلام يصرّح بذلك فيقول : انّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يسافر الى الشام مضاربا لخديجة بنت خويلد (٣) وكذلك ابن اسحاق يقول «كانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات مال وشرف ، تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم اياه بشيء تجعله لهم منه» (٤).

__________________

(١) الذرية الطاهرة : ٤٩ ورواه الاربلي في كشف الغمّة ٢ : ١٣٥ ، ١٣٦ ط تبريز عن كتاب «معالم العترة النبوية» للجنابذي الحنبلي بسنده عن الزهري أيضا. وذكر مثله الطبرسي في إعلام الورى : ١٣٩ ط النجف.

(٢) الطبري ٣ : ٢٨١ ، ٢٨٢.

(٣) التفسير المنسوب الى الإمام العسكري عليه‌السلام : ١٦ كما في البحار ١٧ : ٣٠٨.

(٤) ابن اسحاق في السيرة١ : ١٩٩ ورواه عنه الطبري ٢ : ٢٨٠ وعنه الجنابذي الحنبلي في معالم العترة النبوية كما في كشف الغمّة ٢ : ١٣٤. وعلّق المحقق في ابن اسحاق في السيرةيقول : المضاربة المقارضة. وقال الإمام الخميني في تحرير الوسيلة ١ : ٦٠٨ «وتسمّى المضاربة قراضا ، وهي عقد واقع بين شخصين على أن يكون رأس المال في التجارة لأحدهما والعمل من الآخر ، ولو حصل ربح يكون بينهما» ولعلّ الأمر قد التبس على المحقق.

٢٩٧

وعلى هذا فقد يكون سفره صلى‌الله‌عليه‌وآله الى الشام لا لكونه أجيرا لخديجة ، بل مضاربا بأموالها.

ومجمل القول : إنّ رواية اليعقوبي عن عمّار بن ياسر تنفي أن يكون النبيّ أجيرا لأحد حتّى خديجة ، كما تنفي أن يكون قد رعى الغنم لأحد من المكيين ، كما ادّعي عن أبي هريرة.

والعمل لا يتنافى مع العبقريات والنبوات ، ولا يضع من شأن الانسان مهما كان ، بل هو من أفضل الطاعات اذا كان في سبيل العيال والأولاد وخير الناس ، ولكنّ تأريخ محمّد منذ ولادته الى أن بلغ سنّ الرجولة وأصبح زوجا لخير امرأة عرفها تأريخ المرأة ، ومواقف جدّه ثمّ عمّه والمراحل الّتي عاش فيها معهما عزيزا موفور الكرامة ، لا يفارقهما في ليل أو نهار ، يبذلان في سبيل راحته واطمئنانه الغالي والنفس ، من تتبّع ذلك وأدرك أنهما منذ طفولته كانا يترقبان له مستقبلا يهز العالم من أقصاه الى أقصاه ويحدث تحولا في تأريخ البشرية ، وأنهما كانا يخافان عليه دعاة الأديان وطواغيت العرب .. لا بدّ وأن يقف على أقل التقادير موقف المشكك من تلك المرويات الّتي تنصّ على أنّه كان يرعى الغنم للمكيين بالقراريط ، ويذهب بعد ذلك أجيرا الى الشام في تجارة خديجة بقسم من الأرباح ، سيّما بعد رواية اليعقوبي عن عمّار بن ياسر أنّه لم يكن أجيرا لأحد من الناس ، وأنّ زواجه من خديجة لم يكن مسبوقا بمعاملة بينهما ، بل كان بناء على رغبتها بعد أن وجدت فيه الرجل الّذي يمكن أن ترتاح إليه ، وقد بلغت الأربعين ، وأشراف قريش يطمعون في زواجها بالطمع في ثرائها. أمّا محمّد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقد وجدت فيه حسب المعلومات الّتي توفرت لديها عنه ضربا آخر من الرجال لا تستغويه متعة الدنيا ، فطلبته الى نفسها وأرسلت إليه من يشجعه على خطبتها من عمّها أو ابن عمّها.

٢٩٨

وليس بغريب على المرأة الفاضلة كخديجة أن تطلب لنفسها محمّد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وتفضله على سادة مكّة وأشرافها ، فلقد كان في القمّة في صفاته الّتي لم يعرف العرب لها مثيلا ماضيهم وحاضرهم. واجتهد خصومه أن يجدوا في حياته ولو نزوة تخدش تأريخه المجيد ، أو مغمزة منه لنيل جاه أو اصطياد ثروة أو انحراف مع غرائز الشباب الّتي تثور وتتمرد أحيانا على العقل والخلق والحكمة ، فلم يجدوا شيئا من ذلك. وكان قد جمع الى ذلك من صباحة الوجه وجمال التركيب ما لم يتوفر في أحد سواه كما وصفوه :

فقد جاء في رواية عمرو بن شمر عن جابر أنّه قال : قلت لأبي جعفر محمّد بن علي الباقر صف لي رسول الله. قال : كان نبيّ الله أبيض الوجه مشربا بحمرة ، أدعج العينين ، مقرون الحاجبين ، شثن الأطراف كأن الذهب افرغ على براثنه ، عظيم مشاشة المنكبين. اذا التفت التفت جميعا من شدّة استرساله. سربته سائلة من لبّته الى سرته كأنها وسط الفضة المصفّاة ، وكأن عنقه الى كاهله إبريق فضّة ، يكاد أنفه اذا شرب الماء أن يرد الماء. واذا مشى تكفّأ كأنه ينزل من صبب ، لم ير مثل نبيّ الله قبله ولا بعده (١).

إذن ، فليس بغريب اذا خطبته خديجة لنفسها ، وظلّت تشاطره آلامه وتناصره بقلبها وعقلها ومالها حتّى لحقت بربّها قبل هجرته الى المدينة بسنة أو سنتين عن خمسة وستين عاما (٢).

أوهام واهية :

ولكن ليس معنى هذا أن نصدّق ما نقله الحلبي في سيرته : أنّه دخل على

__________________

(١) الكافي ١ : ٤٤٣.

(٢) انظر سيرة المصطفى : ٦٢ ، ٦٣.

٢٩٩

خديجة قبل التزويج ، فأخذت يده فضمته الى صدرها! (١) كما لا نشكّ في كذب ما نقله : أنّ عمّها كان يأنف من أن يزوّجها من محمّد يتيم أبي طالب فاحتالت عليه هي حتّى سقته الخمر ، فزوّجها في حال سكره ، فلمّا أفاق ووجد نفسه أمام الأمر الواقع لم يجد بدّا من القبول (٢) ممّا يتناقض وأخلاق الرسول الكريم وخديجة أمّ المؤمنين ، ولا نراه الّا كذبا موضوعا لم يقصد به سوى الحطّ والوضع من كرامة النبيّ الكريم وتنقيصه من قبل أعداء الاسلام أو الحمقى والمغفّلين. ونعوذ بالله من هذا الهراء (٣).

وانّ كون خديجة هي الّتي عرضت نفسها على النبيّ ، وأنّه لم يكن هو الّذي تقدّم بطلب يدها ، لخير جواب لما جاء في كلمات بعض المستشرقين من اتّهام باطل بأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله إنمّا تزوج خديجة طمعا في مالها.

ولم يبق هذا التقدير والحبّ من خديجة للنبيّ من طرف واحد ، بل قابله النبيّ بالحبّ والتقدير لها في أيام حياتها وبعد مماتها ، حتّى لقد كان ذلك يثير بعض أزواجه. ويرى الشيخ آل ياسين هذا دليلا آخر على بطلان هذه الدعوى الواهية (٤).

بل إنّ حياة النبيّ من بدايتها الى نهايتها لخير شاهد على أنّه ما كان يقيم للمال أيّ وزن! وقد انفقت خديجة أموالها برغبتها في سبيل الله والدعوة الى دينه وليس على النبي وملذّاته.

__________________

(١) السيرة الحلبية ١ : ١٤٠.

(٢) السيرة الحلبية ١ : ١٣٨ ، ١٤٠.

(٣) انظر الصحيح للسيد المرتضى ١ : ١١٧ ـ ١١٩.

(٤) كتاب النبوة : ٦٣.

٣٠٠