موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ١

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٩٦

المخزومي. فكان رسول الله ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ بعد عبد المطّلب مع عمّه أبي طالب ، وكان أبو طالب هو الّذي يلي أمر رسول الله ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ بعد جدّه ، فكان إليه ومعه.

وولي بعده السقاية على زمزم أصغر أبنائه العباس (١).

وقال اليعقوبي : وأوصى عبد المطّلب الى أبي طالب برسول الله وقال له :

اوصيك يا عبد مناف بعدي

بمفرد بعد أبيه فرد

فارقه وهو ضجيع المهد

فكنت كالام له في الوجد

تدنيه من أحشائها والكبد

فأنت من أرجى بنيّ بعدي

 لدفع ضيم ، او لشدّ عقد

قال : وأوصى إليه بسقاية زمزم. وأوصى إليه بسقاية زمزم. بالحكومة وأمر الكعبة الى ابنه الزبير.

وأعظمت قريش موته ، وغسّلوه بالماء والسّدر ، ولفّوه في حلّتين من حلل اليمن قيمتها ألف مثقال ذهب! وطرح عليه المسك حتّى ستره ، وحمل على أيدي الرجال عدة أيام! اعظاما واكراما واكبارا لتغيبه في التراب (٢).

ولمّا غيب عبد المطّلب ، احتبى ابنه الزبير بفناء الكعبة مدّعيا للرئاسة ، وادّعاها معه الوليد بن ربيعة المخزومي ، وابن جدعان التّيمي.

__________________

(١) فلم تزل إليه حتّى قام الاسلام ، وهي بيده ، فأقرّها رسول الله له على ما مضى من ولايته ، فهي الى آل العباس بولاية العباس اياها الى هذا اليوم (ابن اسحاق في السيرة١ : ١٨٩).

(٢) وروى عن رسول الله أنّه قال : انّ الله يبعث جدي عبد المطّلب أمّة وحده ، في هيئة الأنبياء وزيّ الملوك (اليعقوبي ٢ : ١٣) ورواها الكليني في اصول الكافي بأسانيد ثلاثة مختلفة والفاظ متقاربة (اصول الكافي ١ : ٤٤٦ ، ٤٤٧).

٢٦١

وكفل رسول الله بعده عمّه أبو طالب ، فكان خير كافل. فكان أبو طالب سيدا شريفا مطاعا مهيبا ، مع املاقه! (١) وربّته فاطمة بنت أسد بن هاشم امرأة أبي طالب وأمّ أولاده (٢).

وروى ابن شهرآشوب عن الأوزاعي (٣) قال : كان النبي في حجر عبد المطّلب ، فلمّا أتى عليه اثنان ومائة سنة ورسول الله ابن ثماني سنين ، جمع بنيه وقال : محمّد يتيم فآووه وعائل فاغنوه واحفظوا وصيّتي فيه.

فقال أبو لهب : أنا له! فقال : كفّ شرّك عنه! فقال عباس : أنا له ، فقال : أنت غضبان لعلّك تؤذيه! فقال أبو طالب : أنا له ، فقال : أنت له. فأمسكه أبو طالب في حجره وقام بأمره يحميه بنفسه وماله وجاهه في صغره من اليهود المرصدة له بالعداوة ، ومن غيرهم من بني أعمامه ، ومن العرب قاطبة ، الّذين يحسدونه على ما آتاه الله من النبوة.

وروى عن الخرگوشي في (شرف المصطفى) : أنّه لمّا حضرت عبد المطّلب الوفاة دعا ابنه أبا طالب فقال له : يا بني! قد علمت شدّة حبّي لمحمّد ووجدي به ، فانظر كيف تحفظني فيه! فقال أبو طالب : يا أبه لا توصني بمحمّد ، فإنه ابني وابن أخي!

__________________

(١) ثمّ روى عن علي عليه‌السلام أنّه قال : ساد أبي فقيرا ، وما ساد فقير قبله ، (اليعقوبي ٢ : ١٤).

(٢) قال : وأسلمت فكانت مسلمة فاضلة ، فلمّا توفيت قال رسول الله كما يروى : اليوم ماتت امّي! ثمّ كفّنها بقميصه ، ونزل في قبرها واضطجع في لحدها. فقيل له : يا رسول الله! لقد اشتدّ جزعك على فاطمة؟ قال : انها كانت امّي ، اذ كانت لتجيع صبيانها وتشبعني ، وتشعثهم وتدهنني! وكانت امّي! (اليعقوبي ٢ : ١٤).

(٣) عبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرو الأوزاعي الفقيه : ثقة جليل من السابقة مات سنة ١٥٧ (تقريب التهذيب).

٢٦٢

فلمّا توفّي عبد المطّلب كان أبو طالب يؤثره بالنفقة والكسوة على نفسه وعلى جميع أهله ، وكان اذا أراد أن يعشّي أولاده أو يغدّيهم يقول : كما أنتم حتّى يحضر ابني ، فيأتي محمّد فيأكلون (١).

سفر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الأوّل مع عمّه الى الشام :

روى الصدوق في (اكمال الدين) بسنده الى ابن عباس عن أبيه العباس بن عبد المطّلب عن أبي طالب قال : خرجت الى الشام تاجرا سنة ثمان من مولد النبي ، وكان في أشدّ ما يكون من الحر ، فلمّا أجمعت على المسير قال لي رجال من قومي ما تريد أن تفعل بمحمّد؟ وعلى من تخلّفه؟ فقلت : لا اريد أن أخلفه على أحد من الناس ، اريد أن يكون معي. فقيل : غلام صغير في حرّ مثل هذا تخرجه؟ فقلت : والله لا يفارقني حيث ما توجهت أبدا ، فإني لاوطّئ له الرحل. فذهبت فحشوت له حشية كساء وكتانا. وكنّا ركبانا كثيرا ، فكان والله البعير الّذي عليه محمّد أمامي لا يفارقني فكان يسبق الركب كلّه ، فكان اذا اشتدّ الحرّ جاءت سحابة بيضاء مثل قطعة ثلج فتقف على رأسه لا تفارقه وهي تسير معنا (٢).

وروی الحميري في (قرب الاسناد) بسنده عن الكاظم عليه السلام في معجزاته صلّى الله عليه وآله قبل مبعثه قال : توجّه إلى الشام مع نفر من قريش ، فلما كان بحيال بحيراء الراهب نزلوا بفناء ديره. وكان عالماً بالكتب وقد قرأ في التوراة مروره صلّى الله عليه وآله به وعرف أوان ذلك. فأمر فدُعي إلى طعامه. ثمّ أقبل يطلب الصفة فيهم فلم يجدها فيهم ، فقال لهم : هل بقي في رحالكم أحد؟ فقالوا : غلام يتيم. فقام بحيراء الراهب

__________________

(١) المناقب ١ : ٣٥ ـ ٣٦.

(٢) اكمال الدين : ١٧٨. ومثله في الخرائج والجرائح ١ : ٧١ الحديث ١٣٠ وعنه في بحارالانوار ١٥ : ٢١٤.

٢٦٣

يطّلع عليه فاذا هو به صلّى الله عليه وآله نائم وقد أظلّته سحابة. فقال للقوم : ادعوا هذا اليتيم. ففعلوا ، فقام يسير وقد أظلّته السحابة ، فأخبر القوم بشأنه وأنّه سيُبعث فيهم رسولاً ويكون من حاله وأمره كذا (١).

وفي رواية الصدوق عن ابن عباس عن أبي طالب قال فلمّا قربنا من بصرى الشام (١) اذا نحن بصومعة ، فنزلنا تحت شجرة عظيمة قريبة من الراهب قليلة الأغصان ليس لها حمل ، كان الركبان ينزلون تحتها ، فلمّا رأى بحيرا الراهب (٢) ذلك اتّخذ طعاما ثمّ جاء به فأكل وأكلنا معه.

ثمّ قال : يا غلام أسألك عن ثلاث خصال بحق اللات والعزّى الّا أخبرتنيها. فغضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عند ذكر اللات والعزّى وقال : لا تسألني بهما ، فو الله ما أبغضت شيئا كبغضهما ، وإنهما صنمان من حجارة لقومي. فقال بحيرا : هذه واحدة. ثمّ قال : فبالله الّا ما أخبرتني. فقال : سل عمّا بدا لك ، فإنّك قد سألتني بإلهي وإلهك الّذي ليس كمثله شيء. فقال : أسألك عن نومك وهيئتك وامورك ويقظتك. فأخبره عن نومه وهيئته واموره وجميع شأنه ، فوافق ذلك ما عند بحيرا من صفته الّتي عنده. فانكب عليه بحيرا فلم يزل يقبّل يديه مرّة ورجليه مرّة ويقول فيما يقول : أنت دعوة ابراهيم وبشرى عيسى ، أنت المقدّس المطهّر من أنجاس الجاهلية.

ثمّ التفت إليّ وقال : ما يكون هذا الغلام منك فإنّي أراك لا تفارقه؟ قال أبو طالب : فقلت : هو ابني ، فقال : ما هو بابنك وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون والده

__________________

(١) قرب الاسناد : ٢٥١ الحديث ١٢٣٢.

(٢) بصرى هي مدينة حوران ، فتحت صلحا لخمس بقين من ربيع الأوّل سنة ثلاث عشرة ، وهي أوّل مدينة فتحت بالشام. وردها رسول الله مرّتين : هذه هي الاولى.

(٣) حسبه المسعودي من عبد قيس من عرب الشام ، مروج الذهب ٢ : ١٠٢. وضبط الاسم بفتح الباء وكسر الحاء واشتهر بالتصغير خطأ.

٢٦٤

الّذي ولده حيا ولا أمّه. فقال : قلت : انّه ابن أخي وقد مات أبوه وامّه حاملة به ، وماتت امّه وهو ابن ست سنين. فقال : صدقت ، هكذا هو ، ولكن أرى لك ان تردّه الى بلده عن هذا الوجه ، فلئن رأوا هذا الغلام وعرفوا منه الّذي عرفت أنا لابتغوه شرا ، وأكثر ذلك هؤلاء اليهود! قال أبو طالب : فقلت : كلّا ، لم يكن الله ليضيّعه!.

ثمّ خرجنا به الى الشام فلمّا توصّلنا الشام ازدحم الناس ينظرون الى وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وجاء حبر عظيم كان اسمه نسطورا ينظر إليه لا يتكلم بشيء ، فعل ذلك ثلاثة أيام متوالية ، فلمّا كان اليوم الثالث دار خلفه كأنه يلتمس منه شيئا ، فقلت له : يا راهب كأنّك تريد منه شيئا؟ فقال : أجل انّي اريد منه شيئا ، ما اسمه؟ قلت : محمّد بن عبد الله ، فتغيّر لونه ثمّ قال : فترى أن تأمره أن يكشف لي عن ظهره لا نظر إليه ، فكشف عن ظهره فلمّا رأى الخاتم (١) انكبّ عليه يقبّله ويبكي ، ثمّ قال : يا هذا اسرع بردّ هذا الغلام الى موضعه الّذي ولد فيه ، فانّك لو تدري كم عدّوا له في أرضنا لم تكن بالّذي تقدمه معك.

وروى بسنده الى يعلى بن سيابة (٢) قال : كان مع رسول الله سنة خروجه الى الشام : خالد بن أسيد بن أبي العاص وطليق بن أبي سفيان بن اميّة ، فكانا يحكيان أنّهما لمّا توسطا سوق بصرى اذا بقوم من الرهبان قالوا لهم : نحبّ ان تأتوا كبيرنا هاهنا في الكنيسة العظمى. فذهبنا معهم حتّى دخلنا معهم الكنيسة العظيمة البنيان ، فإذا كبيرهم قد توسطهم وحوله تلامذته وقد نشر كتابا بين يديه فأخذ ينظر إلينا مرة وفي الكتاب مرّة ، ثمّ قال لأصحابه : ما صنعتم شيئا ، لم تأتوني بالّذي اريد ،

__________________

(١) روى السهيلي في (الروض الانف) خبرا عن الخاتم هذا يفيد أنّه كان كبيض الحمام على غضروف كتفه الأيسر حوله نقاط من الخال عليها شعرات. وقال ابن هشام كان مثل أثر محجمة الحجامة القابضة على اللحم ، كما في سيرته ١ : ١٩٣ ، متنا وهامشا.

(٢) في اكمال الدين : يعلى النسابة ، والصحيح عن المناقب ١ : ٤٠.

٢٦٥

وهو الآن هاهنا! ثمّ قال لنا : من أنتم؟ فقلنا : رهط من قريش ، فقال : من أي قريش؟ فقلنا من بني عبد شمس ، فقال لنا : معكم غيركم؟ فقلنا : بلى (كذا) معنا شاب من بني هاشم نسمّيه يتيم بني عبد المطّلب ، فقام واتكى على صليب من صلبانه وهو يفكر ، وحوله ثمانون رجلا من البطارقة والتلامذة ، فقال لنا : فيجب عليكم ان ترونيه ، فقلنا له : نعم فجاء معنا.

وفي سوق بصرى اذا نحن بمحمّد قائم في السوق ، فأردنا ان نقول للقسّ : هو هذا ، فإذا هو سبقنا فقال : هو هو ، قد عرفته والمسيح ، فدنا منه وقبّل رأسه وقال : أنت المقدّس ، ثمّ أخذ يسأله عن أشياء من علاماته ، فأخذ يخبره النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فسمعناه يقول : لئن ادركت زمانك لأعطين السيف حقّه! ثمّ قال لنا : أتعلمون ما معه؟ معه الحياة والموت ، من تعلق به حيي طويلا ، ومن زاغ عنه مات موتا لا يحيى بعد أبدا هذا الّذي معه الذبح الأعظم! ثمّ قبّل رأسه ورجع راجعا (١).

وقد نقل ابن اسحاق خبر بحيرا بلا اسناد فقال فيه : كان في بصرى من أرض الشام صومعة لم يزل فيها أبدا راهب كان إليه علم النصرانية عن كتاب لهم يتوارثونه كابرا عن كابر ، فكان فيها اذ ذاك راهب يقال له بحيرا ، كانوا كثيرا ما يمرّون به قبل ذلك ، فلا يكلّمهم ولا يعرض لهم ، حتّى خرج أبو طالب في ركب ذلك

__________________

(١) اكمال الدين : ١٧٨ ـ ١٨٥ بتصرف واختصار. وخبر بحيرا رواه ابن شهرآشوب في المناقب ١ : ٣٨ ، ٣٩ عن الطبري والظاهر انّه الطبري الامامي صاحب (دلائل الإمامة) والّا فالخبر لا يطابق ما في تأريخ الطبري. واختار الطبرسي أن يرويه عن ابن اسحاق : إعلام الورى : ١٧ ، ١٨. وكذلك الاربلي في كشف الغمة ١ : ٢٢ نقل ما ذكره ابن اسحاق. والخبر في ابن اسحاق في السيرة١ : ١٩١ ـ ١٩٤. وفي الطبري ٢ : ٢٧٧ ـ ٢٧٨. وأشار إليه اليعقوبي ٢ : ١١ واختصره المسعودي ١ : ٨٩. وقال : واسم بحيرا في النصارى سرجيس ، وكان للنبيّ اثنتا عشرة سنة.

٢٦٦

العام تاجرا الى الشام ، وتعلّق به رسول الله فرقّ له أبو طالب فخرج به معه ، فلمّا كان الركب قريبا من صومعة بحيرا ، كان قد رأى ـ وهو في صومعته ـ رسول الله وقد أظلّته من بين الركب غمامة ، ونزلوا في ظل شجرة قريبا منه ، فاظلّت الغمامة الشجرة وتدلّت أغصانها على رسول الله. فلمّا رأى ذلك بحيرا نزل من صومعته وصنع لهم طعاما كثيرا ثمّ ارسل إليهم فقال : يا معشر قريش اني قد صنعت لكم طعاما فاحبّ ان تحضروه كلكم كبيركم وصغيركم حرّكم وعبدكم! فانتم ضيف وقد أحببت ان اكرمكم وأصنع لكم طعاما تأكلون منه. فاجتمعوا إليه وتخلّف رسول الله من بين القوم في رحال القوم تحت الشجرة ، فقال بحيرا : يا معشر قريش! لا يتخلّفن أحد منكم عن طعامي. قالوا له : يا بحيرا! ما تخلّف عنك أحد ينبغي له أن يأتيك ، إلّا غلام أحدث القوم سنّا تخلف في رحالهم ، فقال : ادعوه فليحضر هذا الطعام معكم ، فقام إليه رجل منهم فاحتضنه حتّى أجلسه مع القوم.

فلمّا رآه بحيرا جعل يلحظه لحظا شديدا وينظر الى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده من صفته ، حتّى اذا فرغ القوم من طعامهم وتفرّقوا قام إليه بحيرا فقال له : يا غلام! أسألك بحق اللات والعزّى الّا ما أخبرتني عمّا أسألك عنه. فقال رسول الله : لا تسألني باللات والعزّى ، فو الله ما أبغضت شيئا قطّ كبغضهما! فقال بحيرا : فبالله الّا ما أخبرتني عمّا أسألك عنه ، فقال له : سلني عمّا بدا لك ، فجعل يسأله عن أشياء من حاله في نومه وهيئته واموره ، وجعل رسول الله يخبره ، فكان يوافق ذلك ما عند بحيرا من صفته. ثمّ نظر الى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضعه من صفته الّتي عنده.

فلمّا فرغ أقبل على عمّه أبي طالب فقال له : ما هذا الغلام منك؟ قال : ابني ، قال بحيرا : ما هو بابنك ، وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيّا! قال : فانّه ابن أخي. قال : فما فعل أبوه قال : مات وامّه حبلى به. قال : صدقت ، فارجع بابن

٢٦٧

أخيك الى بلده واحذر عليه اليهود ، فو الله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنّه شرّا ، فانّه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم ، فاسرع به الى بلاده.

فلمّا فرغ عمّه من تجارته خرج به حتّى أقدمه مكّة (١).

هكذا ينتهي الخبر عند ابن اسحاق ، وهكذا نقله عنه الطبري في تأريخه ، ولكنّه روى بعده رواية اخرى أسندها الى أبي موسى الأشعري الأنصاري ـ المدني ـ من دون ان يسندها الى أحد قبله ، قال في آخرها : فلم يزل يناشده حتّى ردّه ، وزوّده الراهب بزيت وكعك وبعث معه أبو بكر بلالا! (٢).

ورواه الدياربكري في كتابه (تأريخ الخميس) ثمّ نقل عن الحافظ الدمياطي أنّه أشكل على هذا الخبر ـ ارسال أبي بكر بلالا مع الرسول ـ بأنّ أبا بكر لم يكن يومئذ يملك بلالا بل كان يملكه اميّة بن خلف ، وإنمّا اشتراه أبو بكر بعد ثلاثين عاما! ثمّ ذهب الى انّ أبا بكر لم يكن في ذلك السفر أصلا! ولذلك قال الذهبي بشأن هذا الخبر : اظنّه موضوعا ، بعضه باطل (٣) ورواه الترمذي في سننه ثمّ قال : حسن غريب!

وقد نقل الطبري عن الكلبي : انّ أبا طالب خرج برسول الله الى بصرى وهو ابن تسع سنين (٤). والمعروف أنّ أبا بكر كان أصغر من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأكثر من سنتين ، فكيف يكون ما ذكر؟!

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ١ : ١٩١ ـ ١٩٤ والخبر في السيرة بلا سند ، وأسنده الطبري إليه عن عبد الله بن أبي بكر. وذكر مثله الكازروني في (المنتقى) بسند طويل الى داود بن الحصين (البحار ١٥ : ٤٠٩).

(٢) الطبري ٢ : ٢٧٧ ـ ٢٧٢ ط المعارف وص ٣٤ ط الاستقامة. والسيرة الحلبية ١ : ١٢٠ وسيرة دحلان ١ : ٤٩ والبداية والنهاية ٢ : ٢٨٥ والثقات لابن حبّان ١ : ٤٤.

(٣) تأريخ الخميس ١ : ٢٥٩ والسيرة الحلبية ١ : ١٢٠ وسيرة مغلطاي : ١١.

(٤) الطبري ٢ : ٢٧٨.

٢٦٨

وقد ألمح الى التشكيك فيها جماعة من المؤرخين ـ كما سبق ـ منهم أبو الفداء في تأريخه الكبير ، وجاء فيه : انّ أحد رواتها هو أبو بكر بن أبي موسى عن أبيه الأشعري ، وقد دخل في الإسلام في السنة السابعة من الهجرة ، ولا بدّ أن تكون حينئذ من مرسلات الصحابة. وشكك في الرواية : أنّها اشتملت على أنّ أبا طالب أرجع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ كما زعم الراوي ـ مع بلال الحبشي وأبي بكر ، وقد كانا يوم ذاك أصغر منه سنا ، حيث إنّ أبا بكر في ذلك الوقت لم يتجاوز العاشرة ، وبلال الحبشي كان أقلّ من ذلك فكيف يصح أنّ يردّه أبو طالب الى مكّة من تلك المسافة البعيدة وفي تلك الصحراء المخيفة مع طفلين صغيرين؟! (١)

ثمّ الرواية ـ كما مرّ ـ عن أبي موسى الأشعري ، وهو أنصاري مدنيّ ، والمعروف أنّه ولد قبل البعثة بثماني سنين ، وقدم الى المدينة بعد الهجرة بسبع سنين ، ورحلة الرسول مع عمّه أبي طالب الى الشام كانت قبل البعثة باثنتين وثلاثين سنة ، وقبل الهجرة بخمس وأربعين سنة ، وقبل اتصال أبي موسى بالرسول بأكثر من خمسين سنة ، فكيف روى هذا الخبر بلا اسناد الى أحد قبله؟!

والرواية الاولى نقلناها عن الصدوق في (اكمال الدين) بسنده الى ابن عباس ، وكانت تنتهي بقول أبي طالب : وعجلت به حتّى رددته الى مكّة (٢).

وقد ذكر الدياربكري الرواية عن ابن عباس أيضا ولكنّه جاء في آخرها : فوقع في قلب أبي بكر اليقين والتصديق قبل ما نبئ (٣) وعلى هذا يكون ايمان أبي بكر قد سبق نبوة النبي فضلا عن ميلاد علي عليه‌السلام! ولهذا قال الصفوري الشافعي :

__________________

(١) البداية والنهاية ٢ : ٢٨٥.

(٢) اكمال الدين : ١٨٢.

(٣) تأريخ الخميس ١ : ٢٦١.

٢٦٩

وكان إسلامه قبل ان يولد علي بن أبي طالب (١) وتوهم النووي أن سنّ أبي بكر في هذه السفرة كان خمس عشرة ، بل عشرين سنة ، فقال كان أبو بكر أسبق الناس اسلاما ، أسلم وهو ابن عشرين سنة وقيل : خمس عشرة سنة (٢) وقد مرّ أنّ خبر ابن عباس كان خليّا عن هذه الاضافة ، وانّ المعروف انّ أبا بكر كان أصغر من النبي بأكثر من سنتين ، ولم يكن مع النبي في رحلته هذه ، كما ذهب إليه مغلطاي في سيرته (٣) والدمياطي كما في (تأريخ الخميس) (٤) ولا أظنّه الّا موضوعا باطلا كما ذهب إليه الذهبي (٥) من موضوعات معاوية كما روى خبرها ابن أبي الحديد في شرحه لنهج البلاغة عن المدائني.

__________________

(١) نزهة المجالس ٢ : ١٤٧.

(٢) الغدير ٧ : ٢٧٢.

(٣) سيرة مغلطاي : ١١.

(٤) تأريخ الخميس ١ : ٢٥٩.

(٥) تأريخ الخميس ٢ : ٢٥٩ والسيرة الحلبية ١ : ١٢٠. وقال الحسني في سيرته : ولكنّ تلك المرويات على كثرتها وشهرتها بين المؤرخين والمؤلفين في سيرته لا يكاد يثبت منها شيء عند عرضها على اصول علم الدراية ، كما أشرنا الى بعض عيوبها في كتابنا (الموضوعات في الآثار والأخبار): (سيرة المصطفى : ٤٩) ولكنّه عاد في ص ٥٦ فقال «واذا كنت قد وقفت موقف المتصلب في كتابي (الموضوعات) من بعض المرويات الّتي يرويها المدائني عن بعض من تستّروا بصحبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ورواها غيره من المؤرخين (كما رواها الصدوق فى (اكمال الدين واتمام النعمة) فإني لا أقف نفس الموقف من حديث بحيرا الراهب ، فمن الجائز أن يكون قد رأى النبي ولكن دروه معه لا يعدو أن يكون دور من يرقب له النبوة عند ما وجد فيه بعض العلامات الّتي وصفته بها الكتب القديمة كالتوراة والانجيل وغيرهما .. أمّا بقية الأحداث والخوارق الّتي روتها كتب التأريخ والحديث وادّعت وقوعها في تلك الرحلة ، فلو صحت لتركت أثرا في مكّة وما جاورها بل في شبه الجزيرة بكاملها ، ولم يحدث شيء من ذلك».

٢٧٠

كان الله يسلك بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله طريق المكارم :

روى الشريف الرضي في «نهج البلاغة» عن علي عليه‌السلام أنه قال في وصف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ولقد قرن الله به من لدن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته ، يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره» (١).

وروى ابن أبي الحديد في شرحه : أنّ بعض أصحاب الإمام الباقر عليه‌السلام سأله عن قول الله تعالى («إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً)(٢) فقال عليه‌السلام : يوكّل الله تعالى بأنبيائه ملائكة يحصون أعمالهم ، ويؤدّون إليهم تبليغهم الرسالة ، ووكّل بمحمّد ملكا عظيما منذ فصل عن الرضاع يرشده الى الخيرات ومكارم الأخلاق ، ويصدّه عن الشر ومساوئ الأخلاق (٣).

__________________

وفصّل هذا المعنى فقال : «انّ تلك الأحداث والكرامات الّتي يدّعيها الرواة ، وبخاصّة ما كان منها في طريقه الى الشام مع تلك الحشود لم تترك أثرا على المكيين الّذين رافقوه في تلك الرحلة ، فلا محمّد قد احتج بها عليهم يوم كانوا يطاردونه من بيت الى بيت وفي شعاب مكّة وبطاحها ، ولا حدّث أحد من المؤرخين بانّ رفاقه في تلك الرحلة كانوا يتحدثون بها لمن رجعوا إليهم في مكّة وما جاورها ، كلّ ذلك مما يرجّح استبعادها».

وقال : «نبهت في كتابي (الموضوعات) على ما يرويه المحدثون والمؤرخون ممّا جرى له في طريقه الى الشام وهو في قافلة تتألف من مائة وثمانين من التّجار ومعاونيهم : كحديث الغمامة الّتي كانت تظلله ، والمياه الّتي كانت تتفجر من بطون الصحراء الّتي كانت تتعرض فيها حياة العشرات من المسافرين للموت عطشا ، والأشجار اليابسة الّتي كانت تعود إليها الحياة فتثمر من ساعتها أنواعا من الثمار ، الى كثير من أمثال ذلك». هذا ، ولم يكن فيما رويناه الّا تظليل الغمامة اذا اشتدّ الحرّ ، وعند نزوله عند الشجرة.

(١) نهج البلاغة : الخطبة القاصعة : ١٩٢ / المقطع ١١٨ عن سعدة بن صدقة عن الباقر عليه‌السلام.

(٢) الجنّ : ٢٧.

(٣) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٣ : ٢٠٧ وعنه في البحار ١٥ : ٣٦١.

٢٧١

وروى الطبري في تأريخه بسنده عن محمّد بن الحنفية عن أبيه علي عليه‌السلام قال : سمعت رسول الله يقول : ما هممت بشيء ممّا كان أهل الجاهلية يعملون به غير مرتين ، كلّ ذلك يحول الله بيني وبين ما اريد من ذلك ، ثمّ ما هممت بسوء حتّى أكرمني الله برسالته.

قلت ليلة لغلام من قريش كان يرعى معي بأعلى مكّة : لو أبصرت لي غنمي ، حتّى أدخل مكّة فأسمر (١) بها كما يسمر الشباب فخرجت اريد ذلك ، حتّى اذا جئت أوّل دار من دور مكّة سمعت عزفا بالدفّ والمزامير ، فقلت : ما هذا؟ قالوا : هذا فلان تزوّج ابنة فلان. فجلست أنظر إليهم ، فضرب الله على اذني فنمت ، فما أيقظني الّا مسّ الشمس ، فرجعت الى صاحبي ، فقال : ما فعلت؟ فقلت : ما صنعت شيئا. ثمّ أخبرته الخبر.

ثمّ قلت له ليلة اخرى مثل ذلك ، فقال : افعل. فخرجت فسمعت حين دخلت مكّة مثل ما سمعت حين دخلتها تلك الليلة ، فجلست أنظر ، فضرب الله على اذني ، فما أيقظني الّا مسّ الشمس ، فرجعت الى صاحبي فأخبرته الخبر. ثمّ ما هممت بعدها بسوء ، حتّى أكرمني الله برسالته (٢).

وقال ابن اسحاق : شبّ رسول الله ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ والله تعالى يكلؤه ويحفظه ويحوطه من أقذار الجاهلية ، لما يريد به من كرامة ورسالة ، حتّى بلغ أن كان رجلا ، أفضل قومه مروءة ، وأحسنهم خلقا ، وأكرمهم حسبا ، وأحسنهم جوارا ، وأعظمهم حلما ، وأصدقهم حديثا ، وأعظمهم أمانة حتّى ما اسمه في قومه الّا الأمين ، وأبعدهم عن الفحش والأخلاق الّتي تدنّس الرجال ، تنزها وتكرما ، جمع الله فيه كلّ ذلك (٣).

__________________

(١) سهرة الليل.

(٢) الطبري ٢ : ٢٧٩ ورواه عنه أبن أبي الحديد ١٣ : ٢٠٧.

(٣) ابن اسحاق في السيرة١ : ١٩٤ ثمّ قال : وذكر لي : انّ رسول الله ـ صلّى الله عليه [وآله]

٢٧٢

حرب الفجار :

روى أبو الفرج الأصبهاني : أنّه كانت للعرب حروب أربع سمّيت بالفجّار ، لما استحل فيها من المحارم :

فالفجار الأوّل : كان بين كنانة وهوازن. وكان السبب فيه : أن بدر ابن معشر الكناني كان حدثا منيعا في نفسه ، فحضر سوق عكاظ ومعه حيّ من كنانة ، وعقد لنفسه مجلسا يفتخر فيه ، فتصدّى له الاحيمر بن مازن ومعه حيّ من

__________________

وسلّم ـ كان ممّا يحدّث به عمّا كان الله يحفظه به في صغره وأمر جاهليته أنه قال : لقد رأيتني في غلمان قريش ننقل الحجارة لبعض ما نلعب به ، فإني اقبل معهم وادبر ، وكلنا قد أخذ إزاره فجعله على عاتقه ليحمل عليه الحجارة فتعرّى! اذ لكمني لاكم ثمّ قال : شدّ عليك ازارك ، وما أراه! فأخذته وشددته عليّ ، ثمّ جعلت أحمل الحجارة على رقبتي وازاري عليّ من بين أصحابي.

وقال السهيلي في (الروض الانف) في التعليق على هذه القصّة «وهذه القصّة إنمّا وردت في الحديث الصحيح (!) في حين بنيان الكعبة : انّ رسول الله كان ينقل الحجارة مع قومه إليها ، وكانوا يحملون ازرهم على عواتقهم لتقيهم الحجارة! وكان رسول الله يحملها على عاتقه وازاره مشدود عليه ، فقال له العباس : يا بن أخي لو جعلت ازارك على عاتقك. ففعل فسقط مغشيّا عليه! فضمّه العباس الى نفسه وسأله عن شأنه ، فأخبره أنه نودي من السماء : ان اشدد عليك إزارك يا محمّد! ثمّ قال : ازاري ازاري! فشدّ عليه ازاره ، فقام يحمل الحجارة» ثمّ قال : «فإن صحّ حديث ابن اسحاق انّ ذلك كان في صغره اذ كان يلعب مع الغلمان ، فحمله على انّ هذا الأمر كان مرتين : مرّة في صغره ، ومرّة في أوّل اكتهاله (!) عند بنيان الكعبة»! وقال القسطلاني قريبا منه في فتح الباري ١ : ٤٠١.

امّا نحن فنقول : ان صحّ من هذه القصّة شيء فإنّما نحتمل قصّة ابن اسحاق ـ وقد روى نحوه ابن أبي الحديد عن أمالي محمّد بن حبيب ـ امّا انّه كان ذلك عند اكتهاله! بأمر عمّه العباس! ومعه رجال قومه كذلك! فهذا ممّا لا يحتمله عقل أي عاقل قط. وللتفصيل انظر الصحيح للسيد جعفر مرتضى ١ : ١٣٦ ـ ١٤٤.

٢٧٣

بني هوازن ، فكادت الحرب أن تقع ثمّ رأوا أنّ الخطب يسير فتراجعوا عن الحرب ، وحيث كان سوق عكاظ في رجب الحرام سميت الحادثة فجارا.

والفجار الثاني : كان بين قريش وهوازن. وكان السبب فيه : أن فتية من قريش تعرّضوا لامرأة من هوازن ، فهاجت الحرب ووقع القتال واريقت دماء يسيرة ، وكان على قريش حرب بن اميّة بن عبد شمس فتحمّل دية ما وقع وتصالح.

والفجار الثالث : كان بين كنانة وهوازن أيضا. وكان السبب فيه : أنّ رجلا من كنانة كانت عليه دية لرجل من هوازن فافتقر وعجز عنها فلمّا حضروا سوق عكاظ قام الرجل صاحب الديّة من هوازن فعيّر بني كنانة بذلك ، فقام إليه كناني فضربه ، فتهايج الحيّان الى الحرب ، ثمّ رأوا أنّ الخطب يسير فتحملت كنانة الديّة فتراجعوا.

والفجار الرابع : كان بين كنانة وقريش وبين هوازن وقيس عيلان. وكان السبب فيه : انّ النعمان بن المنذر ملك الحيرة كان يبعث في كلّ عام قافلة تجارة بالبزّ والطيب الى سوق عكاظ لتباع هناك ، ثمّ يشترى له بثمنها من أدم الطائف ما يحتاج إليه (١) وكان لا يعرض لها أحد من العرب حتّى قتل النعمان رجلا من قيس فكان بلعاء بن قيس بعد ذلك يغير على قافلة النعمان وكان البرّاض بن قيس الكناني بمكّة في جوار حرب بن اميّة بن عبد شمس فوثب على رجل من هذيل فقتله ، فأخرجه حرب بن اميّة من جواره فلحق بالنعمان بن المنذر ، فاجتمع عنده بعروة الرّحال من هوازن ، فقال النعمان لهما : من منكما يجير لطائمي ـ أي القوافل التجارية ـ فتصدّى عروة لذلك ، ونازعه البرّاض ، فلمّا توجّه عروة لينصرف بالقافلة (٢) قال له البرّاض الكناني : ا تجيرها على كنانة؟! قال : نعم وعلى الخلق كلّه!

__________________

(١) الأغاني ١٩ : ٧٤ ـ ٨٠ ط بولاق ، باختصار. والادم بفتحتين : جمع الاديم : الجلد المدبوغ.

(٢) اليعقوبي ٢ : ١٥.

٢٧٤

فخرج فيها عروة الرّحال ، وخرج البرّاض يطلب غفلته ، حتّى اذا كان في وادي تيمن بعالية نجد (١) او أوارة قريبة من تيمن الى جانب فدك ، نزل عروة ليلة وجلس في سهرة تغنّيه قينة ويشرب فيها الخمر ، الى أن قام فنام ، فدخل عليه البرّاض الكناني ليقتله ، فاعتذر إليه عروة فلم يسمع منه وقتله (٢) في الشهر الحرام (٣) شهر رجب (٤) فلذلك سمّي الفجار.

وكانت قريش وكنانة في الشهر الحرام بعكاظ ، وهوازن كذلك ، فأتى آت قريشا وقال لهم : انّ البرّاض الكناني قد قتل عروة الرّحال من هوازن! فارتحلت كنانة وقريش ولم تشعر هوازن بالأمر ثمّ بلغ الخبر الى هوازن فاتبعوا قريشا فأدركوهم قبل أن يدخلوا الحرم ، فاقتتلوا حتّى جاء الليل ، والتقوا بعد هذا اليوم أياما وعلى كلّ قبيل من قريش وكنانة رئيس منهم ، وعلى كلّ قبيل من قيس وهوازن رئيس منهم. قال ابن اسحاق : وكان قائد قريش وكنانة حرب بن اميّة بن عبد شمس (٥) فاقتتلوا في رجب ، وكان عندهم الشهر الحرام الّذي لا تسفك فيه الدماء ، فسمّي الفجار لأنهم فجروا في شهر حرام.

أمّا بنو هاشم من قريش ، فقد روي : أن أبا طالب قال : هذا ظلم وعدوان وقطيعة واستحلال للشهر الحرام ، فلا أحضره ولا أحد من أهلي! فقال حرب بن اميّة وعبد الله بن جدعان التيمي : لا نحضر أمرا تغيب عنه بنو هاشم ، فاخرج الزبير بن عبد المطّلب مستكرها على رأس قبيل من بني هاشم.

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة٢ : ١٩٦.

(٢) الأغاني ١٩ : ٧٥.

(٣) ابن اسحاق في السيرة١ : ١٩٦.

(٤) اليعقوبي ٢ : ١٥.

(٥) ابن اسحاق في السيرة١ : ١٩٦ ـ ١٩٨.

٢٧٥

وقالوا لأبي طالب : يا بن مطعم الطير وساقي الحجيج! لا تغب عنّا ، فإنّا نرى مع حضورك الظفر والغلبة. قال : فاجتنبوا الظلم والعدوان ، والقطيعة والبهتان فإني لا أغيب عنكم.

فقالوا : ذلك لك. فلم يزل يحضر حتّى فتح عليهم.

فقيل : انّ أبا طالب كان يحضر ومعه رسول الله ، فإذا حضر هزمت كنانة قيسا ، فعرفوا البركة بحضوره.

وروي عن رسول الله انّه قال : شهدت الفجار مع عمّي أبي طالب ، وأنا غلام.

وروى بعضهم : انّه شهد الفجّار وهو ابن عشرين سنة ، وطعن أبا براء ملاعب الأسنة فأرداه عن فرسه ، وجاء الفتح من قبله (١).

__________________

(١) اليعقوبي ٢ : ١١٥ ـ ١١٦ وقال قبل هذا : شهد رسول الله الفجار وله سبع عشرة سنة.

وقال ابن هشام : حدثني أبو عبيدة النحوي ، عن أبي عمرو بن العلاء : انّه لمّا بلغ رسول الله أربع عشرة سنة أو خمس عشرة سنة ، هاجت حرب الفجار بين قريش وكنانة وبين قيس عيلان. وشهد رسول الله بعض أيامهم ، أخرجه أعمامه معهم. وقال رسول الله «كنت انبّل مع أعمامي» أي أردّ عليهم نبل عدوّهم اذا رموهم بها.

وقال ابن اسحاق : هاجت حرب الفجار ورسول الله ابن عشرين سنة. وإنمّا سمّي يوم الفجار بما استحلّ هذان الحيّان : كنانة وقيس عيلان من المحارم بينهم فيه (ابن اسحاق في السيرة١ : ١٩٥ ـ ١٩٨).

ولهذا قال في (السيرة الحلبية ١ : ١٢٨) : انّ سبب الفجار كان في رجب الحرام امّا الحرب فكان في شعبان. وبهذا برّر مشاركة أبي طالب ومعه رسول الله في الحرب.

ولكنّ السيد المرتضى رأى انّ هذا التوجيه لا يعتمد على أيّ سند تأريخي ، فلم يجد مجالا للتعويل عليه ، وشك في صحة القصة. (الصحيح ١ : ٩٥).

٢٧٦

ميلاد علي عليه‌السلام :

قال الكليني في «اصول الكافي» : «بعد عام الفيل بثلاثين سنة ولد أمير المؤمنين عليه‌السلام» (١).

وقال الشريف الرضي في «خصائص الأئمة» : ولثلاث عشرة ليلة خلت من رجب ، بعد عام الفيل بثلاثين سنة ، ولد في البيت الحرام علي عليه‌السلام (٢).

__________________

ولا يخفى انّ ابن اسحاق والطبري لم يرويا مشاركة النبي ولا حضوره في الحرب ، وإنمّا روى ابن هشام حضوره مع أعمامه ومساعدته لهم في الحرب وهو ابن خمس عشرة سنة. وروى اليعقوبي حضوره فقط وله سبع عشرة سنة ، ، ثمّ روى عن غيره حضوره ومشاركته في الحرب وهو ابن عشرين سنة (اليعقوبي ٢ : ١٥).

وقال المسعودي : كان مولده عليه الصلاة والسلام عام الفيل ، وكان بين عام الفيل وعام الفجار عشرون سنة (٢ : ٢٦٨) وقال : وقد قدمنا في كتابنا الأوسط أخبار الأحلاف والفجارات الأربعة : فجار الرجل ـ أو فجار بدر بن معشر ـ وفجار القرد ، وفجار المرأة ، والفجار الرابع هو فجّار البرّاض الّذي كان فيه القتال وكان النبي ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ قد حضر وشاهد الفجار الرابع (٢ : ٢٧٦) وقال : انّه عليه‌السلام شهد يوم حرب الفجار وذلك في سنة احدى وعشرين (من مولده) وهي حرب كانت بين قريش وقيس عيلان ، وكانت لقيس على قريش ، وانّ النبي صلّى الله عليه [وآله] وسلّم لمّا شاهدها صارت لقريش على قيس ، وكان على قريش يومئذ عبد الله بن جدعان التّيمي ، وكانت هذه احدى الدلائل المنذرة بنبوته عليه‌السلام التيمّن بحضوره (٢ : ٢٨٦). وقد يكون الاختلاف في سن النبي في حضوره الفجار ناشئا من تعدد الفجارات ووقوعها في طول هذه السنين وعدم تعيين حضوره في الرابع منها.

(١) اصول الكافي ١ : ٤٥٢ وبعده : وبقي بعد قبض النبي ثلاثين سنة وقتل سنة أربعين من الهجرة وهو ابن ثلاث وستين سنة. ثمّ روى بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : كان بين رسول الله وأمير المؤمنين ثلاثون سنة. وكأنه استند الى هذا الخبر في تأريخ ميلاد علي عليه‌السلام.

(٢) خصائص الأئمة : ٣٩ ط مشهد.

٢٧٧

وقال شيخه المفيد في «الارشاد» : في «يوم الجمعة الثالث عشر من شهر رجب سنة ثلاثين من عام الفيل ، ولد ـ علي عليه‌السلام ـ بمكّة في البيت الحرام ـ ولم يولد قبله ولا بعده مولود في بيت الله تعالى ـ سواه ، اكراما من الله تعالى جلّ اسمه له ، واجلالا لمحلّه في التعظيم» (١).

وذكره معاصراه : المسعودي في «مروج الذهب» قال : «وكان مولده في الكعبة ...» (٢) والآخر : الحسن بن محمّد القميّ في كتابه «تأريخ قم» الّذي الّفه للصاحب بن عباد سنة ٣٧٨ قال : «سنة ثلاثين من عام الفيل ، وفي رواية : سنة ثمان وعشرين منه ، كانت ولادة أمير المؤمنين في الكعبة ..» (٣).

وكشف الشيخ الطوسي عن مصدر القول الأخير في كتابه «مصباح المتهجد» فقال : «عن عتاب بن أسيد : ولد .. وللنبي ثمان وعشرون سنة ، وقبل نبوّته باثنتي عشرة سنة ، وكذلك عن ابن عياش» (٤).

وروى الفتال النيسابوري في «روضة الواعظين» عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن ميلاد علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، فقال : «لقد سألتني عن خير مولود ولد في شبه المسيح عليه‌السلام كان في زماننا رجل زاهد عابد يقال له : المبرم بن دعيب بن الشقيان ، قد عبد الله مائتين وسبعين سنة ، لم يسأل الله حاجة. فبعث الله إليه أبا طالب ، فلمّا أبصره المبرم قام إليه وقبّل رأسه وأجلسه بين

__________________

(١) الإرشاد : ٩ ط الحيدرية ومسار الشيعة : ٥١ ط مصر.

(٢) مروج الذهب ٢ : ٣٤٨ ط بيروت.

(٣) عن الترجمة الفارسية للحسن بن علي القميّ ، ترجمه للوزير فخر الدين سنة ٨٦٥ ص ١٩١ ط سنة ١٣٥٣ ه‍.

(٤) مصباح المتهجد : ٥٦٠ ط حجر.

٢٧٨

يديه ، ثمّ قال له : من أنت؟ فقال : رجل من تهامة ، فقال : من أيّ تهامة؟ قال : من بني هاشم. فوثب العابد فقبّل رأسه مرة ثانية ثمّ قال : يا هذا ، انّ العليّ الأعلى ألهمني الهاما. قال أبو طالب : وما هو؟ قال : ولد يولد من ظهرك ، وهو وليّ الله عزوجل.

فلمّا كانت الليلة الّتي ولد فيها علي عليه‌السلام أشرقت الأرض ، فخرج أبو طالب وهو يقول : أيّها الناس ، ولد في الكعبة وليّ الله عزوجل» (١) ورواه ابن شهرآشوب في «المناقب» (٢) والكنجي الشافعي (ت ٦٥٨) في كتابه «كفاية الطالب في مناقب علي بن أبي طالب» مسندا (٣).

وروى المغازلي في «المناقب» مرفوعا الى علي بن الحسين عليهما‌السلام قال : كنا عند الحسين عليه‌السلام اذ اقبلت امرأة قالت : أنا زبدة بنت قريبة بن العجلان من بني ساعدة. فقلت لها : فهل عندك شيء تحدّثينا به؟ فقالت : إي والله ، حدثتني أمّ عمارة الساعدية : أنّها كانت ذات يوم في نساء العرب ، اذ أقبل أبو طالب كئيبا حزينا فقلت له : ما شأنك؟ فقال : انّ فاطمة بنت أسد في شدة من المخاض. ثمّ أخذ بيدها وجاء بها الى الكعبة وقال لها : اجلسي على اسم الله» (٤).

وروى ابن الصباغ المالكي بسنده عن موسى بن جعفر عليه‌السلام قال : «دخل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله المسجد الحرام يوما فرأى فيه أبا طالب مهموما مغموما. فقال له : يا عمّ ، ما لي أراك مغموما؟ فقال : انّ فاطمة قد أخذها الطلق. فأخذ النبي بيد أبي طالب

__________________

(١) روضة الواعظين : ٩٦.

(٢) المناقب ١ : ٣٥٨ ط قم.

(٣) كفاية الطالب : ٢٦٠.

(٤) المناقب لابن المغازلي المالكي : ورواه عنه ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة : ١٤ ورواه عنه ابن البطريق الحلي من المائة السادسة مسندا الى علي بن الحسين عليه‌السلام ، كما في كتاب : علي وليد الكعبة : ٤٧ ط النجف.

٢٧٩

وأتيا بفاطمة الى الكعبة وادخلها النبي الكعبة وقال لها : اجلسي باسم الله ، فإنّ هذا المولود المكرّم ينبغي أن يولد في هذا الموضع المحرّم» (١).

وروى الصدوق في «الأمالي» و «علل الشرائع» و «معاني الأخبار» بسنده عن أبي حمزة الثمالي ثابت بن دينار عن سعيد بن جبير قال : قال يزيد بن قعنب : «كنت جالسا مع العباس بن عبد المطّلب وفريق من بني عبد العزّى ، بإزاء بيت الله الحرام اذا اقبلت فاطمة بنت أسد أمّ أمير المؤمنين ، وكانت حاملا به لتسعة أشهر ، وقد أخذها الطلق ، فقالت :

«يا ربّ إنّي مؤمنة بك وبما جاء من عندك من رسل وكتب ، وانّي مصدّقة بكلام جدّي ابراهيم الخليل ، وانّه بنى البيت العتيق فبحقّ الّذي بنى هذا البيت ، وبحقّ المولود الّذي في بطني .. الّا ما يسّرت عليّ ولادتي».

فرأينا البيت قد انشقّ عن ظهره ودخلت فاطمة فيه وغابت عن أبصارنا وعاد الى حاله. فرمنا أن ينفتح لنا قفل الباب فلم ينفتح ، فعلمنا انّ ذلك من أمر الله تعالى» (٢).

ورواه الطوسي في «أماليه» بسنده عن الصادق عليه‌السلام عن آبائه ، قال : «كان العباس بن عبد المطّلب ويزيد بن قعنب جالسين ما بين فريق من بني هاشم الى فريق من عبد العزّى ، بإزاء بيت الله الحرام ، اذ أتت فاطمة بنت أسد حاملة بأمير المؤمنين .. فوقفت بإزاء البيت الحرام ـ وقد أخذها الطلق ـ فرمت بطرفها نحو السماء ودعت .. فلمّا دعت رأينا البيت قد انفتح من ظهره ودخلت فاطمة فيه وغابت عن أبصارنا ثمّ عادت الفتحة والتزقت بإذن الله ..

__________________

(١) الفصول المهمة : ١٤ ط الحيدرية.

(٢) أمالي الصدوق : ١١٤ وعلل الشرائع ١ : ١٣٥ ط النجف. ومعاني الأخبار : ٦٠ ط النجف.

٢٨٠