الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٦

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٦

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٤٤

والمثل في وجه عام هو الصفة ، ذاتية ام فعلية ، والثانية هي الآية ، مشابهة لصاحبها كأفعال المخلوقين ، أم غير مشابهة كأفعال الله.

ثم هو في مثلث من الحالات : مثل السوء ـ مثل العال ـ والمثل الأعلى ، ف (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ) صفات وأفعالا إذ لا يتحذّرون عواقب السوء حيث لا يؤمون بها ، إذا فقالهم وأحوالهم وصفاتهم وأفعالهم هي كلها (مَثَلُ السَّوْءِ) وكما في قولهم : الملائكة بنات الله ، وفعلهم عبادة لهم من دون الله ، ووأدهم بناتهم ، فهم سوء في ذواتهم وصفاتهم وأفعالهم وتوصيفاتهم ، حيث السّوء مصدر وهم مصدر كل سوء.

ثم للذين يؤمنون بالآخرة مثل عال على حد العلوّ في إيمانهم وتحذّرهم عن عواقب السوء ، فهم ـ إذا ـ درجات في أمثالهم ، ذوات وصفات وأفعالا وفي أية تصرفات ، وليس فسوق المؤمن أحيانا إلّا نسيانا للآخرة على إيمان وليس النكران ، فانه كفر لا يجتمع مع إيمان ، و (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (١١ : ٢٤).

وثالثة الأمثال هي لله تعالى ، وهي (الْمَثَلُ الْأَعْلى) مثلا منفصلا عن ذاته هو فعله بصفاته الفعلية في الكون كله : (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٣٠ : ٢٧) مثل أعلى من أمثال خلقه الدانية ، مهما كانت عالية حسنة كمثل المؤمنين ، قوليا تشريعيا ككل أقواله ووحيه إلى أنبياءه ، أم تكوينيا ككل خلقه بما خلق ، دون ما يختلقه بعض خلقه ف (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) أم تكوينيا يحمل التشريع كرسله وسائر هداته المعصومين ف (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ .. فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) (٢٤ : ٣٦) وهو النور المحمدية والمحمديون من عترته المعصومين ، فإنهم المثل الأعلى في هداية الله ، ومهما كان مثله الأعلى في السماوات والأرض ، ومنه نفس السماوات والأرض ، ولكن أمثاله ـ حسب حكمته البالغة ـ درجات ، بدرجات الرسالات والمرسل

٣٨١

إليهم ، وسائر درجات الكائنات ، والكل هو المثل الأعلى بالنسبة لسائر المثل من الخلق.

وقد تعني (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) هنا أعمّ مما تعنيه (الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) في الروم ، كمثل الصفات الذاتية التي ليست لا في السماوات ولا في الأرض ، فانها عين ذاته سبحانه ، ـ إذا ـ ف (لِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) هو ككل صفاته ذاتية وفعلية لا يدانيها أو يساميها أي مثل ، ولا يماثلها أي مثل مهما يمثّلها كآية تدل عليه ، وفي كل شيء له آية تدل على أنه صانع ، ثم و (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) هو مثل الصفات الفعلية ، وهي المتمثلة في خلقه كله ، مهما كانوا بالنسبة لبعض درجات.

وقد يعنيهما ـ ولا سيما الذاتية من الصفات ـ قول الصادق (عليه السلام) «ولله المثل الأعلى الذي لا يشبهه شيء ولا يوصف ولا يتوهم» (١) حيث الأمثال غيرها متشابهة مع بعض.

(وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) ٦١.

«لو» تحيل تلك المؤاخذة ، المبكرّة قبل يوم المؤاخذة ، مبيّنة استحقاق الظالمين تلك الأخذة الشاملة ، نتيجة ثالوث الظلم بالحق وبحق أنفسهم وحقوق الآخرين ، وقد ذكرت قبل كشركهم بالله ، وتسامحهم عن عقولهم في كل حقولهم ، ووأدهم البنات.

و «الناس» هنا هم الظالمون لمكان «بظلمهم» فهم ـ فقط ـ يستحقون المؤاخذة التي لا تتركهم على الأرض ، إذا فما بال كل دابة تؤاخذ

__________________

(١). في معاني الاخبار باسناده عن حنان بن سدير عن الصادق (عليه السلام) في حديث قال :

٣٨٢

بظلم الظالمين حيث التوعيد يشملها كلها بمن فيها من الناس غير الظالمين (ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ) دون «ما تركهم عليها»؟

كما (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً) (١٨ : ٥٨).

فالمؤاخذة العذاب المعجلة ليست إلّا لأهله الظالمين فقط ناسا وغير ناس حيث إن من سائر الدواب ظالمة كما في الناس ، وآية الكهف هذه قد تستثني من عموم آية النحل غير الظالمين «من دابة» فإنهم (لَوْ يُؤاخِذُ اللهُ) ناجون ، ثم سائر الدواب قد يترك منها ما تعيّش الناجين دون الباقية ، فانها خلقت لتعيّش الإنسان كغيرها مما في الأرض (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) (٢ : ٢٩) فإذا زال المستفيدون منها زالت ، ام إذا زالت الاكثرية الساحقة وهي الظالمة زالت الاكثرية من دوابها ، لا أخذا لها لأنها ظلمت ، بل لان القصد من بقاءها زائل ، وكما لا يترك الله عليها من دابة في الأجل المسمي الجماعي ، ظالمة وغير ظالمة ، حيث الأجل مما لا بد منه ، فلا جرم في هذه الأخذة القارعة المزلزلة المدمرة تؤخذ كل دابة.

إذا ف «من دابة» هنا تنقسم إلى ثلاث ، ناجية هي قسم من الدواب والناجون من الناس ، وهالكة هي القسم الآخر بذنب ام دون ذنب ، وانما لزوال القصد من بقاءها ، ومؤاخذة معذبة وهي لشر الدواب (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) (٨ : ٢٢) وكما حصل كل ذلك في طوفان نوح ، حيث نجّى الله فيه المؤمنين القلة بنماذج من الدواب التي تعيّشهم ، ثم تتوالد لمن بعدهم ، ثم أهلك الله الكافرين وسائر الدواب.

وإذا عنت (ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ) كل دابة في الأرض دون إبقاء ، فهي ـ إذا ـ فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٨ : ٢٥) فقد تصيب سائر الدواب ام قسما منها دونما ظلم ، وانما ابتلاء

٣٨٣

للمستفيدين منها ، وتصيب من المظلومين من هم ذريعة ظلم الظالمين إذ سكتوا عن ظلمهم ، وتخاذلوا أمامهم ، والساكت عن الحق شيطان أخرس! ثم تصيب العدول أحيانا من بأس الظالمين كما تعودوه طول التاريخ الرسالي ، وأخرى فتنة لهم واعتلاء درجة ، كما وفي بأسهم بالظالمين ـ على شروطه الصالحة ـ درجة.

إذا ف (ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ) ليست لتعني عقوبة على الكل ظالمة ومظلومة وعادلة ، وإنما إفناء للكل تأشيرا الى مدى آثار الظلم ، انها مبيدة ومبددة (لَوْ يُؤاخِذُهُمْ) لا تبقي ولا تذر ، وليست من سنة الله في أخذة قاهرة للظالمين ان يسدها عن سواهم كخارقة استثنائية ، فإذا حدث زلزال فطبيعة الحال تهدّم المنطقة التي حصلت فيها بمن عليها مستحقين العذاب وسواهم ، ولكنه عذاب للظالمين وتكفير أو ترفيع درجة لسواهم.

ونحن نرى طوال التاريخ أخذات إلهية دون تلك المؤاخذة الشاملة ، وقد اختصت أحيانا بالظالمين أنفسهم لا سواهم ، كاخذ فرعون وعاد وثمود واصحاب الرس وقرون بين ذلك كثير ، وطبعا بما معهم من دابة يستفيدون منها ، واخرى تعدت الى غيرهم ، سواء الساكتين عن الظلم كتاركي النهي عن المنكر في اصحاب السبت : (وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ. فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ. فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) (٧ : ١٦٦) حيث النجاة اختصت بالناهين عن السوء ، فتاركوا النهي غير ناجين ، مهما اختص مقترفو الظلم ب (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ).

وثالثة تتعدى إلى سواهم ، من غير المستحقين العذاب ، ابتلاء ام ترفيع درجة كالبراكين والزلازل والصواعق ، ذلك ، فمن الهراء ما يفترى على رسول الهدى «لو ان الله يؤاخذني وعيسى بن مريم بذنوبنا ـ او ـ بما جنت

٣٨٤

هاتان الإبهام والتي تليها لعذبنا ما يظلمنا شيئا» (١) فانه يناحر الضرورة القاطعة ان النبيين ولا سيما اولي العزم منهم معصومون.

ذلك ، واما الجمع بين كافة الدواب في اخذة جامعة جامحة من جراء مؤاخذة الظالمين اجمع فقد احالته «لو» هنا مصلحيا ، تأخيرا لهم الى اجل مسمى هو قيامة التدمير ، وحينئذ (ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ) لأنها وقته الجماعي ، رتقا لحياة التكليف وفتقا لحياة الحساب وقبلها موتة الجميع ممن هو بعد في حياة التكليف ام حياة برزخية (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) وذلك هو الأجل المسمى الجماعي (٢) لكل الكائنات من دابة وسواها ، فان «يؤخرهم» هنا بعد (ما تَرَكَ عَلَيْها) تعني ـ فقط ـ ذلك التأخير الجماعي ، دون اجل الموت لكل فرد فرد ، ام اجل كل امة امة ، مهما كان كل من الأجل المسمى ، ولكن اين مسمى من مسمى؟ (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ) الظالمون وغيرهم من دابة (لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً) ولا لحظة ، حيث الساعة هي من السّوع : حاضر الوقت ، وأقربه لحظة هو اقرب.

وترى هذا (لا يَسْتَأْخِرُونَ) إذ قضي الأمر فما ذا تعني (لا يَسْتَقْدِمُونَ) وقد جاء الأجل ، ولماذا يستقدمون؟.

قد يعني مجيء الأجل جيئة أشراطه القريبة منه ، مؤشرة بنفسه ، فهم إذا (لا يَسْتَقْدِمُونَ) إذ لا تقديم في قضاءه كما لا تأخير ، لأنه اجل مسمى محتوم.

__________________

(١). كما في الدر المنثور ٤ : ١٢١ ـ اخرج ابن مردوية عن أبي هريرة قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ...

(٢). الأجل المسمى وهو المحتوم الذي قرر في الذكر الحكيم وهو فردي وجماعي ، والمعلق هو الذي يعلق على سبب اختياري وسواه منه ومن غيره وهو الأجل المبكّر ، وهو ايضا فردي وجماعي والثاني في التدميرات الجماعية يوم الدنيا (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً).

٣٨٥

ام يعني جيئة حكمه ، فلا راد لحكمه وقضاءه بعد إذا جاء ، ام جيئة نفسه بداية قيامة التدمير وهم صرخة واحدة (وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها).

وترى من هم الذين قد يستقدمونه ، وتأخيره تأجيل للعذاب وتقديمه تعجيل؟ انهم ـ بطبيعة الحال ـ الهائمون للقاء الله ، المنتظرون يوم الله ، فهم لا يستقدمون أجلهم تسليما لرب العالمين ، وغيرهم لا يستقدمونه ، لأنه استقدام للعذاب ، كما لا يستأخرون بغية تأجيل العذاب إذ قضي الأمر فلا تأجيل له كما لا تعجيل.

وقد تعني (لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) طلبا لتأجيل المؤاخذة بعد جيئة الأجل ، ام تعجيله ، فان لها وقتا بعد الأجل لا يتقدمه ولا يتأخر عنه مهما أخرت عن الحياة الدنيا لأنها لم تكن من أجلها.

وانها الحكمة البالغة تصاحب القوة ، والرحمة تصاحب العدل : ان يؤجّل الظالمون الى اجل مسمى ، لكنهم مغترون بذلك الإمهال ، ظانين انه إهمال ، رغم انه امهال واملال ولا إهمال (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ).

(وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ (١) النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) ٦٢.

«ويجعلون» هؤلاء المشركون «لله» لا لأنفسهم او آلهتهم التي ألهتهم عن الله «ما يكرهون» ه لأنفسهم ولآلهتهم.

ولا يخص «ما يكرهون» قالتهم ان الملائكة بنات الله ، فان لهم قالات عدة على الله هم يكرهونها لأنفسهم ، فهم ـ بصورة عامة ـ يقتسمون الخيرات والشرور قسمة ضيزى ، فما يصيبهم من خير فمن أنفسهم ولآلهتهم ، وما أصابهم من شرّ فمن الله ولله : (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ

٣٨٦

لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى ...) (٤١ : ٥٠).

ولا هم فحسب بل (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ) (٢٩ : ١٠).

ذلك! رغم ان (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) والخير كله بيديه والشر ليس اليه ، وليس العذاب المستحق قضية العدل إلّا خيرا ولا تركه إلّا ظلما وشرا.

هذا جعلهم الجاهل القاحل (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى) فألسنتهم هي الكذب ، وبطبيعة الحال تصف الكذب ، وليست تصفه ـ بهكذا افراط ـ قلوبهم ، ام وإذا تصف صادرة عن قلوبهم فهي مقلوبة عن الهدى لأنها مغلوبة للهوى ، حيث تصف عكس المواصفة وضدها (أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى) من حسنى الحياة الدنيا ومن بعدها الاخرى ، كأنهم بفريتهم الكذب على الله يستحقون منه الحسنى ، ام (أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى) شاء الله ام أبى!.

فمن حسنى الحياة الدنيا انه له البنات ولهم البنون ، ومن حسناه في الاخرى رغم انهم ناكروها (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) (٤١ : ٥٠).

«لا جرم» ولا بد إذا دونما مخلص ولا محيص (أَنَّ لَهُمُ النَّارَ) لا كسائر النار لسائر اهل النار بل (وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) كما انهم في قولهم الكذب مفرطون ، افراطا كإفراط ولا يظلمون نقيرا.

فالفرط هو التقدّم ، والإفراط هو التقديم زائدا عن الحق ، كما التفريط هو التأخير ناقصا عن الحق ، فلانهم افرطوا في قولتهم وفريتهم الكذب فليفرطوا في النار كما افرطوا.

٣٨٧

ف (هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (١٨ : ١٠٤) حيث يرون السّوأى كأنها الحسنى ، بأعين عوراء وألسنة بكماء ، وقلوب عمياء والله منهم براء.

(تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) ٦٣.

«تا لله» الذي كتب على نفسه الرحمة ومنها رسالة الوحي العاذرة (لَقَدْ أَرْسَلْنا) رسلنا تترى طول تاريخ التكليف لعامة المكلفين (إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ) من الجنة والناس أجمعين وسائر العالمين «أرسلنا» رسلا مبشرين ومنذرين من اولي العزم وسواهم (فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ) وهم الأكثرية الساحقة منهم «اعمالهم» ـ «فهو» كما كان قبل اليوم (وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ) : يوم البرزخ وإلى يوم القيامة الكبرى ، ولاية لصق بعض منه عليهم ، تترى منذ حياتهم الدنيا الى البرزخ والى القيامة (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) بما كانوا يعملون (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ ... لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ).

وقد تعني «هم» في «وليهم» ـ ضمن ما عنت من الغابرين ـ الحاضرين منهم والمستقبلين ، ولاية حاضرة على مدار الزمن وطول خط التكليف على من زين لهم اعمالهم ف «اليوم» إذا يومان ، يوم الحاضرين دنيا ، ويوم الغابرين برزخا وأخرى ، وكما سوف يأتي الأخيران للحاضرين كما الغابرين.

إذا ف «هم» في «وليهم» تعم الغابرين وسواهم من حزب الشيطان ، و «اليوم» تعم النشآت الثلاث حسب المحتملات ، يوم الدنيا ويوم البرزخ ويوم الدين ، ولكنما الأخيران في ولاية العذاب الذي هم فيه مشتركون «أنهم في العذاب مشركون».

(وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ٦٤.

٣٨٨

فكما رسول القرآن رحمة للعالمين ، كذلك القرآن ، بيانا للذي اختلفوا فيه اهل الكتاب وسواهم ، آمنوا ام لم يؤمنوا ، ثم (وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) اضافة الى ذلك البيان ، إذا فالقرآن فيه الهيمنة على حق الهدى في بعدين ، هيمنة على كتابات السماء كلها وسواها بيانا ، وهدى ورحمة زائدة لقوم يؤمنون به ، حيث تحلّقان على كل متطلبات الحياة وحاجياتها الانسانية مع الأبد ما طلعت الشمس وغربت.

ومن هذه الزوايا الثلاث ندرس مدى دعوة القرآن الخالدة ، حيث تربط الطول التاريخي والعرض الجغرافي في عرض فصيح فسيح لهدى الله ككل دون إبقاء.

إذا فهذا الكتاب هو ذكرى كافية خالدة للعالمين (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) وسواهم من مشركين وكتابيين وملحدين ، ف «هم» في «لهم» تشملهم كلهم حيث يقابلهم (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) دون اختصاص بالمشركين ، مهما كانوا حاضري الخطابات السابقة دون سواهم.

ومن الشاهد القاطع لشموله اهل الكتاب : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (١٦ : ٤٤) بل هم أحرى من سواهم لاستئناسهم بكتابات الوحي ، وحاجتهم المدقعة الى بيان ما اختلفوا فيه منها : (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٢١ : ١٠). فهم المستفيدون منه اكثر من سواهم : (وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ) (٢٩ : ٤٧) ولذلك فهم يفرحون : (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ) (١٣ : ٣٦) ولأنهم أوتوا علم الكتاب (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ) (٣٤ : ٦) فليتبعوه لأنه احسن ما انزل (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) (٣٩ : ٥٥).

٣٨٩

إذا فكيف يحصر نزول القرآن لبيان يخص المشركين ، فيحسر عن الكتابيين ، ثم (هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)؟!

ولمّا يصل البيان الى ذلك الحدّ الحادّ من البرهان يأخذ في استعراض آيات آفاقية وانفسية للألوهية ، اضافة الى الماضية ، ونرى إنزال الماء من السماء لصق إنزال الوحي وتلوه ، تمثيلا راقيا بما نعرف فيه حياة كل شيء :

(وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٥) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (٦٦) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٦٧) وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٦٩) وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ

٣٩٠

وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٧٠) وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٧١) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (٧٢) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (٧٣) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧٤) ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٧٥) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما

٣٩١

يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٦) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٧٧)

(وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) ٦٥.

فحين تحيي ماء السماء الأرض بعد موتها رحمة من الرحمن ، فأراضي القلوب أحرى ان تحيى بمياه الوحي بعد موتها رحمة من الرحيم و (إِنَّ فِي ذلِكَ) المثل الأمثل «لآية» في اولوية مطلقة قطعية (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) سمع الإنسان ، العارف حاجته الروحية انها أحرى من الجسدية ان تستجاب.

و «لآية» في اولوية الحياة الحساب بعد الموت من حياة التكليف اللّاحساب ، أفلا تدل حياة الأرض بعد موتها متواترة متكررة ، على امكانية حياة الإنسان بعد موته لمرة واحدة وهي أحق وأحرى؟ حيث الحياة الدنيوية التكليفية هي قضية فضل الله ، وحياة التكليف هي قضية عدله.

وكما ان موت الأرض له مرحلتان ، الموت الاوّل عن حياة ثم أحياها الله بأول ماء (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) (٢٣ : ١٨).

ثم بعد الاوّل حيث تموت الأرض فصليا في كل سنة ثم تحيى بالماء ، ام تموت في فصل حياتها أحيانا في حالة الجدب ثم تحيى بالماء.

فكذلك إنسان الأرض وبأحرى ، إذ (كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ..)

٣٩٢

(٢ : ٢٨) حين كنا أجنّة في بطون أمهاتنا (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) الى البرزخ (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) الى الآخرة (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) في حياة الحساب.

وكذلك الحياة الروحية حيث (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ..) (٢ : ٢١٢) كإحياء اوّل بأول النبيين ، ثم أرسلنا رسلنا تترى إحياء بعد إحياء!.

(وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) ٦٦.

(وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً) تعبرون بالإبصار إليها فإبصار بها الى حق المبدء والمصير ، حيث تعبر بصائرنا بأبصارنا من هذا المعبر المعتبر الى حقائق علمية جمة ما كانت البشرية لتعرف منها إلّا ظاهرا بسيطا ، والحال عرفت مبسّطا منها وسيعا ولمّا تصل الى كمالها وتمامها.

هنا «نسقيكم» إفعالا ، والسقي مجردا متعد بنفسه الى مفعولين اثنين (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) (٧٦ : ٢١) فلما ذا نسقيكم؟.

ان السقي هو الإشراب ، وهو طبعا بالماء ، والإسقاء هو جعل غير الماء كالماء شرابا ، فأسقاه إذا جعله شرابا ، فقد جعل الله لبنا خالصا سائغا شرابا كما الماء للشاربين ، فهو كالماء فيه الرواء وزيادة هي الغذاء ، وهو كثير كالماء ، فلذلك كله «نسقيكم» دون «نسقيكم» او «نشربكم».

ثم الماء قد لا يكون سائغا لما فيه من خليط ام غيار في لون او طعم ، ام يغص به الشارب غصة ، ولكن اللبن خالص من كل خليط غير صالح وهو لا يغص على أية حال ، وعلى حد المروي عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) «ما شرب أحد لبنا فشرق ان الله يقول : (لَبَناً خالِصاً سائِغاً

٣٩٣

لِلشَّارِبِينَ)(١).

ولماذا (مِمَّا فِي بُطُونِهِ) والانعام جمع نعم مؤنث لا تقبل إلّا «ها» وفي المؤمنون «بطونها» : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ) ٢١ فكيف تكون هنا «هو» وهناك «ها»؟.

«هو» هنا و «ها» هناك تدلاننا على انهما بمكانة من الصحة دونما تأويل (٢) ، فالأنعام ـ إذا ـ جمع واسم جمع ، واختلاف الضميرين علّه اعتبارا بالأمرين ، والقرآن هو مصدر الأدب لكل اديب وأدب ، وحتى إذا كان جمعا دون إفراد فإرجاع ضمير التأنيث ضابطة شاملة ـ فقط ـ في المؤنثات الحقيقية ، وتأنيث الجموع المكسرة كالأنعام مجازي يسوغ في ضمائرها

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ١٢٢ ـ اخرج ابن مردوية عن يحيى بن عبد الرحمن بن أبي كبشة عن أبيه عن جده ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : ... ورواه في الكافي عن القمي عن النوفلي عن السكوني عن أبي عبد الله قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس احد يغص بشرب اللبن لان الله عز وجل يقول : ...

وفيه بسنده عمن ذكره عنه (عليه السلام) قال قال لي رجل اني أكلت لبنا فضرني قال فقال ابو عبد الله (عليه السلام) لا والله ما يضر لبن قط ولكنك أكلته مع غيره فضرك الذي أكلته فظننت ان اللبن الذي ضرك ، وفيه عدة من أصحابنا عن احمد بن محمد بن خالد عن يحيى بن ابراهيم بن أبي البلاد عن أبيه عن جده قال : شكوت الى أبي جعفر (عليه السلام) ذربا (فساد المعدة) وجدته فقال لي ما يمنعك من شرب البان البقر؟ وقال لي : اشتريتها قط؟ فقلت له نعم مرارا فقال لي كيف وجدتها؟ فقلت وجدتها تدبغ المعدة وتكسوا الكليتين الشحم وتشهي الطعام فقال لي : لو كانت أيامه لخرجت انا وأنت إلى ينبغ حتى نشربه ، وعن الخصال عن امير المؤمنين (عليه السلام) قال : حسو اللبن شفاء من كل داء الا الموت (نور الثقلين ٣ : ٦٢ ـ ٦٣).

(٢) كتأويل المرجع في بطونه الى ما ذكر ، ولا يصح الا إذا كان عديدا ، واما المذكور الواحد فلا يسمح مذهب البلاغة ان يئول الى ما ذكر ، ونحن نجد في القرآن كثيرا مثله ونتخذه دليلا أصيلا لجواز مختلف الاستعمالات.

٣٩٤

الأمران.

ثم ماذا يعني (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ)؟ والفرث هو ما يتبقى في الكرش بعد الهضم ، المسمى روثا وسرجينا بعد خروجه ، والدم هو حصالة الغذاء المصفّاة في المعدة ، وعصارتها المتحوّلة الى الشرايين والاوردة وسائر العروق شعرية وما فوقها ، المرتزقة منه الخليّات كلها ، فكيف يكون اللبن من بين فرث ودم؟.

إنه من بين فرث ودم مكانا ومكانة ، مكانا حيث الثلاثة كلها لصق بعض في بطن واحد ، دون ان تتأثر واحدة من الأخرى على أية حال ، فاللبن في الأنعام بين الفخذين ، والدم جار في سائر الشرايين والأوردة والفرث في الأمعاء ، قد دفعته المعدة إليها بعد جذب العروق لخلاصة الطعام فكانت دما ، فالبينية هي باعتبار المكان بيّنة ، فلا الفرث بمختلط باللبن مع قرب المكان ، ولا الدم بداخل بنفسه في الضرع ، فان بين ذلك كله حجرا محجورا.

ثم ومكانة فان اصل الكل واحد هو الغذاء ، وهنا تحول اوّل الى فرث سافل ثافل ، والى عصارة تتحول الى دم وسواه من غذاء الجسم والدم هو الأهم فانه به حيوية الجسم ، ثم الدم الذاهب الى كل خليّة في الجسم يتحول في عروق الضرع الى لبن خالص سائغ للشاربين ، إذا فاللبن وهو عشير الفرث والدم وسواهما من ثفالات وعصارات غذائية ، هو (مِمَّا فِي بُطُونِهِ) من بين فرث ودم مكانة ومكانا.

و (مِمَّا فِي بُطُونِهِ) هي الغذاء ، و «من» تبعيض له أن اللبن هو بعضه ، وهو من بين فرث ودم ، فلا هو متأثر من فرث ولا دم ، رغم ان الفرث عشيره في الغذاء ، والدم امّه الأخير.

وعملية تحول الخلاصات الغذائية في الجسم إلى دم ومنه الى لبن ، تتم في

٣٩٥

بطون صاحبات اللبن في كل ثانية ثانية ، في عمليات هدم وبناء مستمرة حتى تفارق الروح الجسد ، سبحان الخلاق العظيم.

ولقد بقي اللبن في ذلك البين العجيب سرا غريبا الى عهد قريب ، الى ان كشف العلم نقابا عن وجهه والى كشوف اخرى يبقى القرآن في كلها إماما لكافة العقلاء والعلماء على مدار الزمن.

أفليس هذا الذي يسقينا من بين فرث ودم لبنا خالصا ، إلها واحدا لوحدة أفعاله وتناسقها؟

او ليس بقادر على ان يخلّص اجزاءنا ـ البالية المتغيرة الخليطة بسواها ـ عن خلائطها ، فيخلق منها أمثالها الاولى متناسبة مع الآخرة كما خلقها في الاولى؟.

أو ليس هذا القرآن ـ الحاوي لملاحم غيبية كهذه ـ من عند الله العزيز الوهاب «سبحان الخلاق العظيم»!.

اللهم بلى وكما ترى هذه الآية بمفردها برهان ساطع على الأصول الثلاثة : مبدء ومصيرا ، وما بين المبدء والمصير وهو وحي القرآن.

(وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ٦٧.

«سكرا» اسم لما يكون منه السّكر وهو حالة تعرض بين المرء وعقله ، واما انه الخل فشيء لا يعرفه اهل اللغة ، وحتى إذا كان من معانيه فغير فصيح ولا صحيح ان يراد الخل (١) مما هو أعم دون قرينة ، ومع

__________________

(١) عن ابن عباس انه في الحبشية بمعنى الخل ، ولكنه غير صحيح ان يترك الخل العربي ثم يستخدم السكر الحبشي وهو في العربية ما يسكر ، فبالرغم من وجود الألفاظ الاعجمية في القرآن فانه مخصوص بما ليس في معناه لفظة عربية ، ثم لالتباس في استعمالها.

٣٩٦

قرينة ـ وهي هنا فاقدة ـ هو تطويل بلا طائل ، إذا فهو دون ريب مادة السّكر سواء سميت خمرا ام سواها ، فكل مسكر يتخذ من ثمرات النخيل سكر ، وقد يؤكده تقابله ب (رِزْقاً حَسَناً) فالسكر إذا غير حسن ، أفهل يكون الخل من غير الحسن وهو من احسن ما يتخذ من ثمرات النخيل ، فهو إدام الأولياء ، وهو يزيل شطرا عظيما من البلاء ، إدام هو في نفس الوقت من الأدواء ، مهما أضر ببعض الأمراض.

وتفسيره بالسكون ، وبالحيرة كما في (سُكِّرَتْ أَبْصارُنا) لا ينافيه فان فيه سكون العقل وحيرته.

وترى (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً) تدل على حلّه آنذاك ثم حرم بآيات التحريم كآية المائدة ، لان آية السكر في مقام المن على العباد حيث رزقهم من ثمرات النخيل ما يتخذون منه سكرا ورزقا حسنا؟.

والخمر قد حرمت في بداية الدعوة لأنها من اصول المحرمات التي تتنافى حلّيتها مع اصول الشرعة ، فلو حلّت منذ البدء فقد أخلت بأصل الدعوة التي قضيتها عقول ضافية غير مدخولة ، حيث العقول هي مهابط الدعوات الرسالية ومجالاتها ، فكيف بالإمكان الجمع بين حلية ازالة العقل بالسكر ، ـ وهي تزيل محطات الدعوة ـ وبين فرض تقبّل الدعوة ، دعوة تناحر نفسها في حلّ ما يعذّر قبولها ، ويعذّر تقبلها.

ولو كان المن هنا يعم السكر الى الرزق الحسن ، منّا في شرعة الله ان تسمح للإخلال بالعقول التي بها تعقل فتقبل! إذا لاستحال نسخه بآية المائدة إمّا هيه ، فاصل المن بالسكر لا اصل له ، ولو كان ممنونا عليه فكيف يقبل نسخا معللا بانه (رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) فهل ان الرحمن يمن على عباده في برهة من الزمان بتحليله عمل الشيطان ، ثم يحرمه؟!

في الحق ان فرية التحليل سنادا الى آية السكر ام سواها ، هي نفسها من

٣٩٧

عمل الشيطان!. والحلّ ان هنا «تتخذون» لا يخص خطاب المؤمنين حتى يتخذ اتخاذهم منه سكرا ذريعة الى حلّه ، بل هو خطاب للمشركين ام كافة المكلفين ، ثم عرض لما يتخذون من ثمرات النخيل من رزق سيء كالسكر ، ام (رِزْقاً حَسَناً).

ثم واتخاذ بعض المؤمنين يومذاك منه سكرا لا يدل على حلّه حيث الايمان درجات ، وقد يقترف المؤمنون معاصي ومآسي صغيرة وكبيرة وحتى لمحة الإشراك بالله (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (١٢ : ٤٣) وهناك عشرات من الخطابات لمقترفي الذنوب وقد سمّوا فيها مؤمنين.

كما ولا تدل آية النساء على حلّ السّكر لمكان ذلك الخطاب : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) (٤ : ٤٣) وقد منعوا في هذه الحالة الرديئة عن الصلاة وهي عمود الدين ، فليكن السكر ـ إذا ـ عمودا ضد الدين.

ولقد حرمت الخمر منذ العهد المكي قبل النحل في الأعراف مهما كان كما في النساء طفيفا خفيفا ، فالحرمة هي الأصل من بداية الدعوة ، ثم في بيانها تدرجات الى ان تنتهي الى آية المائدة (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) إذ كانوا لا ينتهون مع تواتر النهي لتعودهم من ناحية وخفة النهي من اخرى ، فآية الأعراف تلمح تلميحة لطيفة الى حرمة طفيفة بصيغة مطلقة : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ) (٧ : ٣٣) والإثم هو ما يبطئ عن الصواب ، والسكر من أبطأ ما يبطئ عنه وكما في آية البقرة : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) (٢١٩) وقد حرم الإثم صغيرة وكبيرة في مكة قبل النحل ، فكيف يمن بالسكر في النحل؟ أمنّا بإثم حرمه ، وهو كبير كما بينه ، وهو رجس من عمل الشيطان كما في المائدة!.

٣٩٨

فالمكية الاولى في الأعراف تحرّم السكر ضمن تحريم الإثم ، والثانية في النحل تعتبره رزقا سيّئا ، ثم المدنية الاولى في البقرة تكبّر ائمه ، ثم الثانية في المائدة تجرفها جرفا محيقا سحيقا «فهل أنتم منهون»؟ وهنا بعد (سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً) ـ (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) وتراها آية لمن لا يعقل بسكره ، بل هي آية حين عقله ، ولكي ينتهي عنه.

إذا فالرواية القائلة انها منسوخة بآية المائدة (١) مأوّلة أو ممسوخة.

وقد تنص على حرمة الخمر آيات من التورات والإنجيل (٢) وشرعة الإسلام لم تنسخ ـ فيما نسخت منهما ـ حكم الخمر ، لأنها من المحرمات

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٦٣ في تفسير العياشي عن سعيد بن يسار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ان الله امر نوحا ان يحمل في السفينة من كل زوجين اثنين فحمل النخل والعجوة فكانا زوجا فلما نضب الماء امر الله نوحا ان يغرس الجبل وهي الكرم فأتاه إبليس فمنعه عن غرسها وأبى نوح إلا ان يغرسها وابى إبليس ان يدعه يغرسها وقال ليس لك ولا لأصحابك انما هي لي ولاصحابي فتنازعا ما سألته ثم انهما اصطلحا على ان جعل نوح لإبليس سهما ولنوح ثلثه وقد انزل الله لنبيه في كتابه ما قد قرأتموه (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً) فكان المسلمون بذلك ثم انزل الله آية التحريم (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ) ـ الى ـ (مُنْتَهُونَ) يا سعيد فهذه آية التحريم وهما نسخت الآية الأخرى.

أقول : والرواية على ما فيها من نسبة التقسيم الى نوح وهي غير صالحة لرسل الله ، هي مخالفة للآيات الثلاث مكية ومدنية ، النازلة قبل آية المائدة ، الا ان يعنى نسخ الحد الخفيف من تحريم الخمر لا اصل التحريم.

(٢) نقلناها كلها في تفسير آية المائدة وهي خمسة عشر آية ، اثنتان في الإنجيل (لوقا ١ : ١٥) (كتاب بولس الى افسيين ١٨) والباقية في التورات وهي (لاويين ١٠ : ٨ ـ ٩) (اشعياءه : ١١ ـ ١٢) و ٢٢ و ٢٨ : ١ و ٣ و ٧) (ناحوم ١ : ١٠ ـ ١٢) (هوشع ٤ : ١١ و ١٨) (أمثال سليمان ٢٠ : ١ و ٢ و ٢٣ : ١٩ ـ ٢٠ و ٢٩ ـ ٣٥ و ٣١ : ٤ ـ ٥) (حبقوق ٣ : ٥) (تثنية ٢١ : ٢١ ـ ٢٢).

٣٩٩

الاصلية كالواجبات الاصلية ولا تقبل النسخ في أية شرعة وعلى أية حال.

ثم (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ) عطف للجملة على الجملة السالفة «والأعناب» عطف على «ثمرات» دون «النخيل» فانها هي الثمرة دون النخيل ، و (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ) راجع الى البعض المعين من «من ثمرات».

والسكر ـ وهي مادة السّكر ـ محرم على اية حال ، سواء المتخذ من النخيل والأعناب وهو الكثير المتعود منه ، ام من غيرهما ، لأنه بنفسه رزق سيء أيا كان مصدره.

ومن السكر ان تأكل العنب لحدّ تسكر عند اهتضام الطعام ، ام في حرارة الشمس وسواها ، فكل ما يسكر بمادته او كثرته سكر فمحرم ، فمنه ما يحرم قليله وكثيره كسائر السكر ، ومنه ما يحرم كثيره حيث الكثرة تسكر ، كالعنب او التمر الكثير حيث يسكران في ظروف خاصة ، والمسكر أيا كان حرام خمرا وسواها.

وانما هو آية لقوم يعقلون ، حيث العقل هو العقال ، ففي عقال هذه الأرزاق المختلفة عن اصل واحدة يعقل ان المؤصّل والمفرّع له واحد ، خلقه هكذا باختيار قاصد دون صدفة عمياء او فوضاء.

فمختلف الأناسي الصادرين من مصدر واحد هو الإنسان الاوّل دليل القصد والارادة في الخلق ، عبرة للمبدء ، وعبرة للمصير ، نضدا لكل وليد عشير مع الآخرين ، ومتأصلا في اصل واحد ، فكما ان اللبن الخالص مع الدم يخرجان من بين الفرث ، فاللبن يخرج من بين فرث ودم ، كذلك السكر ورزق حسن يخرجان من ثمرات النخيل والأعناب ، فهما عشيران في ثمرات النخيل ثم الله يخرج حسنه من بين سيّئه ، كذلك الله يخرج اجزاء الإنسان الصالحة للحشر من بين الاجزاء الدخيلة الخليطة معها لتحقيق الثواب والعقاب بعد حق الحساب في المصير ، والله على كل شيء قدير.

٤٠٠