الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٦

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٦

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٤٤

حمل الأثقال! وهناك بلاد أبعد منه ، ثم وليست مكة بعيدة إلّا للنائين عنها ، و «كم» في «أثقالكم» تعم كل الناس ، الذين خلقوا من نطفة وخلقت لهم الأنعام! ولا سيما اهل مكة حيث السورة مكية فكيف لا تشمل أهلها ، وتخص النائين عنها!

«الى بلد» هي «الى مكة والمدينة وجميع البلدان» (١) للنائين عنها ، وقد تختص مكة من بينها مصداقا ل «بلد» لأنها أصدق مصاديق «بلد» دون البلوغ إليها فريضة على من استطاع إليها سبيلا ، فقد سهّل الله ـ فيما سهلّ ـ بالأنعام ، البلوغ الى هذا البلد ، والاكثرية الساحقة من المكلفين بعيدون عنها ، لا يبلغونها إلّا بشق الأنفس ، لو لا الرواحل الماشية ، ولأن قاصديها فرضا وندبا كثير فقصدها غير يسير إلّا بشق الأنفس حتى للقريبين منها ، ثم القاطنون فيها قلة أمام الكثير الكثير من قاصديها ، وهم لهم شق الأنفس حين يقصدون الحج في رحلات الى منى وعرفات ، فالسفرات الشاقة الى هذا البلد اكثر من غيرها وأشد عودا وعددا لفرضها او ندبها دون سواها.

و «أثقالكم» هنا تعم الراكبين عليها بأثقالهم التي يحملونها زادا لأسفارهم ، وشق الأنفس هي إنصافها من عظم المشقة وبعد الشّقة ، حيث الشّق هو احد قسمي الشيء ، وكأن الأنفس تنشق منقسمة إلى شقين ، ام تنشق عن الأبدان كأنها ميتة ، استعارة لطيفة لعظم المشقة وبعد الشّقة ، او انه المشقة نفسها حيث تنصب وتدأب لبلوغ ذلك البلد.

وهنا لمحة لامعة ان ركوب الأنعام ليست إلا للرّكوب وحمل أثقال في السير ، ام أكل غير مرغوب كما يستفاد من آيات حلّه عموما وإطلاقا ف «إياكم ان تتخذوا ظهور دوابكم منابر فان الله إنما سخرها لكم لتبلغوا الى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس ، وجعل لكم الأرض

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٤٠ عن تفسير القمي في الآية قال : الى مكة و...

٢٨١

فعليها فاقضوا حاجاتكم» (١) و «اركبوا هذه الدواب سالمة ودعوها سالمة ولا تتخذوها كراسي لأحاديثكم في الطرق والأسواق فرب مركوبة خير من راكبها واكثر ذكرا لله تعالى منه» (٢) أطوع (٣) فلا يجوز التحميل عليها فوق طاقتها ام فوق حاجتكم ، ولا ضربها إلا تقصيرا منها على قدره ولحد بلوغ الحاجة ، ولا إجاعتها وتعطيشها ولا اي ظلم بها وتعد عليها ، وانما لتبلغوا منها حاجة ميسورة غير معسرة لها ولا محرجة إياها ، بنفقة ميسورة محبورة ، وإراحة متعودة محتاجة هي إليها.

(إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ) بكم «رحيم» حيث سهّل لكم الحياة في كافة أصولها وفروعها.

أترى الشّرعة القرآنية الخالدة كيف تخص خطابها في هذه الرأفة والرحمة باصحاب الآبال والحمير والبغال ، ونحن نعيش منذ قرن وإلى يوم الدين رواحل بحرية وتحت البحرية ، وبرية وجوية غير حيوانية ، والنعمة فيها أتم وأعم وأنعم من الأنعام وقد مضى دورها؟.

هنا إضافة الى إجابة الآية التالية ، اتجاه الى الحاجة الأكثرية طول الزمان وعرض المكان ، وعلّ الرواحل المصطنعة تقضي نحبها بعد أمد بعد أداء دورها ، ثم وفي أدوارها ايضا نرى للأنعام دورا هاما ولا سيما للضعفاء في

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ١١١ ـ اخرج ابن مردوية والبيهقي في شعب الايمان عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : إياكم.

(٢) المصدر ـ اخرج احمد وابو يعلى والحاكم وصححه عن معاذ بن انس عن أبيه ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مر على قوم وهم وقوف على دواب لهم ورواحل فقال لهم اركبوا هذه الدواب ...

(٣) المصدر اخرج ابن أبي شيبة عن عطاء بن دينار قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا تتخذوا ظهور الدواب كراسي لاحاديثكم فرب راكب مركوبة هي خير منه وأطوع لله منه واكثر ذكرا

واخرج احمد والبيهقي عن أبي الدرداء عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : لو غفر لكم ما تأتون الى البهائم لغفر لكم كثير.

٢٨٢

حمل الأثقال برا ، وليست الآية بصدد عرض كافة الحوامل ، إلا البرية وهي الاكثرية ، وأكثرها فيها هي الانعام ، ولا عطلة فيها على مرّ الزمن مهما تعطلت المركبات الصناعية بغور البترول اماهيه من حمولاتها.

(وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ)(٨).

«و» خلق «الخيل ...» (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ)؟

لقد «خلق» الانعام دفئا وأكلا ومنافع وجمالا وحملا للأثقال ، «و» خلق (الْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) وهي الانعام التي تخص بأنها حمولة وفرش ، وليست للأكل ، مهما حلت له بدليل آية حل الأنعام ككل إلّا ما يتلى : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) (٥ : ١) وليست هذه الثلاث مما يتلى علينا! ولا تصلح «لتركبوها» هنا ، و (حَمُولَةً وَفَرْشاً) في : (٦ : ١٤٢) و (جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ) (٤٠ : ٧٩) لا تصلح بيانا لما يستثنى عن محلّلة الأنعام ، حيث الحمولة والفرش من الأنعام هي التي يستفاد منها هكذا مهما حل أكلها ، وكذلك الأكل هي التي تؤكل مهما حل جعلها حمولة وفرشا كالإبل والبقر ، ولا تصلح دليلا لحرمة الأكل إن خصّت الأنعام بالثلاث ، وقد يؤوّل نهي النبي (ص) ـ ان صح عنه ـ عن لحوم الخيل والبغال والحمير (١) الى الكراهية

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ١١١ ـ اخرج ابو عبيد وابو داود والنسائي وابن المنذر عن خالد بن الوليد قال : نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن أكل كل ذي ناب من السباع وعن لحوم الخيل والبغال والحمير.

وفيه عن جابر بن عبد الله قال طعمنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لحوم الخيل ونهانا عن لحوم الحمر الاهلية ،

أقول : والخيل والحمير في الآية في سياق واحد حلا او حرمة فلا يفرق بينهما الا في مراتب الكراهية. وعن جابر في نقل آخر انهم ذبحوا يوم خيبر الحمير والبغال والخيل فنهاهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الحمير والبغال ولم ينههم عن الخيل.

٢٨٣

المصطلحة دون الحرمة ، وقرينة السياق لا تعارض صريح القرآن ، والسنة لا تنسخ الكتاب.

او يقال «نهى» ليس إلا قولة الراوي ، واما كيف نهى هنا وهناك فغير واضح ، والفارق هو الكتاب والسنة.

ولان ذكر هذه الثلاث بعد عموم الأنعام ، ذكر للخاص بعد العام ، فقد تختص من بينها بالركوب والزينة كفائدة زائدة على الأكل وسواه من منافع ، وكراهية أكلها على حليته مستفادة من عدم ذكرها في عداد الأنعام التي تؤكل ، مهما أدمجت في عموم (الْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ) (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) ولم يتل هناك ولا في غيرها حرمة هذه الثلاثة ، وقد تلي هنا حرمة عرضية (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) و (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) مما يبرهن أن لو كان هناك محرم ذاتيا لتلي علينا.

__________________

أقول وعلّ الكراهية في هذه الثلاث ، اضافة الى مصلحيات صحية ، هي لأنها أصلح للحمل من الاكل ، ففيما يستفاد منها للحمل لا تؤكل لأنه إسراف.

وفي نور الثقلين ٣ : ٤١ عن تفسير العياشي عن زرارة عن أحدهما عليهما السلام قال : سألته عن أبوال الخيل والبغال والحمير؟ قال : فكرهها ، فقلت : ا ليس لحمها حلال؟ قال فقال : أليس قد بين الله لكم (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ) وقال في الخيل : (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) فجعل الاكل من الانعام التي قص الله في الكتاب وجعل للركوب الخيل والبغال والحمير وليس لحومها بحرام ولكن الناس عافوها.

وفي تفسير البرهان ٢ : ٣٦١ ـ الشيخ في التهذيب باسناده عن احمد بن محمد عن محمد بن الخالد عن قاسم بن عروة عن ابن بكير عن زرارة عن أحدهما في أبوال الدواب تصيب الثوب فكرهه فقلت أليس لحومها حلالا؟ قال : بلى ولكن ليس مما جعله الله للأكل.

٢٨٤

وطبعا شرط سائر مبرراته ومنها عدم الإسراف ، فالفرس الرّكوب الذي يسوى ـ مثلا ـ الف دينار ، وهنالك من الغنم بوزنه يسوى مائة دينار ، ولحم الغنم أشهى واطعم من الفرس ، هناك يحرم لحم هذا الفرس لأنه من السرف المنهي ، لا لأنه فرس!. ومن ثم ف «ليس جعله الله للأكل» (١) فلا يؤكل إلّا عند الحاجة او عدم السرف.

ثم (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) تعقيب عجيب للأنعام اكلا وحمولة وفرشا ، ليظل المجال مفتوحا في التصور البشري لتقبّل أنماط جديدة من الركوب والزينة ، ولكي يجدّوا السير في اصطناعها حسب المستطاع كما جدّوا ووجدوا جددا من وسائل السير برية وبحرية وجوية ، ما تحير العقول ، ولقد جدّت لحد الآن وسائل حديثة ما كان ليعلمها أهل ذلك الزمان ، وستجدّ وسائل اخرى هي أحدث وأرقى لا نعلمها نحن ، والقرآن يهيئ لكل جديد وجديد القلوب والأذهان ، لمستقبلات الزمان ، بجملة جميلة دون مجاملة (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ).

لا تقل ان هذه المصطنعات ليست من خلق الله ، فان المخترعين والمكتشفين أيا كانوا وأيّان ، هم ـ بعلومهم وأفكارهم وكل وسائلهم ـ من خلق الله ، وخلقهم ـ لو صح التعبير ـ هو من خلق الله ، مهما كان لهم حول وقوة لاستقبال كل ما تتمّخض عنه العلم والقدرة ، فان كل ذلك من خلق الله!.

فذلك إنباء عام عن كل ما يستجد من وسائل النقل دون إبقاء ، فان «يخلق» تحلّق على كل زمان ومكان ، و (ما لا تَعْلَمُونَ) يشمل كافة المجاهيل زمن نزول القرآن من مركبات وآليات مستحدثة بعدها الى يوم

__________________

(١) مضت روايته آخر ما أوردناه تحت الرقم (١) قبل صفحة.

٢٨٥

الدين. و «يخلق» هنا يعم كل خلق «لا يعلمون» سواء ما لن يعلمه انسان على طول الخط كالمركبة المعراجية التي عرجت بالرسول الى أعلى الآفاق السماوية ، واضرابها من اسباب السماء.

و (لِما لا يَعْلَمُونَ) زمن نزول القرآن الى زمن اختراع الآليات والمركبات الحديثة البترولية والكهربية ام والذّرية أماهيه.

و (لِما لا يَعْلَمُونَ) في كل زمن عما يستقبلهم من مخترعات جديدة.

الخلق يعم خلق المادة المخلوق منها البعض من هذه المركبات ، ام خلق تركيباتها كالبخار والكهرب والجزئيات بذراتها ، في كل تطوراتها الحديثة على ضوء تقدم العلم ، تشملها كلها (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) ما للإنسان فيه صنع ام لا صنع له فيه ، فكل من خلق الله ، فيا ربنا انا علمنا بما علمتنا ما لم نكن نعلمه من عجائب الكهربات والجزئيات والذرات ، خزنتها لنا ونحن في طفولة العلم ، ولما بلغتنا الى رجولته وترعرع نوع الإنسان ، كشفت لنا عن خزانتك وحملتنا عليها في البر والبحر والفضاء.

اللهم اننا بعد أطفال جهال لا نزال نستقبل جددا برحمتك ، فكما ارتقت مدينتها المادية بنبوغ العقل ونبوع العلم ، فنتائج لهما قامت مقام الدواب ، فعلّمنا ما نرتقي به الى عوالم روحية راقية لنقوم مقام الملائكة فتكشف لنا اسباب السماء كما كشفت اسباب الأرض.

اجل وان شرعة القرآن مشرعة مفتوحة مرنة قابلة لاستقبال طاقات الحياة ومقدراتها كلها ، فهي تحضّر الإنسان بكافة الحضارات التي تتطلبها هذه الطاقات ، شرعة حضارية تمشي مع الزمن ، وتمشّي أهل الزمن ، وليجدّ الركب الانساني مسيره الى مصيره ماديا ومعنويا على قرار القرآن وغراره ، دونما وقفة عن الحراك ، ولا ان يغلب في العراك.

وترى (يَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) تختص بخلق المركبات الحديثة ـ فقط ـ بدلا

٢٨٦

عن حمولة الدواب وفرشها؟ والعطف عام يحلّق على كل ما يصلح معطوفا عليه من خلق السماوات والأرض ، وخلق الإنسان من نطفة ، وخلق الانعام دفئا ومنافع وأكلا وجمالا وحمولة ، فقد يخلق الله سماوات جديدة وأرضا جديدة بعد القيامة الكبرى ، ثم وإنسانا جديدا ، أهو هذا الإنسان حيث يحيى بحياة جديدة على غرار النطفة التي خلق منها أول مرة ، ام وانسان آخر يخلق كما خلقنا ، ويعيش كما عشنا أم سواها ثم تقوم قيامته كما قامت قيامتنا؟ اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ)!.

ومن ثم أنعاما جددا بحذافيرها ، وأبدالا من الانعام في كل معطياتها ، فالدفئ الذي كان من جلود الانعام واشعارها وأوبارها واوراثها ، يحصل من الكهرب الذي ينوب منا بها ، وكذلك سائر منافعها ، فترى الكهرباء سببا لظهور الازهار بسرعة هائلة ، ولكثرة البيض بتغذية الدجاج ليلا على ضوئها ، ثم ونورها مدهش وجميل فهي زينة بعد التدفئة والأكل.

أجل ، وكل المنافع العائدة من الأنعام ، المعلومة لدينا ، تضاف إليها منافع زائدة من خلفاء الأنعام ، المجهولة عندنا أيا كنا وأيان ، وفي أي زمان ومكان ، فإن «لا تعلمون» تعم كل إنسان أم جان أم أيا كان من كائن يصح خطابه.

وعلى أية حال ف (يَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) تحمل بطياتها كلمّا يحصل من جديد في الاستقبال ، من كافة صنوف المخترعات التي هي في مستوى علم الإنسان ، وما ترتفع عن مستواه من سائر الأسباب الارضية وفوق الارضية ، وقد سخر بعضا منها للأخصين من عباده الصالحين كذي القرنين ، وسليمان وداود وصاحب الأمر (ع) وسائر المعصومين ، ووليهم الاولى بها الرسول الأقدس محمد (ص).

(وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ)(٩).

«منها» تعني من السبيل مؤنثا ، فلما ذا «جائر» مذكرا؟ عله اعتبارا

٢٨٧

بالبعض المستفاد من «منها» و «السبيل» جاءت في سائر القرآن بمختلف صيغها (١٧٥) مرة هي في عشر منها بصيغة الجمع وفي سائرها مفرد ، ولكن الصراط لم يأت إلّا مفردا مما يدل على وحدته وكثرتها ، فمن السبيل سبيل الله وهي أكثرها ذكرا سبيلا قاصدا ، ومنها سبيل الطاغوت وهي الجائر ، وقد تلمح «جائر» مذكرا والسبيل تؤنث في «منها» انها ذات وجهين ذكورة وأنوثة ، والوجهان مذكوران في آيات عدة ، ف (لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً) (٣ : ٩٩) (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً) (٧ : ٤٥) هما واضرابهما في وجه الأنوثة ، ثم (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) (١٧ : ١٤٦) (وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) (١٥ : ٧٦) هما آخران في وجه الذكورة ، والوجهان وجيهان سنادا الى مجيئهما في القرآن.

والسبل منها قاصدة الى الله ومنها جائرة تفرّق عن سبيل الله : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) (٦ : ١٣).

وقد «كتب ـ الله ـ على نفسه الرحمة» ومنها (قَصْدُ السَّبِيلِ) تشريعا وتكوينا ، في الآفاق وفي الأنفس ، ولكنها في كلّ أبعادها تخيير لا تسيير (وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) تسييرا على سبيله القاصدة غير القاسطة الساقطة : (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) (٣٢ : ١٣).

و (قَصْدُ السَّبِيلِ) قد تعني المصدر ، فعلى الله نفسه قصد السبيل ، وهي بطبيعة الحال السبيل المستقيم والى الصراط ، او تعني الفاعل صفة مضافة الى موصوفها : «السبيل القاصدة» للحقّ (وَمِنْها جائِرٌ) حيث لا تقصد الحق ، والمعنيان ـ علهما ـ معنيّان تعنيان «وعلى الله قصد السبيل القاصد» قصدا انفسيا وآفاقيا الى الصراط المستقيم.

فالسبيل الى الصراط المستقيم هي سبيل قيّمة مستقيمة إلى الله ، وهي

٢٨٨

السبيل الى صراط الانسانية الكاملة ومتطلباتها على ضوء الوحي بصورة شاملة وكما عرضنا في (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ).

ثم السبيل على مصدرية القصد هي سبيل الله ، وهي مرجعا لضمير «منها» أعم منها استخداما ، وعلى فاعليتها هي مطلقها دون استخدام الضمير «ها» فانها السبيل القاصد ، مرجعا لها دون وصفها.

و (قَصْدُ السَّبِيلِ) هو سبيل الله ، وهو سبيل صالح الإنسان في كل أدواره الحيوية الصالحة ، ليصنع نفسه كما يرضاه الله ، وليتقرب الى الله زلفى ، دون وصول إلى الله ، أم اتصال بالله ، فضلا عن الاتحاد مع الله كقالة بعض المتصوفة القائلة : «أنا هو وهو أنا»!.

وكيف تكون السبيل جائرا وصاحبها هو الضال نفسه حيث ينحرف عن سبيل الله ، وينجرف إلى سبيل الطاغوت ، وجار عن الطريق تعني ضل عن نهجه وخرج عن سمته؟ ان السبيل الجائر هو سبيل الشيطان ، المتخلف عن سبيل الرحمن ، فالجائر يقصد السبيل الجائر المائر الحائر ، والسائر إلى الله يقصد القاصد غير المائر والحائر ، فلذلك (وَمِنْها جائِرٌ) كما منها غير جائر وهو قصد السبيل.

فالفطرة التي فطر الناس عليها هي من قصد السبيل ، وسترها عما هي وما تقتضيه هو من جائرها ، والعقل من قصدها ، والهوى المتغلبة على العقل من جائرها ، ف «إنارة العقل مكسوف بطوع الهوى».

والشرعة الإلهية من قصدها ، والشرعة غير الإلهية من جائرها.

والإبصار بالدنيا الى ما وراءها هو من قصدها ، والإبصار إليها من جائرها وعلى حدّ

قول الامام علي (ع) في صفة الدنيا «من أبصر بها بصرته ومن أبصر إليها أعمته».

٢٨٩

ف (عَلَى اللهِ) كما كتب على نفسه (قَصْدُ السَّبِيلِ) تكوينا وتشريعا (فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)!.

وترى ما هي الصلة بين آية قصد السبيل والتي قبلها من خلق السماوات والأرض والإنسان والأنعام؟.

علها انهما تبينان ظاهر السبيل وباطنها وهما سبيلان في حياة الإنسان ، بهما يتكامل في بعدية الجسداني والروحاني.

فكما ان الله خلق السماوات والأرض والإنسان والانعام ، وليجتاز الإنسان في فسيح الكون مسافات (إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ). كذلك خلق الفطرة والعقل ، وشرّع الشرع لاجتياز العقبات الكئودة الى الله (إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) بل ولا بشق الأنفس ، وهي البلدة الانسانية الروحانية ، والربانية ، فلو لا قصد السبيل على الله ، وجعلها من الله ، لم يكن للإنسان سبيل الى الله ، وانما قصد السبيل على الله دون جائر السبيل ، إذ ليس جائرها إلّا خروجا عن قصدها ، وليس ذلك الخروج مجعولا كأصل وجاه قصد السبيل ، فانما هو تخلّف عن الأصل!

وأما آيات الإزاغة والإضلال والختم ، فانها لا تدل على أن جائر السبيل أصل أولي كقاصدها حتى تكون على الله كما القاصد ، وانما الجائر فيها جزاء وفاق كأصل ثانوي : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) واما القصد فليس جزاء للقاصدين ، بل هو يعم كافة المكلفين فطرة وعقلية وشرعة ، ف (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) إذا فقصد السبيل أصل هو قضية الفضل ، وجائرها الجزاء الوفاق فرع هو قضية العدل ، واين عدل من فضل وفرع من اصل؟.

٢٩٠

فالهدى الأولية اصل ثابت تعم كل شيء : (الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) (٢٠ : ٥٠) ومن الهدى بيان الحق عن الضلال تعريفا بهما لكي يكون السالك على بصيرة من أمره : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) (٩٠ : ١٠) (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها. فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) (٩١ : ٨) إلهاما بلا إلمام إلّا في تقواها ، فهو الهام التعريف بهما.

ولأن قصد السبيل هو مما كتب الله تعالى على نفسه من الرحمة ، وقصد الجائر هو خلاف الرحمة ، فلم يدخل هو في قصده إلا ثانويا إذا استحقه الجائر ، جزاء بما جار ، وانه ليس في المرحلة الثانوية إلّا هاديا لمن اهتدى أو مضلا لمن ضل ، وأما أن يهدي من ضل تسييرا فذلك خلاف الرحمة على المهتدين وخلاف الحكمة للضالين!.

ولماذا هناك (قَصْدُ السَّبِيلِ) مصدرا ، وهنا «جائر» فاعلا؟ لان المصدر ادل على المبالغة ، مهما دل عليها جائر السبيل بسبيل ادنى ، وان «قصد» قد يعنى منه اضافة الى فاعله ، إضافة الى فاعله : السبيل القاصد ، يعني فعل القصد من الله ، وكأنه لا فعل له إلّا قصد السبيل ليسلكها العالمون.

إذا فعلى الله قاصد السبيل ، وقصد ذلك السبيل ، تقريرا للسبيل القاصد ، وعناية الى قاصدها ليقصدها كما يحق ويصح.

ولان (عَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) قد يخيّل الى جماعة انه تسيير ، والى آخرين ان الاكثرية الساحقة غير السالكة سبيله القاصد متغلّبون على قصد السبيل وقد كتبها الله على نفسه ، لذلك يذيّلها بما يزيل هذه وتلك (وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) بيانا أن (عَلَى اللهِ) لا يعني الإرادة التكوينية والتسيير ، بل ما يلائم الإختيار دون ان يغلب الله على أمره.

فمن المستحيل في الحكمة الربوبية ان يشاء هدى المكلفين دون اختيار

٢٩١

(وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) دون ان يفلت اي فالت ، او ان يلفت الى غير القاصد اي لافت.

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(١١).

الماء نعمة بالغة فائقة ، ولا سيما النازل من السماء ، وكل مياه الأرض في الأصل هي من السماء ، و «أنزل» هنا دون «ينزل» قد تعني ذلك النزول الاوّل : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) (٢٣ : ١٨) مهما يستمر على طول الخط بعد الاوّل في تبخّرات الى السماء ثم سحاب ثم ترى الودق يخرج من خلاله ، وماء السماء «منه شراب» يصلح له لكل شارب إنسانا وحيوانا (وَمِنْهُ شَجَرٌ) وهو هنا كل متشجر من نابتات الأرض ، الشامل لغير ذي ساق قائم بنفسه حيث (فِيهِ تُسِيمُونَ) رعيا للمواشي ، فانه الاكثرية الساحقة من أكلها ، دون ذي السوق القائمة ، اللهم إلّا أوراقها.

فليس الشجر ـ فقط ـ ذا الساق القائم ، بل كل نابت كما هنا ، ام هو غير ذي ساق كما في (وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ) (٣٧ : ١٤١) فالقول انه ـ فقط ـ ذو الساق خلاف المستفاد من شجر القرآن.

ثم هناك (شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ) أنعامكم كالعشب وأوراق الأشجار ، وهنا شجر فيه تسيمون أنفسكم كالزرع وسائر الخضروات والثمرات.

«ينبت» الله (لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ) كلما يزرع (وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ) كأفضل ما يزرع (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) النابتة من الأرض (إِنَّ فِي

٢٩٢

ذلِكَ) الإنبات الإحياء «لآية» على إمكانية الإحياء بعد الممات (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) كيف ظهرت الحياة من اجتماع عدة ميتات ماء وأرضا وحبات ، فليكن كذلك وبأحرى إحياء الأموات يوم القيامة ، حيث الإحياء هنا فضل غير مفروض ، وهو هناك عدل مفروض وكما فيه آية على المبدء الواحد القاصد المختار بدليل مختلف الخلق ، المنسجم بعضه مع بعض ، فالمادة غير العاقلة لا تصدر منها إلّا واحدة ـ لو صح الصدور ـ والآلهة المتعددة لا تأتي إلّا بخلائق متفاوتة «سبحان الخلاق العظيم»!.

(وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(١٢).

«سخر لكم» هو جعل الليل والنهار والشمس والقمر ملبية لحاجيات إنسان الأرض ، مهما كان فيها منافع لما في السماء ومن فيها ، وهذه الأربع ذوات آثار حاسمة في الحياة الارضية ، فكل دون قرينه لا تلبيّ الحاجة كما تجب ، ام وتعسّر الحياة او تحيلها.

ولماذا «سخر لكم» دون النجوم فانها (مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ) هنا وفي الأعراف (٥٤)؟ بفارق ان «مسخرات» هنا مرفوعة وهناك منصوبة؟ علّه لان غالبية انتفاعات النجوم ككل هي لسائر الخلق ، مهما كانت لنا نافعة ، كما (جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي (١) ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) (٦ : ٩٧) ف (النُّجُومُ مُسَخَّراتٌ) معطوفة جملة على الجملة السابقة.

فمن النجوم ما لا تنالها العيون المسلحة فضلا عن المجردة ، فضلا عن ان نهتدي بها في ظلمات البر والبحر ام اية عائدة منهما ، اللهم إلّا بعيدة غير مشهودة.

ولأنها كلها مع الأربع الاولى ، مسخرات بأمره وتدبيره ، كما هي

٢٩٣

كائنات بخلقه (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) فليست لتتفلت عن أمره او تتلفت الى غير امره ، فهي منضّده منظّمة كما امر الله ، منساقة الى ما ساقها الله ، فهي إذا من آيات الله كونا وكيانا وتوحيدا لله (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ).

(وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ)(١٣).

الذرء هو اظهار المبدء : (وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (٢٣ : ٧٩) (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (٤٢ : ١١) وسخر لكم «ما ذرأ» واظهر (لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) ذرأ للزرع والضرع وسواهما من ألوان المعادن وسائر المركبات العنصرية ، وأصلها واحد كما عرفه العلم اليوم فهو ذرء لمختلف الألوان ذريا وجزئيّا وعنصريا وألوانا اخرى : (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) (١٣ : ٤)(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) «يذكرون» بذكريات علمية وعقلية ، فمختلف الألوان لا يذرأ من اصل واحد ولون فارد إلّا بمختلف ألوان الذرء بمختلف القصد والاختيار.

فالأصل واحد في الظاهر وهو المادة الأرضية ، وواحد في الواقع علميا حيث العناصر والجزئيات والذرات المختلفة ترجع الى شحنة موجبة (بروتون) واخرى سالبة (الكترون) ام وثالثة او رابعة خنثى (نيوترون) (بوزيترون) أما ذا؟ وهذه ايضا ترجع الى المادة الفردة الأمّ!.

عجائب الألوان فيما ذرأ في الأرض وإليكم مثالا دقيقا لمختلف الألوان في خلق واحد: فراشة أبي دقيق : فأجنحة الواحدة منها تبلغ مساحتها (١٥) بوصة وقد رسمت في هذه الساحة

٢٩٤

الصغيرة بيوت متجاورة صغيرة بشكل هندسي منتظم ، وتلك البيوت تبلغ في بوصة واحدة مربعة (٩٩) الف بيت ، لأنها (١٦٥) صفا وكل صف فيه (٦٠٠) بيت ، إذا فجميع البيوت المنظمة في أجنحة الفراشة تبلغ ٠٠٠ ، ٥٠٠ ، ١ بيت وهي عبارة عن مخازن كل مخزن فيه كيس مختوم ، وهو إما مملوء هواء او مادة ملونة ، والملونة متى وقعت عليها الشمس ظهرت لنا بصورة بديعة تسر الناظرين ، والهواء المحبوس في الكيس هو الذي يعكس ما تراه في الحشرة إذ ترى زرقة وبياضا وصفرة بانتظام ، سبحان الخالق الملك العلام! (١).

وترى لماذا ذلك النظام الهام وتلك المواد الملونة والهواء ، الذي ملئت به تلك الحقائب البالغة ٠٠٠ ، ٥٠٠ و ١؟ كل ذلك لأمور منها حفظ الفراشة من اعدائها ، فإذا رأت مهاجما عليها ضمت أجنحتها ووقفت على زهرة فصارت تشبهها فتلتبس بها فتحفظ من العدو!

ولما ذا ذلك الحفظ البالغ؟ لأمور منها ان تعيش على ورق قطنا وتمتع في قصور ونور فيخسر الزارعون وهي الجانية الكاسبة!

فما اعجب ذلك الصنع البارع البديع ، هواء محبوس يعكس الضوء ، ومادة ملونة تظهر بنور الشمس ، سبحان الخلاق العليم الحكيم.

كما وانك ترى هذه البيوت على نوعين ، بيوت فيها مادة ملونة ، واخرى هواء يقوم مقام الزجاج ، وفراشتها كذلك نوعان ، قسم يعيش في البرازيل زاهي اللون وبديعه ، قد اعطي مادة بشعة الطعم منتنة الريح تفرزها الفراشة على مهاجميها فترتد عنها ، وقسم آخر لم يعط هذه المادة ، يسمى الاول الملك والثاني نائب الملك ، فالأول تخافه أعداءه لتلك المادة ، والثاني لمشابهته الاول في لونه ، فتظن الطيور انها هيه.

__________________

(١) للعالم الامريكي (فرنن كلوح) البيولوجي ـ لألوان حشرة أبي دقيق.

٢٩٥

فإذ قد نرى بعيون مسلحة في فراشه واحدة صنوف الألوان وألوان الصنوف ، فكيف ترى ـ إذا ـ ذلك الكون الشاسع العظيم ، سبحان الخلاق العظيم!.

وفي مختلف الألوان اضافة الى ألوان من هذه الحكم ، ونضارة المنظر ، ألوان اخرى من فوائد طبية وسواها.

فهل خطر ببالك يوما مّا ان لون الزرقة كلون السماء والبحر الملح يقويك إذا كنت نحيف الجسم او في دور النقاهة؟!

او ان اللون البنفسجي يمنع عنك الأرق والسهر فتنام! او ان لون الصفرة منشّط منبّه كما (إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ)!

وهو يفيد اصحاب الماليخوليا ، ويهدئ الأعصاب ويلطّف ثورتها ما لم يكثر استعماله فيعاكس الأثر!

او ان لون الحمرة يحدث تخديرا بتكرار النظر كما تفعل المواد المخدرة.

وانها تزيد المجنون جنة ويهيّجه كما يحصل لثيران اسبانيا في صراعها!

او ان المجنون إذا كان في غرفة زرقاء ، هدأت أعصابه! وان البائس اليائس إذا داوم النظر الى الحمرة زالت علته!.

او ان الزكمة والشلل وبعض الأمراض المزمنة تخف آلامها بالنظر الى الصفرة! وان المحموم يستضر بها! وان اللون البرتقالي منبّه! والخضرة تهدئ الأعصاب.

ان الأطباء في بضع السنين الماضية قاموا بتجارب لاختيار تأثير العلاج بالألوان ، واوّل من أشار بمعالجة الألوان الدكتور (ادوين دابت) من أطباء (نيوجرسي) بامريكا ، وقد الف كتابا بشأنه طبع في أواخر القرن (١٩) وما فيه : ان اللون كالموسيقى يؤثر في المجموع العصبي تأثيرا عظيما يظهر اثره جليا في علاج الاصطدامات العصبية والنورستانيا والسوداء ،

٢٩٦

كذلك ويؤثر في العقل ثم ينشأ عنه ردة فعل في المجموع العصبي على سبيل أشبه بالاستهواء او الإيحاء ، والثابت الآن ان اللون الأزرق يفيد في تقوية الضعاف في طور النقاهة ، والبنفسجي خاصته الشفاء ويفيد في علاج الأرق.

إن الإفراط في النظر الى اللون الأحمر قد يفسد التوازن العقلي كما ذكر الدكتور رابت إن المجانين والمصابين بامراض عقلية إذا وضعوا في غرفة حمراء ساءت حالهم بسرعة ، وبالعكس إذا وضعوا في غرفة زرقاء هدأت حالهم ، وقد استعمل الدكتور (بونزا) مدير مستشفى المجانين بمدينة (اليساندريا ببيد مونتي) غرفة حمراء لبعض المصابين بحالات اليأس فكانت النتيجة مدعاة الى الارتياح.

واستعمل اللون الأصفر في معالجة الزكام والشلل وبعض الأمراض المزمنة فخفت كثيرا ، وقد ثبت انه مضر بالحميات وقد يؤدي لهم الى الالتهاب والبحران ، واما المصابون بالجنون فقد أفادهم كثيرا خلاف الأحمر.

واللون البرتقالي هو من الألوان المنبهة ، واللونان : القاني والبنفسجي الفاتح هما من الألوان الملطفة للأعصاب ، والأخضر مهدئ للاضطرابات العصبية كالمخدّرات ، وذكر الدكتور (بونزا) تجارب أجراها بغرف ملونة فقال : انه وضع رجلا مصابا بالماليخوليا والعبوسة وقلة الكلام في غرفة حمراء ، فبعد ثلاث ساعات أصبح الرجل طروبا ضحوكا ، ووضع عليلا آخر كان يرفض الأكل وقد نحل جسمه ، فبعد اربع وعشرين ساعة نشأت فيه شهوة الطعام ورجع الى حالة طبيعية.

ويؤخذ من تقارير مستشفى (لندن) أن العلاج بالألوان قد جاءت بفائدة عظيمة جسيمة في الأمراض المختلفة ، وان الألوان : الأصفر ـ القرنفلي ـ الوردي ـ الأزرق السماوي ـ الأخضر ـ والبنفسجي بنوعيه القاتم

٢٩٧

والفاتح ، هي أهم الألوان العلاجية.

وذكر الدكتور (رابت) ان الأزرق هو أهم الألوان في علاج اضطرابات العقل والاعصاب ، وان عامة الألوان تؤثر في الرجال اكثر من النساء ، وان الحيوانات تتأثر كثيرا باللون القرمزي ، والأصفر الفاتح ، والأخضر الطبيعي ، وان الطيور تتأثر باللون الأخضر ، والحيّات باللون الأصفر لحد يستهويها ويسقطها في شبه سبات مغناطيسي ، وان اللونين : الأزرق الباهت والأخضر الباهت يلطّفان أعصاب الطفل المتهيج ، وان تسعة وتسعين في المائة من الناس بحاجة الى اللون الوردي (١).

***

وترى ما هو الفارق بين هذه الصنوف الثلاثة من الآيات حيث فرق بين اقوامها ب «يتفكرون ويعقلون ويذكرون»؟.

علّه لان الحجة الاولى تحمل ما يكفي في انتاجها مطلق التفكر ، دون إمعان زائد إلّا نضد المبادئ ومن المبادئ الى المراد ، والفكر حركة من المبادئ ومن المبادئ الى المراد.

ولكنما الحجة الثانية بحاجة الى تفكير زائد وعقل رائد ومقدمات علمية سائدة ، غورا في أغوار العلويات ، في تسخّر الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم المسخرات.

والحجة الثالثة بحاجة الى مقدمات علمية واخرى فلسفية ، استبطانا لمختلف ألوان الكائنات انها ترجع الى لون واحد ومادة فردة اولى ، فاستنباطا من اختلاف الألوان ان هناك تصميما واختيارا وانتخابا ، فليكن الخالق مريدا حكيما مختارا ، ومن وحدة النضج وتلائم النسج أن المصمّم واحد لا شريك له ، وفي هذه الثلاث استجاشة لإعمال الفكر والعقل والعلم ، وليكن نعرف

__________________

(١) كل ذلك ينقله الشيخ الطنطاوي في جواهره : ٨ : ١١٠ ـ ١١٤ عمن ذكرناهم ، اختصرنا منه ما يهمنا هنا.

٢٩٨

مبدء الكون ومسيره ومصيره ، فنكون على بصيرة من أمرنا في الحياة كل الحياة.

(وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(١٤).

(وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٣٥ : ١٢).

فالبحر هناك كما هنا يعم العذب الفرات والملح الأجاج ، سخره الله لمن سخر ومنهم نحن الآكلون منه لحما طريا .. إذ لم يأت هنا «لكم» وانما «لتأكلوا ..» مما يلمح انه مسخر لجموع منهم نحن الناس ، فالبحر مسخر لحيوانه ، ولجنّه كما لإنسانه امّن هو من المسخّر لهم ، غير المذكورين هنا.

و «لتأكلوا» هنا كغاية اولى لتسخير البحر ، ضابطة عامة لحل كل لحم في البحر طري ، من انواع الأسماك والحيتان وسواها من ذوات اللحم ، فإذا ثبت بكتاب او سنة استثناء لحم من حلّه استحرمناه ، وإذا ثبت حلّ شيء منه بنص كالاسماك ذوات الأفلاس والروبيان استحللناه ، وإذا ترددنا في ثالث حلا وحرمة أبقيناه في عموم الحلّ سنادا الى ضابطة (لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا) اضافة الى قاعدة الحل المستفادة من مثل (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) (٢ : ٢٩) فالكلب والخنزير وكافة السباع البحرية محرمة كالبرية للنصوص المطلقة فيها الشاملة لهما ، كما تحرم غير ذوات الأفلاس من الأسماك حسب النص الخاص ، فإذا ترددنا في سمك ليس له فلس بالفعل انه في الأصل من ذوات الأفلاس حتى تحل ، ام غيرها حتى تحرم ، كالخاويار ، حللناها تمسكا بإطلاق الحلّ ، حيث الثابتة حرمتها منها هي فقط غير ذوات

٢٩٩

الأفلاس في الأصل ، وهذا مشكوك باق تحت رحمة الإطلاق.

وكذلك الأمر في (وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) كاللؤلؤ والمرجان : (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ. بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ .. يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٥٥ : ٢٣) فلا يختص بحلّ شيء منها ، ام بحرمة لرجال ام نساء على كل حال ام في بعض الأحوال ، إلّا بدليل قاطع يستثنى من ضابطة الحل هذه وهنا (تَلْبَسُونَها) نص في حل لبسها للرجال حيث اللابس هنا هو المستخرج ، والمستخرج الغائص هو الرجل في الاكثرية الساحقة ، فهو اللابس مهما تلبسها النساء وباحرى ، فإنهن خلقن للحلية كما الحلية مخلوقة لهن في أصلها ، ولا ينافي ذلك الأصل حلية الحلية لقبيل الرجال اللهم إلّا بدليل قاطع من كتاب او سنة قطعية ، كما وردت في حرمة التزين للقبيلين حالة الإحرام

فهنا كضابطة عامة : لا شكّ في حليّة لبس الحلية للرجال كما للنساء ـ بحرية ام بريّة ـ إلّا ما نص على تحريمه للرجال ، ام وللنساء كما في الإحرام.

هنا يذكر من نعم البحر اربع : اكلا داخرا ولبسا فاخرا ، ثم جمالا باهرا «مواخر فيه ـ فيه مواخر» وهي شقوق الأمواج في خضمّ البحر الملتطم الحاصلة من جري الفلك والتطام البحر حيث المخر هو الشق ، ويا لها من جمال رائع ومنظر بارع ، نضرة للناظرين ، وفرحة للمسافرين ، وبصورة عامة كنعمة رابعة رائعة تشمل كلّ نعم البحر لنا : (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) ماديا ومعنويا ، ومن ثم (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) نعمة ربكم الموهوبة المحبوة لكم في البحر نفسه ، وفي حمل أثقالكم عليه.

وفي توصيف لحم البحر بالطري تفضيل لطري اللحم وطازجه على سواه ، بحريا ام بريا ، وهكذا يراه علم الصحة ، ان في طازج اللحم فائدة خاصة ليست في بائته أو جامده.

٣٠٠