الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٦

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٦

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٤٤

فلحم البحر من أفضل اللحم فكيف يفتي انه ليس من اللحم خلافا لنص القرآن(١)؟

(وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) ١٥.

هنا وفي لقمان (وَأَلْقى .. أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) (١٠) وفي الأنبياء (وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) ٣١ وفي فصلت (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها).

و «في» في هذه الأربع دون «على» تلمح انها راسية في اعماق الأرض ، مندغمة بعضها في بعض في الأعماق ، اضافة الى علو رءوسها في الفضاء ، وهذه قسم من الجبال تحفظ الأرض عن الميدان : «ووتد بالصخور ميدان أرضه».

وهذه الرواسي الملقاة في الأرض منها ما ألقيت من سائر الكرات وعلّها أنسب بالإلقاء ولكنها ليست كبيرة شاهقة حتى تسمى «رواسي» اللهم إلا في رسوّها نتيجة الإلقاء ، ولكن الإلقاء لا يخص الملقاة من السماء ، فانما يشير

__________________

(١) فليقض العجب من فتوى أبي حنيفة ان لحم السمك ليس بلحم قائلا : لو حلف : لا لا يأكل اللحم فأكل لحم السمك لا يحنث ، وقد يروى ان أبا حنيفة لما قال بهذا القول وسمعه سفيان الثوري فأنكر عليه ذلك واحتج عليه بهذه الآية بعث اليه رجلا وسأله عن رجل حلف لا يصلي على البساط فصلى على الأرض هل يحنث ام لا؟ قال سفيان : لا يحنث فقال السائل ا ليس ان الله تعالى قال : «وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً» قال فعرف سفيان ان ذلك كان بتلقين أبي حنيفة. (تفسير الفخر الرازي ٣٠ : ٦).

أقول : هذا النقض ليس بناقض في مفروض المسألة بل هو ناقص حيث السمك لحم على اية حال وليست الأرض بساطا على اية حال ، فان نوى في حلفه «لا يصلي على البساط» كل بساط شامل للأرض ككل فالحلف باطل من أصله لأنه حلف بترك الصلاة فلا حنث ـ إذا ـ في الصلاة على بساط الأرض ، وكذلك الأمر إذا نوى بساطا غير الأرض إذ لم يصل عليه.

٣٠١

الى جعل معمّق في باطن الأرض ليس كما يجعل غير الرواسي! ومن الرواسي الصغار ما ألقيت عليها إثر البركانات في تفجرات هائلة حيث ترجع المواد المذابة الى الأرض حافرة لها الى الاعماق ، وثالثة حصلت فيها نتيجة الأمواج حين كانت شموسا بحراكات مضطربة وكما يروى عن الامام علي (ع) في جواب السائل : مما خلقت الجبال؟ قال : من الأمواج» فان أجواف الأرض الملتهبة أخذت في البرودة والانكماش ، فتقلصت القشرة الخارجية من فوقها وتجمدت فتكونت الجبال وسائر المرتفعات.

ومن أهم الفوائد لرواسيها ـ المغفول عنها في العلم الحديث ـ (أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) : القى .. عن ان تميد بكم ، حفظا لتوازن الأرض ، هذه السفينة الفضائية في خضمّ بحر الفضاء ، المبتلاة بجواذب عدة وحركات ودورانات ، وحفظا لتوازن من على الأرض من انسان وحيوان.

فميدان الأرض ، وعلى أثره ميدان من على الأرض قد وتد بالصخور الراسية في الأرض.

وهكذا جعلت الأرض لنا ذلولا : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (٦٧ : ١٥) حيث ذلّت بالرواسي بعد شماس ، واستقرت بعد ارتكاس : «وعدل حركاتها بالراسيات من جلاميدها وذوات الشناخيب الصم من صياخيدها فسكنت من الميدان برسوب الجبال في قطع أديمها» ـ «فسكنت على حركتها من ان تميد باهلها او تسيخ بحملها او تزول عن مواضعها ..» (١).

__________________

(١) نهج البلاغة عن الامام امير المؤمنين علي (عليه السلام) وفي نور الثقلين ٣ : ٤٣ عن كتاب الخصال عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عليهم السلام ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : ـ الى ان قال : فخلق الله تعالى الجبال فأثبتها في ظهرها أوتادا منها من ان تميد بما عليها فذلت الأرض واستقرت.

٣٠٢

وكما أن للأرض ميدا ماديا لو لا أوتادها وحركاتها المعتدلة المعدّلة لها ، كذلك لها ميد معنويا لو لا الأوتاد الروحية كالرسل والائمة والعلماء الربانيون ، وهذا هو المعني من «بنا يمسك الأرض ان تميد بأهلها» (١) «ولا تخلو الأرض من قائم منا ظاهر او خاف ولو خلت يوما بغير حجة لماجت باهلها كما يموج البحر بأهله» (٢) ، و «كان امير المؤمنين (عليه السلام) باب الله الذي لا يؤتى الا منه وسبيله الذي من سلك بغيره هلك ، وكذلك يجري لأئمة الهدى واحدا بعد واحد ، جعلهم الله أركان الأرض أن تميد بأهلها» (٣)

وفي الحق هم أوتاد الأرض ورواسيها الملقاة عليها من سماء الرحمة الروحية.

(وَأَلْقى .. وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) فكما الرواسي ملقاة في الأرض او مجعولة عليها ، كذلك (أَنْهاراً وَسُبُلاً) قضية العطف على الرواسي ، ولان مياه الأرض كلها ملقاة من السماء منذ البداية وعلى طول الخط ، والجبال هي في الغالب منابع الأنهار حيث هي مساقط الثلوج والأمطار ، ثم السبل هي ذات علاقة بالرواسي والأنهار.

«وسبلا» علّها هنا هي (فِجاجاً سُبُلاً) في الأنبياء ، فقد سبّل الله هذه السبل بين الرواسي (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) الى مخازنها المائية ومعادنها الظاهرة

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٤٤ عن كتاب كمال الدين وتمام النعمة باسناده الى سليمان بن مهران الأعمش عن الصادق جعفر بن محمد عن أبيه محمد بن علي عن أبيه علي بن الحسين عليهم السلام حديث طويل يقول فيه: ...

(٢) المصدر باسناده الى ابراهيم بن أبي محمود قال قال الرضا (عليه السلام) : ...

(٣) المصدر عن اصول الكافي بسند متصل عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : كان امير المؤمنين (عليه السلام) ....

٣٠٣

والباطنة إمّا هيه من نعم فيها مخبوة.

ثم و (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) الى سبيل ربكم بعد ما تعرفون نعمته عليكم ولعلكم تشكرون ، وكما الرواسي وأنهارا وسبلا تعم الظاهرة والباطنة ، كذلك الاهتداء يعمها كلها كما :

(وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ)(١٦).

(أَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ .. وَأَنْهاراً وَسُبُلاً .. وَعَلاماتٍ) وهذه من نعم الأرض فيها (وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) نعمة سماوية لإنسان الأرض ، وهذه سبيل ضمن قصد السبيل ف (عَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) ظاهرية وباطنية (وَمِنْها جائِرٌ) ينهى عنها.

فهنالك اهتدائات بعلامة أرضية وأخرى سماوية ، ظاهرية هي ظاهرة لأهل الظاهر ، وروحية هي باهرة لغير اهل الظاهر ، فرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هو أنجم نجم به يهتدى ، والأئمة هم اعلم العلامات ، المهتدون به (صلى الله عليه وآله وسلم) الهادون لغيره (١).

إذا فنجم الهدى وعلاماتها هم باطن الآية ، والعلامات الظاهرة والنجم هي ظاهرها ، وكما كانت رواسي الأرض وأنهارها (٢).

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٤٥ عن اصول الكافي عن داود الجصاص قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : وعلامات وبالنجم هم يهتدون ـ قال : النجم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والعلامات الائمة عليهم السلام.

وفيه عن محمد عن الوشا قال سألت الرضا (عليه السلام) عن الآية فقال : رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : نحن العلامات والنجم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أقول قد وردت أمثالها بطرق عدة عن أئمة اهل البيت عليهم السلام.

(٢) تفسير البرهان ٢ : ٣٦٢ ـ عن تفسير العياشي عن إسماعيل بن أبي زياد عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية قال : ظاهر وباطن ، الجدي عليه تبنى القبلة وبه تهتدي ـ

٣٠٤

ثم الاهتداء الظاهر لا يخص اهل البحر كما العلامات لا تخص اهل البر حيث تنجم الهداية بريا وبحريا بالعلامات وبالنجم ، فمن العلامات هي معالم الطرق جبالا وغابات واتلالا وسائر المرتفعات والمنخفضات ، وكذلك الرياح بل والأرياح ، فقد ينقل عن جماعة كانوا يشمون التراب ويتعرفون برائحته الطريق.

والعلامة بوجه عام هي ما يعلم به الشيء المجهول ، خلقية كانت كالتي ذكرت ، ام وضعية ، كما يهتدى باللّاسلكية والرادار أماهيه من وسائل مصطنعة هي كلها من إلقاءات الله في الأرض ولإنسان الأرض ، وعلينا ان نستعلم علامات الله على ضوء تقدم العقل والعلم ، علامات مادية كذريعة لأخرى روحية هي أحرى بالاستعلام لما ألقى لنا الملك العلام.

(أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ)(١٧).

هذه من الآيات التي تحصر الخلق ـ أيا كان ـ بالله ، وتحسره عمن سوى الله مهما نسب اليه خلق ك ـ «إذ تخلق ..» في المسيح فانه يلحق «بإذني» فهو الخالق حقا والمسيح مجرى ظاهري له تثبيتا لرباطه الرسالي بالله ، تدليلا من الخلق وهو فعله تعالى الخاص به ، على ان الآتي به مخصوص بكرامة الرسالة الإلهية.

إذا فلا ولاية تكوينية للمعصومين ـ أيا كانوا ـ منفصلة عن اذن الله ، مخوّلة إليهم من الله ، كما تدلنا على ذلك صارحة الآيات في المعجزات انها من افعال الله ، صادرة باذنه وارادته : (قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ ..) (ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) (٦ : ٥٧).

__________________

ـ اهل البحر والبر لأنه لا يزول ، أقول : هذا هو الظاهر ، والباطن ما تقدم من تفسيره برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والائمة عليهم السلام.

٣٠٥

و «من» هنا دون «ما» برهان قاطع لا مرد له انه يشمل كل الخلق بمن فيه وما فيه ، وانما «من». هنا رعاية للأشرف الأجل مهما كان أقل.

فلا يخص (كَمَنْ لا يَخْلُقُ) بالأصنام والأوثان غير ذوات العقول ، ولا بالطواغيت ذوي العقول ، بل يعمهما والذوات القدسية المعبودة لهم من دون الله مهما خص (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ. أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) (١٦ : ٢٠) فان «من» هنا عام و «الذين» هناك بقرينة هو خاص ، ومن العام : (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ. أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) (٧ : ١٩١) (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً)(٢٥ : ٣).

ولو أن في الذوات القدسية خالقا ـ مثل المسيح المعبود من دون الله ـ لاستحق العبادة بنفس السند ، والبرهان صارم ، فعبادة من دون الله عارمة لمكان (لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ).

وليس «من يخلق» لتعني الخالقية الاصيلة فقط حتى لا تنافي المخوّلة المتقوّلة ، حيث الأصل في الخلق هو اصل الخلق دون خصوص الخلق الأصل.

و (أَفَمَنْ يَخْلُقُ ..) تفريع على خالقيته المقبولة لديهم فيما سبق من الخلق ، انه (كَمَنْ لا يَخْلُقُ)؟ ككل من سوى الله من معبوداتهم وسواها ، وقد سوّوا بينها وبينه في العبادة وهو ضلال مبين : (تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ، إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٢٦ : ٩٨) فأين الرب الخالق والمربوب المخلوق (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) ضلال هذه التسوية الظالمة؟.

فالتسوية بين الفاضل والمفضول ضالة مرذولة ، فضلا عن تفضيل المفضول على الفاضل ، ضابطة صارمة تقضي على كل تسوية هابطة ، ام

٣٠٦

تفضيلة ساقطة خابطة ، في كل ما دق وجلّ.

ويا له من تقرير في أحسن الأوان ، والنفوس متهيئة بعد سرد هذه النعم للإذعان ، فما هنا من جواب إلّا : اللهم لا وكلّا ـ فلا مساوات او مسامات بين من يخلق وبين من لا يخلق ، ولا يحتاج «لا» هنا الى إمعان وتفكير زائد اللهم إلّا تذكرا لخلق الله دون سواه (أَفَلا تَذَكَّرُونَ)؟ ثم وليست نعم الله التي خلقها بالتي تحصى ، إذا فعظمته وحرمته ايضا لا تحصى :

(وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)(١٨).

فمن ذا الذي بامكانه أن يحصي نعمة الله ، وعدّها كأصلها من نعمة الله ، حتى ولو أحصاها فإحصاءها أيضا من نعمة الله ، كما ومعرفة عدم إحصاءها والعجز عنه نعمة ثالثة من الله ، ولأن نعم الله لا تحصى ، فإحصاؤها بحاجة إلى علم لا يحصى وقدرة لا تحصى ، ولو أحصيت هكذا ، فمن ثم شكر لا يحصى وعبادة لا تحصى ، وأنى هذه الحشرة الجاهلة العاجزة القاحلة وإحصاء أو شكر نعم لا تحصى؟.

فإذ لا نحصي نعمة الله لو عددناها ، فكيف نشكرها كما هي على حدها بعدها ، إحصاء لشكرها ، كلّا! ولا نشكرها كما نستطيع بل ونكفر بها كفرا او كفرانا (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (١٤ : ٣٤) (١) بدلا عن كونه شاكرا لأنعم ربه حسب المستطاع مهما كان قاصرا!

ولكن (إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) قصور الشكر وتقصيره ، كفرانا يوم الآخرة ، وكفرا يوم الدنيا ف (أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) في موضع العفو والرحمة ، مهما كان (عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) في موضع النكال والنقمة.

__________________

(١) راجع تفسير الآية في سورة ابراهيم ففيه تفصيل ولا نعيد.

٣٠٧

(وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ) ١٩.

إسرارا لكفران ام شكران او إعلانا ، فلا يعزب عن علمه أيا كان اتجاهك الى نعمة الله ، وهو غفور ستور لكفر ام كفران ما لم تجاهر به ، وهو يظهر الشكران وان لم تجاهر به ، كما انه برحمته الشاملة يغفر القاصرين وجملة من المقصرين.

(وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ ٢٠ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) ٢١

وحين تكون كل نعمة من خلق الله برحمته ، (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) ليست لهم نعمة يخلقونها ، فإنهم (لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً) ولا نعما لأنفسهم فضلا عن سواهم. (وَهُمْ يُخْلَقُونَ) بذواتهم وصفاتهم ونعمهم ، فهم إذا من نعمة الله التي خلقها وأنتم تبدونها نعمة وكفرا ، ثم وهم (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ) وهم في حياتهم الدنيا وبعد موتهم (ما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) فكيف ـ إذا ـ تعبدونهم مع الله او من دون الله؟.

أترى (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) هنا تخص غير ذوي الشعور من معبوديهم لمكان (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ)؟ ويشاركهم الأحياء ذوو الشعور والعقول في (لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ)؟ ومجرد الحياة والشعور لا يبرّر عبادتهم وهم «لا يخلقون ويخلقون»!.

قد يكون «أموات ولا يشعرون» تنزلا عن الحجة الاولى : «لا يخلقون ..» بالنسبة للأصنام ، فحتى لو صحت عبادة من لا يخلق (وَهُمْ يُخْلَقُونَ) فلا بد ـ إذا ـ لأقل تقدير ـ من حياتهم لكي يعلموا حال عبّادهم ، ولا بد من شعورهم زمن بعث عبادهم ليبعثوهم للجزاء ، ام يجازوهم حين يبعثون ، فكيف أصبحوا أربابا وهم «لا يخلقون ويخلقون» وهم (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ)؟ ام وحتى الطواغيت

٣٠٨

ذوي العقول الأحياء ، هم (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ) ـ «كفار غير مؤمنين» (١) فاقدين حياة الايمان بالله ، فكيف يشركون بالله ، ولو كان لله شركاء لكانوا من اوّل المؤمنين به.

ام إنّ هذه الأربع هي مواصفات لما سوى الله ، التي تجعلها لا تحق لها العبادة على أية

حال ، فكما انهم ـ اجمع ـ (لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) ـ فقد لا يخلق ولا يخلق : إله منعزل عن الخالقية! وهم (لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) ـ! كذلك هم ـ اجمع ـ «أموات» عن كونهم خالقين عالمين إسرارا وإعلانا (غَيْرُ أَحْياءٍ) بحياة الخالقية والعلم المحيط ، وحق الالوهية ان تكون الآلهة «احياء غير أموات» لا يطرءهم الموت ، ولكنهم (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ) ليست لهم تلك الحياة الخالقة المحيية ابدا مهما كانوا أحياء!.

(وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) لا هم ولا معبودوهم ، حيث العلم بأيان البعث وإبّانه كأصل البعث هما من مختصات الربوبية : (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) (٢٧ : ٦٥) فسلب الشعور عن (أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) يعم كل ما سوى الله من عقلاء وسواهم ، من ملائكة وأنبياء وسواهم ، ومن قضايا الربوبية العادلة الحكيمة العلم بأيّان البعث والقدرة عليه وهم لا يشعرون أيان يبعثون! فبجنب الحياة السرمدية الإلهية ، وهي ذاتية العلم والقدرة اللّانهائية ، كل حي ميت حتى الرسول (ص) : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) (٣٩ : ٣٠) لا ـ فقط ـ سوف تموتون ، وانما «ميت وميتون» على أية حال حيث تفقدون حق الحياة

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٤٦ عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال سألته عن هذه الآية ـ قال : ... واما قوله «أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ» يعني كفار غير مؤمنين .. أقول هذا تفسير ببعض مصاديق «أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ» تفسيرا تطبيقيا كما يعرف بكامل الحديث فراجع.

٣٠٩

التي من حقها الخلق والعلم ، والقدرة على الخلق والنشور.

ثم «الذين» مفعولا مقدما على «يعبدون» برهان ثان على قصد العموم ، فكل معبود من دون الله ، غير ذوي عقول كالأصنام ، ام ذووا عقول من طواغيت ، ام صالحين كالملائكة والنبيين ، تشملهم «الذين» تغليبا لموصول ذوي العقول على غيرهم.

وكون «الذين» فاعلا بحذف المفعول ك «يعبدونهم ـ او ـ يعبدونها» هو خلاف الأصل حيث الأصل خلاف الحذف ، ثم (وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) يؤيدان عاقل الموصول.

إذا فهذه مواصفات اربع للمعبودين من دون الله من اي الثلاث وأيا كانوا ، والإله الحق : لا يخلق ، وهو يخلق ـ حي لا يموت ـ وهو يعلم مرسى الساعة فإنه يرسيها.

(إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢) لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (٢٣) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٢٥) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ

٣١٠

فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٦) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (٢٧) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٢٩) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ (٣١) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٢) هَلْ

٣١١

يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٣٣) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٤) وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٣٥) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٧) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٨) لِيُبَيِّنَ

٣١٢

لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (٣٩) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(٤٠)

(إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ). (٢٢)

«إلهكم» أنتم المؤمنين بالله ، ام «إلهكم» ايها الخلق أجمعون ، والإضافة هنا لبيان حق الألوهية ، فسائر الإلهة المختلقة هم كما ليسوا بآلهتكم أنتم المؤمنين قضية الايمان ، كذلك ليسوا آلهة لمن سواكم إلّا خيالا خبالا وأسماء سمّوها هم وآبائهم ما جعل الله لها من سلطان! : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) (١٨ : ١١) (وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (٢٩ : ٤٦) (إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) (٢٠ : ٩٨).

ليس هناك اسباب واقعية او معقولة لتأليه غير الله إلا عدم الإيمان بالآخرة ، والاستكبار عن عبادة الله الواحد القهار ، حيث الآخرة والعبادة الصالحة لها لا تلائمان الشهوة الهائجة المائجة الحيوانية ، ثم نكران الآخرة ، وعبادة من لا يأمر ولا ينهى ، ولا يعبد إلّا على وفق شهوات عابديها ، هما تجعلان العابدين غير الله في أريحية الحيونة الحرة ، دون حد ولا نهاية. (فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) الحياة بعد الموت ، برزخية ويوم القيامة ، هؤلاء (قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ) لتوحيد العبودية ، لأنها مقلوبة عن قالبها الإنسانية «وهم» مع ذلك الإنكار «مستكبرون» عائشون الاستكبار ، عن الخنوع والخشوع للإله الواحد القهار ، منعطفين إلى آلهة اختلقوها ، عابدين ـ فقط ـ إياها ، تاركين عبادة الله وإن بين المعبودين المشاركين له! متفلتين عن توحيده الى

٣١٣

الإشراك به ثم الى توحيد العبادة لغير الله ، غير متلفتين إليه إلّا هيه! إنّ الايمان بالآخرة هو من فروع التوحيد الصحيح ، فهؤلاء يتذرعون باشراكهم نكرانهم ليوم الدين ، لا لريب في آيات التوحيد ، وانما استكبارا كامنا في قلوبهم ، يجعلهم ناكرين للتوحيد والآخرة.

(لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ)(٢٣).

هؤلاء الحماقى قد يعلنون انهم في ريب من وحدة الإله ، لذلك فهم يشركون ، وبالآخرة هم لا يؤمنون ، ولكنهم يسرون النفرة العميقة عن الخضوع للحق والخنوع للواحد المطلق ، والشغف الحالق بالتقاليد الجاهلة القاحلة العمياء ، و «لا جرم» قطعيا دونما تفلّت منهم او تلفّت عنهم (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) يعلم ويعلن وعلى الأثر يجازي ل (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ) عليه وعلى الحقائق الناصعة الواضحة ، المفترين على وحي الله أنه أساطير الأولين.

فالمتكبر ـ في صيغة سائغة فائقة ـ على حد المروي عن الرسول (ص) من بطر الحق أو سفهه أو جهله ويغمص الناس اعمالهم فلا يرى أحدا أفضل منه ويغمص الحق فيجاوزه الى غيره (١).

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ١١٤ ـ اخرج عن جماعات كثيرة عن رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) هذه التعقيبات تعريفا بالمستكبرين ومنها ما أخرجوه عن قتادة انه قال ذكر لنا ان رجلا أتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال يا نبي الله انه ليعجبه الجمال حتى يود ان علاقة سوطه وقبالة نعله حسن فهل ترهب عليّ الكبر؟ فقال نبي الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : كيف تجد قلبك؟ قال : أجده عارفا للحق مطمئنا اليه قال : فليس ذاك بالكبر ولكن الكبر ان تبصر الحق وتغمص الناس فلا ترى أحدا أفضل منك وتغمص الحق فتجاوزه الى غيره ، وفي نور الثقلين ٣ : ٥٦ عن روضة الكافي بسند متصل عن حفص بن غياث عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قال : ومن ذهب يرى ان له على ـ

٣١٤

ويقابله المتواضع لله وفي الله وكما يروى مر الحسين بن علي عليهما السلام على مساكين قد بسطوا كساء لهم فألقوا كسرا فقالوا : هلم يا بن رسول الله (ص) فأكل معهم ثم تلا (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ)(١).

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ)(٢٤).

حرب دعاية منظمة ، في شيطنة مدروسة مدبّرة على الدعوة والداعية ، يديرونها في كل زمان ومكان (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ)!

ولماذا «ربكم» دون «ربنا» وهو أحرى ، او (رَبِّ الْعالَمِينَ) وهو الأخرى؟ «ربكم» استجاشة لخامد فطرتهم وفكرتهم ، ان الربوبية العادلة لزامها إنزال ما يكمل المربوبين عن نقصهم ، وينجيهم عن بأسهم ، وأنتم عارفون انه رب العالمين وربكم أنتم المشركين ، ولكنهم اثّاقلوا الى حمقهم في عمقهم و (قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) فرية وقحة على الله كأنه لا يعرف إلّا (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) ام يخون بذلك المربوبين.

والأسطورة هي الخرافة أو الحكاية الخليطة من صادقة وكاذبة .. (قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) متهمين القرآن العظيم في هذه الحرب العشواء انه أساطير الأولين وحكاياتهم الوهمية الخارقة الجارفة (٢) لأنه يحمل ـ فيما يحمل ـ عواقب الماضين صالحين وطالحين ، كأمثولات

__________________

ـ الآخر فضلا فهو من المستكبرين فقلت : انما يرى ان له عليه فضلا بالعافية إذ رآه مرتكبا للمعاصي؟ فقال : هيهات هيهات فلعله ان يكون قد غفر له ما أتى وأنت موقوف تحاسب ، اما تلوت قصة سحرة موسى (عليه السلام) ...

(١) نور الثقلين ٣ : ٤٧ عن تفسير العياشي عن مسعدة قال : ...

(٢) الدر المنثور اخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال : اجتمعت قريش فقالوا : إن محمدا رجل حلو اللسان إذا كلمه الرجل ذهب بعقله فانظروا أناسا من أشرافكم المعدودين المعروفين أنسابهم فابعثوا في كل طريق من طريق مكة على رأس ليلة او ليلتين فمن جاء يريده فردوه عنه فخرج ناس في كل طريق فكان إذا اقبل الرجل وافدا لقومه ينظر ما يقول ـ

٣١٥

مضت عبر التاريخ وغبر الزمان ، دعاية ضالة مضلّة لا تحمل ـ شاءوا ام أبوا ـ علموا ام لم يعلموا ـ لا تحمل إلّا حمل كاملة الأوزار :

(لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ)(٢٥).

«ليحملوا» هي غاية واقعية مهما كانت معلومة مقصودة ، ام مجهولة غير مقصودة ، فذلك الحمل لا جرم واقع يوم القيامة لا مردّ له مهما كانوا له وللقيامة ناكرين.

فقد يقصد الفاعل بفعله غاية يصل إليها أم لا يصل ، وقد تقصده الغاية التي هي لزام فعله وان لم يقصدها ، بل أنكرها ورفضها وحاول في سلبها واثبات ما يعارضها ، و «ليحملوا» هنا غاية قاصدة غير مقصودة كما في أضرابها مثل ما في موسى (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) (٢٨ : ٨) ومن ذا الذي ينجي غريقا ويربيه كأحسن ما يرام ليكون بالمآل له عدوا وحزنا ، بل هي غاية قاصدة بأمر الله لا مقصودة لآل فرعون.

والأوزار هي الأثقال ، وهي هنا الخطايا والآثام ، حيث تقطع المتون وتنقض الظهور : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) (٢٩ : ١٣).

__________________

ـ محمد ووصل إليهم قال أحدهم : ان فلان بن فلان ، فيعرفه نسبه ويقول له : انا أخبرك عن محمد إنه رجل كذاب لم يتبعه على امره الا السفهاء والعبيد ومن لا خير فيهم ، واما شيوخ قومه وخيارهم فمفارقون له ، فيرجع الوافد فذلك قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ...) فان كان الوافد ممن عزم الله له الرشاد فقالوا له مثل ذلك قال بئس الوافد لقومي ان كنت جئت حتى إذا بلغت مسيرة يوم رجعت قبل ان ألقى هذا الرجل وأنظر ما يقول وآتي قومي ببيان امره فيدخل مكة فيلقى المؤمنين فيسألهم ماذا يقول محمد فيقولون خيرا ...

٣١٦

وترى هذه (أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) و (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ) (١١ : ١١١) و (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) (٥٢ : ٢١) كما هي قضية العدل على اية حال؟

فما هي ـ بعد ـ (وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ) (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) (٣٩ : ٧) اعبثا في التخفيف (مِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ) وظلما أن يحمّلها هؤلاء المضلّلون!؟.

فهل إن «من» هنا زائدة ف (أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ) يحمّلها أنفسها المضللون أنفسهم ، وكما أن أوزار المضلّلين لهم أنفسهم حملا وحملا على سواء؟ فهذه قولة زائدة لفظيا إذ لا زائدة في القرآن! ومعنويا حيث المضلّل عليه وزران وزر الضلال ووزر الإضلال ، ثم ليس على المضلّل إلّا وزر الضلال ، فلا بد للمضل من وزر زائد على ضلاله بإضلاله ، وهو مثل أوزار الذين يضلونهم.

«من أوزار» لا تعني بعضا من نفس الأوزار حتى يقتضي المباعضة في أصل الأوزار ، وانما جنسا مماثلا لما عملوا كما هم ضلوا قدر ما أضلوا ف «من» جنسية تفيد المماثلة ، لا تبعيضية ، وهذه قضية الجمع بين قبيلي الآيات ، تقديما لصريح آية الوازرة وأمثالها ، على (مِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ) المرددة بين التبعيض والمماثلة فلا (أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ) إذ (لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) ولا بعض الأوزار بنفس السند ، وإنما مثل أوزارهم ما بقوا وبغوا ، المعبر عنها ب (مِنْ أَوْزارِ ..) حيث تعني مثل الأوزار فانه جنسها ، فكما عليهم تلكم الأوزار لو عملوا اعمالها ، كذلك عليهم مثلها حيث سنوا سنتها.

او يقال ان لضلال (الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ) بعدين ، ثانيهما انه أثر الإضلال ، إذا فلكلّ من المضلّل والضال نصيبا من وزر ذلك الضلال ، من

٣١٧

دون ان ينقص أولئك من أوزارهم شيء ف «من» هنا تبعيضية ، فان واجهة الضلال للضالين عليهم أنفسهم ، وواجهة الإضلال فيه على المضلّين ، تأمل ولقد تواتر الخبر بين الفريقين عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن «من سن سنة حسنة كان له مثل أجر من عمل بها الى يوم القيامة ولا ينقص أولئك من أجورهم شيء ومن سن سنة سيئة كان عليه وزر من عمل بها الى يوم القيامة من غير ان ينقص أولئك من أوزارهم شيء» (١).

ويصدقه القرآن في آيات عدة ك (نَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) (٣٦ : ١٢) (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) (٥٢ : ٢١).

ومن خطبة لعلي امير المؤمنين (عليه السلام) على ضوء (مِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) ـ : واعلموا أن لكلّ حق طالبا ولكل دم ثائرا ، والطالب كقيام الثائر بدمائنا ، والحاكم في حق نفسه هو العادل الذي لا يجور ، وهو الله الواحد القهار ، واعلموا ان على كل شارع بدعة وزره ووزر كل مقتد به من بعده ، من غير ان ينقص من أوزار العاملين شيء ، وسينتقم الله من الظلمة مأكل بمأكل ومشرب بمشرب ، من لقم العلقم ومشارب الصبر الأدهم ، فليشربوا بالصلب من الراح السّم المذاق ، وليلبسوا دثار الخوف دهرا طويلا ، ولهم بكل ما أتوا وعملوا من

__________________

(١) هذا وفي لفظ آخر بمعناه في الدر المنثور ٤ : ١١٧ ـ اخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الربيع بن انس قال قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أيما داع دعى الى الهدى فاتبع فله مثل أجورهم من غير ان ينقص أولئك من أجورهم شيء وأيما داع دعى الى ضلالة فاتبع عليه فان عليه مثل أوزار من اتبعه من غير ان ينقص من أوزارهم.

وفي نور الثقلين ٣ : ٤٨ عن تفسير القمي عن الصادق (عليه السلام): والله ما أهريقت محجمة من دم ولا قرع عصا بعصا ولا غصب فرج حرام ولا أخذ مال من غير حلّ الا وزر ذلك في أعناقهم من غير ان ينقص من أوزار العاملين شيء.

٣١٨

أفاريق الصبر الأدهم ما فوق ما أتوا وعملوا ، أما إنه لم يبق إلّا الزمهرير شتائهم ، وما لهم من الصيف إلا رقدة وتحسبهم ما زودوا وحملوا على ظهورهم من الآثام ، فيا مطايا الخطايا ويا زور الزور ، أوزار الآثام مع الذين ظلموا اي منقلب ينقلبون ، اسمعوا وعوا وتوبوا وابكوا على أنفسكم فسيعلم الذين ظلموا ، فأقسم ثم أقسم لتحملنّها بنو امية من بعدي وليعرفنها في دارهم عما قليل ، فلا يبعد الله إلّا من ظلم وعلى البادي يعني الأول وما سهل لهم من سبل الخطايا مثل أوزارهم وأوزار كل من عمل بوزرهم الى يوم القيامة (وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ)(١).

و (بِغَيْرِ عِلْمٍ) هنا لها تعلقات عدة على البدل «ليحملوا» بغير علم (وَمِنْ أَوْزارِ) بغير علم «يضلونهم» بغير علم جهالة منهم بسوء الفعل والعاقبة ، وبغير علم جهلا من الذين يضلونهم!.

مربع من الجهل والجهالات قاصرة مقصرة ، ومقصرة قاصرة ، مهما اختلفت دركات التقصير بين أصول الضلالة والذيول ، ولذلك ترى ـ أحيانا ـ حمل المضلّلين أكثر من الضالين ، وأخرى (لِكُلٍّ ضِعْفٌ) حيث أصبحوا ـ هم ـ ايضا من المضلّلين كما ضلوا بآخرين ، ولكن على أية حال حمل (مِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ) مضاف الى أوزارهم كاملة يوم القيامة.

واما «كاملة» لأوزارهم ، فهي كمال الوزر بكمال الضلال في إضلال ، فعليهم أبعاد ثلاثة من الأوزار ، من ضلالهم وإضلالهم (وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) والثالث أوزر لأنه حسب عديد عامليه المضلّلين أكثر (أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ)(٢).

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٤٩ عن تفسير القمي حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن جميل عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : خطب امير المؤمنين (عليه السلام) بعد ما بويع له بخمسة ايام خطبة فقال فيها : واعلموا ...

(٢) نور الثقلين ٣ : ٤٨ عن تفسير العياشي عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) في ـ

٣١٩

وقد تلمح «كاملة» للكفار ان الله لا يحمل عصاة المؤمنين أوزارهم كاملة ، لمكان اختصاصهم هنا ب «كاملة» وذلك مسرود في آيات التكفير لهم بتوبات أم شفاعات أم تكفير لسيئات باجتبات كبائر المنهيات.

ذلك المكر الماكر وليس مبتكرا من هؤلاء ، فليسوا ـ هم ـ اوّل من ينكر واوّل من يمكر و :

(قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) ٢٦

ليسوا هم بدئا وبدعا من الماكرين المضلّلين (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من حماقى الطغيان ، حيث كانوا كأمثالكم ، يأتون ـ بزعمهم ـ بنيان الشرعة الإلهية من قواعدها ، وقد أتوا كتابات الله والقرآن العظيم ، وهي القواعد الرسالية ، كما أتوا الرسل ، ولم يكونوا ولن ، ان يهدموا بنايات القواعد الرسالية (فَأَتَى اللهُ) بقوته القاهرة باطنة وظاهرة «بنيانهم» الذي بنوا ريبة في قلوبهم في تهديم بنايات الرسالات «من القواعد» اجتثاثا لها من جذورها (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) إبطالا لكيدهم من حيث لا يتوقعون فقد كان «بيت غدر يجتمعون فيه إذا أرادوا الشر» (١) و «بيت مكرهم» (٢).

__________________

ـ الآية يعني ليستكملوا الكفر ليوم القيامة ، واما قوله : ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ـ يعني يتحملون كفر الذين يتولونهم.

(١). نور الثقلين ٣ : ٤٩ عن تفسير العياشي عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال في الآية: ...

(٢) المصدر عن أبي السفاح عن أبي عبد الله (عليه السلام) من القواعد يعني بيت مكرهم.

٣٢٠