تفسير الخطيب الشربيني - ج ٢

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري

تفسير الخطيب الشربيني - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4207-0

الصفحات: ٧١٧

إتيان الذكور وما لنا فيه الشهوة فعند ذلك.

(قالَ ،) أي : لوط عليه‌السلام (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً ،) أي : طاقة (أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ ،) أي : عشيرة تنصرني شبهت بركن الجبل في شدّته ، وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رحم الله أخي لوطا كان يأوي إلى ركن شديد» (١) ، والركن الشديد نصر الله ومعونته فكأن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم استغرب من لوط عليه‌السلام قوله : (أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) وعدّه نادرة إذ لا يمكن أشدّ من الركن الذي كان يأوي إليه ، وجواب لو محذوف تقديره : لبطشت بكم أو لدفعتكم ، روي أنه أغلق بابه دون أضيافه وأخذ يجادلهم من وراء الباب فتسوّروا الجدار فلما رأت الملائكة ما على لوط من الكرب. (قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ) بسوء فافتح الباب ودعنا وإياهم ، ففتح الباب فدخلوا فاستأذن جبريل ربه في عقوبتهم فأذن له ، فقام في الصورة التي يكون فيها فنشر جناحه ، وله جناحان ، وعليه وشاح من درّ منظوم وهو براق الثنايا ، فضرب بجناحه وجوههم ، فطمس أعينهم كما قال تعالى : (فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ) [القمر ، ٣٧] فصاروا لا يعرفون الطريق ولا يهتدون إلى بيوتهم ، فخرجوا وهم يقولون : النجاء النجاء ، فإنّ في بيت لوط قوما سحرة.

تنبيه : (لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ) جملة موضحة للتي قبلها ؛ لأنهم إذا كانوا رسل الله لن يصلوا إليه ، ولن يقدروا على ضرره ، ثم قالوا له : (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ ،) أي : طائفة (مِنَ اللَّيْلِ) وقرأ نافع وابن كثير بعد الفاء بهمزة وصل من السرى والباقون بهمزة قطع من الإسراء. (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ ،) أي : لا ينظر إلى ورائه لئلا يرى عظيم ما نزل بهم. وقوله : (إِلَّا امْرَأَتَكَ) قرأه ابن كثير وأبو عمرو برفع التاء على أنه بدل من أحد ، والباقون بالنصب على أنه استثناء من الأهل ، أي : فلا تسر بها (إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ) فلم يخرج بها ، وقيل : خرجت والتفتت فقالت : وا قوماه فجاءها حجر فقتلها. روي أنه قال لهم : متى موعد هلاكهم فقالوا له : (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ) قال : أريد أسرع من ذلك فقالوا : (أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ،) أي : فأسرع الخروج بمن أمرت بهم.

(فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا ،) أي : عذابنا بهلاكهم (جَعَلْنا عالِيَها ،) أي : قراهم (سافِلَها) روي أنّ جبريل عليه‌السلام أدخل جناحه تحت قرى قوم لوط المؤتفكات المذكورة في سورة براءة ، وكانت خمس مدائن ، وفيها أربعمائة ألف ، وقيل : أربعة آلاف ألف فرفع المدائن كلها حتى سمع أهل السماء صياح الديكة ونهيق الحمير ونباح الكلاب ، لم يكفأ لهم إناء ولم ينتبه نائم ، ثم أسقطها مقلوبة إلى الأرض. (وَأَمْطَرْنا عَلَيْها ،) أي : المدن بعد قلبها ، وقيل : على شذّاذها وهو بضمّ الشين المعجمة وبذالين معجمتين أولاهما مشدّدة وهم الذين ليسوا من أهلها يكونون في القوم وليسوا منهم (حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ ،) أي : من طين طبخ بالنار كما قال تعالى في موضع آخر (مِنْ طِينٍ) وقيل : مثل السجل وهو الدلو العظيمة. (مَنْضُودٍ ،) أي : متتابع يتبع بعضها بعضا.

(مُسَوَّمَةً ،) أي : معلمة عليها اسم من يرمى بها. وقال أبو صالح : رأيت منها عند أم هانئ ، وهي حجارة فيها خطوط حمر على هيئة الجزع. وقال الحسن : عليها أمثال الخواتيم. وقال ابن جريج : كان عليها سيما يعلم بها أنها ليست من حجارة الأرض ، وقوله تعالى : (عِنْدَ رَبِّكَ) ظرف

__________________

(١) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء حديث ٣٣٨٧ ، ومسلم في الإيمان حديث ١٥١ ، والترمذي في التفسير حديث ٣١١٦ ، وابن ماجه في الفتن حديث ٤٠٢٦.

٨١

لها (وَما هِيَ ،) أي : تلك الحجارة (مِنَ الظَّالِمِينَ ،) أي : مشركي مكة (بِبَعِيدٍ ،) أي : بشيء بعيدا وبمكان بعيد ؛ لأنها وإن كانت في السماء وهي مكان بعيد إلا أنها إذا وقعت منها فهي أسرع شيء لحوقا بالمرمي ، فكأنها بمكان قريب منه ، وفيه وعيد لهم ، وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «سأل جبريل؟ فقال : يعني ظالمي مكة ما من ظالم منهم إلا وهو يعرض عليه حجر فيسقط عليه من ساعة إلى ساعة» (١) وقيل : الضمير للقرى ، أي : هي قريبة من ظالمي مكة يمرّون عليها في مسيرهم.

القصة السادسة : التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة قصة شعيب عليه‌السلام المذكورة في قوله تعالى:

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (٨٤) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥) بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (٨٦) قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (٨٧) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (٨٨) وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (٨٩) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (٩٠) قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (٩١) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٩٢) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (٩٣) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٩٤) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (٩٥))

(وَإِلى مَدْيَنَ ،) أي : وأرسلنا إلى مدين وهم قبيلة ؛ أبوهم مدين بن إبراهيم عليه‌السلام. وقيل : هو اسم مدينة بناها مدين المذكور ، وعلى هذا فالتقدير : وأرسلنا إلى أهل مدين ، فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه ، (أَخاهُمْ ،) أي : في النسب لا في الدين و (شُعَيْباً) عطف بيان وكأنّ قائلا قال : فما قال لهم؟ فقيل : (قالَ) ما قال إخوته من الأنبياء في البداءة بأصل الدين. (يا قَوْمِ) مستعطفا لهم مظهرا غاية الشفقة (اعْبُدُوا اللهَ ،) أي : وحدوه ولا تشركوا به شيئا (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) فلقد اتفقت كما ترى كلمتهم ، واتحدت إلى الله تعالى دعوتهم ، وهذا وحده قطعي الدلالة على صدق كل منهم لما علم قطعا من تباعد أعصارهم ، وتنائي ديارهم ، وإن بعضهم لم يلمّ بالعلوم ، ولا عرف أخبار الناس إلا من الحيّ القيوم ، ولما دعاهم إلى العدل فيما بينهم وبين الله تعالى دعاهم إلى العدل فيما بينهم وبين عبيده في أقبح ما كانوا اتخذوه بعد الشرك تدينا فقال : (وَلا تَنْقُصُوا) بوجه من الوجوه (الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ ،) أي : لا الكيل ولا آلته ولا الوزن ولا آلته ، والكيل تعديل الشيء بالآلة في القلة والكثرة ، والوزن تعديله في الخفة والثقل ، فالكيل العدل في

__________________

(١) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.

٨٢

الكمية ، والوزن العدل في الكيفية ، ثم علل ذلك بقوله : (إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ ،) أي : بثروة وسعة تغنيكم عن التطفيف. قال ابن عباس : كانوا موسرين في نعمة. وقال مجاهد : كانوا في خصب وسعة فحذرهم زوال تلك النعمة وغلاء السعر وحلول النقمة إن لم يؤمنوا ويتوبوا وهو قوله : (وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ) إن لم تؤمنوا (عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ ،) أي : يحيط بكم فيهلككم جميعا وهو عذاب الاستئصال في الدنيا وعذاب النار في الآخرة ، ومنه قوله تعالى : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) [العنكبوت. ٥٤] والمحيط من صفة اليوم في الظاهر ، وفي المعنى من صفة العذاب وذلك مجاز مشهور ، كقوله : (هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ) [هود ، ٧٧].

(وَيا قَوْمِ أَوْفُوا ،) أي : أتموا اتماما حسنا (الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ ،) أي : الكيل والوزن وآلتهما. فإن قيل : النهي عن النقصان أمر بالإيفاء فما فائدة قوله تعالى (أَوْفُوا؟) أجيب : بأنهم نهوا أوّلا عن القبيح الذي كانوا عليه من نقص المكيال والميزان ؛ لأنّ في التصريح بالقبيح نفيا عن المنهي وتغييرا له ، ثم ورد الأمر بالإيفاء الذي هو حسن في العقول مصرحا بلفظه لزيادة ترغيب فيه وبعث عليه وجيء به مقيدا. (بِالْقِسْطِ ،) أي : ليكون الإيفاء على وجه العدل والتسوية من غير زيادة ولا نقصان أمرا بما هو الواجب ؛ لأنّ ما جاوز العدل فضل وأمر مندوب إليه غير المأمور به ، وقد يكون محظورا كما في الربا وقوله تعالى : (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) تعميم بعد تخصيص فإنه أعم من أن يكون في المقدار أو في غيره ، فإنهم كانوا يأخذون من كل شيء يباع كما تفعل السماسرة وكانوا ، يمسكون الناس ، وكانوا ينقصون من أثمان ما يشترون من الأشياء ، فنهوا عن ذلك ، فظهر بهذا البيان أنّ هذه الأشياء غير مكررة بل في كل واحد منها فائدة زائدة. والحاصل : أنه تعالى نهى في الآية الأولى عن النقصان في المكيال والميزان ، وفي الثانية : أمر بإعطاء قدر الزيادة ولا يحصل الجزم واليقين بأداء الواجب إلا عند أداء ذلك القدر من الزيادة ، ولهذا قال الفقهاء : إنه تعالى أمر بغسل الوجه وذلك لا يحصل إلا عند غسل جزء من الرأس ، فكأنه تعالى نهى أوّلا عن سعي الإنسان في أن يجعل مال غيره ناقصا لتحصل له تلك الزيادة. وفي الثاني : أمر بأن يسعى في تنقيص مال نفسه ليخرج بالتعيين عن العهدة كما قيده بقوله تعالى : (بِالْقِسْطِ ،) وفي الآية الثالثة نهى عن النقص في كل الأشياء وكذا قوله تعالى : (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) فإنّ العثو يعم تنقيص الحقوق وغيره من أنواع الفساد ، ومفسدين حال مؤكدة لمعنى عاملها. وفائدتها : إخراج ما يقصد به الإصلاح كما فعله الخضر عليه‌السلام.

(بَقِيَّتُ اللهِ) قال ابن عباس : يعني ما أبقى الله لكم من الحلال بعد إيفاء الكيل والوزن (خَيْرٌ لَكُمْ) مما تأخذونه بالتطفيف. وقال مجاهد : مما يحصل لكم في الدنيا من المال الحرام (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ،) أي : مصدّقين بما قلت لكم وأمرتكم به.

فائدة : (بَقِيَّتُ) رسمت هنا بالتاء المجرورة. وقف عليها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي والباقون وقفوا عليها بالهاء. (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) أعلم جميع أعمالكم وأقدر على كفكم عما يكون منها فسادا. ولما أمرهم شعيب عليه‌السلام بشيئين بالتوحيد وبترك البخس.

(قالُوا) له (يا شُعَيْبُ) سموه باسمه استخفافا وغلظة وأنكروا عليه متهزئين به (أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ ،) أي : تفعل معك فعل من يأمر دائما بتكليفنا (أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ ،) أي : على سبيل المواظبة (آباؤُنا) من الأصنام ، فحذف الذي هو التكليف ؛ لأنّ الإنسان لا يؤمر بفعل غيره ، قالوا

٨٣

له ذلك في جواب أمره لهم بالتوحيد (أَوْ) نترك (أَنْ نَفْعَلَ ،) أي : دائما (فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا) من قطع الدراهم والدنانير وإفساد المعاملة والمقامرة ونحوها مما يكون إفسادا للمال ، قالوا ذلك في جواب النهي عن التطفيف والأمر بالإيفاء ، وإنما أضافوا ذلك إلى صلاته تهكما واستهزاء بها وإشعارا بأن مثل هذا لا يدعو إليه داع عقلي ، وإنما دعاك إليه خطرات ووساوس من جنس ما تواظب عليه ، وكان شعيب عليه الصلاة والسّلام كثير الصلاة في الليل والنهار ، وكان قومه إذا رأوه يصلي تغامزوا وتضاحكوا. وقصدوا بقولهم : (أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ) السخرية والهزء ، كما أنك إذا رأيت معتوها يطالع كتبا ثم يذكر كلاما فاسدا فيقال له : هذا فائدة مطالعة تلك الكتب على سبيل الهزء فكذا هنا. وقرأ حفص وحمزة والكسائي : أصلاتك بالإفراد ، والباقون بالجمع والتاء بالرفع في القراءتين ، وغلظ ورش اللام في أصلواتك ، وقولهم له : (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) تهكم به ، وقصدوا وصفه بضدّ ذلك كما يقال للبخيل الخسيس : لو رآك حاتم لسجد لك ، وعللوا إنكار ما سمعوه منه واستبعدوه بأنه موسوم بالحلم والرشد المانعين من المبادرة إلى مثل ذلك.

ثم أخرج قوله عليه الصلاة والسّلام على تقدير سؤال بقوله : (قالَ يا قَوْمِ) مستعطفا لهم لما بينهم من عواطف القرابة منبها لهم على أحسن النظر فيما ساقه على سبيل الفرض والتقدير ليكون أدعى إلى سبيل الوفاق والإنصاف (أَرَأَيْتُمْ ،) أي : أخبروني (إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ ،) أي : برهان (مِنْ رَبِّي) وعطف على جملة الشرط المستفهم عنه قوله : (وَرَزَقَنِي) والضمير في (مِنْهُ) لله تعالى ، أي : من عنده بإعانته بلا كدّ مني في تحصيله. وعظم الرزق بقوله : (رِزْقاً حَسَناً) جليلا ومالا حلالا لم أظلم فيه أحدا ، وجواب الشرط محذوف ، أي : فهل يسوغ مع هذا الإنعام الجامع للسعادات الروحانية والجسمانية أن أخون في وحيه فأخالفه في أمره ونهيه ، وهذا اعتذار عما أنكروا عليه من تغيير المألوف والنهي عن دين الآباء (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ ،) أي : وأذهب (إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) فأرتكبه (إِنْ ،) أي : ما (أُرِيدُ ،) أي : فيما آمركم به وأنهاكم عنه (إِلَّا الْإِصْلاحَ ،) أي : ما أريد إلا أن أصلحكم بموعظتي ونصيحتي وأمري بالمعروف ونهيي عن المنكر (مَا اسْتَطَعْتُ ،) أي : وهو الإبلاغ والإنذار فقط ، ولا استطيع إجباركم على الطاعة ؛ لأنّ ذلك إلى الله تعالى فإنه يضل من يشاء ويهدي من يشاء (وَما تَوْفِيقِي ،) أي : لإصابة الحق والصواب (إِلَّا بِاللهِ ،) أي : إلا بمعونته وتأييده (عَلَيْهِ) لا على غيره (تَوَكَّلْتُ ،) أي : اعتمدت في جميع أموري ، فإنه القادر على كل شيء ، وما عداه عاجز ، وهذه الصيغة تفيد الحصر فلا ينبغي للإنسان أن يتوكل على أحد إلا على الله تعالى ، وفيه إشارة إلى محض التوحيد الذي هو أقصى مراتب المبدأ وأمّا قوله : (وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) ففيه إشارة إلى معرفة المعاد ، وهو أيضا يفيد الحصر ؛ لأنّ قوله : (وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) يدل على أنه لا مآب للخلق إلا إلى الله تعالى ، وروي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان إذا ذكر شعيبا قال : «خطيب الأنبياء» (١) لحسن مراجعته قومه.

(وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ ،) أي : لا يكسبنكم (شِقاقِي ،) أي : خلافي وهو فاعل بيجرم ، والضمير مفعول أوّل ، والمفعول الثاني (أَنْ يُصِيبَكُمْ) عذاب العاجلة على كفركم وأفعالكم الخبيثة. قال في «الكشاف» : جرم مثل كسب في تعديه إلى مفعول واحد وإلى مفعولين ، تقول :

__________________

(١) أخرجه الطبري في تفسير ١١٥٤١.

٨٤

جرم ذنبا وكسبه وجرمته ذنبا وكسبته إياه. ومنه قوله تعالى (لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ) (مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ) من الغرق (أَوْ قَوْمَ هُودٍ) من الريح العقيم (أَوْ قَوْمَ صالِحٍ) من الرجفة (وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) لا في الزمان ولا في المكان ؛ لأنهم كانوا حديثي عهد بهلاكهم ، وكانوا جيران قوم لوط وبلادهم قريبة من بلادهم ، فإن القرب في الزمان والمكان يفيد زيادة المعرفة وكمال الوقوف على الأحوال ، فكأنه يقول : اعتبروا بأحوالهم واحذروا من مخالفة الله ومنازعته حتى لا ينزل بكم مثل ذلك العذاب. فإن قيل : لم قال ببعيد ولم يقل ببعيدين؟ أجيب : بأنّ التقدير : وما إهلاكهم بشيء بعيد ، وأيضا يجوز أن يسوى في قريب وبعيد وقليل وكثير بين المذكر والمؤنث لورودهما على زنة المصادر التي هي الصهيل والنهيق ونحوهما انتهى.

(وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ،) أي : آمنوا به (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) عن عبادة غيره ؛ لأنّ التوبة لا تصح إلا بعد الإيمان وقد مرّ مثل ذلك. (إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ ،) أي : عظيم الرحمة للتائبين (وَدُودٌ ،) أي : محب لهم. ولما بلغ عليه‌السلام في التقرير والبيان أجابوه بأنواع فاسدة.

الأوّل : (قالُوا) له (يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ ،) أي : ما نفهم (كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ.) فإن قيل : إنه كان يخاطبهم بلسانهم فلم قالوا : (ما نَفْقَهُ؟) أجيب : بأنهم كانوا لا يلقون إليه أذهانهم لشدّة نفرتهم عن كلامه وهو قوله تعالى : (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ) [الأنعام ، ٢٥] أو أنهم فهموه ولكنهم ما أقاموا له وزنا ، فذكروا هذا الكلام على وجه الاستهانة ، كما يقول الرجل لصاحبه إذا لم يعبأ بحديثه : ما أدري ما تقول.

النوع الثاني : قولهم له : (وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً ،) أي : لا قوّة لك فتمتنع منا إن أردناك بسوء أو ذليلا لا عز لك ، وقيل : أعمى بلغة حمير ، قاله قتادة ، وفي هذا تجويز العمى على الأنبياء إلا أنّ هذا اللفظ لا يحسن الاستدلال به في إثبات هذا المعنى ؛ لأنه ترك الظاهر من غير دليل ، وقيل : ضعيف البصر ، قاله الحسن.

النوع الثالث : قولهم له : (وَلَوْ لا رَهْطُكَ ،) أي : عشيرتك وعزتهم عندنا لكونهم على ملتنا لا لخوف من شوكتهم (لَرَجَمْناكَ) بالحجارة حتى تموت ، والرهط من الثلاثة إلى عشرة ، وقيل : إلى السبعة ، والمقصود من هذا الكلام أنهم بينوا له أنه لا حرمة له عندهم ولا وقع له في صدورهم وأنهم إنما لم يقتلوه لأجل احترام رهطه.

النوع الرابع : قولهم له : (وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ ،) أي : لا تعز علينا ولا تكرم حتى نكرمك من القتل ونرفعك عن الرجم ، وإنما يعز علينا رهطك ؛ لأنهم من أهل ديننا ولم يختاروك علينا ولم يتبعوك دوننا ، ولما خوّف الكفار شعيبا عليه‌السلام بالقتل والإيذاء حكى الله تعالى عنهم ما ذكروه في هذا المقام وهو نوعان :

الأوّل : (قالَ) لهم (يا قَوْمِ) مستعطفا لهم مع غلظتهم عليه (أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ) المحيط بكل شيء قدرة وعلما حتى نظرتم إليهم فيّ لقرابتي منهم ، ولم تنظروا إلى الله تعالى في قربي منه لما ظهر عليّ من كرامته تعالى (وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا ،) أي : جعلتموه كالمنسيّ المنبوذ وراء الظهر بإشراككم به ، والإهانة لرسوله. قال في «الكشاف» : والظهريّ منسوب إلى الظهر والكسر من تغييرات النسب ، ونظيره قولهم في النسبة إلى الأمس : إمسيّ بكسر الهمزة ، وقوله : (إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ،) أي : إنه عليم بأحوالكم فلا يخفى عليه شيء منها.

٨٥

النوع الثاني : قوله : (وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) والمكانة الحالة التي يمكن صاحبها من عمله ، والمعنى : اعملوا حال كونكم موصوفين بغاية المكنة والقدرة وكل ما في وسعكم وطاقتكم من إيصال الشرور إليّ ، (إِنِّي) أيضا (عامِلٌ) بما آتاني الله من القدرة والطاعة (سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ) فمن موصولة مفعول العلم. فإن قيل : لم لم يقل فسوف تعلمون؟ أجيب : بأنّ إدخال الفاء وصل ظاهر بحرف موضوع للوصل وأمّا حذف الفاء فيجعله جوابا عن سؤال مقدّر وهو المسمى في علم البيان بالاستئناف البياني ، تقديره أنه لما قال : (وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ) فكأنهم قالوا : فماذا يكون بعد ذلك فقال : سوف تعلمون ، فظهر أن حذف حرف الفاء ههنا أكمل في بيان الفصاحة والتهويل ؛ لأنه استئناف. (وَارْتَقِبُوا ،) أي : انتظروا عاقبة أمركم (إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ ،) أي : منتظر ، والرقيب بمعنى الراقب من رقبه كالضريب والصريم ، بمعنى الضارب والصارم ، أو بمعنى المراقب كالعشير والنديم ، أو بمعنى المرتقب كالفقير والرفيع بمعنى المفتقر والمرتفع.

(وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) بعذابهم وإهلاكهم (نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ ،) أي : بفضل (مِنَّا) بأن هديناهم للإيمان ووفقناهم للطاعة. فإن قيل : لم جاءت قصة عاد وقصة مدين بالواو وقصة صالح ولوط بالفاء؟ أجيب : بأنّ قصة عاد ومدين لم يسبقهما ذكر وعد يجري مجرى السبب له بخلاف قصتي صالح ولوط فإنهما ذكرا بعد الوعد وذلك قوله تعالى : (وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) وقوله : (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ) فلذلك جاءا بفاء السببية. (أَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا ،) أي : ظلموا أنفسهم بالشرك والبخس. (الصَّيْحَةُ ،) أي : صيحة جبريل عليه‌السلام صاح بهم صيحة خرجت أرواحهم وماتوا جميعا ، وقيل : أتتهم صيحة من السماء (فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ ،) أي : باركين على الركب ميتين.

(كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا ،) أي : كأنهم لم يقيموا (فِيها ،) أي : ديارهم مدّة من الدهر ، مأخوذ من قولهم : غني بالمكان إذا أقام فيه مستغنيا به عن غيره (أَلا بُعْداً ،) أي : هلاكا (لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ) إنما شبههم بهم ؛ لأنّ عذابهم كان أيضا بالصيحة لكن صيحتهم كانت من تحتهم وصيحة مدين كانت من فوقهم ، قال ابن عباس : لم يعذب الله تعالى أمّتين بعذاب إلا قوم شعيب وقوم صالح ؛ فأمّا قوم صالح فأخذتهم الصيحة من تحتهم ، وأمّا قوم شعيب فأخذتهم الصيحة من فوقهم.

القصة السابعة : التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة وهي آخر قصصها قصة موسى عليه الصلاة والسّلام المذكورة في قوله تعالى :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٩٦) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٩٧) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (٩٩) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (١٠٠) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (١٠١) وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (١٠٤) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١٠٥) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ

٨٦

فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٠٧) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (١٠٨) فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (١٠٩) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١١٠) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١١) فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (١١٣) وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١١٥) فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦))

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) أي : التوراة مع ما فيها من الشرائع والأحكام (وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي : برهان بيّن ظاهر على صدق نبوّته ورسالته وقيل : المراد بالآيات المعجزات وبالسلطان المبين العصا ؛ لأنها أظهر الآيات ، وذلك لأنّ الله تعالى أعطى موسى تسع آيات بينات وهي العصا واليد البيضاء والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ونقص من الثمرات والسنين ، ومنهم من أبدل نقص الثمرات والسنين بإظلال الجبل وفلق البحر. قال بعض المحققين : سميت الحجة سلطانا لأنّ صاحب الحجة يقهر من لا حجة له ، كالسلطان يقهر غيره ، والعلماء سلاطين بسبب كمالهم في القوّة العلمية ، والملوك سلاطين بحسب ما معهم من القدرة والمكنة إلا أن سلطنة العلماء أكمل وأقوى من سلطنة الملوك ؛ لأنّ سلطنة العلماء لا تقبل النسخ والعزل وسلطنة الملوك تقبلهما ولأنّ سلطنة الملوك تابعة لسلطنة العلماء ، لأنّ سلطنة العلماء من جنس سلطنة الأنبياء وسلطنة الملوك من جنس سلطنة الفراعنة.

(إِلى فِرْعَوْنَ) طاغية القبط (وَمَلَائِهِ ،) أي : أشراف قومه الذين تتبعهم الأذناب ؛ لأنّ القصد الأكبر رفع أيديهم عن بني اسرائيل (فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ ،) أي : اتبعوا طريقة فرعون المنهمك في الضلال والطغيان الداعي إلى ما لا يخفى فساده على من له أدنى مسكة من العقل ولم يتبعوا موسى الهادي إلى الحق المؤيد بالمعجزات الظاهرة الباهرة لفرط جهالتهم وعدم استبصارهم (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ،) أي : بسديد ولا حميد العاقبة ولا يدعو إلى خير وقيل : رشيد ذو رشد ، وانسلاخ فرعون من الرشد كان ظاهرا ؛ لأنه كان دهريا نافيا للصانع والمعاد وكان يقول : لا إله للعالم وإنما يجب على أهل كل بلد أن يشتغلوا بطاعة سلطانهم وعبوديته رعاية لمصلحة العالم ، وكل الرشد في عبادة الله تعالى ومعرفته ، فلما كان هو نافيا لهذين الأمرين كان خاليا من الرشد بالكلية.

(يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) إلى النار كما كان يقدمهم في الدنيا إلى الضلال أو كما تقدم قومه في الدنيا فأدخلهم البحر وأغرقهم فكذا يتقدمهم في القيامة فيدخلهم النار كما قال تعالى : (فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ.) فإن قيل : لم لم يقل يقدم قومه فيوردهم النار بل أتى بلفظ الماضي؟ أجيب : بأنه إنما أتى بلفظ الماضي مبالغة في تحققه ، ونزل النار له منزلة الماء فسمّى إتيانها موردا ، ولهذا قال تعالى : (وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) وردهم لأنّ الورد إنما يراد لتسكين العطش وتبريد الأكباد

٨٧

والنار ضدّه. فإن قيل : لفظ النار مؤنث فكان مقتضى ذلك أن يقال : وبئست الورد المورود؟ أجيب : بأن لفظ الورد مذكر فكان التذكير والتأنيث جائزين كما تقول : نعم المنزل دارك ونعمت المنزل دارك ، فمن ذكر غلب المنزل ومن أنث بنى على تأنيث الدار.

(وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ ،) أي : الدنيا (لَعْنَةً ،) أي : طردا وبعدا عن الرحمة (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ ،) أي : وأتبعوا يوم القيامة لعنة أخرى فهم ملعونون في الدنيا والآخرة ، ونظيره قوله تعالى في سورة القصص : (وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) [القصص ، ٤٢].(بِئْسَ الرِّفْدُ ،) أي : العون (الْمَرْفُودُ) رفدهم ، سأل رافع بن الأزرق ابن عباس عن ذلك فقال :هو اللعنة بعد اللعنة. وقال قتادة : ترادفت عليهم لعنتان من الله تعالى لعنة في الدنيا ولعنة في الآخرة ، وكل شيء جعلته عونا لشيء فقد رفدته به ، وسميت اللعنة عونا ؛ لأنها إذا أتبعتهم في الدنيا أبعدتهم عن الرحمة وأعانتهم على ما هم فيه من الضلال. وسميت رفدا أي عونا لهذا المعنى على التهكم كقول القائل (١) :

تحية بينهم ضرب وجيع

وسميت معانا لأنها أردفت في الآخرة بلعنة أخرى ليكونا هاديتين إلى طريق الجحيم. ولما ذكر تعالى قصص الأوّلين قال تعالى : (ذلِكَ ،) أي : المذكور وهو مبتدأ خبره (مِنْ أَنْباءِ الْقُرى ،) أي : أخبار أهل القرى وهم الأمم السالفة في القرون الماضية ، وقوله تعالى : (نَقُصُّهُ عَلَيْكَ ،) أي : نخبرك به يا محمد خبرا بعد خبر ، وفائدة ذكر هذه القصص على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليعلم السامع أنّ المؤمن يخرج من الدنيا مع الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة ، وأنّ الكافر يخرج مع اللعنة في الدنيا والعقاب في الآخرة ، وإذا تكرّرت هذه الأقاصيص على السمع فلا بدّ وأن يلين القلب وتخضع النفس وتزول العداوة ويحصل في القلب خوف يحمله على النظر والاستدلال. وفي إخباره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذه القصص من غير مطالعة كتب ولا تتلمذ دلالة على نبوّته فإنّ ذلك لا يكون إلا بوحي من الله تعالى (مِنْها ،) أي : القرى (قائِمٌ ،) أي : باق كالزرع القائم هلك أهله دونه (وَ) منها (حَصِيدٌ ،) أي : عافي الأثر كالزرع المحصود هلك مع أهله.

(وَما ظَلَمْناهُمْ ،) أي : بإهلاكهم بغير ذنب (وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالكفر والمعاصي. وقال ابن عباس : يريد وما نقصناهم في الدنيا من النعيم والرزق ولكن نقصوا حظ أنفسهم حيث استخفّوا بحقوق الله تعالى (فَما أَغْنَتْ ،) أي : دفعت (عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ ،) أي : أصنامهم (الَّتِي يَدْعُونَ ،) أي : يعبدون (مِنْ دُونِ اللهِ ،) أي : غيره (مِنْ شَيْءٍ) أي شيئا فمن مزيدة (لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ ،) أي : عقابه (وَما زادُوهُمْ) بعبادتهم (غَيْرَ تَتْبِيبٍ ،) أي : غير تخسير ، وقيل : تدمير.

ولما أخبر الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كتابه بما فعله بأمم من تقدّم من الأنبياء عليهم الصلاة

__________________

(١) صدره :

وخيل قد دلفت لها بخيل

والبيت من الوافر ، وهو لعمرو بن معديكرب في ديوانه ص ١٤٩ ، وخزانة الأدب ٩ / ٢٥٢ ، ٢٥٧ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٢٠٠ ، والكتاب ٣ / ٥٠ ، ونوادر أبي زيد ص ١٥٠ ، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب ١ / ٣٤٥ ، والخصائص ١ / ٣٦٨ ، وشرح المفصل ٢ / ٨٠ ، والكتاب ٢ / ٣٢٣ ، والمقتضب ٢ / ٢٠ ، ٤ / ٤١٣.

٨٨

والسّلام لما خالفوا الرسل وما ورد عليهم من عذاب الاستئصال وبين أنهم ظلموا أنفسهم فحل بهم العذاب في الدنيا. قال تعالى بعده : (وَكَذلِكَ ،) أي : ومثل ذلك الأخذ العظيم (أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ،) أي : القرى (ظالِمَةٌ) والمراد أهلها ونظيره قوله تعالى : (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها) [القصص ، ٥٨] وقوله تعالى : (وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً) [الأنبياء ، ١٢] فبين تعالى أنّ عذابه ليس مقصورا على من تقدّم ، بل الحال في أخذ كل الظالمين يكون كذلك. ولما بيّن تعالى كيفية أخذ الأمم المتقدّمة ، ثم بين تعالى أنه إنما يأخذ جميع الظالمين على ذلك الوجه أتبعه بما يزيده تأكيدا وتقوية بقوله تعالى : (إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ ،) أي : مؤلم (شَدِيدٌ ،) أي : صعب مفتت القوى. وعن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ الله تعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته». ثم قرأ (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ»)(١) وفي هذه الآية الكريمة والحديث الشريف دلالة على أن من أقدم على ظلم فإنه يتداركه بالتوبة والإنابة وردّ الحقوق إلى أهلها ، إن كان الظلم للغير لئلا يقع في هذا الوعيد العظيم والعذاب الشديد ، ولا يظنّ أنّ هذه الآية مختصة بظالمي الأمم الماضية بل هي عامّة في كل ظالم ويعضده الحديث.

(إِنَّ فِي ذلِكَ ،) أي : ما ذكر من عذاب الأمم الماضية وإهلاكهم (لَآيَةً ،) أي : لعبرة وموعظة (لِمَنْ خافَ عَذابَ) يوم الحياة (الْآخِرَةِ) لأنه ينظر ما أحلّ الله تعالى بالمجرمين في الدنيا وما هو إلا أنموذج لما أعد لهم في الآخرة ، فإذا رأى عظمه وشدّته اعتبر به عظم العذاب الموعود فيكون له عبرة وعظة ولطفا في زيادة التقوى والخشية من الله تعالى ، وقوله : (ذلِكَ) إشارة إلى يوم القيامة ؛ لأنّ عذاب الآخرة دل عليه (يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ ،) أي : فيه (النَّاسُ ،) أي : إنّ خلق الأوّلين والآخرين كلهم يحشرون في ذلك اليوم ويجمعون ، ثم وصفه تعالى بوصف آخر بقوله تعالى : (وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ،) أي : يشهده أهل السموات وأهل الأرض.

(وَما نُؤَخِّرُهُ ،) أي : ذلك اليوم وهو يوم القيامة (إِلَّا لِأَجَلٍ ،) أي : وقت (مَعْدُودٍ ،) أي : معلوم محدود وذلك الوقت لا يعلمه إلا الله تعالى.

(يَوْمَ يَأْتِ) ذلك اليوم (لا تَكَلَّمُ) فيه حذف إحدى التاءين ، أي : لا تتكلم (نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) تعالى. وقرأ نافع وأبو عمرو والكسائي بإثبات بعد التاء من يأتي وصلا ووقفا وحذفها الباقون ، وأمّا التاء من تكلم فشدّدها البزي في الوصل وخففها الباقون. فإن قيل : كيف يوفق بين قوله تعالى : (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) [النحل ، ١١١] وقوله تعالى : (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) أجيب : بأنّ ذلك اليوم يوم طويل له مواقف ومواطن ، ففي بعضها يجادلون عن أنفسهم ، وفي بعضها يكفون عن الكلام ولا يؤذن لهم ، وفي بعضها يؤذن لهم فيتكلمون ، وفي بعضها يختم على أفواههم وتتكلم أيديهم وتشهد أرجلهم (فَمِنْهُمْ ،) أي : الناس (شَقِيٌّ وَ) منهم (سَعِيدٌ ،) أي : فمنهم من سبقت له الشقاوة فوجبت له النار بمقتضى الوعيد ، ومنهم من سبقت له السعادة فوجبت له الجنة بموجب الوعد ، وعن عليّ رضي الله تعالى عنه قال :

__________________

(١) أخرجه البخاري في التفسير حديث ٤٦٨٦ ، ومسلم في البر حديث ٢٥٨٣ ، والترمذي في التفسير حديث ٣١١٠ ، وابن ماجه في الفتن حديث ٤٠١٨.

٨٩

كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتانا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقعد وقعدنا حوله وبيده مخصرة ثم نكت بها الأرض ساعة ، ثم قال : «ما من نفس منفوسة إلا قد كتب مكانها من الجنة أو النار فقالوا : يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا؟ فقال : اعملوا فكل مسير لما خلق له ، أمّا من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة ، ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير لعمل أهل الشقاوة ثم قرأ (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) [الليل ، ٥ ، ٦ ، ٧] الآية» (١). وبقيع الغرقد هو مقبرة أهل المدينة الشريفة ومدفنهم فيه ، والمخصرة كالسوط والعصا مما يمسكه الإنسان بيده ، والنكت بالنون والتاء المثناة من فوق ضرب الشيء بتلك المخصرة أو باليد أو نحو ذلك حتى يؤثر فيه.

(فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا) في علمه تعالى (فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ) وهو صوت شديد (وَشَهِيقٌ) وهو صوت ضعيف. وقيل : الزفير إخراج النفس والشهيق ردّه. وقيل : الزفير بمنزلة ابتداء صوت الحمير بالنهيق ، والشهيق بمنزلة آخر صوت الحمار إذا ردّده في صدره. وقيل : الزفير في الحلق والشهيق في الصدر ، وعلى كل المراد منهما الدلالة على شدّة كربهم وغمهم (خالِدِينَ فِيها) وقوله تعالى : (ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) فيه وجهان : أحدهما : سموات الآخرة وأرضها وهي مخلوقة دائمة للأبد والدليل على أن لها سموات وأرضا قوله تعالى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) [إبراهيم ، ٤٨]. وقوله تعالى : (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) [الزمر ، ٧٤] ، ولأنه لا بدّ لأهل الآخرة مما يقلهم ويظلهم إمّا سماء يخلقها الله تعالى ، أو يظلهم العرش وكل ما أظلك فهو سماء ، وكل ما استقرّ قدمك عليه فهو أرض. والوجه الثاني : أنّ المراد مدّة دوامهما في الدنيا (إِلَّا ،) أي : غير (ما شاءَ رَبُّكَ) من الزيادة على مدّتهما مما لا منتهى له وذلك هو الخلود فيها أبدا (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) من غير اعتراض.

(وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) كما تقدّم ، ودل عليه قوله تعالى : (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ،) أي : مقطوع ، وقيل : الاستثناء في أهل الشقاوة يرجع إلى قوم من الموحدين يدخلهم الله تعالى إلى النار بذنوب اقترفوها ثم يخرجهم منها فيكون ذلك استثناء ، وذلك كاف في صحة الاستثناء ؛ لأنّ زوال الحكم عن الكل يكفيه زواله عن البعض من غير الجنس لأنّ الذين أخرجوا من النار سعداء في الحقيقة استثناهم الله تعالى من الأشقياء ،. لما روي عن جابر أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يخرج قوم من النار بالشفاعة» (٢) ، وفي رواية : «أن الله تعالى يخرج ما شاء من النار فيدخلهم الجنة» (٣). وفي رواية أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ليصيبن قوما سفع من النار بذنوب أصابوها عقوبة ثم يدخلهم الله بفضله ورحمته الجنة» (٤) وفي رواية أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يخرج قوم من النار بشفاعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيدخلون الجنة فيسمون الجهنميين» (٥). وعن عبد الله بن

__________________

(١) أخرجه البخاري في الجنائز حديث ١٣٦٢ ، والترمذي في التفسير حديث ٣٣٤٤.

(٢) أخرجه البخاري في الرقاق حديث ٦٥٦٦ ، وأبو داود في السنة حديث ٤٧٤٠ ، والطبراني في المعجم الكبير ١٨ / ١٣٧ ، وأحمد في المسند ٣ / ١٣٤ ، ٢٦٩ ، ٥ / ٣٩١.

(٣) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ١٩١.

(٤) أخرجه البخاري في التوحيد حديث ٧٤٥٠.

(٥) تقدم الحديث مع تخريجه قبل قليل.

٩٠

عمرو بن العاص : «ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد» (١) ، أي : من أهل الكبائر من أمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن تخلى طبقتهم التي كانوا فيها وإن نازع في ذلك الزمخشري على مذهبه الفاسد من أنّ أهل الكبائر يخلدون في النار ، وأمّا الاستثناء في أهل السعادة فيرجع إلى مدّة لبثهم في النار قبل دخولهم الجنة ، أو أنّ الاستثناء راجع إلى الفريقين فإنهم مفارقوا الجنة أيام عذابهم ، وأنّ التأبيد من مبدأ معين ينقص باعتبار الابتداء كما ينقص باعتبار الانتهاء ، وهؤلاء وإن شقوا بعصيانهم فقد سعدوا بإيمانهم ، ولا يقال : فعلى هذا لم يكن قوله تعالى : (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) تقسيما صحيحا ؛ لأنّ شرطه أن تكون صفة كل قسم منتفية عن قسيمه ؛ لأنّ ذلك الشرط حيث التقسيم لانفصال حقيقي ، أو مانع من الجميع من الجنة والنار ، مدّة تعميرهم في الدنيا واحتباسهم في البرزخ وهو ما بين الموت إلى البعث ومدّة وقوفهم للحساب ، ثم يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار فيكون المعنى خالدين في الجنة والنار إلا هذا المقدار. وقيل : معناه لو شاء ربك لأخرجهم منها ولكنه لا يشاء ؛ لأنه تعالى حكم بالخلود. وقال الفراء : هذا الاستثناء استثناه الله تعالى ولا يفعله ، كقولك : والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك وعزيمتك أن تضربه.

وقال أهل المعاني : هذه عبارة عن التأبيد على عادة العرب يقولون : لا آتيك ما دامت السموات والأرض ولا يكون كذا ما اختلف الليل والنهار يعنون أبدا. وقيل : إنّ أهل النار ينقلون منها إلى الزمهرير وغيره من العذاب أحيانا ، وكذلك أهل الجنة ينعمون بما هو أعلى من الجنة وهو الفوز برضوان الله تعالى ولقائه كما قال تعالى : (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) [التوبة ، ٧٢]. وقرأ حفص وحمزة والكسائي سعدوا بضم السين على البناء للمفعول من سعده الله بمعنى أسعده والباقون بفتحها ، وعطاء نصب على المصدر المؤكد ، أي : أعطوا عطاء ، أو الحال من الجنة.

ولما شرح الله تعالى أقاصيص عبدة الأوثان ثم أتبعه بأحوال الأشقياء وأحوال السعداء شرح للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحوال الكفار من قومه فقال :

(فَلا تَكُ) يا محمد (فِي مِرْيَةٍ ،) أي : شك (مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ) المشركون من الأصنام أننا نعذبهم كما عذبنا من قبلهم ، وهذه تسلية للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ ،) أي : كعبادتهم (مِنْ قَبْلُ) وقد عذبناهم (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ) مثلهم (نَصِيبَهُمْ ،) أي : حظهم من العذاب (غَيْرَ مَنْقُوصٍ ،) أي : كاملا غير ناقص.

ولما ذكر تعالى في هذه الآية إعراضهم عن الاتباع مع ما أتى به من المعجزات وأنزل عليه من الكتاب سلاه بأخيه موسى عليه‌السلام بقوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ ،) أي : التوراة الجامعة للخير (فَاخْتُلِفَ فِيهِ ،) أي : الكتاب ، فآمن به قوم وكفر به قوم ، كما اختلف هؤلاء في القرآن (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) بتأخير الحساب والجزاء للخلائق إلى يوم القيامة (لَقُضِيَ ،) أي : لوقع القضاء (بَيْنَهُمْ ،) أي : بين من اختلف في كتاب موسى في الدنيا فيما اختلفوا فيه بإنزال ما يستحقه المبطل ليتميز به المحق ، ولكن سبقت الكلمة أنّ القضاء الكامل إنما يكون يوم القيامة

__________________

(١) أخرجه ابن عدي في الكامل في الضعفاء ٥ / ١٨٦٣ ، والألباني في السلسلة الضعيفة ٦٠٦.

٩١

كما قال تعالى في سورة يونس عليه‌السلام : (فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ) [يونس ، ٩٣] الآية ولما كان الاختلاف قد يكون بغير الكفر بين تعالى أنه به ؛ لأنّ كل طائفة من اليهود تنكر شكها فيه وفعلها فعل الشاك فقال تعالى مؤكدا : (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ ،) أي : عظيم محيط بهم (مِنْهُ ،) أي : من الكتاب والقضاء (مُرِيبٍ ،) أي : موقع في الريب والتهمة والاضطراب مع ما رأوا من الآيات التي منها سماع كلام الله تعالى ورؤية ما كان يتجلى في جبل الطور من خوارق الأحوال. وقيل : الضمير في (وَإِنَّهُمْ) راجع لكفار مكة وفي (مِنْهُ) للقرآن (وَإِنَّ كُلًّا ،) أي : كل الخلائق ، وقوله تعالى (لَمَّا) ما زائدة واللام موطئة لقسم مقدّر تقديره والله (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ) فيجازي المصدّق على تصديقه الجنة ، ويجازي المكذب على تكذيبه النار. وقرأ نافع وابن كثير وشعبة بتخفيف وإن والباقون بالتشديد ، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بتشديد ميم لما والباقون بالتخفيف.

فائدة : قال بعض الفضلاء أنه تعالى لما أخبر عن توفية الأجزية على المستحقين في هذه الآية ذكر فيها سبعة أنواع من التأكيدات : أوّلها : كلمة إن وهي للتأكيد ، وثانيها : لفظة كل وهي أم الباب في التأكيد. وثالثها : اللام الداخلة على خبر إن تفيد التأكيد أيضا. ورابعها : حرف ما إذا جعلناه على قول الفراء موصولا. وخامسها : المضمر. وسادسها : اللام الثانية الداخلة على جواب القسم. وسابعها : النون المذكورة في قوله تعالى (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) فجميع هذه الألفاظ السبعة الدالة على التوكيد في هذه الكلمة الواحدة تدلّ على أنّ أمر الربوبية والعبودية لا يتم إلا بالبعث والقيامة وأمر الحشر والنشر ، ثم أردفه بقوله تعالى : (إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) وهو من أعظم المؤكدات فإنه تعالى لا يخفى عليه شيء من أعمال عباده ، ففيه وعد للمحسنين ووعيد للمكذبين الكافرين.

ولما بين تعالى أمر الوعد والوعيد قال لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فَاسْتَقِمْ ،) أي : على دين ربك والعمل والدعاء إليه (كَما أُمِرْتَ) والأمر في ذلك للتأكيد فإنّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان على الاستقامة لم يزل عليها ، فهو كقولك للقائم : قم حتى آتيك ، أي : دم على ما أنت عليه من القيام حتى آتيك ، وتوطئة لقوله تعالى : (وَمَنْ تابَ مَعَكَ ،) أي : وليستقم أيضا على دين الله والعمل بطاعته من آمن معك. قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه : الاستقامة أن تستقيم على الأمر والنهي ولا تروغ عنه روغان الثعلب ، وأشار صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى شدّة الاستقامة بقوله : «شيبتني هود وأخواتها» (١) ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما نزلت على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم آية أشدّ ولا أشق من هذه الآية ، وعن بعضهم : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في النوم فقلت له : يروى عنك أنك قلت : «شيبتني هود» فقال : نعم. فقلت : بأيّ آية؟ قال : «قوله تعالى : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ».) وعن سفيان بن عبد الله الثقفي قال : قلت : يا رسول الله : قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحد غيرك؟ قال : «قل آمنت بالله ورسوله ثم استقم» (٢). قال الإمام الرازي : إن هذه الآية أصل عظيم في الشريعة ، وذلك لأنّ القرآن لما ورد بالأمر بأعمال الوضوء مرتبة في اللفظ وجب اعتبار الترتيب فيها لقوله تعالى : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) ولما ورد الأمر في الزكاة بأداء الإبل من الإبل والبقر من البقر وجب اعتبارها ، وكذا القول في كل ما ورد أمر الله تعالى به انتهى.

__________________

(١) تقدم الحديث مع تخريجه.

(٢) أخرجه الترمذي في الزهد حديث ٢٤١٠ ، وابن ماجه في الفتن حديث ٣٩٧٢.

٩٢

ولما كانت الاستقامة هي التوسط بين طرفي الإفراط والتفريط نهى عن الإفراط بقوله تعالى : (وَلا تَطْغَوْا ،) أي : لا تتجاوزوا الحد فيما أمرتم به أو نهيتم عنه بالزيادة إفراطا ، فإن الله تعالى إنما أمركم ونهاكم لتهذيب أنفسكم لا لحاجته إلى ذلك ، ولن تطيقوا أن تقدروا الله حق قدره والدين متين لم يشادّه أحد إلا غلبه ، كما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا ويسروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة» (١) ، فقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّ الدين يسر ضدّ العسر أراد به التسهيل في الدين وترك التشديد فإنّ هذا الدين مع يسره وسهولته قوي فلن يغالب ولن يقاوى. وقوله : وسدّدوا ، أي : اقصدوا السداد في الأمور وهو الصواب. وقاربوا ، أي : اطلبوا المقاربة وهي القصد الذي لا غلوّ فيه ولا تقصير ، والغدوة الرواح بكرة ، والرواح الرجوع عشاء. والمراد منه : اعملوا بالنهار واعملوا بالليل أيضا. وقوله : واستعينوا بشيء من الدلجة إشارة إلى تقليله ، ولما نهى تعالى عن الإفراط وهو الزيادة تصريحا أفهم النهي عن التفريط وهو النقص عن المأمور تلويحا من باب أولى ، ثم علل ذلك مؤكدا تنزيلا لمن يفرط أو يفرّط منزلة المنكر فقال : (إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ،) أي : عالم بأعمالكم كلها لا يخفى عليه شيء منها فيجازيكم عليها.

(وَلا تَرْكَنُوا ،) أي : تميلوا (إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) أدنى ميل (فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ،) أي : تصيبكم بحرها والنهي متناول للانحطاط في هواهم والانقطاع إليهم ومصاحبتهم ومجالستهم وزيارتهم ومراقبتهم والرضا بأعمالهم والتشبيه بهم والتزيي بزيهم ومد العين إلى زهرتهم وذكرهم بما فيه تعظيم لهم ، وتأمل قوله تعالى : (وَلا تَرْكَنُوا) فإنّ الركون هو الميل اليسير. وحكي أنّ الموفق صلى خلف الإمام فقرأ بهذه الآية فغشي عليه فلما أفاق قيل له في ذلك فقال : هذا فيمن ركن إلى من ظلم فكيف بالظالم!

ولما خالط الزهري السلاطين كتب إليه أخ له في الدين : عافانا الله وإياك أبا بكر من الفتن فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك أن يدعو الله لك ويرحمك ، أصبحت شيخا كبيرا وقد أثقلتك نعم الله تعالى بما فهمك من كتابه وعلمك من سنة نبيه ، وليس كذلك أخذ الله الميثاق على العلماء قال الله سبحانه وتعالى : (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) [آل عمران ، ١٨٧] واعلم أنّ أيسر ما ارتكبت وأخف ما احتملت أنك آنست وحشة الظالم وسهلت سبيل الغيّ بدونك ممن لم يؤد حقا ولم يترك باطلا ، حين أدناك اتخذوك قطبا تدور عليك رحى باطلهم وجسرا يعبرون عليك إلى ملاذهم وسلّما يصعدون فيك إلى ضلالهم ، يدخلون بك الشك على العلماء ويقتادون بك قلوب الجهلاء ، فما أيسر ما أعمروا لك في جنب ما خربوا عليك ، وما أكثر ما أخذوا منك فيما أفسدوا عليك من دينك ، فما يؤمنك أن تكون ممن قال الله تعالى فيهم : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) [مريم ، ٥٩] فإنك تعامل من لا يجهل ويحفظ عليك من لا يغفل ، فداو دينك فقد دخله سقم ، وهيئ زادك فقد حضر السفر البعيد ، وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء والسّلام.

وقال سفيان : في جهنم واد لا يسكنه إلا القرّاء الزائرون للملوك. وعن الأوزاعي ما من شيء

__________________

(١) أخرجه البخاري في الإيمان حديث ٣٩ ، والنسائي في الإيمان حديث ٥٠٣٤.

٩٣

أبغض إلى الله تعالى من عالم يزور عاملا ، أي : من الظلمة. وعن محمد بن سلمة : الذباب على العذرة أحسن من قارئ على باب هؤلاء. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصى الله في أرضه» (١). ولقد سئل سفيان عن ظالم أشرف على الهلاك في برية هل يسقى شربة ماء فقال : لا فقيل له : يموت ، فقال : دعه يموت.

وقوله تعالى : (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ،) أي : أعوانا وأنصارا يمنعوكم من عذابه حال من قوله : (فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ،) أي : فتمسكم النار وأنتم على هذه الحالة (ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ ،) أي : لا تجدون من ينصركم ويخلصكم من عذاب الله في القيامة. ففي هذه الآية وعيد لمن ركن إلى الظلمة بأن تمسه النار فكيف يكون حال الظالم في نفسه.

ولما أمر تعالى بالاستقامة أردفه بالأمر بالصلاة بقوله تعالى : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ) وذلك يدلّ على أنّ أعظم العبادات بعد الإيمان بالله تعالى هو الصلاة وقوله تعالى : (طَرَفَيِ النَّهارِ) الغداة والعشي ، أي : الصبح والظهر والعصر. وقوله تعالى : (وَزُلَفاً) جمع زلفة ، أي : طائفة (مِنَ اللَّيْلِ ،) أي : المغرب والعشاء (إِنَّ الْحَسَناتِ) كالصلوات الخمس (يُذْهِبْنَ ،) أي : يكفرن (السَّيِّئاتِ ،) أي : الذنوب الصغائر ، لما رواه مسلم أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهنّ ما اجتنبت الكبائر» (٢) ، وزاد في رواية أخرى : «ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهنّ إذا اجتنبت الكبائر» (٣) ، وعن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «أرأيتم لو أنّ نهرا بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرّات ما تقولون هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا : لا يا رسول الله ، لا يبقى من درنه شيء. فقال : ذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بها الخطايا» (٤). وعن جابر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جار غمر على باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرّات» (٥). وعن الحسن أنّ الحسنات قول العبد : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. وسبب نزول هذه الآية ما رواه الترمذي عن أبي اليسر بن عمرو قال : أتتني امرأة وزوجها بعثه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بعث فقالت : بعني بدرهم تمرا. قال : فأعجبتني فقلت : إنّ في البيت تمرا هو أطيب من هذا فالحقيني ، فدخلت معي البيت فأهويت إليها فقبلتها ، فأتيت أبا بكر فذكرت ذلك له فقال : استر على نفسك وتب ولا تخبر أحدا ، فأتيت عمرا فذكرت له ذلك فقال : استر على نفسك وتب ولا تخبر أحدا ، فأتيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكرت ذلك له فقال : «أخنت رجلا غازيا في سبيل الله في أهله بمثل هذا» حتى تمنى أنه لم يكن أسلم إلا تلك الساعة حتى ظنّ أنه من أهل النار وأطرق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم طويلا حتى أوحي إليه : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) إلى قوله تعالى : (ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ ،) أي : عظة للمتقين. قال أبو اليسر : فأتيته فقرأها عليّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألهذا خاصة أم للناس

__________________

(١) أخرجه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٦ / ١٣٣ ، والعجلوني في كشف الخفاء ٢ / ٣٤٣ ، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار ٢ / ٨٨.

(٢) أخرجه مسلم في الطهارة حديث ٢٣٣.

(٣) انظر الحاشية السابقة.

(٤) أخرجه مسلم في المساجد حديث ٦٦٧ ، والترمذي في الأمثال حديث ٢٨٦٨.

(٥) أخرجه مسلم في المساجد حديث ٦٦٨.

٩٤

عامّة؟ قال : «بل للناس عامّة» (١). قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب.

وعن عبد الله بن مسعود أنّ رجلا أصاب من امرأة قبلة فأتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكر ذلك له فنزلت فقال رجل : يا رسول الله ، ألهذا خاصة؟ فقال : «بل للناس كافة» (٢). وعن معاذ بن جبل قال : أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجل فقال : يا رسول الله ، أرأيت رجلا لقي امرأة ليس بينهما معرفة وليس يأتي الرجل إلى امرأة شيئا إلا قد أتى هو إليها إلا أنه لم يجامعها؟ قال : فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وأمره النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يتوضأ ويصلي ، فقال معاذ بن جبل فقلت : يا رسول الله ، أهي له خاصة أم للمؤمنين عامّة؟ قال : «بل للمؤمنين عامّة».

قال العلماء : الصغائر من الذنوب تكفرها الأعمال الصالحة مثل الصلاة والصدقة والذكر والاستغفار ونحو ذلك من أعمال البر ، وأمّا الكبائر من الذنوب فلا يكفرها إلا التوبة النصوح ولها ثلاث شرائط : الأوّل : الإقلاع عن الذنب بالكلية ، الثاني : الندم على فعله ، الثالث : العزم التام على أن لا يعود إليه في المستقبل ، فإذا حصلت هذه الشرائط صحت التوبة وكانت مقبولة إن شاء الله تعالى والإشارة في قوله تعالى (ذلِكَ ذِكْرى) إلى ما تقدّم ذكره من قوله تعالى : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) إلى ههنا. وقيل : هو إشارة إلى القرآن.

وقوله تعالى : (وَاصْبِرْ) خطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي : واصبر يا محمد على أذى قومك أو على الصلاة وهو قوله تعالى : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) [طه ، ١٣٢](فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ،) أي : أجر أعمالهم. وعدل عن الضمير ليكون كالبرهان على المقصود ودليلا على أنّ الصلاة والصبر إحسان وإيماء بأنه لا يعتد بهما دون الإخلاص.

ولما بيّن تعالى أنّ الأمم المتقدّمين حل بهم عذاب الاستئصال بين أنّ السبب فيه أمران ، السبب الأوّل : أنه ما كان فيهم قوم ينهون عن الفساد في الأرض فقال تعالى : (فَلَوْ لا ،) أي : فهلا (كانَ مِنَ الْقُرُونِ ،) أي : من الأمم الماضية (مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ ،) أي : أصحاب رأي وخير وفضل (يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ) وسمى الفضل والجود بقية ؛ لأنّ الرجل يستبقي مما يخرجه أجوده وأفضله فصار مثلا في الجودة والفضل ، ويقال : فلان من بقية القوم ، أي : من خيارهم وبه فسر بيت الحماسة (٣) :

إن تذنبوا ثم يأتيني بقيتكم

ومنه قولهم : في الزوايا خبايا ، وفي الرجال بقايا. ويجوز أن تكون البقية بمعنى البقوى كالتقية بمعنى التقوى ، أي : فهلا كان منهم ذوو بقاء على أنفسهم وصيانة لها من سخط الله تعالى وعقابه.

فائدة : حكي عن الخليل أنه قال : كل ما في القرآن من كلمة لو لا فمعناه هلا إلا التي في الصافات. قال صاحب «الكشاف» : وما صحت هذه الحكاية ففي غير الصافات (لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ

__________________

(١) أخرجه الترمذي في التفسير حديث ٣١١٥.

(٢) انظر الحاشية السابقة.

(٣) عجزه :

فما عليّ بذنب منكم فوت

والبيت من البسيط ، وهو بلا نسبة في لسان العرب (بقى) ، والمحتسب ١ / ١٩٦.

٩٥

مِنْ رَبِّهِ) [القلم ، ٤٩] ، (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ) [الفتح ، ٢٥] ، (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ) [الإسراء ، ٧٤] انتهى. وقوله تعالى : (إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ) استثناء منقطع ، معناه : ولكن قليلا ممن أنجينا من القرون نهوا عن الفساد وسائرهم تاركون للنهي. السبب الثاني لنزول عذاب الاستئصال قوله تعالى : (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ ،) أي : ما نعموا فيه من الشهوات واهتموا بتحصيل أسبابها وأعرضوا عما وراء ذلك (وَكانُوا مُجْرِمِينَ ،) أي : كافرين.

تنبيه : قوله تعالى : (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) إن كان معناه : واتبعوا الشهوات كان معطوفا على مضمر ؛ لأنّ المعنى إلا قليلا ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد ، وأتبع الذين ظلموا شهواتهم فهو عطف على نهوا ، وإن كان معناه واتبعوا جزاء الإتراف فالواو للحال فكأنه قيل : أنجينا القليل وقد أتبع الذين ظلموا جزاءهم. وقوله تعالى : (وَكانُوا مُجْرِمِينَ) عطف على أترفوا ، أي : اتبعوا الإتراف ، وكونهم مجرمين ؛ لأنّ تابع الشهوات مغمور بالآثام أو على اتبعوا ، أي : اتبعوا شهواتهم وكانوا مجرمين بذلك. ثم بيّن تعالى أنه ما أهلك أهل القرى بظلم بقوله تعالى :

(وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (١١٧) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١١٩) وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠) وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٢٣))

(وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ ،) أي : بشرك (وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) فيما بينهم ، والمعنى : أنه لا يهلك أهل القرى بمجرّد كونهم مشركين إذا كانوا مصلحين في المعاملات فيما بينهم ، والحال أنّ عذاب الاستئصال لا ينزل لأجل كون القوم معتقدين الشرك بل إنما ينزل ذلك العذاب إذا أساؤوا في المعاملات وسعوا في الإيذاء والظلم ، ولهذا قيل : إنّ حقوق الله تعالى مبناها على المسامحة والمساهلة ، وحقوق العباد مبناها على الضيق والشح. ويقال في الأثر : الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم ، وإنما نزل على قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عذاب الاستئصال لما حكى الله تعالى عنهم من إيذاء الناس وظلم الخلق (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً ،) أي : أهل ملة واحدة وهي الإسلام كقوله تعالى : (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) [الأنبياء ، ٩٢] وفي هذه الآية دليل على أنّ الأمر غير الإرادة وأنه تعالى لم يرد الإيمان من كل أحد ، وأن ما أراده يجب وقوعه. والمعتزلة يحملون هذه الآية على مشيئة الإلجاء والإجبار ، ولهذا قال الزمخشري : يعني لاضطرهم إلى أن يكونوا أهل ملة واحدة (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ ،) أي : على أديان شتى ما بين يهودي ونصراني ومجوسي ومشرك ومسلم ، فكل أهل دين من هذه الأديان اختلفوا في دينهم أيضا اختلافا كثيرا لا ينضبط. عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «تفترق اليهود على إحدى وسبعين فرقة» وفي رواية «ألا إنّ من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة وإنّ هذه الأمّة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة فثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة» (١). والمراد بهذه الفرق : أهل البدع والأهواء كالقدرية

__________________

(١) أخرجه ابن ماجه في الفتن حديث ٣٩٩٢.

٩٦

والمعتزلة والرافضة. والمراد بالواحدة : هي ملة السنة والجماعة الذين اتبعوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أقواله وأفعاله.

فإن قيل : ما الدليل على أنّ الاختلاف في الأديان فلم لا يجوز أن يحمل على الاختلاف في الألوان والألسنة والأرزاق والأعمال؟ أجيب : بأنّ الدليل عليه ما قبل هذه الآية وهو قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً) فيجب حمل الاختلاف على ما يخرجهم من أن يكونوا أمّة واحدة وما بعد هذه الآية وهو قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ،) أي : أراد لهم الخير فلا يختلفون فيه ، فيجب حمل الاختلاف على معنى يصح أن يستثنى منه ذلك ، وفي هذه الآية دلالة على أنّ الهداية والإيمان لا تحصل إلا بتخليق الله تعالى ؛ لأنّ تلك الرحمة ليست عبارة عن إعطاء القدرة والعقل وإرسال الرسل وإنزال الكتب وإزاحة العذر ، فإنّ كل ذلك حاصل في حق الكفار فلم يبق إلا أن يقال : تلك الرحمة هو أنه سبحانه وتعالى خلق فيهم تلك الهداية والمعرفة (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ ،) أي : خلق أهل الاختلاف للاختلاف ، وخلق أهل الرحمة للرحمة. روي عن ابن عباس أنه قال : خلق الله أهل الرحمة لئلا يختلفوا ، وخلق أهل العذاب لأن يختلفوا ، وخلق الجنة وخلق لها أهلا ، وخلق النار وخلق لها أهلا ، والحاصل : أنّ الله تعالى خلق أهل الباطل وجعلهم مختلفين ، وخلق أهل الحق وجعلهم متفقين ، فحكم على بعضهم بالاختلاف وهم أهل الباطل ومصيرهم إلى النار ، وحكم على بعضهم بالاتفاق وهم أهل الحق ومصيرهم إلى الجنة ، ويدل لذلك قوله تعالى : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) وهي (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ ،) أي : الجنّ (وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) وهذا صريح بأنّ الله تعالى خلق أقواما للجنة والرحمة فهداهم ووفقهم لأعمال أهل الجنة ، وخلق أقواما للضلالة والنار فخذلهم ومنعهم من الهداية.

ولما ذكر تعالى القصص الكثيرة في هذه السورة ذكر نوعين من الفائدة أوّلهما تثبيت الفؤاد بقوله تعالى : (وَكُلًّا ،) أي : وكل نبأ (نَقُصُّ عَلَيْكَ) وقوله تعالى : (مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ،) أي : نخبرك به بيان لكل. وقوله تعالى : (ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) بدل من كلا ، ومعنى تثبيت فؤاده : زيادة يقينه وطمأنينة قلبه وثبات نفسه على أداء الرسالة وعلى الصبر واحتمال الأذى ، وذلك لأنّ الإنسان إذا ابتلي بمحنة وبلية فإذا رأى له فيه مشاركا خف ذلك على قلبه كما يقال : المصيبة إذا عمت خفت ، وإذا سمع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه القصص وعلم أنّ حال جميع الأنبياء مع أتباعهم هكذا سهل عليه تحمل الأذى من قومه وأمكنه الصبر عليه.

الفائدة الثانية : قوله تعالى : (وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ ،) أي : في السورة وعليه الأكثر ، أو في هذه الأنباء المقتصة فيها. وقال الحسن : في هذه الدنيا. قال الرازي : وهذا بعيد غير لائق بهذا الموضع ؛ لأنه لم يجر للدنيا ذكر حتى يعود الضمير لها. فإن قيل : قد جاءه الحق في غير هذه السورة بل القرآن كله حق وصدق؟ أجيب : بأنه إنما خصها بالذكر تشريفا لها (وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) وخصهم بالذكر لانتفاعهم بذلك بخلاف الكفار ، فذكر تعالى أمورا ثلاثة : الحق والموعظة والذكرى ، أمّا الحق فهو إشارة إلى البراهين الدالة على التوحيد والعدل والنبوّة والمعاد ، وأمّا الموعظة فهي إشارة إلى السفر عن الدنيا وتقبيح أحوالها ، وأمّا الذكرى فهي إشارة إلى الإرشاد إلى الأعمال النافذة الصالحة في الدار الآخرة.

ولما بلغ تعالى الغاية والإنذار والإعذار والترغيب والترهيب أتبع ذلك بأن قال لرسوله

٩٧

صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ ،) أي : حالتكم ، وفيه وعيد وتهديد ، وإن كانت صيغته صيغة الأمر فهو كقوله تعالى لإبليس : (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ) [الإسراء ، ٦٤] وقرأ شعبة بعد النون بألف على الجمع والباقون بغير ألف على الإفراد (إِنَّا عامِلُونَ ،) أي : على حالتنا التي أمرنا بها ربنا (وَانْتَظِرُوا ،) أي : ما يعدكم الشيطان به من الخذلان (إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ،) أي : ما يحل بكم من نقم الله تعالى وعذابه نحو ما نزل على أمثالكم ، وقيل : إنا منتظرون ما وعدنا الرحمن من أنواع الغفران والإحسان.

ثم إنه تعالى ذكر خاتمة شريفة عالية جامعة لكل المطالب الشريفة المقدّسة فقال : (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ،) أي : علم ما غاب فيهما فعلمه سبحانه وتعالى نافذ في جميع مخلوقاته خفيها وجليها (وَإِلَيْهِ) أي لا إلى غيره (يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ ،) أي : إليه يرجع أمر الخلق كلهم في الدنيا والآخرة ، وقرأ نافع وحفص بضم الياء وفتح الجيم على البناء للمفعول ، والباقون بفتح الياء وكسر الجيم. ولما كان أوّل درجات السير إلى الله تعالى عبوديته وآخرها التوكل عليه قال تعالى : (فَاعْبُدْهُ) ولا تشتغل بعبادة غيره (وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ،) أي : ثق به في جميع أمورك فإنه كافيك (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) فيحفظ على العباد أعمالهم لا يخفى عليه شيء منها فيجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته ، وقرأ نافع وابن عامر وحفص بالتاء على الخطاب ، والباقون بالياء على الغيبة.

فائدة : قال كعب الأحبار خاتمة التوراة خاتمة سورة هود. وقول البيضاوي تبعا للزمخشري عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة هود أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بنوح ومن كذب به وهود وصالح وشعيب ولوط وإبراهيم وموسى وكان يوم القيامة من السعداء» (١) حديث موضوع.

__________________

(١) الحديث ذكره الزمخشري في الكشاف ٢ / ٤١٤.

٩٨

سورة يوسف عليه‌السلام

مكية كلها ، مائة وإحدى عشرة آية وعدد كلماتها ألف وتسعمائة وست وتسعون كلمة وعدد حروفها سبعة آلاف ومائة وستة وسبعون حرفا.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) الذي وسع كل شيء قدرة وعلما (الرَّحْمنِ) لجميع خلقه المبين لهم طريق الهدى (الرَّحِيمِ) الذي خص حزبه بالإبعاد عن مواطن الردى وقوله تعالى :

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (١) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (٣) إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (٤) قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٥) وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦) لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (٧) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (٩) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (١٠) قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (١١) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (١٢) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (١٣) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (١٤))

(الر) تقدّم الكلام على أوائل السور أوّل سورة البقرة ، وقرأ ورش بالإمالة بين بين ، وأبو عمرو وابن عامر وشعبة وحمزة والكسائي بالإمالة محضة ، والباقون بالفتح ، واختلف في سبب نزول هذه السورة فعن سعيد بن جبير أنه قال : لما أنزل القرآن على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكان يتلوه على قومه فقالوا : يا رسول الله لو قصصت علينا ، فنزلت هذه السورة ، فتلاها عليهم فقالوا : يا رسول الله لو حدثنا فنزل (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ) [الزمر ، ٢٣] فقالوا : لو ذكرتنا فنزل : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ) [الحديد ١٦] ، وعن ابن عباس أنه قال : سألت اليهود النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : حدّثنا عن أمر يعقوب وولده وشأن يوسف ، فنزلت هذه السورة ، وقوله تعالى : (تِلْكَ) إشارة إلى آيات هذه السورة ، أي : تلك الآيات التي أنزلت إليك في هذه السورة

٩٩

المسماة بالر هي (آياتُ الْكِتابِ ،) أي : القرآن (الْمُبِينِ ،) أي : المبين فيه الهدى والرشد والحلال والحرام المظهر للحق من الباطل الذي ثبت فيه قصص الأوّلين والآخرين ، وشرحت فيه أحوال المتقدّمين.

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ ،) أي : الكتاب (قُرْآناً عَرَبِيًّا ،) أي : بلغة العرب لكي يعلموا معانيه ويفهموا ما فيه. روي أنّ علماء اليهود قالوا لكبراء المشركين اسألوا محمدا لم انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر؟ وعن كيفية قصة يوسف ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وذكر فيها أنه تعالى عبّر عن هذه القصة بألفاظ عربية ليتمكنوا من فهمها ، والتقدير : إنا أنزلنا هذا الكتاب الذي فيه قصة يوسف حال كونه قرآنا عربيا ، وسمي بعض القرآن قرآنا ؛ لأنّ القرآن اسم جنس يقع على الكل والبعض (لَعَلَّكُمْ) يا أهل مكة (تَعْقِلُونَ ،) أي : إرادة أن تفهموا وتحيطوا بمعانيه ، ولا يلتبس عليكم (وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ) [فصلت ، ٤٤]. واختلف العلماء هل في القرآن شيء بغير العربية؟ فقال أبو عبيدة : من زعم أنّ في القرآن لسانا غير العربية فقد أعظم على الله القول واحتج بهذه الآية (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) وروي عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة أنّ فيه من غير لسان العرب من سجيل ومشكاة وأليم وإستبرق ، وجمع بعض المفسرين بين القولين بأنّ هذه الألفاظ لما تكلمت بها العرب ودارت على ألسنتهم صارت عربية فصيحة وإن كانت غير عربية في الأصل لكنهم لما تكلموا بها نسبت إليهم وصارت لهم لغة وهو جمع حسن.

(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ،) أي : أحسن الاقتصاص ؛ لأنه اقتص على أبدع الأساليب ، والقصص اتباع الخبر بعضه بعضا ، وأصله في اللغة من قص الأثر إذا اتبعه ، وإنما سميت الحكاية قصة ؛ لأنّ الذي يقص الحديث يذكر تلك القصة شيئا فشيئا ، والمعنى : إنا نبين لك يا محمد أخبار الأمم السالفة والقرون الماضية أحسن البيان ، أو قصة يوسف عليه‌السلام خاصة ، وسماها أحسن القصص لما فيها من العبر والحكم والنكت والفوائد التي تصلح للدين والدنيا وما فيها من سير الملوك والمماليك والغلمان ومكر النساء والصبر على إيذاء الأعداء وحسن التجاوز عنهم بعد اللقاء وغير ذلك. قال خالد بن معدان في سورة يوسف ومريم : يتفكه فيهما أهل الجنة في الجنة. وقال ابن عطاء : لا يسمع سورة يوسف محزون إلا استراح إليها (بِما ،) أي : بسبب ما (أَوْحَيْنا ،) أي : بإيحائنا (إِلَيْكَ) يا محمد (هذَا الْقُرْآنَ) الذي قالوا فيه أنه مفترى ، فنحن نتابع القصص القصة بعد القصة حتى لا يشك شاك ولا يمتري ممتر أنه من عند الله (وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ ،) أي : إيحائنا إليك أو هذا القرآن (لَمِنَ الْغافِلِينَ ،) أي : عن قصة يوسف وإخوته ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما علم ذلك بالوحي ، وقيل : لمن الغافلين عن الدين والشريعة ، وإن هي المخففة من الثقيلة ، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية.

وقوله تعالى : (إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ) بدل من (أَحْسَنَ الْقَصَصِ) أو منصوب بإضمار اذكر ، ويوسف اسم عبري ، وقيل : عربي ، وردّ بأنه لو كان عربيا لصرف ، وسئل أبو الحسن الأقطع عن يوسف فقال : الأسف في اللغة الحزن ، والأسيف العبد ، واجتمعا في يوسف فسمي به ، وعن ابن عمر عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم» (١) وقوله (يا أَبَتِ) أصله يا أبي فعوض عن الياء تاء التأنيث لتناسبهما في

__________________

(١) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء حديث ٣٣٩٠ ، والترمذي في التفسير حديث ٣١١٦.

١٠٠