تفسير الخطيب الشربيني - ج ٢

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري

تفسير الخطيب الشربيني - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4207-0

الصفحات: ٧١٧

يُخْلِفُ الْمِيعادَ) لامتناع الكذب في كلامه تعالى.

ولما كان الكفار يسألون هذه الآيات منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على سبيل الاستهزاء والسخرية ، وكان ذلك يشق عليه ويتأذى من تلك الكلمات أنزل الله تعالى تسلية له وتصبيرا له على سفاهة قومه : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) كما استهزئ بك (فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ،) أي : أطلت المدّة بتأخير العقوبة (ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ) بالعقوبة (فَكَيْفَ كانَ عِقابِ ،) أي : هو واقع موقعه ، فكذلك أفعل بمن استهزاء بك ، والإملاء الإمهال بأن يترك مدّة من الزمان في راحة وأمن كالبهيمة يملي لها في المرعى ، وهذا استفهام معناه التعجب ، وفي ضمنه وعيد شديد لهم ، وجواب عن اقتراحهم الآيات على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على سبيل الاستهزاء ، ثم إنه تعالى أورد على المشركين ما يجري مجرى الحجاج ، وما يكون توبيخا لهم وتعجيبا من عقولهم فقال تعالى : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ ،) أي : رقيب (عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ ،) أي : عملت من خير وشر وهو الله تعالى القادر على كل الممكنات العالم بجميع المعلومات من الجزئيات والكليات ، ولا بدّ لهذا الكلام من جواب فإن من موصولة صلتها هو قائم ، والموصول مرفوع بالابتداء ، وخبره محذوف تقديره كمن ليس بهذه الصفة ، وهي الأصنام التي لا تنفع ولا تضرّ دل على هذا المحذوف قوله تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) ونظيره قوله تعالى : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) [الزمر ، ٢٢] الآية تقديره كمن قسا قلبه يدل عليه قوله : (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ) [الزمر ، ٢٢] وإنما حسن حذفه كون الخبر مقابلا للمبتدأ ، وقد جاء مبينا كقوله تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) [النحل ، ١٧] وقوله تعالى : (قُلْ سَمُّوهُمْ) فيه تنبيه على أنّ هؤلاء الشركاء لا يستحقونها ، والمعنى : سموهم بأسمائهم الحقيقية ، فإنهم إذا عرفت حقائقهم أنها حجارة أو غير ذلك مما هو مركز العجز ، ومحل الفقر عرف ما هم عليه من سخافة العقول وركاكة الآراء ، ثم قيل : أرجعتم عن ذلك إلى الإقرار بأنهم من جملة عبيده؟ (أَمْ تُنَبِّئُونَهُ ،) أي : تخبرونه (بِما لا يَعْلَمُ) وعلمه محيط بكل شيء (فِي الْأَرْضِ) من كونها آلهة ببرهان قاطع (أَمْ) تسمونهم شركاء (بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ ،) أي : بحجة إقناعية تقال بالفم ، وكل ما لا يعلم فليس بشيء ، وهذا احتجاج بليغ على أسلوب عجيب ينادي على نفسه بالإعجاز.

ولما كان التقدير ليس لهم على شيء من هذا برهان قاطع ، ولا قول ظاهر بنى عليه قوله تعالى : (بَلْ زُيِّنَ ،) أي : وقع التزيين بأمر من لا يرد أمره على يد من كان من شياطين الإنس أو شياطين الجنّ. (لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ ،) أي : أمرهم الذي أرادوا به ما يراد بالمكر من إظهار شيء وإبطان غيره ، وذلك أنهم أظهروا أنّ شركاءهم آلهة حقا وهم يعلمون بطلان ذلك ، وليس بهم في الباطن إلا تقليد الآباء ، وأظهروا أنهم يعبدونها لتقرّبهم إلى الله زلفى ، ولتشفع لهم ، وهم لا يعتقدون بعثا ولا نشورا ، فصار كل ذلك من فعلهم فعل الماكر (وَصُدُّوا) غيرهم (عَنِ السَّبِيلِ ،) أي : طريق الهدى الذي لا يقال لغيره سبيل ، فإنّ غيره عدم بل العدم خير منه ، فهم لم يسلكوا السبيل ، ولا تركوا غيرهم يسلكه ، فضلوا وأضلوا ، وليس ذلك بعجيب فإنّ الله أضلهم (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ ،) أي : الذي له الأمر كله بإرادة إضلاله (فَما لَهُ مِنْ هادٍ) وقرأ ابن كثير بإثبات الياء بعد الدال في الوقف دون الوصل ، والباقون بغير ياء وقفا ووصلا. وكذلك من واق وكذا ولا واق.

ولما أخبر الله تعالى بتلك الأمور المذكورة بين أنه جمع لهم بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة بقوله تعالى : (لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) بالقتل والأسر والذم والإهانة واغتنام الأموال

١٨١

واللعن ، ونحو ذلك مما فيه غيظهم (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ ،) أي : أشدّ في المشقة بسبب القوّة والشدّة وكثرة الأنواع والدوام ، وعدم الانقطاع ، ثم بين تعالى أنّ أحدا لا يقيهم من عذابه بقوله تعالى : (وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ ،) أي : مانع يمنعهم إذا أراد بهم سوءا لا في الدنيا ولا في الآخرة ، والواقي فاعل من الوقاية ، وهي الحجز بما يدفع الأذية.

ولما ذكر تعالى عذاب الكفار في الدنيا والآخرة أتبعه بذكر ثواب المتقين بقوله تعالى : (مَثَلُ ،) أي : صفة (الْجَنَّةِ ،) أي : التي هي مقرهم (الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) واختلف في إعراب ذلك على أقوال : الأوّل : قال سيبويه : (مَثَلُ الْجَنَّةِ) مبتدأ وخبره محذوف والتقدير فيما قصصناه عليك (مَثَلُ الْجَنَّةِ.) والثاني : قال الزجاج : (مَثَلُ الْجَنَّةِ) جنة من صفتها كذا وكذا. والثالث : (مَثَلُ الْجَنَّةِ) مبتدأ وخبره. (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) كما تقول صفة زيد أسمر ، والرابع الخبر (أُكُلُها ،) أي : مأكولها (دائِمٌ) لأنه الخارج عن العادة ، فقد وصف الله تعالى الجنة بثلاثة أوصاف ، الأوّل : تجري من تحتها ، أي : من تحت قصورها وأشجارها الأنهار. الثاني : إن أكلها دائم لا ينقطع أبدا بخلاف جنة الدنيا. والثالث : قوله تعالى : (وَظِلُّها ،) أي : دائم ليس كظل الدنيا لا تنسخه الشمس ولا غيرها إذ ليس فيها شمس ولا قمر ولا ظلمة ، بل ظل ممدود لا ينقطع ولا يزول. ثم إنه تعالى لما وصف الجنة بهذه الصفات الثلاثة بيّن تعالى أنها للمتقين بقوله تعالى : (تِلْكَ ،) أي : الجنة العالية الأوصاف (عُقْبَى ،) أي : آخر أمر (الَّذِينَ اتَّقَوْا ،) أي : الشرك ، ثم كرر الوعيد للكافرين بقوله تعالى (وَعُقْبَى ،) أي : منتهى أمر (الْكافِرِينَ النَّارُ) لا غير ، وفي ترتيب النظمين إطماع للمتقين وإقناط للكافرين.

واختلف في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) على قولين الأوّل : أنهم أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد بالكتاب القرآن (يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) من أنواع التوحيد والعدل والنبوّة والبعث والأحكام والقصص (وَمِنَ الْأَحْزابِ ،) أي : الجماعات من اليهود والنصارى وسائر الكفار (مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ) وهذا قول الحسن وقتادة.

فإن قيل : الأحزاب منكرون كل القرآن؟ أجيب : بأنهم لا ينكرون كل ما في القرآن ، لأنه ورد فيه إثبات الله تعالى وإثبات علمه وقدرته وحكمته وأقاصيص الأنبياء ، والأحزاب لا ينكرون كل هذه الأشياء.

والقول الثاني : أنّ المراد بالكتاب التوراة ، وبأهله الذين أسلموا من اليهود والنصارى كعبد الله بن سلام وأصحابه ، ومن أسلم من النصارى ، وهم ثمانون رجلا أربعون من نجران وثمانية من اليمن واثنان وثلاثون من أرض الحبشة ، وفرحوا بالقرآن ؛ لأنهم آمنوا به وصدّقوه ، والأحزاب بقية أهل الكتاب ، وسائر المشركين ، وقيل : كان ذكر الرحمن قليلا في القرآن في الابتداء فلما اسلم عبد الله بن سلام ومن تبعه من أهل الكتاب ساءهم قلة ذكر الرحمن مع كثرة ذكره في التوراة ، فلما كرّر الله تعالى ذكره في القرآن فرحوا به فأنزل الله تعالى : (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ) يعني مشركي مكة حين كتب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كتاب الصلح بسم الله الرحمن الرحيم قالوا : ما نعرف إلا رحمن اليمامة؟ يعني مسيلمة فأنزل الله تعالى : (وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ) [الأنبياء ، ٣٦]. ثم إنه تعالى لما بين هذا جمع كل ما يحتاج المرء إليه في معرفة المبدأ والمعاد وبينه بألفاظ قليلة فقال : (قُلْ ،) أي : يا أكرم الخلق على الله

١٨٢

تعالى (إِنَّما أُمِرْتُ ،) أي : وقع إليّ الأمر الجازم الذي لا شك فيه ولا تغيير ممن له الأمر كله (أَنْ أَعْبُدَ اللهَ ،) أي : وحده ، ولذلك قال : (وَلا أُشْرِكَ بِهِ) شيئا (إِلَيْهِ) وحده (أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ ،) أي : مرجعي للجزاء لا إلى غيره.

(وَكَذلِكَ ،) أي : كما أنزلنا الكتب على الأنبياء بلسانهم (أَنْزَلْناهُ ،) أي : القرآن (حُكْماً) والحكم فصل الأمر على الحق (عَرَبِيًّا) بلسانك ولسان قومك ، وإنما سمي القرآن حكما ؛ لأنّ فيه جميع التكاليف والحلال والحرام ، والنقض والإبرام ، فلما كان سببا للحكم جعل نفس الحكم على سبيل المبالغة. وروي أنّ المشركين كانوا يدعون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ملة آبائه ، فوعده الله تعالى على متابعتهم في تلك المذاهب بأن يصلي إلى قبلتهم بعد ما حوّله الله تعالى عنها بقوله تعالى : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ ،) أي : الكفار فيما يدعونك إليه من ملتهم (بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ،) أي : بأنك على الحق وأن قبلتك هي الكعبة (ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ ،) أي : ناصر (وَلا واقٍ ،) أي : مانع من عذابه. وقال ابن عباس : الخطاب مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد أمته.

ونزل لما عير الكفار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بكثرة النساء. (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً ،) أي : نساء ينكحونهنّ فكان لسليمان ثلاثمائة امرأة وسبعمائة سرية وكان لداود عليه‌السلام مائة امرأة (وَذُرِّيَّةً ،) أي : أولادا فأنت مثلهم ، وكانوا يقولون أيضا : لو كان رسولا من عند الله لكان أيّ شيء طلبناه منه من المعجزات أتى به فردّ الله تعالى عليهم بقوله تعالى : (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ،) أي : بإرادته ؛ لأنّ المعجزة الواحدة كافية في إزالة العذر ، والعلة وفي إظهار الحجة والبينة ، وأمّا الزائد عليها فهو مفوض إلى مشيئة الله تعالى إن شاء أظهرها وإن لم يشأ لم يظهرها لا اعتراض لأحد عليه في ذلك. ولما توعدهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم نزول العذاب ، وظهور النصرة له ولقومه وتأخر ذلك عنهم قالوا : لو كان نبيا صادقا لما ظهر كذبه ، فردّ الله تعالى عليهم بقوله تعالى (لِكُلِّ أَجَلٍ ،) أي : مدّة (كِتابٌ ،) أي : مكتوب قد أثبت فيه أن أمر كذا يكون في وقت كذا من الثواب والعقاب والأحكام ، والإتيان بالآيات وغيرها إثباتا ونسخا على ما تقتضيه الحكمة.

ولما اعترضوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقالوا : إنّ محمدا يأمر أصحابه بأمر اليوم ، ثم يأمر بخلافه غدا ، وما سبب ذلك إلا أنه يقوله من تلقاء نفسه ، فردّ الله تعالى عليهم بقوله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ) أي : محوه من الشرائع والأحكام وغيرها بالنسخ فيرفعه (وَيُثْبِتُ) ما يشاء إثباته من ذلك بأن يقرّه ويمضي حكمه كقوله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) [البقرة ، ١٠٦] إلى قوله تعالى : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة ، ١٠٦]. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم بسكون الثاء المثلثة وتخفيف الباء الموحدة ، والباقون بفتح الثاء وتشديد الباء الموحدة.

تنبيه : في هذه الآية قولان :

أحدهما أنها عامة في كل شيء كما يقتضيه ظاهر اللفظ ، وهذا مذهب عمر وابن مسعود وغيرهما قالوا : إنّ الله يمحو من الرزق ويزيد فيه ، وكذا القول في الأجل والسعادة والشقاوة والإيمان والكفر. وروي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه كان يطوف بالبيت وهو يبكي ويقول : اللهم إن كنت كتبتني في أهل السعادة ، فأثبتني فيها ، وإن كنت كتبت عليّ الشقاوة فامحني وأثبتني

١٨٣

في أهل السعادة والمغفرة ، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أمّ الكتاب ، ومثله عن ابن مسعود وهذا التأويل رواه جابر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي بعض الآثار : أنّ الرجل يكون قد بقي من عمره ثلاثون سنة فيقطع رحمه فيردّ إلى ثلاثة أيام ، والرجل يكون قد بقي من عمره ثلاثة أيام فيصل رحمه فيرد إلى ثلاثين سنة. وروي أنّ الله تعالى ينزل ، أي : أمره في آخر ثلاث ساعات تبقى من الليل فينظر في الساعة منهنّ في أمّ الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره ، فيمحو ما يشاء ويثبت.

والقول الثاني : أنّ هذه الآية خاصة في بعض الأشياء دون بعض ، واختلفوا على هذا القول فقال سعيد بن جبير وقتادة : يمحو الله ما يشاء من الشرائع والفرائض ، فينسخه ويبدله ويثبت ما يشاء منها فلا ينسخه. وقال ابن عباس : يمحو الله ما يشاء ويثبت إلا الرزق والأجل والسعادة والشقاوة ، واستدل لهذا بما رواه حذيفة بن أسيد قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله ملكا فصوّرها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظمها ثم قال : يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما يشاء ويكتب الملك ثم يقول الملك : يا رب رزقه فيقضي ربك ما يشاء ، ويكتب الملك ثم يقول : يا رب أشقي أم سعيد؟ فيكتبان فيكتب عمله وأثره وأجله ورزقه ثم تطوى الصحف فلا يزاد ولا ينقص» (١).

وقال ابن عطية عن ابن عباس : هو الرجل يعمل بطاعة الله تعالى ، ثم يرجع لمعصية الله تعالى ، فيموت على ضلاله فهو الذي يمحو الذي يثبت يعمل الرجل بطاعة الله ، فيموت وهو في طاعته فهو الذي يثبت. وقال الحسن : يمحو ما يشاء ، أي : من جاء أجله يذهب به ويثبت من لم يجىء أجله إلى أجله. وعن سعيد بن جبير قال : يمحو ما يشاء من ذنوب العباد فيغفرها ، ويثبت ما يشاء فلا يغفرها. وقال عكرمة : يمحو الله ما يشاء من الذنوب بالتوبة ، ويثبت بدل الذنوب حسنات كما قال تعالى : (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) [الفرقان ، ٧٠]. وقال السدي : يمحو الله ما يشاء يعني القمر ويثبت ما يشاء يعني الشمس بيانه قوله تعالى : (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) [الإسراء ، ١٢]. وقال الربيع : هذا في الأرواح يقبضها الله تعالى عند النوم ، فمن أراد موته أمسكه ، ومن أراد بقاءه أثبته وردّه إلى صاحبه بيانه قوله تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) [الزمر ، ٤٢] الآية. وقيل إنّ الله تعالى يثبت في أوّل كل سنة حكمها ، فإذا مضت السنة محاه ، وأثبت حكما آخر للسنة المستقبلة. وقيل : يمحو الله الدنيا ويثبت الآخرة.

وقيل : إنّ الحفظة يكتبون جميع أعمال بني آدم وأقوالهم فيمحو الله من ديوان الحفظة ما ليس فيه ثواب ولا عقاب.

وقيل : هذا في المحن والمصائب فهي مثبتة في الكتاب ، ثم يمحوها بالدعاء والصدقة (وَعِنْدَهُ) تعالى (أُمُّ الْكِتابِ) أصل الكتب والعرب تسمي كل ما يجري مجرى الأصل للشيء أمّا ، ومنه أمّ الرأس للدماغ ، وأمّ القرى لمكة ، وكل مدينة فهي أمّ لما حولها من القرى فكذلك أمّ الكتاب هو الذي يكون أصلا لجميع الكتب ، وفيه قولان : الأوّل : أنه اللوح المحفوظ الذي لا يغير ولا يبدّل وجميع حوادث العالم العلوي والسفلي يثبت فيه. روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «كان الله

__________________

(١) أخرجه مسلم في القدر حديث ٢٦٤٤ ، والطبراني في المعجم الكبير ٣ / ١٩٨ ، والسيوطي في الدر المنثور ٤ / ٣٤٥ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٥٢٠.

١٨٤

ولا شيء معه ثم خلق اللوح وأثبت فيه أحوال جميع الخلق إلى قيام الساعة» (١).

والقول الثاني : أنّ أمّ الكتاب أصله الذي لا يغير منه شيء وهو الذي كتب في الأزل. وقال ابن عباس في رواية عكرمة : هما كتابان كتاب سوى أمّ الكتاب يمحو ما يشاء منه ويثبت وعنده أمّ الكتاب لا يغير منه شيء ، وعلى هذا فالكتاب الذي يمحو منه ويثبت هو الكتاب الذي تكتبه الملائكة على الخلق. وعن ابن عباس قال : إنّ لله لوحا محفوظا مسيرته خمسمائة عام من درّة بيضاء له دفتان من ياقوتة لله فيه في كل يوم ثلاثمائة وستون لحظة يمحو ما يشاء ويثبت وعنده أمّ الكتاب. وسأل ابن عباس كعبا عن أمّ الكتاب فقال : علم الله ما هو خالق وما خلقه.

ولما كان من مقترحاتهم وطلباتهم استهزاء استعجال السيئة مما توعدوا به وكانت النفس ربما تمنت وقوع ذلك البعض وإثباته ليؤمن به غيره تقريبا لفصل النزاع قال تعالى : (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ) يا محمد وأكده بتأكيد للإعلام بأنه لا حرج عليه في ضلال من ضل بعد إبلاغه (بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ ،) أي : من العذاب وأنت حيّ مما تريد ، أو تريد أصحابك قبل وفاتك فذلك شافيك من أعدائك ، والوعد الخبر عن خير مضمون ، والوعيد الخبر عن شر مضمون والمعنى ههنا عليه وسماه وعدا لتنزيلهم إياه في طلب نزوله منزلة الوعد (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ ،) أي : قبل أن نرينك ذلك فلا لوم عليك ولا عتب (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ ،) أي : ليس عليك إلا تبليغ الرسالة إليهم ، وليس عليك أن تجازيهم ولا أن تأتيهم بالمقترحات ، والبلاغ اسم أقيم مقام التبليغ ، وأمّا فيه إدغام نون أن الشرطية في ما الزائدة. (وَعَلَيْنَا الْحِسابُ ،) أي : علينا أن نحاسبهم يوم القيامة فنجازيهم بأعمالهم ، فلا تحتفل بإعراضهم ولا تستعجل بعذابهم.

تنبيه : قال أبو حيان : هنا شرطان ؛ لأنّ المعطوف على الشرط شرط ، فيقدّر لكل شرط ، ما يناسب أن يكون جزاء مرتبا عليه والتقدير : وإمّا نرينك بعض الذي نعدهم ، فذلك شافيك من أعدائك ، وإمّا نتوفينك قبل حلوله بهم فلا لوم عليك ولا عتب ، وقد مرّت الإشارة إلى ذلك.

ولما وعد الله تعالى نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يريه بعض ما يعده أو يتوفاه قبل ذلك بين تعالى أنّ آثار حصول تلك المواعيد وعلاماتها قد ظهرت وقويت بقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا ،) أي : كفار مكة (أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ) أي : نقصد أرض هؤلاء الكفرة (نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) بما يفتح الله تعالى على المسلمين من ديار الشرك أرضا بعد أرض حوالي أرضهم ، هذا قول ابن عباس وقتادة وجماعة. وقال مجاهد : هو خراب الأرض وقبض أهلها. وعن عكرمة قال : هو قبض الناس. وعن الشعبي مثله ، وعطاء وجماعة نقصانها موت العلماء وذهاب الفقهاء ، ويؤيد هذا ما رواه عمرو بن العاص أنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إنّ الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ، ولكن بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا» (٢). وقال الحسن : قال عبد الله بن مسعود : عليكم بالعلم قبل أن يقبض وقبضه ذهاب أهله. وقال عليّ : إنما مثل الفقهاء كمثل الأنف إذا قطعت لم تعد. وقال سليمان : لا يزال

__________________

(١) أخرجه البخاري في التوحيد حديث ٧٤١٨ ، وأحمد في المسند ٤ / ٤٣١.

(٢) أخرجه البخاري في العلم باب ٣٤ ، ومسلم في العلم حديث ١٣ ، والترمذي في العلم باب ٥ ، وابن ماجه في المقدمة باب ٨ ، والدارمي في المقدمة باب ٢٦ ، وأحمد في المسند ٢ / ١٦٢ ، ١٩٠.

١٨٥

الناس بخير ما بقي الأوّل حتى يتعلم الآخر ، وإذا هلك الأوّل قبل أن يتعلم الآخر هلك الناس. وقيل لسعيد بن جبير : ما علامة هلاك الناس؟ قال : هلاك علمائهم ، ثم أثبت تعالى لنفسه أمرا كليا فقال : (وَاللهُ ،) أي : الملك الأعلى. (يَحْكُمُ) في خلقه بما يريد ؛ لأنه (لا مُعَقِّبَ ،) أي : راد ؛ لأنّ التعقيب ردّ الشيء بعد فصله (لِحُكْمِهِ) وقد حكم للإسلام بالإقبال وعلى الكفر بالإدبار ، وذلك كائن لا يمكن تغييره.

تنبيه : محل جملة لا معقب لحكمه النصب على الحال كأنه قيل : والله يحكم نافذا حكمه كما تقول : جاءني زيد لا عمامة على رأسه ولا قلنسوة تريد حاسرا (وَهُوَ) عزوجل مع تمام القدرة (سَرِيعُ الْحِسابِ) فيحاسبهم عما قليل في الآخرة بعد ما عذبهم بالقتل والإجلاء في الدنيا. وقال ابن عباس : يريد سريع الانتقام يعني : حسابه للمجازاة بالخير والشرّ ، فمجازاة الكفار بالانتقام منهم ، ومجازاة المؤمنين بإيصال الثواب إليهم ، وقد تقدّم الكلام في معنى سريع الحساب قبل هذا.

وقوله تعالى : (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ،) أي : من كفار الأمم الماضية قيل : مكروا بأنبيائهم مثل نمروذ مكر بإبراهيم ، وفرعون مكر بموسى واليهود مكروا بعيسى فيه تسلية للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقوله تعالى : (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً ،) أي : أن مكر جميع الماكرين حاصل بتخليقه وإرادته ؛ لأنه تعالى هو الخالق لجميع أعمال العباد ، فالمكر لا يضرّ إلا بإذنه ولا يؤثر إلا بتقديره ، فيه أمان له صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكرهم ، فكأنه قيل : إذا كان حدوث المكر من الله تعالى وتأثيره في الممكور به من الله وجب أن لا يكون الخوف إلا من الله تعالى لا من أحد من المخلوقين ، وذهب بعض المفسرين إلى أنّ المعنى : فلله جزاء المكر ، وذلك أنهم لما مكروا بالمؤمنين بيّن الله تعالى أنه يجازيهم على مكرهم. قال الواحدي : والأوّل أظهر القولين بدليل قوله تعالى : (يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ ،) أي : أنّ أكساب العباد معلومة لله تعالى ، وخلاف المعلوم ممتنع الوقوع ، وإذا كان كذلك ، فلا قدرة لعبد على الفعل والترك ، فكان الكل من الله فيجازيهم على أعمالهم ، وفي ذلك وعيد وتهديد للكفار الماكرين.

ثم إنه تعالى أكد ذلك التهديد بقوله تعالى : (وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ ،) أي : العاقبة المحمودة في الدار الآخرة ألهم أم للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه؟ وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بالألف بعد الكاف على الإفراد والكاف مفتوحة والفاء مكسورة مخففة ، والباقون بالألف بعد الفاء على الجمع ، فالكاف مضمومة والفاء مفتوحة مشدّدة ، فمن قرأ بالإفراد أراد الجنس كقوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) [العصر ، ٢] ليوافق قراءة الجمع. وقال عطاء : المستهزؤون وهم خمسة والمقتسمون وهم ثمانية وعشرون. وقال ابن عباس : يريد أبا جهل. قال الرازي : والأوّل هو الصواب ، أي : ليوافق قراءة الجمع كما مرّ.

ولما تقدّم قوله تعالى : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) [الرعد ، ٧] عطف عليه بعد شرح ما استتبعه قوله تعالى : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً ،) أي : لكونك لا تأتي بمقترحاتهم مع أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يقل يوما : إنه قادر عليها ، فكأنه قيل : فما أقول لهم؟ فقال تعالى : (قُلْ) لهم (كَفى بِاللهِ) الذي له الإحاطة الكاملة (شَهِيداً ،) أي : بليغ العلم في شهادته بالإطلاع على ما ظهر وما بطن (بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) يشهد بتأييد رسالتي ، وتصحيح مقالتي بما أظهر لي من الآية ،

١٨٦

وأوضح من الدلالة بهذا الكتاب ويشهد بتكذيبهم بادعائكم القدرة على المعارضة ، وترككم لها عجزا ، وهذا أعلى مراتب الشهادة ؛ لأن الشهادة قول يفيد غلبة الظنّ بأن الأمر كما شهد به ، والمعجزة فعل مخصوص يوجب القطع بكونه رسولا من عند الله ، واختلف في قوله تعالى : (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) فروى العوفي عن ابن عباس أنهم علماء اليهود والنصارى ، أي : أنّ كل من كان عالما من اليهود بالتوراة ، ومن النصارى بالإنجيل علم أنّ محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرسل من عند الله لما يجد من الدلائل الدالة على نبوّته فيها شهد بذلك من شهد به وأنكره من أنكره منهم.

والثاني : أنّ المراد شهادة أهل الكتاب من الذين آمنوا ، وهم عبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وتميم الداري. وقال الحسن ومجاهد والزجاج وسعيد بن جبير : (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) هو الله تعالى. قال الحسن : لا والله لا يعني إلا الله ، والمعنى كفى بالله الذي يستحق العبادة ، وبالذي لا يعلم علم ما في اللوح إلا هو شهيدا بيني وبينكم ، وهذا أظهر كما استظهره البقاعي ، وإن كان عطف الصفة على الموصوف خلاف الأصل إذ يقال : شهد بهذا زيد الفقيه ، لا زيد والفقيه ؛ لأنه جائز في الجملة ، وقيل : معناه : أن علم أنّ القرآن الذي جئتكم به معجز ظاهر وبرهان باهر لما فيه من الفصاحة والبلاغة والإخبار عن الغيوب وعن الأمم الماضية فمن علمه بهذه الصفة كان شهيدا بيني وبينكم والله أعلم بمراده. وما رواه البيضاويّ تبعا للزمخشريّ وتبعهما ابن عادل من أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ سورة الرعد أعطي من الأجر عشر حسنات بوزن كل سحاب مضى وكل سحاب يكون إلى يوم القيامة وبعث يوم القيامة من الموفين بعهد الله» (١) حديث موضوع.

__________________

(١) الحديث ذكره الزمخشري في الكشاف ٢ / ٥٠٤.

١٨٧

سورة إبراهيم عليه‌السلام

مكية ، إلا قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ) [إبراهيم ، ٢٨] الآيتين ، وهي اثنتان وخمسون آية وعدد كلماتها ثمانمائة وإحدى وثلاثون كلمة ، وعدد حروفها ثلاثة آلاف وأربعة وثلاثون حرفا

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) قوله تعالى :

(الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١) اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٢) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٣) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٥) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٦) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (٧) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (٨) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٩) قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٠) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (١٢) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (١٤) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (١٦) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ

١٨٨

كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (١٧))

(الر) تقدّم الكلام عليها أول يونس وهود. وقوله تعالى : (كِتابٌ) خبر لمبتدأ محذوف ، أي : هذا القرآن كتاب ، أو الر ، إن قلنا : إنها مبتدأ والجملة بعده صفة ، ويجوز أن يرتفع بالابتداء وخبره الجملة بعده وجاز الابتداء بالنكرة ؛ لأنها موصوفة تقديرا ، تقديره كتاب ، أي : كتاب يعني عظيما من بين الكتب السماوية (أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ) يا أشرف الخلق عند الله تعالى (لِتُخْرِجَ النَّاسَ ،) أي : عامة قومك وغيرهم بدعائك إياهم (مِنَ الظُّلُماتِ ،) أي : الكفر وأنواع الضلالة (إِلَى النُّورِ ،) أي : الإيمان والهدى. قال الرازي : والآية دالة على أنّ طرق الكفر والبدع كثيرة وأنّ طريق الحق ليس إلا واحدا ؛ لأنه تعالى قال : (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ) وهي صيغة جمع ، وعبر عن الإيمان والهدى بالنور ، وهو لفظ مفرد وذلك يدل على أنّ طرق الجهل والكفر كثيرة وأنّ طريق العلم والإيمان ليس إلا واحدا.

تنبيه : القائلون بأن معرفة الله تعالى لا يمكن تحصيلها إلا من تعليم الرسول ، احتجوا بهذه الآية ، وذلك يدلّ على أنّ معرفة الله تعالى لا تحصل إلا من طريق التعليم. وأجيب : بأنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كالمنبه وأمّا المعرفة فهي إنما تحصل من الدليل وقوله تعالى : (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) متعلق بالإخراج ، أي : بتوفيقه وتسهيله ، ويبدل من إلى النور (إِلى صِراطِ ،) أي : طريق (الْعَزِيزِ ،) أي : الغالب (الْحَمِيدِ ،) أي : المحمود على كل حال المستحق لجميع المحامد.

وفي قوله : (اللهِ) قراءتان ، فقرأ نافع وابن عامر برفع الهاء وصلا وابتداء على أنه مبتدأ خبره (الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ،) أي : ملكا وخلقا ، وقرأ الباقون بالجرّ على أنه بدل أو عطف بيان وما بعده صفة.

تنبيه : ذهب جماعة من المحققين إلى أنّ قولنا : الله جار مجرى الاسم العلم لذات الله سبحانه وتعالى ، وذهب قوم آخرون إلى أنه لفظ مشتق. قال الرازي : والحق عندنا هو الأوّل ؛ لأنّ الأمّة لما اجتمعت على أنّ قولنا : لا إله إلا الله يوجب التوحيد المحض علمنا أنّ قولنا : الله جار مجرى الاسم العلم. وقد قال تعالى : (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) [مريم ، ٦٥] ، أي : هل تعلم من اسمه الله غير الله ، وذلك يدل على قولنا : الله اسم لذاته المخصوصة ، ولذا استشكل قراءة الجرّ إذ الترتيب الحسن أن يذكر الاسم ، ثم يذكر عقبه الصفات كقوله تعالى : (هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ) [الحشر ، ٢٤] وأمّا الخالق الله فلا يحسن.

وأجيب عن ذلك بأنه لا يبعد أن تذكر الصفة أوّلا ، ثم يذكر الاسم ثم تذكر الصفة مرّة أخرى كما يقال : مررت بالإمام الأجل محمد الفقيه ، وهو بعينه نظير قوله تعالى : (صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) والآية تفيد حصر ما في السموات وما في الأرض له لا لغيره ، وذلك ليدلّ على أنه لا مالك إلا الله ، ولا حاكم إلا الله ، وأنه تعالى خالق لأعمال العباد ؛ لأنها حاصلة في السموات والأرض ، فوجب القول بأنّ أفعال العباد له بمعنى كونها مملوكة له ، والملك عبارة عن القدرة فوجب كونها مقدورة لله ، وإذا ثبت أنها مقدورة لله وجب وقوعها بقدرة الله ، وإلا لكان العبد قد منع الله تعالى من إيقاع مقدوره ، وذلك محال ، ثم إنه تعالى لما ذكر ذلك عطف على الكفار بالوعيد فقال تعالى : (وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ ،) أي : الذين تركوا عبادة من يستحق العبادة الذي له ما في السموات وما في الأرض ، وعبدوا من لا يملك شيئا البتة ، بل هو

١٨٩

مملوك لله تعالى ؛ لأنه من جملة ما في السموات وما في الأرض ، وويل مبتدأ ، وجاز الابتداء به ؛ لأنه دعاء كسلام عليكم وللكافرين خبره ، وقوله تعالى : (مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ ،) أي : يعذبهم في الآخرة متعلق بويل ولا يضر الفصل بالخبر.

ثم وصفهم بقوله تعالى : (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ ،) أي : يختارون (الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ ،) أي : يؤثرونها عليها (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ،) أي : يمنعون الناس عن قبول دين الله (وَيَبْغُونَها ،) أي : السبيل (عِوَجاً ،) أي : معوجة والأصل ويبغون لها زيغا وميلا ، فحذف الجار ، وأوصل الفعل إلى الضمير (أُولئِكَ ،) أي : الموصوفون بهذه الصفات (فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ،) أي : عن الحق وإسناد البعد إلى الضلال إسناد مجازي ؛ لأنّ البعيد هم الضلال بميلهم عن الباقي إلى الفاني.

ثم ذكر ما يجري مجرى تكميل النعمة والإحسان في الوجهين بقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ ،) أي : في زمن من الأزمان (إِلَّا بِلِسانِ ،) أي : لغة (قَوْمِهِ) أمّا بالنسبة إلى الرسول ؛ فلأنه تعالى بين أنّ سائر الأنبياء كانوا مبعوثين إلى قومهم خاصة ، وأما أنت يا محمد فمبعوث إلى عامة البشر ، وكان هذا الإنعام في حقك أكمل وأفضل ، وأمّا بالنسبة إلى عامّة الخلق ، فهو أنه تعالى ذكر أنه ما بعث رسولا إلا بلسان أولئك القوم (لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) ما أمروا به فيفهموه عنه بيسر وسرعة ؛ لأنّ ذلك أسهل لفهم أسرار تلك الشريعة ، والوقوف على حقائقها وأبعد عن الغلط والخطأ.

تنبيه : تمسك طائفة من اليهود يقال لهم العيسوية بهذه الآية على أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يرسل لغير العرب من وجهين :

الأوّل : أن القرآن لما كان نازلا بلغة العرب لم يعرف كونه معجزة بسبب ما فيه من الفصاحة إلا العرب ، وحينئذ لا يكون القرآن حجة إلا عليهم. الثاني : أنّ قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) [إبراهيم ، ٤] المراد بذلك اللسان لسان العرب ، وذلك يدل على أنه مبعوث إلى العرب فقط.

وردّ عليهم بأنّ المراد بالقوم أهل دعوته والدليل على عموم الدعوة قوله تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) [الأعراف ، ١٥٨] بل إلى الثقلين ؛ لأنّ التحدي كما وقع مع الإنس وقع مع الجنّ بدليل قوله تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) [الإسراء ، ٨٨]. ثم بيّن سبحانه وتعالى أنّ الإضلال والهداية بمشيئته بقوله تعالى : (فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ) إضلاله (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) هدايته ، فإنه تعالى هو المضل الهادي ، وليس على الرسل إلا التبليغ والبيان والله تعالى هو الهادي المضل يفعل ما يشاء (وَهُوَ الْعَزِيزُ) في ملكه ، فلا رادّ له عن مشيئته (الْحَكِيمُ) في صنعه فلا يهدي ولا يضل إلا لحكمة.

ولما بين تعالى أنه إنما أرسل محمدا عليه الصلاة والسّلام إلى الناس ليخرجهم من الظلمات إلى النور ، وذكر كمال إنعامه عليه وعلى قومه في ذلك الإرسال وفي تلك البعثة أتبع ذلك بشرح بعثة سائر الأنبياء إلى أقوامهم ، وكيفية معاملة أقوامهم لهم ليكون ذلك تصبيرا له صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أذى قومه وإرشادا له إلى كيفية مكالمتهم ومعاملتهم ، فذكر تعالى على العادة المألوفة قصص بعض الأنبياء

١٩٠

عليهم الصلاة والسّلام ، فبدأ بذكر قصة موسى عليه‌السلام فقال : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا ،) أي : العصا واليد والجراد والقمل والضفادع والدم وفلق البحر وانفجار العيون من الحجر وإظلال الجبل والمنّ والسلوى وسائر معجزاته (أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ ،) أي : بني اسرائيل (مِنَ الظُّلُماتِ ،) أي : الكفر والضلال (إِلَى النُّورِ ،) أي : الإيمان والهدى.

تنبيه : يجوز أن تكون أن مصدرية ، أي : بأن أخرج ، والباء في بآياتنا للحال ، وهذه للتعدية ، ويجوز أن تكون مفسرة للرسالة بمعنى ، أي : ويكون المعنى ، أي : أخرج قومك من الظلمات ، أي : قلنا له أخرج قومك كقوله تعالى : (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا) [ص ، ٦]. (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) قال ابن عباس : بنعم الله. وقال مقاتل : بوقائع الله في الأمم السالفة ، يقال : فلان عالم بأيام العرب ، أي : بوقائعهم ، وفي المثل من سرّ يوما يره. قال الرازي : معناه من رأى في يوم سروره بمصرع غيره رآه غيره في يوم آخر بمصرع نفسه ، وقال تعالى : (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) [آل عمران ، ١٤٠] والمعنى : عظهم بالترغيب ، والترهيب ، والوعد والوعيد ، والترغيب والوعد أن يذكرهم ما أنعم الله عليهم وعلى من قبلهم ممن آمنوا بالرسل فيما سلف من الأيام ، والترهيب والوعيد أن يذكرهم بأمر الله وعذابه وانتقامه ممن كذب الرسل فيما سلف من الأيام مثل ما نزل بعاد وثمود وغيرهم من العذاب ليرغبوا في الوعد ، فيصدّقوا ويحذروا من الوعيد ، فيتركوا التكذيب ، وقيل : بأيام الله في حق موسى أن يذكر قومه بأيام المحنة والبلاء حين كانوا تحت أيدي القبط يسومونهم سوء العذاب ، فخلصهم الله من ذلك وجعلهم ملوكا بعد أن كانوا مملوكين (إِنَّ فِي ذلِكَ ،) أي : التذكير العظيم (لَآياتٍ) على وحدانية الله تعالى وعظمته (لِكُلِّ صَبَّارٍ ،) أي : كثير الصبر على الطاعة وعن المعصية (شَكُورٍ ،) أي : كثير الشكر للنعم ، وإنما خص الصبور والشكور بالاعتبار بالآيات ، وإن كان فيها عبرة للكل ؛ لأنهم المنتفعون بها دون غيرهم فلهذا خصهم بالآيات ، فكأنها ليست لغيرهم فهو كقوله تعالى : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة ، ٣] فإنّ الانتفاع لا يمكن حصوله إلا لمن يكون صابرا شاكرا أما من لا يكون كذلك فلا ينتفع بها البتة.

ولما أمر الله تعالى موسى أن يذكرهم بأيام الله حكى عنه أنه ذكرهم بها بقوله تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) وقوله : (إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) ظرف للنعمة بمعنى الإنعام ، أي : اذكروا إنعام الله عليكم في ذلك الوقت (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ) بالاستعباد (وَيُذَبِّحُونَ ،) أي : تذبيحا كثيرا (أَبْناءَكُمْ ،) أي : المولودين (وَيَسْتَحْيُونَ ،) أي : يستبقون (نِساءَكُمْ) أحياء وذلك كقول بعض الكهنة إنّ مولودا يولد في بني اسرائيل يكون سبب زوال ملك فرعون.

فإن قيل : لم ذكر تعالى في سورة البقرة (يُذَبِّحُونَ) بغير واو وذكره هنا مع الواو؟ أجيب : بأنها إنما حذفت في سورة البقرة ؛ لأنها تفسير لقوله تعالى : (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ) وفي التفسير لا يحسن ذكر الواو ، وهنا أدخل الواو فيه ؛ لأنه نوع آخر لأنهم كانوا يعذبونهم بأنواع من العذاب غير التذبيح فليس تفسيرا للعذاب (وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ ،) أي : إنعام وابتلاء (مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) لأنّ الابتلاء يكون ابتلاء بالنعمة والمحنة جميعا ، ومنه قوله تعالى : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [الأنبياء ، ٣٥]. فإن قيل : تذبيح الأبناء فيه بلاء ، وأمّا استحياء النساء فكيف فيه ابتلاء؟ أجيب : بأنهم كانوا يستحيونهن ويتركونهنّ تحت أيديهم كالإماء ، فكان ذلك ابتلاء.

١٩١

وقوله تعالى : (وَإِذْ ،) أي : واذكروا إذ (تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ) فهو أيضا من كلام موسى عليه‌السلام ، وتأذن بمعنى أذن كتوعد وأوعد غير أنه أبلغ لما في التفعل من معنى التكلف والمبالغة (لَئِنْ شَكَرْتُمْ.)

يا بني اسرائيل نعمتي بالتوحيد والطاعة (لَأَزِيدَنَّكُمْ) نعمة إلى نعمة ، ولأضاعفن لكم ما آتيتكم ، فإنّ الشكر قيد الموجود وصيد المفقود ، والشكر عبارة عن الاعتراف بنعمة المنعم مع تعظيمه وتوطين النفس على هذه الطريقة ، ثم قد يرتقي العبد عن تلك الحالة إلى أن يصير حبه للمنعم شاغلا له عن الالتفات إلى النعمة ، ولا شك أن منبع السعادات وعنوان كل الخيرات محبة الله تعالى ومعرفته ، وأما الزيادة في النعمة فهي على قسمين : روحانية وجسمانية ، فالأولى هي أن الشاكر يكون أبدا في مطالعة أقسام نعمة الله تعالى ، وأنواع فضله وكرمه ، وأما الثانية : فلأن الاستقراء دل على أنّ كل من كان اشتغاله بشكر نعم الله أكثر كان وصول نعم الله إليه أكثر نسأل الله تعالى القيام بواجب شكر النعمة حتى يزيدنا من فضله وكرمه وإحسانه ، ويفعل ذلك بأهلينا وأحبابنا.

ثم إنه تعالى لما ذكر ما يستحقه الشاكر ذكر ما يستحقه مقابله بقوله تعالى : (وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ ،) أي : جحدتم النعمة بالكفر والمعصية لأعذبنكم دل عليه (إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ ،) أي : لمن كفر نعمتي ولا يشكرها ، ومن عادة أكرم الأكرمين أن يصرح بالوعد ويعرض بالوعيد ، ولما بيّن موسى أن الاشتغال بالشكر يوجب تزايد الخيرات في الدنيا والآخرة ، والاشتغال بكفران النعم يوجب العذاب الشديد وحصول الآفات في الدنيا والآخرة بين بعده أن منافع الشكر ومضار الكفران لا تعود إلا إلى صاحب الشكر ، وصاحب الكفران ، وأما المعبود والمشكور فإنه متعال عن أن ينتفع بالشكر أو يستضر بالكفران فلا جرم قال تعالى : (وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ) يا بني اسرائيل (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) وأكده بقوله تعالى : (جَمِيعاً ،) أي : من الثقلين فإنما ضرر ذلك يعود على أنفسكم وحرمتموها الخير كله (فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌ) عن جميع خلقه فلا يزداد بشكر الشاكرين ولا ينقص بكفر الكافرين (حَمِيدٌ ،) أي : محمود في جميع أفعاله ؛ لأنه فيها متفضل عادل وقوله تعالى :

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ) يا بني اسرائيل (نَبَؤُا ،) أي : خبر (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ) وكانوا ملء الأرض (وَ) نبأ (عادٍ) قوم هود وكانوا أشد الناس أبدانا (وَ) نبأ (ثَمُودَ) قوم صالح وكانوا أقوى الناس على نحت الصخور وبناء القصور يحتمل أن يكون من كلام موسى ، أو كلام مبتدأ من الله تعالى لقوم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو استفهام تقرير وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ،) أي : بعد هؤلاء الأمم الثلاثة (لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ) فيه قولان ؛ الأول أن يكون المراد لا يعلم كنه مقاديرهم إلا الله تعالى ؛ لأن المذكور في القرآن جملة ، فأما ذكر العدد والعمر والكيفية والكمية فغير حاصل ، والقول الثاني : إنّ المراد ذكر أقوام ما بلغنا أخبارهم أصلا كذبوا رسلا لم نعرفهم أصلا ولا يعلمهم إلا الله ، ولذلك كان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية قال : كذب النسابون يعني أنهم يدّعون علم الأنساب إلى آدم عليه‌السلام ، وقد نفى الله علمها عن العباد. وعن ابن عباس أنه قال بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أبا لا يعرفون ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : (وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (٣٨) وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً) [الفرقان : ٣٨ ، ٣٩] وقوله تعالى : (مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا

١٩٢

عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) [غافر ، ٧٨]. وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان في انتسابه لا يجاوز معدّ بن عدنان بن أدر وقال : «تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم وتعلموا من النجوم ما تستدلون به على الطريق» (١). قال الرازي : والقول الثاني أقرب. ولما (جاءَتْهُمْ ،) أي : هؤلاء الأقوام الذين تقدم ذكرهم (رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ ،) أي : الدلائل الواضحات والمعجزات الباهرات أتوا بأمور أوّلها ما حكاه الله تعالى عنهم بقوله تعالى : (فَرَدُّوا ،) أي : الأمم (أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) وفي ذلك احتمالات : الأول : أن الكفار ردّوا أيديهم في أفواههم فعضوها غيظا مما جاءت به الرسل كقوله تعالى : (عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) [آل عمران ، ١١٩].

والثاني : أنهم لما سمعوا كلام الأنبياء عجبوا منه وضحكوا على سبيل السخرية ، فعند ذلك ردّوا أيديهم في أفواههم كما يفعل ذلك من غلبه الضحك ، فيضع يده على فيه.

والثالث : أنهم وضعوا أيديهم على أفواههم مشيرين بذلك إلى الأنبياء أن كفوا عن هذا الكلام ، واسكتوا عن ذكر هذا الحديث.

والرابع : أنهم أشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم وإلى ما تكلموا به من قولهم الكفر كما حكى الله تعالى ذلك عنهم بقوله تعالى : (وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ) أي : على زعمكم أي : أن هذا جوابنا لكم ليس عندنا غيره إقناطا لهم من التصديق هذا هو الأمر الثاني الذي أتوا به ، وقيل : الضمير في ردوا راجع للرسل عليهم‌السلام ، وفيه وجهان :

أحدهما أنّ الكفار أخذوا أيدي الرسل ووضعوها على أفواههم ليسكتوا وليقطعوا الكلام.

والثاني : أنّ الرسل لما أيسوا منهم سكتوا ووضعوا أيدي أنفسهم ، على أفواه أنفسهم فإنّ من ذكر كلاما عند قوم وأنكروه وخافهم ، فذلك المتكلم ربما وضع يد نفسه على فم نفسه ، وغرضه أن يعرّفهم أنه لا يعود إلى ذلك الكلام البتة ، والأمر الثالث : قولهم : (وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا ،) أي : شيء (تَدْعُونَنا) أيها الرسل (إِلَيْهِ ،) أي : من الدين (مُرِيبٍ ،) أي : موجب الريبة ، أي : موقع في الريبة والشبهة والريبة قلق النفس وأن لا تطمئن إلى الأمر الذي يشك فيه. فإن قيل : إنهم قالوا أولا : إنّا كفرنا بما أرسلتم به ، فكيف يقولون ثانيا (وَإِنَّا لَفِي شَكٍ) والشك دون الكفر؟ أجيب : بأنهم لما صرحوا بكفرهم بالرسل كلهم حصل لهم شبه توجب الشك لهم فقالوا : إن لم ندع الجزم واليقين في كفرنا فلا أقلّ من أن نكون شاكين مرتابين في صحة نبوتكم ، وعلى التقديرين فلا سبيل إلى الاعتراف بنبوتكم.

ولما قال هؤلاء الكفار للرسل ذلك. (قالَتْ) لهم (رُسُلُهُمْ) مجيبين (أَفِي اللهِ شَكٌّ ،) أي : هل تشكون في الله؟ وهو استفهام إنكار ، أي : لا شك في توحيده للدلائل الظاهرة عليه منها قوله تعالى : (فاطِرِ ،) أي : خالق (السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ،) أي : وما فيهما من الأنفس والأرواح والأرزاق ، وقرأ أبو عمرو رسلهم هنا وفيما مر في (جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ) بإسكان السين ، والباقون بالرفع. ولما أقاموا الدليل على وجود الله تعالى وصفوه بكمال الرحمة بقولهم : (يَدْعُوكُمْ ،) أي :

__________________

(١) أخرجه الترمذي في البر حديث ١٩٧٩ ، وأحمد في المسند ٢ / ٣٧٤ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ١ / ١٩٢ ، ١٩٣ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ١ / ٢٢٥ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٦١٢٦ ، والمنذري في الترغيب والترهيب ٣ / ٣٣٥.

١٩٣

إلى الإيمان ببعثنا وقولهم : (لِيَغْفِرَ لَكُمْ) اللام متعلقة بيدعو ، أي : لأجل غفران ذنوبكم كقوله (١) :

دعوت لما نالني مسورا

فلبى فلبى يدي مسور

ويجوز أن تكون معدية كقوله : دعوتك لزيد ، والتقدير : يدعوكم إلى غفران ذنوبكم وقوله : (مِنْ ذُنُوبِكُمْ) قال السيوطي : من زائدة فإنّ الإسلام يغفر به ما قبله ، أو تبعيضية لإخراج حقوق العباد اه. أي : والمغفور لهم ما بينهم وبين الله تعالى. قال الرازي : والعاقل لا يجوز له المصير إلى كلمة من كلام الله تعالى بأنها زائدة من غير ضرورة اه.

وقال في «الكشاف» : ما علمته جاء هكذا إلا في خطاب الكافرين كقوله : (وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) [نوح : ٣ ، ٤](يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) [الأحقاف ، ٣١]. وقال في خطاب المؤمنين : (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) [الصف : ١١ ، ١٢] وغير ذلك مما يوقفك عليه الاستقراء ، وكان ذلك للتفرقة بين الخطابين ، وأن لا يسوّى بين الفريقين في المعاد اه. قال الرازي : وأما قول «الكشاف» فهو من باب الظلمات ؛ لأنّ هذا التبعيض إن حصل فلا حاجة إلى ذكر هذا الجواب ، وإن لم يحصل كان هذا الكلام فاسدا. (وَيُؤَخِّرَكُمْ ،) أي : ولا يفعل بكم فعل من تعهدون من الملوك في المعاجلة في الإهلاك لمن خالفهم بل يؤخركم. (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ،) أي : إلى وقت قد سماه وبين مقداره يبلغكموه إن أنتم آمنتم به ، وإلا عاجلكم بالهلاك قبل ذلك الوقت إن أنتم ما آمنتم. فإن قيل : أليس قال تعالى : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) [الأعراف ، ٣٤] فكيف قال هنا : (وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) [إبراهيم ، ١٠]؟ أجيب : بأنّ الأجل على قسمين : معلق ومبرم. (قالُوا ،) أي : الأمم مجيبين للرسل. (إِنْ ،) أي : ما (أَنْتُمْ) أيها الرسل (إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا ،) أي : لا فضل لكم علينا فلم تخصون بالنبوّة دوننا ولو أرسل الله تعالى إلى البشر رسلا لجعلهم من جنس ، أي : من البشر في زعم القائلين أفضل ، وقول «الكشاف» : وهم الملائكة جار على مذهبه. (تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا ،) أي : ما تريدون بقولكم هذا إلا صدّنا عن آلهتنا التي كان آباؤنا يعبدونها (فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ ،) أي : بحجة ظاهرة على صدقكم.

ولما حكى الله تعالى عن الكفار شبهاتهم في الطعن في النبوّة حكى عن الأنبياء عليهم الصلاة والسّلام جوابهم عنها بقوله تعالى : (قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ) مجيبين لهم (إِنْ ،) أي : ما (نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) كما قلتم ، فسلموا أنّ الأمر كذلك لكنهم بينوا أنّ التماثل في البشرية لا يمنع من اختصاص بعض بمنصب النبوّة بقولهم (وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُ) أي : يتفضل (عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) بالنبوّة والرسالة فيصطفي من يشاء من عباده لهذا المنصب العظيم الشريف ، كما قال تعالى : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام ، ١٢٤]. (وَما كانَ ،) أي : ما صح واستقام (لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ،) أي : إلا بأمره ؛ لأنا عبيد مربوبون فليس إلينا الإتيان بالآيات ، ولا تستبد به استطاعتنا حتى نأتيكم بما اقترحتموه ، وإنما هو أمر متعلق بمشيئة الله تعالى فله أن

__________________

(١) البيت من المتقارب ، وهو لرجل من بني أسد في الدرر ٣ / ٦٨ ، وشرح التصريح ٢ / ٣٨ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٩١٠ ، ولسان العرب (لبى) ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ٣ / ١٢٣ ، وخزانة الأدب ٢ / ٩٢ ، ٩٣ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٣٧٩ ، والكتاب ١ / ٣٥٢ ،

١٩٤

يخص كل نبيّ بنوع من الآيات. (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ) بأمر حتم (الْمُؤْمِنُونَ ،) أي : يثقوا به فلا نخاف من تخويفكم ولا نلتفت إلى تهديدكم فإن توكلنا على الله ، واعتمادنا على فضل الله ، فإنّ الروح متى كانت مشرفة بالمعارف الإلهية مشرقة بأضواء علم الغيب قلما تبالي بالأحوال الجسمانية ، وقلما تقيم لها وزنا في حالتي السراء والضراء فلهذا توكلوا على الله ، وعوّلوا على فضله ، وقطعوا أطماعهم عمن سواه ، وعمموا الأمر للإشعار بما يوجب التوكل وقصدوا به أنفسهم قصدا أوّليا ألا ترى إلى قولهم :

(وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ) أي : أيّ عذر لنا في أن لا نتوكل عليه (وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا ،) أي : وقد عرّفنا طريق النجاة وبيّن لنا الرشد ، فإنّ من فاز بشرف العبودية ووصل إلى مقام الإخلاص والمكاشفة يقبح عليه أن يرجع في أمر من الأمور إلى غير الحق وفي هذه الآية دلالة على أنه تعالى يعصم أولياءه ، والمخلصين في عبوديته عن كيد أعدائهم ومكرهم. وقرأ أبو عمرو بسكون الباء والباقون بالرفع ، وكذلك لرسلهم سكن أبو عمرو السين ورفعها الباقون ، ثم قالوا : (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا) فإنّ الصبر مفتاح الفرج ، ومطلع الخيرات ، والحق لا بدّ وأن يصير غالبا قاهرا ، والباطل لا بدّ وأن يصير مغلوبا مقهورا ثم قالوا : (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ.) فإن قيل : أي فرق بين التوكلين؟ أجيب : بأنّ الأوّل لاستحداث التوكل والثاني طلب دوامه ، أي : فليثبت المتوكلون على ما استحدثوه من توكلهم المسبب عن إيمانهم.

ولما حكى الله تعالى عن الأنبياء عليهم‌السلام أنهم اكتفوا في دفع شرور أعدائهم بالتوكل عليه والاعتماد على حفظه وحياطته حكى عن الكفار أنهم بالغوا في السفاهة بقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ) مستهينين لمن قصروا التجاءهم عليه. (لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا ،) أي : التي لنا الآن الغلبة عليها. (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا ،) أي : حلفوا ليكونن أحد الأمرين إمّا إخراجكم أيها الرسل ، وإمّا عودكم إلى ملتنا ، أي : ديننا. فإن قيل : قد يفهم هذا بظاهره أنهم كانوا على ملتهم قبل ذلك؟ أجيب : بأنّ العود هنا بمعنى الصيرورة وهو كثير في كلام العرب كثرة فاشية ، لا تكاد تسمعهم يستعملون صار ولكن عاد يقولون ما عدت أراه ، عاد لا يكلمني ، ما عاد لفلان مال. وقد أجمعت الأمّة على أنّ الرسل من أوّل الأمر إنما نشؤوا على التوحيد لا يعرفون غيره ويجوز أن يكون الخطاب لكل رسول ولمن آمن معه فغلبوا الجماعات على الواحد ، وقيل : (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) أي إلى ما كنتم عليه قبل ادعاء الرسالة من السكوت عند ذكر معايبه وعدم التعرّض له بالطعن والقدح. ولما ذكر الكفار هذا الكلام قال تعالى : (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ ،) أي : الرسل (رَبُّهُمْ) وقوله تعالى : (لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ ،) أي : الكافرين حكاية تقتضي إضمار القول أو أجرى الإيحاء مجرى القول ؛ لأنه ضرب منه.

(وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ ،) أي : أرضهم (مِنْ بَعْدِهِمْ ،) أي : بعد هلاكهم ونظيره قوله تعالى : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا) [الأعراف ، ١٣٧] وقوله تعالى : (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ) [الأحزاب ، ٢٧]. قال الزمخشري : وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من آذى جاره ورثه الله داره» (١). قال : ولقد عاينت هذا في مدّة قريبة كان لي خال يظلمه عظيم القرية التي أنا فيها

__________________

(١) أخرجه العجلوني في كشف الخفاء ٢ / ٣٠٣.

١٩٥

ويؤذيني فيه فمات ذلك العظيم ، وملكني الله ضيعته ، فنظرت يوما إلى أبناء خالي يتردّدون منها ويأمرون وينهون فذكرت قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وحدثتهم به وسجدنا شكرا لله تعالى.

(ذلِكَ ،) أي : النصر وإيراث الأرض (لِمَنْ خافَ مَقامِي ،) أي : موقفي وهو موقف الحساب ؛ لأنّ ذلك الموقف موقف الله الذي يوقف فيه عباده يوم القيامة ونظيره (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) [النازعات ، ٤٠] وقوله تعالى : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) [الرحمن ، ٤٦] وقيل : (ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي ،) أي : خافني ، فالمقام مقحم مثل ما يقال : سلام على المجلس العالي والمراد السّلام على فلان (وَخافَ وَعِيدِ) قال ابن عباس : ما أوعدت من العذاب ، وهذا يدل على أنّ الخوف من الله غير الخوف من وعيده ؛ لأنّ العطف يقتضي المغايرة ، وفي تفسير قوله تعالى : (وَاسْتَفْتَحُوا) قولان :

أحدهما : طلب الفتح ، أي : واستنصروا الله تعالى على أعدائهم وهو كقوله تعالى : (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) [الأنفال ، ١٩].

والثاني : الفتح الحكم والقضاء ، أي : واستحكموا الله وسألوه القضاء بينهم ، وهو مأخوذ من الفتاحة ، وهي الحكومة كقوله تعالى : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ) [الأعراف ، ٨٩]. فعلى القول الأول المستفتح هم الرسل ؛ لأنهم استنصروا الله ودعوا على قومهم بالعذاب لما أيسوا من إيمانهم. قال نوح : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) [نوح ، ٢٦] وقال موسى : (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ) [يونس ، ٨٨] وقال لوط : (انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ) [العنكبوت ، ٣٠]. وعلى القول الثاني : قال الرازي : فالأولى أن يكون المستفتح هم الأمم وذلك أنهم قالوا : اللهم إن كان هؤلاء الرسل صادقين ، فعذبنا ، ومنه قول كفار قريش : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) [الأنفال ، ٣٢]. وكقول آخرين : (ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [العنكبوت ، ٢٩]. (وَخابَ ،) أي : خسر وهلك (كُلُّ جَبَّارٍ ،) أي : متكبر عن طاعة الله ، وقيل : هو الذي لا يرى فوقه أحدا ، وقيل : هو المتعظم في نفسه المتكبر على أقرانه ، واختلفوا في قوله تعالى : (عَنِيدٍ) فقال مجاهد : معاند للحق ومجانبه. وقال ابن عباس : هو المعرض عن الحق. وقال مقاتل : هو المتكبر. وقال قتادة : هو الذي يأبى أن يقول لا إله إلا الله ، وقيل : هو المعجب بما عنده.

ولما حكم تعالى على الكافر بالخيبة ، ووصفه بكونه جبارا عنيدا وصف كيفية عذابه بأمور : الأوّل : قوله تعالى : (مِنْ وَرائِهِ ،) أي : أمامه (جَهَنَّمُ ،) أي : هو صائر إليها. قال أبو عبيدة : هو من الأضداد وقال الشاعر (١) :

عسى الكرب الذي أمسيت فيه

يكون وراءه فرج قريب

ويقال أيضا : الموت وراء كل أحد. وقال تعالى : (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) [الكهف ، ٧٩] ، أي : أمامهم. وقال ثعلب : هو اسم لما توارى عنك سواء كان خلفك أم قدامك ،

__________________

(١) البيت من الوافر ، وهو لهدبة بن خشرم في خزانة الأدب ٩ / ٣٢٨ ، ٣٣٠ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ١٤٢ ، والدرر ٢ / ١٤٥ ، والكتاب ٣ / ١٥٩ ، وبلا نسبة في أسرار العربية ص ١٢٨ ، وشرح ابن عقيل ص ١٦٥ ، وشرح المفصل ٧ / ١١٧ ، ١٢١.

١٩٦

فيصح إطلاق لفظ الوراء على خلف وقدّام. وقال ابن الأنباري : وراء بمعنى بعد. قال الشاعر (١) :

وليس وراء الله للخلق مهرب.

ومعنى الآية على هذا : أن الكافر بعد الخيبة يدخل جهنم.

الأمر الثاني : ما ذكره تعالى بقوله : (وَيُسْقى ،) أي : في جهنم (مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ) وهو ما يسيل من جوف أهل النار مختلطا بالقيح والدم جعل ذلك شراب أهل النار. وقال محمد بن كعب : هو ما يسيل من فروج الزناة يسقاه الكافر. فإن قيل : علام عطف (وَيُسْقى؟) أجيب : بأنه عطف على محذوف تقديره من ورائه جهنم يلقى فيها ما يلقى ويسقى من ماء صديد.

(يَتَجَرَّعُهُ ،) أي : يتكلف أن يبتلعه مرّة بعد مرّة لمرارته وحرارته ونتنه (وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ ،) أي : ولا يقدر على ابتلاعه. قال الزمخشري : دخل كاد للمبالغة يعني ولا يقارب أن يسيغه فكيف تكون الإساغة؟ كقوله تعالى : (لَمْ يَكَدْ يَراها) [النور ، ٤٠] ، أي : لم يقرب من رؤيتها فكيف يراها؟ فإن قيل : كيف الجمع على هذا الوجه بين (يَتَجَرَّعُهُ) و (لا يَكادُ يُسِيغُهُ؟) أجيب بجوابين : أحدهما : أنّ المعنى ولا يسيغ جميعه كأنه يتجرّع البعض وما أساغ الجميع. والثاني : إنّ الدليل الذي ذكر إنما دل على وصول ذلك الشراب إلى جوف ذلك الكافر ؛ لأنّ ذلك ليس بإساغة ؛ لأنّ الإساغة في اللغة إجراء الشراب في الحلق واستطابة المشروب ، والكافر يتجرّع ذلك الشراب على كراهية ولا يسيغه ، أي : لا يستطيبه ولا يشربه شربا بمرة واحدة ، وعلى هذين الوجهين يصح حمل لا يكاد على نفي المقاربة.

الأمر الثالث : ما ذكره تعالى بقوله تعالى : (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ ،) أي : أسبابه المقتضية له من أنواع العذاب (مِنْ كُلِّ مَكانٍ ،) أي : من سائر الجهات ، وقيل : من كل مكان من جسده حتى أصول شعره وإبهام رجله. (وَما هُوَ بِمَيِّتٍ) فيستريح. وقال ابن جريج : تتعلق نفسه عند حنجرته فلا تخرج من فيه فيموت ، ولا ترجع إلى مكان من جوفه فتنفعه الحياة.

الأمر الرابع : ما ذكره تعالى بقوله تعالى : (وَمِنْ وَرائِهِ ،) أي : ومن بين يديه بعد ذلك العذاب (عَذابٌ غَلِيظٌ ،) أي : شديد كل وقت يستقبله أشدّ مما قبله ، وقيل : هو الخلود في النار ، وقيل : هو قطع الأنفاس وحبسها في الأجساد.

ولما ذكر تعالى أنواع عذابهم بين بعده أنّ سائر أعمالهم تصير باطلة ضائعة ، وذلك هو الخسران الشديد بقوله تعالى :

(مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٨) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (٢٠) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (٢١) وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما

__________________

(١) الشطر لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

١٩٧

أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٢) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (٢٣) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (٢٦) يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ (٢٧))

(مَثَلُ ،) أي : صفة (الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ ،) أي : الصالحة كصدقة وصلة رحم وفك أسير ، وإقراء ضيف ، وبر والد في عدم الانتفاع بها (كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ ،) أي : شديد هبوب الريح ، فجعلته هباء منثورا لا يقدر عليه كما قال تعالى : (لا يَقْدِرُونَ ،) أي : الكفار يوم الجزاء (مِمَّا كَسَبُوا ،) أي : عملوا في الدنيا (عَلى شَيْءٍ ،) أي : لا يجدون لهم ثوابا لفقد شرطه وهو الإيمان. وقرأ نافع (الرياح) بالجمع ، والباقون بالإفراد. (ذلِكَ) إشارة إلى ضلالهم مع حسبانهم أنهم محسنون (هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ ،) أي : الخسران الكبير لأنّ أعمالهم ضلت وهلكت فلا يرجى عودها.

تنبيه : في ارتفاع قوله تعالى : (مَثَلُ) أوجه : أحدها : وهو مذهب سيبويه أنه مبتدأ محذوف الخبر تقديره فيما يتلى عليكم مثل الذين كفروا ، وتكون الجملة من قوله تعالى : (أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ) مستأنفة على تقدير سؤال سائل يقول : كيف مثلهم؟ فقيل أعمالهم كرماد.

والثاني : وهو مذهب الفراء التقدير : مثل أعمال الذين كفروا بربهم كرماد ، فحذف المضاف اعتمادا على ذكره بعد المضاف إليه ، وهو قوله تعالى : (أَعْمالُهُمْ) ومثله قوله تعالى : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) [الزمر ، ٦٠] المعنى : ترى وجوه الذين كذبوا على الله مسودّة.

الثالث : أن يكون التقدير : صفة الذين كفروا أعمالهم كرماد كقوله : صفة زيد عرضه مصون وماله مبذول.

الرابع : أن تكون أعمالهم بدلا من قوله : (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا ،) والتقدير مثل أعمالهم وقوله تعالى : (كَرَمادٍ) هو الخبر. وقيل : غير ذلك.

وقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ ،) أي : تنظر خطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد به أمّته ، وقيل : لكل واحد من الكفرة على الالتفات. (أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ) على عظمها وارتفاعها (وَالْأَرْضَ) على تباعد أقطارها واتساعها ، وقوله تعالى : (بِالْحَقِّ ،) أي : بالحكمة ، والوجه الذي يحق أن تخلق عليه متعلق بخلق. وقرأ حمزة والكسائي بألف بعد الخاء وكسر اللام ، ورفع القاف ، وخفض الأرض. والباقون بغير ألف بعد الخاء ، وفتح اللام والقاف ، ونصب الأرض. (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) أيها الناس (وَيَأْتِ) بدلكم (بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) أطوع منكم ، رتب ذلك على كونه خالق السموات والأرض استدلالا به عليه ، فإن من خلق أصولهم وما يتوقف عليه تخليقهم قدر أن يبدلهم بخلق آخر ، ولم يمتنع عليه كما قال تعالى : (وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ ،) أي : بممتنع ، فإنه تعالى قادر بذاته ، ولا اختصاص له بمقدور دون مقدور ، ومن هذا شأنه كان حقيقا أن يؤمن به ، ويعبد رجاء

١٩٨

ثوابه وخوفا من عقابه يوم الجزاء.

ولما ذكر تعالى أصناف عذاب هؤلاء الكفار ، وذكر عقبه أن أعمالهم تصير محبطة باطلة ذكر كيفية مجادلتهم عند تمسك أتباعهم بهم وكيفية افتضاحهم عندهم بقوله تعالى : (وَبَرَزُوا ،) أي : الخلائق من قبورهم (لِلَّهِ جَمِيعاً) والتعبير فيه وفيما يأتي بالماضي ، وإن كان معناه الاستقبال لتحقق وقوعه ؛ لأنّ كل ما أخبر الله تعالى عنه فهو حق وصدق وكائن لا محالة ، فصار كأنه قد حصل ودخل في الوجود ، ونظيره : (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ) [الأعراف ، ٤٤].

تنبيه : البروز في اللغة الظهور بعد الاستتار ، وهو في حق الله تعالى محال ، فلا بدّ من تأويله وهو من وجهين :

الأوّل : أنهم كانوا يستترون من العيون عند ارتكاب الفواحش ، ويظنون أنّ ذلك خاف على الله تعالى ، فإذا كان يوم القيامة انكشفوا لله عن أنفسهم ، وعلموا أنّ الله تعالى لا تخفى عليه خافية.

الثاني : أنهم خرجوا من قبورهم ، فبرزوا لحساب الله تعالى وحكمه. ثم حكى الله تعالى عنهم أنّ الضعفاء يقولون للرؤوساء هل تقدرون على دفع عذاب الله تعالى عنا؟ بقوله تعالى : (فَقالَ الضُّعَفاءُ ،) أي : الأتباع جمع ضعيف يريد به ضعفاء الرأي (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا ،) أي : المتبوعين الذين طلبوا الكبر ، وادّعوه فاستغووهم به حتى تكبروا على الرسل ، وقوله تعالى : (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً) يصح أن يكون مصدرا نعت به للمبالغة ، أو على إضمار مضاف وأن يكون جمع تابع ، أي : تابعين لكم في تكذيب الرسل ، فكنتم سبب ضلالنا ، وقد جرت عادة الأكابر بالدفع عن أتباعهم المساعدين لهم على أباطيلهم (فَهَلْ أَنْتُمْ ،) أي : في هذا اليوم (مُغْنُونَ ،) أي : دافعون (عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ ،) أي : من انتقامه (مِنْ شَيْءٍ) فإن قيل : فما الفرق بين من في عذاب الله وبين من في شيء؟ أجيب : بأنّ الأولى للتبيين ، والثانية للتبعيض ، كأنه قيل : هل أنتم مغنون عنا بعض الشيء الذي هو من بعض عذاب الله؟ ويجوز أن يكونا للتبعيض معا بمعنى هل أنتم مغنون عنا بعض شيء هو بعض عذاب الله ، وعند هذا حكى الله تعالى عن الذين استكبروا أنهم قالوا : (لَوْ هَدانَا اللهُ ،) أي : الذي له صفات الكمال (لَهَدَيْناكُمْ ،) أي : لو أرشدنا الله تعالى لأرشدناكم ، ودعوناكم إلى الهدى ، ولكنه لم يهدنا ، فضللنا وكنتم لنا تبعا فأضللناكم ، ولما كان الموجب لقولهم هذا الجزع قالوا : (سَواءٌ عَلَيْنا ،) أي : نحن وأنتم (أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ،) أي : مستو علينا الجزع والصبر ، والجزع أبلغ من الحزن ؛ لأنه يصرف الإنسان عما هو بصدده ويقطعه عنه (ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ ،) أي : منجى ومهرب مما نحن فيه من العقاب.

تنبيه : يحتمل أن يكون هذا من كلام المتبوعين ، وأن يكون كلام الفريقين ، ويؤيد الثاني ما روي أنهم يقولون في النار : تعالوا نجزع فيجزعون خمسمئة عام فلا ينفعهم الجزع ، فيقولون : تعالوا نصبر ، فيصبرون خمسمئة عام فلا ينفعهم الصبر ، فعند ذلك يقولون ذلك. وقال محمد بن كعب القرظي : بلغني أنّ أهل النار استغاثوا بالخزنة كما قال الله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ) [غافر ، ٤٩] فردّت الخزنة عليهم : (أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى) [غافر ، ٥٠] فردّت الخزنة عليهم : (فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) [غافر ، ٥٠] فلما يئسوا مما عند الخزنة نادوا : (يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) [الزخرف ، ٧٧] سألوا

١٩٩

الموت فلا يجيبهم ثمانين سنة والسنة ثلاثمائة وستون يوما واليوم (كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) [الحج ، ٤٧] ثم يجيبهم بقوله : (إِنَّكُمْ ماكِثُونَ.) فلما أيسوا مما عنده ، قال بعضهم لبعض ذلك.

ولما ذكر تعالى المناظرة التي وقعت بين الرؤوساء والأتباع من كفرة الإنس أردفها بالمناظرة التي وقعت بين الشيطان وبين أتباعه بقوله تعالى : (وَقالَ الشَّيْطانُ) الذي هو أوّل المتبوعين في الضلال ورأس المضلين والمستكبرين (لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ ،) أي : أحكم وفرغ منه ، وأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار أخذ أهل النار في لوم إبليس وتقريعه وتوبيخه ، فيقوم فيهم خطيبا. قال مقاتل : يوضع له منبر من نار ، فيجتمع أهل النار إليه يلومونه ، فيقول لهم ما أخبر الله تعالى بقوله : (إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ ،) أي : بالبعث والجزاء على الأعمال فصدقكم (وَوَعَدْتُكُمْ ،) أن لا جنة ولا نار ولا حشر ولا حساب (فَأَخْلَفْتُكُمْ ،) أي : الوعد ، فلم أقل شيئا إلا كان زيفا ، فاتبعتموني مع كوني عدوّكم ، وتركتم ربكم وهو وليكم.

تنبيه : في الآية إضمار من وجهين : الأوّل : أنّ التقدير : إنّ الله وعدكم الحق فصدقكم كما تقدّم تقريره ، ووعدتكم فأخلفتكم ، وحذف ذلك لدلالة تلك الحالة على صدق ذلك الوعد لأنهم كانوا يشاهدونها ، وليس وراء العيان بيان ؛ ولأنه ذكر في وعد الشيطان الإخلاف ، فدل ذلك على الصدق في وعد الله تعالى.

الثاني : أنّ قوله : (وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ) الوعد يقتضي مفعولا ثانيا ، وحذف هذا للعلم به ، والتقدير : ووعدتكم أن لا جنة ولا نار ، ولا حشر ولا حساب كما تقرّر ، ولما بين غروره بين سهولة اغترارهم زيادة في تنديمهم فقال : (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ ،) أي : سلطان ، فمن مزيدة ، أي : قوّة وقدرة أقهركم على الكفر والمعاصي ، وألجئكم على متابعتي وقوله : (إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ) استثناء منقطع ، قال النحويون : لأنّ الدعاء ليس من جنس السلطان ، فمعناه : لكن دعوتكم (فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) محكمين الشهوات ؛ لأنّ النفس تدعو إلى هذه الأحوال الدنيوية ، ولا يتصور كيفية السعادات الأخروية والكمالات النفسانية والله يدعو إليها يرغب فيها كما قال : (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى.)

قال الرازي : وعندي أنه يمكن أن يقال كلمة إلا ههنا استثناء حقيقي ، لأن قدرة الإنسان على حمل الغير على عمل من الأعمال تارة تكون بالقهر والقسر ، وتارة تكون بتقوية الداعية في قلبه بإلقاء الوساوس إليه ، فهذا نوع من أنواع التسليط اه. ثم قال لهم : (فَلا تَلُومُونِي ،) أي : لأنه ما كان مني إلا الدعاء وإلقاء الوسوسة (وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ؛) لأنكم سمعتم دلائل الله تعالى وجاءتكم الرسل ، فكان من الواجب عليكم أن لا تلتفتوا إليّ ، ولا تسمعوا قولي ، فلما رجحتم قولي على الدلائل الظاهرة كان اللوم بكم أولى بإجابتي ومتابعتي من غير حجة ولا دليل.

فإن قيل : لم قال الشيطان : (فَلا تَلُومُونِي) وهو ملوم بسبب إقدامه على تلك الحالة والوسوسة الباطلة؟ أجيب : بأنه أراد لا تلوموني على فعلكم ولوموا أنفسكم عليه ؛ لأنكم عدلتم عما توجه من هداية الله تعالى لكم. ثم قال تعالى حكاية عن الشيطان أنه قال : (ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ ،) أي : بمغيثكم فيما يخصكم من العذاب ، فأزيل صراخكم منه. (وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ ،) أي : بمغيثيّ فيما يخصني منه. وقرأ ما عدا حمزة بفتح الياء مع التشديد ، وقرأ حمزة بكسر الياء مع التشديد على الأصل في التقاء الساكنين ؛ لأنّ ياء الإعراب ساكنة ، وياء المتكلم

٢٠٠