تفسير الخطيب الشربيني - ج ٢

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري

تفسير الخطيب الشربيني - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4207-0

الصفحات: ٧١٧

أصلها السكون ، فلما التقيا كسرت لالتقاء الساكنين. قال البيضاوي : وهو أصل مرفوض في مثله لما فيه من اجتماع ياءين وثلاث كسرات مع حركة ياء الإضافة اه. فقوله : أصل مرفوض ، أي : متروك عند النحاة ، وإلا فهو قراءة متواترة عند القراء ، فيجب المصير إليها ؛ لأنها وردت من رب العالمين على لسان سيد المرسلين.

وقول الفراء : ولعلها من وهم القراء ، فإنه قلّ من سلم منهم من الوهم ممنوع ، فقد قال أبو حيان : هي قراءة متواترة نقلها السلف ، واقتفى آثارهم فيها الخلف ، فلا يجوز أن يقال فيها : إنها خطأ أو قبيحة أو رديئة ، وقد نقل جماعة من أهل اللغة أنها لغة لكن قلّ استعمالها ، ونص قطرب على أنها لغة في بني يربوع ، ونص على أنها صواب أبو عمرو بن العلاء لما سئل عنها ، والقاسم بن معن من رؤساء الكوفيين. قال الله تعالى حكاية عن الشيطان أنه قال : (إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ) أي : كفرت اليوم بإشراككم إياي من قبل هذا اليوم ، أي : في الدنيا كقوله تعالى : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) [فاطر ، ١٤] ومعنى كفره بإشراكهم إياه تبرؤه منه واستنكاره له ، كقوله تعالى : (إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ) [الممتحنة ، ٤]. وروى البغوي بسنده عن عقبة بن عامر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث الشفاعة «يقول عيسى ذلك النبيّ الأمّي فيأتوني فيأذن الله لي أن أقوم فيثور مجلسي من أطيب ريح شمها أحد حتى آتي ربي فيشفعني ، ويجعل فيّ نورا من شعر رأسي إلى ظفر قدمي ثم يقول الكفار قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فمن يشفع لنا فيقولون : ما هو غير الشيطان هو الذي أضلنا فيأتونه فيقولون : قد وجد المؤمنون من يشفع لهم قم أنت فاشفع لنا فإنك أضللتنا ، فيقوم فيثور من مجلسه أنتن ريح شمها أحد ، ثم يعظم لهبهم ويقول عند ذلك : (إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِ) الآية» (١).

قال في «الكشاف» : وقوله (إِنَّ الظَّالِمِينَ ،) أي : الكافرين (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ،) أي : مؤلم من كلام الله تعالى ، ويحتمل أن يكون من جملة قول إبليس ، وإنما حكى الله تعالى ما سيقوله في ذلك الوقت ؛ ليكون لطفا للسامعين في النظر لعاقبتهم والاستعداد لما لا بدّ لهم من الوصول إليه ، وأن يتصوروا في أنفسهم ذلك المقام الذي يقول فيه الشيطان ما يقول ، فيخافوا ويعلموا ما يخلصهم منه وينجيهم.

ولما بالغ سبحانه وتعالى في شرح حال الأشقياء من الوجوه الكثيرة شرح أحوال السعداء ، وما أعدّ لهم من الثواب العظيم والأجر الجزيل ، وذلك أنّ الثواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم ، فالمنفعة الخالصة إليها الإشارة بقوله تعالى : (وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) وكونها دائمة أشير إليها بقوله تعالى : (خالِدِينَ فِيها) وهو حال مقدرة ، والتعظيم حصل لهم من وجهين : أحدهما : قوله تعالى : (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ؛) لأنّ تلك المنافع إنما كانت تفضلا من الله تعالى وإنعاما. والثاني : قوله تعالى : (تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ ؛) لأنّ بعضهم يحيى بعضا بهذه الكلمة والملائكة يحيونهم بها كما قال تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [الرعد : ٢٣ ، ٢٤] والرب يحييهم أيضا بهذه التحية كما قال تعالى : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) [يس ، ٥٨] ويحتمل أن يكون المراد أنهم لما دخلوا الجنة سلموا من جميع آفات الدنيا

__________________

(١) أخرجه المتقي الهندي في كنز العمال ٢٩٩٩.

٢٠١

وحسراتها وفنون آلامها وأسقامها وأنواع همومها وغمومها ؛ لأنّ السّلام مشتق من السلامة.

ولما شرح سبحانه تعالى أحوال الأشقياء ، وأحوال السعداء ذكر مثلا يبين الحال في حكم هذين القسمين بقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ ،) أي : تنظر ، والخطاب يحتمل أن يكون للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويدخل معه غيره ، وأن يكون لكل فرد من الناس ، أي : ألم تر أيها الإنسان (كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ ،) أي : المحيط بكل شيء علما وقدرة (مَثَلاً) سيره بحيث يعم نفعه ، والمثل قول سائر يشبه فيه حال الثاني بالأوّل ، ثم بينه بقوله تعالى : (كَلِمَةً طَيِّبَةً) قال ابن عباس وأكثر المفسرين : هي لا إله إلا الله. (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ) قال ابن مسعود وأنس : هي النخلة. وعن ابن عباس : هي شجرة في الجنة. وعن ابن عمر أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ذات يوم : «إنّ الله تعالى ضرب مثل المؤمن شجرة فأخبروني ما هي؟ قال عبد الله : فوقع الناس في شجر البوادي وكنت صبيا فوقع في قلبي أنها النخلة ، فهبت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن أقولها وأنا صغير القوم». وروي : فمنعني مكان عمر فاستحييت فقال له عمر : يا بنيّ لو كنت قلتها لكانت أحب إليّ من حمر النعم ، ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا إنها النخلة» (١). قيل : الحكمة في تشبيه الإنسان بالنخلة من بين سائر الأشجار أنّ النخلة أشبه به من حيث إنها إذا قطع رأسها يبست وسائر الأشجار يتشعب من جوانبها بعد قطع رأسها ، وأنها تشبه الإنسان بحيث إنها لا تحمل إلا باللقاح ؛ لأنّها خلقت من فضلة طينة آدم عليه‌السلام ولذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أكرموا عمتكم قيل : ومن عمتنا؟ قال : النخلة» (٢). (أَصْلُها ثابِتٌ ،) أي : في الأرض (وَفَرْعُها ،) أي : غصنها (فِي السَّماءِ ،) أي : في جهة العلو والصعود ولم يرد المظلة كقولك في الجبل : طويل في السماء تريد ارتفاعه وشموخه. (تُؤْتِي ،) أي : تعطي. (أُكُلَها ،) أي : ثمرها (كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها ،) أي : بإرادته ، والحين في اللغة الوقت يطلق على القليل والكثير ، واختلفوا في مقدار هذا ، فقال مجاهد : الحين هنا سنة كاملة ؛ لأنّ النخلة تثمر في كل سنة مرّة. وقال قتادة : ستة أشهر يعني من حين طلعها إلى وقت صرامها. وقال الربيع : كل حين يعني كل غدوة وعشية ؛ لأنّ ثمر النخل يؤكل ليلا ونهارا وصيفا وشتاء ، فيؤكل منها الجمار والطلع والبلح والخلال والبسر والمنصف والرطب ، وبعد ذلك يؤكل التمر اليابس إلى حين الطري الرطب ، فأكلها دائم في كل وقت.

قال العلماء : ووجه الحكمة في تمثيل كلمة الإخلاص بالشجرة ؛ لأنّ الإيمان ثابت في قلب المؤمن كثبوت أصل هذه الشجرة في الأرض ، وعمله يصعد إلى السماء كما قال تعالى : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر ، ١٠] فكذلك فرع هذه عال في السماء ، وتنال بركته وثوابه كل وقت ، والمؤمن كلما قال : لا إله إلا الله ، صعدت إلى السماء ، وجاءه بركتها وخيرها وثوابها ومنفعتها ؛ ولأنّ الشجرة لا تكون شجرة إلا بثلاثة أشياء عرق راسخ وأصل قائم ، وفرع عال ، كذلك الإيمان لا يتم إلا بثلاثة أشياء تصديق القلب ، وقول اللسان ، وعمل الأبدان ، ثم نبه

__________________

(١) أخرجه البخاري في العلم باب ٤ ، ٥ ، ٥٠ ، وتفسير سورة ١٤ ، باب ١ ، والأدب باب ٨٩ ، ومسلم في المنافقين حديث ٦١ ، ٦٢ ، ٦٤ ، والترمذي في الأدب باب ٧٩ ، ٨٩ ، وأحمد في المسند ٢ / ٦١ ، ٩١ ، ١٢٣ ، ١٥٧.

(٢) أخرجه العقيلي في الضعفاء ٤ / ٢٥٦ ، وابن عدي في الكامل في الضعفاء ٦ / ٢٤٢٤ ، وابن الجوزي في الموضوعات ١ / ١٨٤ ، وابن كثير في البداية والنهاية ٢ / ٦٦.

٢٠٢

تعالى على عظم هذا المثل ليقبل على تدبره ليعلم المراد منه فيلزم فقال : (وَيَضْرِبُ اللهُ ،) أي : الذي له الإحاطة الكاملة (الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ،) أي : يتعظون ، فإنّ في ضرب الأمثال زيادة إفهام ، وتذكير وتصوير للمعاني العقلية ، فيحصل الفهم التامّ والوصول إلى المطلوب.

ولما ذكر مثل حال السعداء أتبعه بمثل حال الأعداء فقال : (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ) هي كلمة الكفر (كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ) هي الحنظل وقيل : الثوم ، وقيل : الكشوث بمثلثة في آخره. قال الجوهري : نبت يتعلق بأغصان الشجر من غير أن يضرب بعرق في الأرض قال الشاعر (١) :

 هي الكشوث لا أصل ولا ورق

ولا نسيم ولا ظل ولا ثمر

وقيل شجرة الشوك (اجْتُثَّتْ ،) أي : استؤصلت (مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ،) أي : عروقها قريبة منه (ما لَها مِنْ قَرارٍ ،) أي : أصل ولا عرق ، فكذلك الكفر بالله تعالى ليس له حجة ولا ثبات ولا قوّة. وعن عبادة أنه قيل لبعض العلماء : ما تقول في (كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ؟) فقال : ما أعلم لها في الأرض مستقرا ولا في السماء مصعدا إلا أن تلزم عنق صاحبها حتى يوافى بها يوم القيامة.

ولما وصف الله سبحانه وتعالى الكلمة الطيبة في الآية المتقدّمة أخبر بقوله تعالى : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) أنه تعالى يثبتهم بها (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ،) أي : في القبر ، وقيل : قبل الموت (وَفِي الْآخِرَةِ ،) أي : يوم القيامة عند البعث والحساب ، وقيل : في القبر على القول الثاني. ولما وصف الكلمة الخبيثة في الآية المتقدّمة أخبر بقوله تعالى : (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ ،) أي : الكفار أنه تعالى لا يهديهم للجواب الصواب (وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ ،) أي : إن شاء هدى ، وإن شاء أضلّ لا اعتراض عليه. وروي عن البراء بن عازب أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمدا رسول الله فذلك قوله تعالى : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ»)(٢). وروي عن أنس أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ العبد إذا وضع في القبر وتولى عنه أصحابه يسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له : ما كنت تقول في هذا الرجل لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فأمّا المؤمن فيقول : أشهد أنه عبد الله ورسوله. فيقال له : انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة. قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فيراهما جميعا» قال قتادة : ذكر لنا أنه يفسح له في قبره ثم رجع إلى حديث أنس. قال : «وأمّا المنافق أو الكافر فيقال له : ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول : لا أدري كنت أقول ما يقول الناس فيه. فيقال : ما دريت ولا تليت ، ثم يضرب بمطرقة من حديد ضربة بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين» (٣). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : شهدنا جنازة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما فرغنا من دفنها وانصرف الناس قال : «إنه الآن يسمع خفق نعالكم أتاه منكر ونكير أعينهما مثل قدور النحاس وأنيابهما مثل صياصي البقر ، وأصواتهما مثل الرعد فيجلسانه فيسألانه ما كان يعبد ومن نبيه؟ فإن كان ممن يعبد الله تعالى قال : كنت أعبد الله ونبيي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاءنا بالبينات والهدى فآمنا به واتبعناه فذلك قوله تعالى : (يُثَبِّتُ

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو بلا نسبة في لسان العرب (كشث) ، وتاج العروس (كشث).

(٢) أخرجه ابن حجر في فتح الباري ٨ / ٣٧٨ ، والتبريزي في مشكاة المصابيح ١٢٥ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٤٢٤٩٨ ، والسيوطي في الدر المنثور ٤ / ٧٨ ، وابن كثير في تفسيره ٤ / ٤١٣.

(٣) أخرجه مسلم في الجنة حديث ٧٠ ، و ٧٢ ، وأبو داود حديث ٣٢٣١ ، وأحمد في المسند ٣ / ١٢٦ ، ٢٣٣.

٢٠٣

اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) فيقال له : على اليقين حييت وعليه مت وعليه تبعث ، ثم يفتح له باب إلى الجنة ويوسع له في حفرته ، وإن كان من أهل الشك قال : لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته فيقال له : على الشك حييت وعليه مت وعليه تبعث ، ثم يفتح له باب إلى النار ويسلط عليه عقارب وتنانين لو نفخ أحدهم في الدنيا ما أنبتت شيئا ، فتنهشه وتؤمر الأرض فتنضم عليه حتى تختلف أضلاعه» (١). فنسأل الله الثبات لنا ولوالدينا ولأحبابنا في الدنيا والآخرة إنه كريم جواد. ثم إنه تعالى عاد إلى وصف الكافرين فقال :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (٢٨) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (٢٩) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (٣٠) قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (٣١) اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (٣٢) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (٣٣) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٣٤) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (٣٥) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٦) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٣٨) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٩) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (٤٠) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (٤١))

(أَلَمْ تَرَ ،) أي : تنظر ، وفي المخاطب ما تقدّم (إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا) والتبديل جعل الشيء مكان غيره (نِعْمَتَ اللهِ ،) أي : التي أسبغها عليهم من كلمة التوحيد ومن جميع النعم الدنيوية وتيسير الرزق وغير ذلك بأن جعلوا مكان شكرها (كُفْراً) وهم يدعون أنهم أشكر الناس للإحسان ، وأعلاهم همما في الوفاء وأبعدهم عن الجفاء (وَأَحَلُّوا ،) أي : أنزلوا (قَوْمَهُمْ ،) أي : الذين تابعوهم في الكفر بإضلالهم إياهم (دارَ الْبَوارِ ،) أي : الهلاك مع إدعائهم أنهم أذب الناس عن الجار فضلا عن الأهل. روى البخاري في التفسير أنهم كفار أهل مكة ، وقوله تعالى : (جَهَنَّمَ) عطف بيان (يَصْلَوْنَها ،) أي : يدخلونها (وَبِئْسَ الْقَرارُ ،) أي : المقر هي.

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ ،) أي : الذين يعلمون أنه لا شريك له في خلقهم ولا رزقهم ؛ لأنّ له الكمال كله (أَنْداداً ،) أي : شركاء ، وقوله تعالى : (لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ ،) أي : دين الإسلام ، فيه قراءتان : قرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء من ضلّ يضلّ والباقون بضم الياء من أضل يضل ، وليس الضلال ولا الإضلال غرضهم في اتخاذ الأنداد لكن لما كان نتيجته جعل كالغرض. ولما حكى الله تعالى

__________________

(١) أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ٣ / ٤٥ ، والسيوطي في الدر المنثور ٤ / ٨٠ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ١٠ / ٤١٣ ، والمنذري في الترغيب والترهيب ٤ / ٣٧٠.

٢٠٤

عنهم هذه الأنواع الثلاثة من الأعمال القبيحة قال لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (قُلْ ،) أي : تهديدا لهم ، فإنهم لا يشكون في قولك وإن عاندوا (تَمَتَّعُوا) بدنياكم قليلا (فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ ،) أي : مرجعكم (إِلَى النَّارِ) في الآخرة.

ولما أمر الله تعالى الكافرين على سبيل التهديد والوعيد بالتمتع بنعيم الدنيا ، أمر المؤمنين بترك التمتع بالدنيا والمبالغة في المجاهدة بالنفس والمال بقوله تعالى : (قُلْ لِعِبادِيَ) فوصفهم بأشرف أوصافهم ، وأضافهم إلى ضميره الشريف تحبيبا لهم فيه ، ثم أتبع هذا الوصف ما يناسبه من إذعانهم لسيدهم بقوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا ،) أي : أوجدوا هذا الوصف (يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ) فيه وجهان : أحدهما : يصح أن يكون جوابا بالأمر محذوف تقديره قل لعبادي الذين آمنوا : أقيموا الصلاة وأنفقوا يقيموا الصلاة وينفقوا. والثاني : يصح أن يكون هو أمرا مقولا محذوفا منه اللام ، أي : ليقيموا ليصح تعلق القول بهما ، وإنما حسن ذلك هاهنا ولم يحسن في قوله (١) :

محمد تفد نفسك كل نفس

إذا ما خفت من شيء تبالا

أي تبالي به ، أي : تكثرت به لدلالة قل عليه : (سِرًّا وَعَلانِيَةً ،) أي : ينفقون أموالهم في حال السر والعلانية ، وقيل : المراد بالسر صدقة التطوع ، وبالعلانية إخراج الزكاة الواجبة.

تنبيه : في انتصاب سرّا وعلانية وجوه : أحدها : أن يكون على الحال ، أي : ذوي سر وعلانية بمعنى مسرّين ومعلنين. والثاني : على الظرف ، أي : وقت سر وعلانية. وثالثها : على المصدر ، أي : إنفاق سر وإنفاق علانية. ولما أمرهم الله تعالى بإقامة الصلاة والإنفاق أشار إلى عدم التهاون بذلك بقوله عزوجل : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ ،) أي : عظيم جدّا ليس كشيء من الأيام التي تعرفونها (لا بَيْعٌ فِيهِ ،) أي : فيشتري المقصر ما يتدارك به تقصيره ، أو يفدي به نفسه (وَلا خِلالٌ ،) أي : مخالة ، أي : صداقة تنفع في ذلك اليوم.

قال مقاتل : إنما هو يوم لا بيع فيه ولا شراء ولا مخالة ولا قرابة ، فكأنه تعالى يقول : أنفقوا أموالكم في الدنيا حتى تجدوا ثواب ذلك الإنفاق في مثل هذا اليوم الذي لا يحصل فيه مبايعة ولا مخالة ، ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة البقرة : (لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ) [البقرة ، ٢٥٤]. فإن قيل : كيف نفى الله تعالى المخالة في هاتين الآيتين مع أنه تعالى أثبتها في قوله تعالى : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) [الزخرف ، ٦٧]؟ أجيب : بأن الآية الدالة على نفي المخالفة محمولة على نفي المخالة بسبب ميل الطبع ورغبة النفس ، والآية الدالة على حصول المخالة محمولة على حصول المخالة الحاصلة بسبب عبودية الله تعالى ومحبة الله تعالى.

ولما طال الكلام في وصف أحوال السعداء وأحوال الأشقياء ، وكانت العمدة العظمى والمنزلة الكبرى في حصول السعادات معرفة الله تعالى بذاته وصفاته ، وفي حصول الشقاوة فقدان ذلك ختم تعالى أحوال الفريقين بقوله تعالى : (اللهُ ،) أي : الملك الأعلى المحيط بكل شيء ، ثم

__________________

(١) البيت من الوافر ، وهو لأبي طالب في شرح شذور الذهب ص ٢٧٥ ، وله أو للأعشى في خزانة الأدب ٩ / ١١ ، وللأعشى أو لحسان أو لمجهول في الدر ٥ / ٦١ ، وبلا نسبة في أسرار العربية ص ٣١٩ ، ٣٢١ ، والإنصاف ٢ / ٥٣٠ ، واللامات ص ٩٦.

٢٠٥

أتبعه بالدلائل الدالة على وجوده وكمال علمه وقدرته ، وذكر هنا عشرة أنواع من الدلائل : أوّلها : قوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ) وثانيها : قوله تعالى : (وَالْأَرْضَ) وهما أكبر خلقا منكم وأعظم شأنا. وثالثها قوله تعالى : (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ) تعيشون به وهو يشمل المطعوم والملبوس.

تنبيه : الله مبتدأ ، وخبره الذي خلق ، ورزقا مفعول لأخرج ، ومن الثمرات بيان له حال منه ، ويصح أن يكون المراد بالسماء هنا السحاب اشتقاقا من السمو والارتفاع ، وأن يكون الجرم المعهود فينزل من السماء إلى السحاب ، ومن السحاب إلى الأرض ، وقد ذكرت ذلك في سورة البقرة ، وفي غيرها ، ورابعها : قوله تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ ،) أي : السفن (لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ ،) أي : بالركوب والحمل (بِأَمْرِهِ ،) أي : بمشيئته وإرادته ، وخامسها : قوله تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ ،) أي : ذللها لكم تجرونها حيث شئتم ؛ لأنّ ماء البحر لا ينتفع به في سقي الزروع والثمرات ولا في الشراب فكان ذلك نعمة من الله تعالى ، وسادسها وسابعها : قوله تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) حال كونهما (دائِبَيْنِ ،) أي : جاريين في فلكهما لا يفتران في سيرهما وإنارتهما وتأثيرهما في إنارة الظلمة ، وإصلاح النبات والحيوان إلى آخر الدهر ، وهو انقضاء عمر الدنيا وذهابها ، والشمس سلطانها النهار ، وبها تعرف فصول السنة ، وهي أفضل من القمر لكثرة نفعها ، والقمر سلطانه الليل ، وبه يعرف انقضاء الشهور ، وكل ذلك بتسخير الله تعالى وإنعامه ، وثامنها وتاسعها : قوله تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) يتعاقبان فيكم بالضياء والظلمة ، والزيادة والنقصان ، وذلك من نعم الله تعالى على عباده حيث جعل لهم الليل ليسكنوا فيه ، والنهار ليبتغوا فيه من فضله. وعاشرها : قوله تعالى : (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ ،) أي : مما أنتم محتاجون إليه على حسب مصالحكم ، فأنتم سألتموه بالقوّة.

ولما ذكر سبحانه وتعالى بعض ما أنعم به على عباده بين أنّ العبد عاجز عن حصرها وعدّها بقوله تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها ،) أي : لا تحيطوا بها ولا تطيقوا عدّها وبلوغ آخرها هذا إذا أرادوا أن يعدّوها على الإجمال ، وأمّا على التفصيل فلا يقدر عليه ولا يعلمه إلا الله تعالى. (إِنَّ الْإِنْسانَ ،) أي : الكافر ، وقال ابن عباس : يريد أبا جهل. (لَظَلُومٌ ،) أي : كثير الظلم لنفسه (كَفَّارٌ ،) أي : كفور لنعم ربه ، وقيل : ظلوم في الشدّة يشكو ويجزع كفار في النعمة يجمع ويمنع. فإن قيل : لم قال تعالى هنا (إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) وفي النحل : (إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [النحل ، ١٨]؟ أجيب : بأنه تعالى يقول للعبد : إذا حصلت لك النعم الكثيرة فأنت الذي أخذتها وأنا الذي أعطيتها فحصل لك عند أخذها وصفان ، وهما كونك ظلوما كفارا ، ولي وصفان عند إعطائها وهما كوني غفورا رحيما ، والمقصود كأنه يقول : إن كنت ظلوما فأنا غفور وإن كنت كفارا فأنا رحيم أعلم عجزك وتقصيرك فلا أقابل تقصيرك ، إلا بالتوقير ولا أجازي جزاءك إلا بالوفاء ، ونسأل الله حسن العاقبة والرحمة.

ولما بين الله تعالى بالدلائل المتقدّمة أنّ لا معبود إلا الله سبحانه وتعالى وأنه لا تجوز عبادة غير الله البتة ، حكى عن إبراهيم عليه‌السلام مبالغة في إنكاره عبادة الأوثان بقوله تعالى : (وَإِذْ ،) أي : واذكر لهم مذكرا بأيام الله خبر إبراهيم إذ (قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ ،) أي : المحسن إليّ بإجابة دعائي (اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ ،) أي : مكة (آمِناً ،) أي : ذا أمن ، وقد أجاب الله تعالى دعاءه ، فجعله

٢٠٦

حرما لا يسفك فيه دم إنسان ، ولا يظلم فيه أحد ولا يصاد صيده ولا يختلى خلاه. فإن قيل : ، أي : فرق بين قوله : (اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً) [البقرة ، ١٢٦] وبين قوله : (اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً؟) بأنّ المسؤول في الأوّل أن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها ولا يخافون ، وفي الثاني : أن يزيل عنها الصفة التي كانت حاصلة لها ، وهي الخوف ويجعل لها تلك الصفة ، وهي الأمن كأنه قال : هو بلد مخوف فاجعله آمنا.

فإن قيل : كيف أجاب الله تعالى دعاءه مع أنّ جماعة من الجبابرة قد أغاروا عليها وأخافوا أهلها؟ أجيب : بجوابين : أحدهما : أنّ إبراهيم عليه‌السلام لما فرغ من بناء الكعبة دعا بهذا الدعاء ، والمراد منه جعل مكة آمنة من الخراب ، وهذا موجود بحمد الله تعالى فلم يقدر أحد على إخراب مكة. فإن قيل : يرد على هذا ما ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة» (١)؟ أجيب : بأنّ قوله تعالى : (اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ) يعني إلى قرب يوم القيامة وخراب الدنيا فهو عام مخصوص بقصة ذي السويقتين ، فلا تعارض بين النصين ، والجواب الثاني : أنّ المراد جعل أهلها آمنين كقوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] ، أي : أهلها وهذا الجواب عليه أكثر المفسرين ، وعلى هذا فقد اختص أهل مكة بزيادة الأمن في بلدهم كما أخبر الله تعالى بقوله : (وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [العنكبوت ، ٦٧] وأهل مكة آمنون من ذلك حتى أنّ من التجأ إلى مكة أمن على نفسه وماله ، وحتى أنّ الوحوش إذا كانت خارجة الحرم استوحشت ، وإذا كانت داخلة الحرم استأنست ؛ لعلمها أنه لا يهجيها أحد في الحرم ، وهذا القدر من الأمن حاصل بحمد الله بمكة وحرمها (وَاجْنُبْنِي ،) أي : بعدني (وَبَنِيَّ أَنْ ،) أي : عن أن (نَعْبُدَ الْأَصْنامَ ،) أي : اجعلنا في جانب غير جانب عبادتها.

فإن قيل : الأنبياء عليهم الصلاة والسّلام معصومون فما الفائدة في قوله : (وَاجْنُبْنِي) عن عبادة الأصنام؟ أجيب : بأنه عليه الصلاة والسّلام إنما سأل ذلك هضما لنفسه ، وإظهارا للحاجة والفاقة إلى فضل الله في كل المطالب ، وفي ذلك دليل على أنّ عصمة الأنبياء بتوفيق الله تعالى وحفظه إياهم. فإن قيل : كان كفار قريش من أبنائه مع أنهم كانوا يعبدون الأصنام فكيف أجيب دعاؤه؟ أجيب : بأنّ المراد من كان موجودا حال الدعاء ، ولا شبهة أنّ دعوته كانت مجابة فيهم ، أو أنّ هذا الدعاء مخصوص بالمؤمنين من أولاده ، والدليل عليه أنه قال عليه‌السلام في آخر الآية : (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) وذلك يفيد أن من لم يتبعه على دينه فإنه ليس منه ، ونظيره قوله تعالى : (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) [هود ، ٤٦] ، والصنم المنحوت على خلقة البشر وما كان منحوتا على غير خلقة البشر فهو وثن ، قاله الطبري. ولذا لما سئل ابن عيينة كيف عبدت العرب الأصنام؟ فقال : ما عبد أحد من بني إسماعيل صنما ، واحتج بقوله تعالى : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) وإنما كانت أنصاب الحجارة لكل قوم قالوا : البيت حجر فحيثما نصبنا حجرا فهو بمنزلة البيت فكانوا يدورون بذلك الحجر ، أي : يطوفون به أسابيع تشبيها بالكعبة ، ويسمونه الدوّار بضم الدال مشدّدة ، وقد تفتح ، قال الجوهري : دوّار بالضم صنم وقد تفتح فاستحب أن يقال طاف بالبيت ،

__________________

(١) أخرجه البخاري في الحج حديث ١٥٩١ ، ومسلم في الفتن حديث ٢٩٠٩ ، والنسائي في المناسك حديث ٢٩٠٤ ، وأبو داود في الملاحم حديث ٤٣٠٩.

٢٠٧

ولا يقال دار بالبيت. قال الرازي : وهذا الجواب ليس بقوي ؛ لأنه عليه‌السلام لا يجوز أن يريد بهذا الدعاء إلا عبادة غير الله ، والحجر كالصنم في ذلك.

ثم حكى الله تعالى عن إبراهيم أنه قال : (رَبِّ إِنَّهُنَّ ،) أي : الأصنام (أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) بعبادتهم لها.

تنبيه : اتفق كل الفرق على أن قوله : أضللن مجاز ؛ لأنها جمادات ، والجماد لا يفعل شيئا البتة إلا أنه لما حصل عند عبادتها أضيف إليها كما تقول : فتنتهم الدنيا وغرّتهم ، أي : افتتنوا بها واغتروا بسببها ثم قال : (فَمَنْ تَبِعَنِي ،) أي : على التوحيد (فَإِنَّهُ مِنِّي ،) أي : فإنه جار مجرى بعضي لفرط اختصاصه بي وقربه مني (وَمَنْ عَصانِي ،) أي : في غير الدين (فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وهذا صريح في طلب الرحمة والمغفرة لأولئك العصاة ، وإذا ثبت حصول هذه الشفاعة في حق إبراهيم عليه الصلاة والسّلام ثبت حصولها في حق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه مأمور بالإقتداء به كما قال تعالى : (وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) [النساء ، ١٢٥] وقيل : إنّ هذا الدعاء كان قبل أن يعلم إبراهيم أنّ الله لا يغفر الشرك ، وقيل : إنك قادر أن تغفر له وترحمه بأن تنقله عن الكفر إلى الإسلام ، وقيل : المراد من هذه المغفرة أن لا يعاجلهم بالعقاب ، فلا يمهلهم حتى يتوبوا ، قال الرازي : واعلم أنّ هذه الأوجه ضعيفة ، وارتضى ما تقرّر أولا.

تنبيه : حكى الله سبحانه وتعالى عن إبراهيم عليه‌السلام في هذا الموضع أنه طلب من الله تعالى سبعة أمور : الأوّل : طلب من الله تعالى نعمة الأمان ، وهو (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) المطلوب الثاني : أن يرزقه الله تعالى التوحيد ويصونه عن الشرك وهو قوله : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ.)

المطلوب الثالث قوله : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي ،) أي : بعض ذريتي أو ذرّية من ذريتي ، فحذف المفعول على هذا القول ، وهم إسماعيل ومن ولد منه فإن إسكانه متضمن لإسكانهم (بِوادٍ) هو وادي مكة المشرفة لكونه في فضاء منخفض بين جبال تجري فيه السيول (غَيْرِ ذِي زَرْعٍ ،) أي : لا يكون فيه من الزرع قط ، فإنه حجري لا ينبت كقوله تعالى : (قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) [الزمر ، ٢٨] بمعنى لا يوجد فيه اعوجاج (عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ،) أي : الذي حرمت التعرض له ، والتهاون به ، وجعلت ما حوله حرما لمكانه ؛ أو لأنه لم يزل ممنعا عزيزا يهابه كل جبار كالشيء المحرّم الذي حقه أن يجتنب ؛ أو لأنه محترم عظيم الحرمة لا يحل انتهاكه ؛ أو لأنه حرّم على الطوفان ، أي : منع منه كما سمي عتيقا ؛ لأنه أعتق منه فلم يستول عليه ، أو لأنه أمر الصائرين إليه أن يحرموا على أنفسهم أشياء كانت تحل لهم من قبل ، أو لأنه حرم موضع البيت حين خلق السموات والأرض ، وحفه بسبعة أملاك ، وهو مثل البيت المعمور الذي بناه آدم فرفع إلى السماء السادسة ، وروي أن هاجر كانت أمة لسارة فوهبتها لإبراهيم عليه‌السلام فولدت منه إسماعيل ، فقالت سارة : كنت أريد أن يهب الله لي ولدا من خليله فمنعنيه ورزقه خادمتي ، وغارت عليهما ، وقالت لإبراهيم : بعدهما مني وناشدته بالله أن يخرجهما من عندها ، فنقلهما إلى مكة وإسماعيل رضيع حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد ، وليس بمكة يومئذ أحد ، وليس بها ماء فوضعهما هناك ، ووضع عندهما جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء ، ثم قفل إبراهيم منطلقا ، فتبعته أم إسماعيل وقالت : يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس

٢٠٨

ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارا ، وهو لا يلتفت إليها فقالت له آلله أمرك بهذا؟ قال : نعم قالت : إذا لا يضيعنا ، ثم رجعت ، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ، ثم دعا بهؤلاء الدعوات ورفع يديه وقال : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي) حتى بلغ (يَشْكُرُونَ) وجعلت أم إسماعيل ترضعه وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يلتوى ، أو قال : يتلبط فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها ، فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى من أحد ، فلم تر أحدا ففعلت ذلك سبع مرّات قال ابن عباس قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فلذلك سعى الناس بينهما فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا فقالت : صه ، تريد نفسها ثم تسمعت ، فسمعت أيضا فقالت : قد أسمعت إن كان عندك غواث ، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه ، أو قال : بجناحه حتى ظهر الماء ، فجعلت تحوضه وتقول بيدها هكذا ، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف قال ابن عباس : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يرحم الله أمّ إسماعيل لو تركت زمزم أو قال لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عينا معينا» (١) قال : فشربت وأرضعت ولدها ، فقال الملك : لا تخافوا الضيعة فإن هاهنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه ، وأنّ الله لا يضيع أهله ، وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية يأتيه السيل فيأخذ عن يمينه وشماله ، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كذا ، فنزلوا في أسفل مكة ، فنظروا طائرا : فقالوا إنّ هذا الطائر ليدور على الماء لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء ، فأرسلوا جريا أو جريين فإذا هم بالماء ، فرجعوا فأخبروهم ، فأقبلوا وأم إسماعيل عند الماء ، فقالوا : أتأذنين لنا أن ننزل عندك فقالت : نعم ، ولكن لا حق لكم في الماء ، قالوا : نعم قال ابن عباس : قالت ذلك أمّ إسماعيل وهي تحب الأنس ، فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم ، فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم فشب الغلام وتعلم العربية منهم ، وألفهم وأعجبهم حتى شب ، فلما أدرك زوّجوه امرأة منهم وماتت أم إسماعيل ، فجاء إبراهيم بعدما تزوّج إسماعيل وتقدّم تمام هذه القصة في سورة البقرة.

ثم قال : (رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ) اللام لام كي متعلقة بأسكنت ، أي : ما أسكنتهم بهذا الوادي المقفر الذي لا شيء فيه إلا لإقامة الصلاة عند بيتك المحرّم ، ويعمروه بذكرك وعبادتك وما تعمر به مساجدك ومتعبداتك متبرّكين بالبقعة التي شرفتها على البقاع مستعبدين بجوارك الكريم متقرّبين إليك بالعكوف عند بيتك والطواف به والركوع والسجود حوله مستنزلين الرحمة التي آثرت بها سكان حرمك ، وتكرير النداء وتوسطه للإشعار بأنهما المقصود بالذات من إسكانهم هناك ، والمقصود من الدعاء توفيقهم لها (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً ،) أي : قلوبا محترقة بالأشواق (مِنَ النَّاسِ) ومن للتبعيض ، والمعنى : واجعل أفئدة بعض الناس (تَهْوِي ،) أي : تميل (إِلَيْهِمْ) ويدلّ عليه ما روي عن مجاهد لو قال : أفئدة الناس لزحمتكم عليه فارس والروم والترك والهند. وقال سعيد بن جبير : لو قال أفئدة الناس لحجت اليهود والنصارى والمجوس ، ولكنه قال : (أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ) فهم المسلمون. وقال ابن عباس : لو قال : أفئدة الناس لحنت إليه فارس والروم والناس كلهم. ولما دعا لهم بالدين دعا لهم بالرزق فقال : (وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ) ولم يقل : وارزقهم الثمرات ، وذلك يدل على أنّ

__________________

(١) أخرجه البخاري في المساقاة حديث ٢٣٦٨.

٢٠٩

المطلوب بالدعاء إيصال بعض الثمرات إليهم ، ويحتمل أن يكون المراد بإيصال بعض الثمرات إليهم إيصالها إليهم على سبيل التجارات كما قال تعالى : (يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) [القصص ، ٥٧] حتى توجد فيه الفواكه الصيفية والربيعية والخريفية في يوم واحد ، وليس ذلك من آياته بعجب ، وأن يكون المراد عمارة القرى بالقرب منها لتحصل تلك الثمار. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : كانت الطائف من أرض فلسطين ، فلما قال إبراهيم ذلك رفعها الله فوضعها حيث وضعها رزقا للحرم. (لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) يدلّ على أنّ المقصود للعاقل من منافع الدنيا أن يتفرّغ لأداء العبادات وإقامة الطاعات ، فإنّ إبراهيم عليه‌السلام بين أنه إنما طلب تيسير المنافع على أولاده لأجل أن يتفرّغوا لإقامة الطاعات وأداء الواجبات. ولما طلب عليه‌السلام من الله تعالى تيسير المنافع لأولاده وتسهيلها عليهم ذكر أنه لا يعلم عواقب الأحوال ونهاية الأمور في المستقبل ، فإنه تعالى هو العالم بها والمحيط بأسرارها فقال : (رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي ،) أي : نسر (وَما نُعْلِنُ) وهذا هو المطلوب الرابع : والمعنى : أنك أعلم بأحوالنا ومصالحنا ومفاسدنا منا ، قيل : ما نخفي من الوجد بسبب حصول الفرقة بيني وبين إسماعيل ، وما نعلن من البكاء ، وقيل : ما نخفي من الحزن المتمكن في القلب وما نعلن يريد ما جرى بينه وبين هاجر حين قالت له عند الوداع : إلى من تكلنا؟ قال : إلى الله أكلكم قالت : آلله أمرك بهذا؟ قال : نعم. قالت : إذا لا يضيعنا. واختلف في قوله تعالى : (وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) فقيل : من تتمة قول إبراهيم عليه‌السلام يعني : وما يخفى على الله الذي هو عالم الغيب من شيء في أيّ مكان ، والأكثرون على أنه قول الله تعالى تصديقا لإبراهيم فيما قال ، كقوله تعالى : (وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) [النمل ، ٣٤] ولفظة من تفيد الاستغراق ، كأنه قيل وما يخفى عليه شيء ما.

ولما تم إبراهيم عليه‌السلام ما دعا به أتبعه الحمد على ما رزقه من النعم بقوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ ،) أي : المستجمع لصفات الكمال (الَّذِي وَهَبَ لِي ،) أي : أعطاني (عَلَى الْكِبَرِ ،) أي : وهب لي وأنا كبير آيس من الولد ، قيد الهبة بحال الكبر استعظاما للنعمة وإظهارا لما فيه من المعجزة (إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) ومقدار ذلك السنّ غير معلوم من القرآن وإنما يرجع فيه إلى الروايات ، فقال ابن عباس : ولد إسماعيل لإبراهيم وهو ابن تسع وتسعين سنة ، وولد له إسحاق وهو ابن مئة واثنتي عشرة سنة.

فإن قيل : إنّ إبراهيم عليه‌السلام إنما ذكر هذا الدعاء عند ما أسكن إسماعيل وأمّه في ذلك الوادي ، وفي ذلك الوقت ما ولد إسحاق ، فكيف يمكنه أن يقول ذلك؟ أجيب : بأن هذا يقتضي أنّ إبراهيم إنما ذكر هذا الكلام في زمن آخر لا عقب ما تقدّم من الدعاء. قال الرازي : ويمكن أيضا أن يقال : إنه عليه‌السلام إنما ذكر هذا الدعاء بعد كبر إسماعيل وظهور إسحاق ، وإن كان ظاهر الروايات بخلافه انتهى. تنبيه : قوله (عَلَى الْكِبَرِ) بمعنى مع كقوله (١) :

إني على ما ترين من كبري

أعلم من حيث يؤكل الكتف

وهو في موضع الحال. ولما ذكر الدعاء على سبيل الرمز والتعريض لا على وجه الإفصاح

__________________

(١) البيت من المنسرح ، وهو لقيس بن الخطيم في ديوانه ص ٢٣٩ ، وبلا نسبة في الإيضاح في علوم البلاغة ١ / ١٩٤ ، وشرح كتاب الأمثال للبكري ١ / ١٤٢.

٢١٠

والتصريح قال : (إِنَّ رَبِّي ،) أي : المحسن إليّ (لَسَمِيعُ الدُّعاءِ ،) أي : لمجيبه. فإن قيل : الله تعالى يسمع كل دعاء أجابه أو لم يجبه؟ أجيب : بأن هذا من قولك : سمع الملك كلامي إذا اعتدّ به وقبله ، ومنه سمع الله لمن حمده.

المطلوب الخامس : قوله : (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ ،) أي : معدّلا لها مواظبا عليها.

تنبيه : في الآية دليل على أنّ أفعال العباد مخلوقة لله تعالى ؛ لأنّ قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه‌السلام (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) يدل على أنّ ترك المنهيات لا يحصل إلا من الله تعالى. وقوله : (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ) يدل على أنّ فعل المأمورات لا يحصل إلا من الله تعالى ، وذلك تصريح بأنّ إبراهيم عليه‌السلام كان مصرا على أنّ الكل من الله تعالى ، وقوله تعالى : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) عطف على المنصوب في اجعلني ، أي : واجعل بعض ذريتي كذلك ؛ لأن كلمة من في قوله (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) للتبعيض ، وأما ذكر هذا التبعيض ، فلأنه علم بإعلام الله تعالى أنه يكون في ذرّيته جمع من الكفار وذلك قوله تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) [البقرة ، ١٢٤].

المطلوب السادس : أنه عليه‌السلام لما دعا الله تعالى في المطالب المذكورة دعا الله تعالى في أن يقبل دعاءه فقال : (رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ.) قال ابن عباس : يريد عبادتي بدليل قوله تعالى : (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) [مريم ، ٤٨]. وقيل : دعائي المذكور.

المطلوب السابع قوله : (رَبَّنَا ،) أي : أيها المالك لأمورنا المدبر لنا (اغْفِرْ لِي) فإن قيل : إنّ طلب المغفرة إنما يكون بعد سابقة ذنب أجيب : بأن المقصود من ذلك الالتجاء إلى الله تعالى ، وقطع الطمع إلا من فضله وكرمه ورحمته ، ثم أشرك معه أقرب الناس إليه وأحقهم بشكره فقال : (وَلِوالِدَيَ) فإن قيل : كيف جاز أن يستغفر لوالديه وكانا كافرين؟ أجيب بوجوه : الأول : أنّ المنع منه لا يعلم إلا بتوقيف ، فلعله لم يجد منه منعا وظنّ كونه جائزا ، الثاني : أراد بوالديه آدم وحواء ، الثالث : كان ذلك بشرط الإسلام ، وقال بعضهم : كانت أمّه مؤمنة ولذلك خص أباه بالذكر في قوله : (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) [التوبة ، ١١٤]. ثم دعا لمن تبعه في الدين من ذريته وغيرهم بقوله (وَلِلْمُؤْمِنِينَ ،) أي : العريقين في هذا الوصف (يَوْمَ يَقُومُ ،) أي : يبدو ويظهر (الْحِسابُ) وقيل : أراد يوم يقوم الناس فيه للحساب ، فاكتفى بذكر الحساب لكونه مفهوما عند السامع ، وهذا دعاء للمؤمنين بالمغفرة ، والله تعالى لا يردّ دعاء خليله إبراهيم عليه‌السلام ، وفيه بشارة عظيمة للمؤمنين بالمغفرة ، فنسأل الله تعالى أن يغفر لنا ولوالدينا ولمشايخنا ولأحبابنا ولمن نظر في هذا التفسير ، ودعا لمن كان سببا فيه بالمغفرة.

ولما بيّن تعالى دلائل التوحيد ، ثم حكى عن إبراهيم عليه‌السلام أنه طلب من الله تعالى أن يصونه عن الشرك ، وطلب منه أن يوفقه للأعمال الصالحة ، وأن يخصه بالرحمة والمغفرة في يوم القيامة عقبه بقوله تعالى مخاطبة لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

(وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (٤٢) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (٤٣) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (٤٤) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ

٢١١

الْأَمْثالَ (٤٥) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (٤٦) فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (٤٧) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (٤٨) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٤٩) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (٥٠) لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٥١) هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٥٢))

(وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ؛) لأنّ الغفلة معنى يمنع الإنسان عن الوقوف على حقائق الأمور ، وقيل : حقيقة الغفلة سهو يعتري الإنسان من قلة التحفظ والتيقظ ، وهذا في حق الله تعالى محال ، والمقصود من ذلك التنبيه على أنه ينتقم للمظلوم من الظالم ، ففيه وعيد وتهديد للظالم ، وإعلام له بأنه لا يعامله معاملة الغافل عنه بل ينتقم ولا يتركه مغفلا عنه ، وعن سفيان بن عيينة فيه تسلية للمظلوم وتهديد للظالم ، فقيل له : من قال هذا؟ فغضب ، وقال : إنما قاله من علمه.

فإن قيل : كيف يليق به صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يحسب الله موصوفا بالغفلة وهو أعلم الناس به؟ أجيب : بوجوه : الأوّل : أنّ المراد به التثبت على ما كان عليه من أنه لا يحسب الله غافلا كقوله : (وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) [القصص ، ٨٨]. والثاني : أنّ المقصود منه بيان أنه لو لم ينتقم لكان عدم الانتقام لأجل غفلته عن ذلك الظلم. والثالث : أنّ المراد ولا تحسبنه معاملهم معاملة الغافل عما يعملون ، ولكن معاملة الرقيب عليهم المحاسب على النقير والقطمير. والرابع : أن يكون هذا الكلام وإن كان خطابا مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الظاهر إلا أنه يكون في الحقيقة خطابا مع الأمّة. ثم بيّن تعالى أنه (إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ ،) أي : عذابهم (لِيَوْمٍ) موصوف بخمس صفات الصفة الأولى : قوله تعالى : (تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ ،) أي : أبصارهم لا تقرّ مكانها من هول ما ترى في ذلك اليوم.

الصفة الثانية : قوله تعالى : (مُهْطِعِينَ ،) أي : مسرعين إلى الداعي أو مقبلين بأبصارهم لا يطرقون هيبة وخوفا. وقيل : المهطع الخاضع الذليل الساكن.

الصفة الثالثة : قوله تعالى : (مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ ،) أي : رافعيها إذ الإقناع : رفع الرأس إلى فوق ، فأهل الموقف من صفتهم أنهم رافعوا رؤوسهم إلى السماء ، وهذا بخلاف المعتاد ؛ لأنّ من يتوقع البلاء يطرق بصره إلى الأرض. وقال الحسن : وجوه الناس يوم القيامة إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد.

الصفة الرابعة : قوله تعالى : (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ ،) أي : بل تثبت عيونهم شاخصة لا يطرفون بعيونهم ، ولكن عيونهم مفتوحة ممدودة من غير تحريك للأجفان قد شغلهم ما بين أيديهم.

الصفة الخامسة : قوله تعالى : (وَأَفْئِدَتُهُمْ ،) أي : قلوبهم (هَواءٌ ،) أي : خالية من العقل لفرط الحيرة والدهشة. وقال قتادة : خرجت قلوبهم عن صدورهم ، فصارت في حناجرهم ، فلا تخرج من أفواههم ولا تعود إلى أماكنها.

تنبيه : اختلفوا في وقت حصول هذه الصفات ، فقيل : إنها عند المحاسبة بدليل أنه تعالى إنما ذكر هذه الصفات عقب وصف ذلك بأنه يقوم الحساب ، وقيل : إنها تحصل عند ما يتميز فريق عن فريق ، فالسعداء يذهبون إلى الجنة والأشقياء إلى النار. وقيل : يحصل عند إجابة الداعي والقيام من

٢١٢

القبور. قال الرازي : والأوّل أولى.

(وَأَنْذِرِ النَّاسَ) يا محمد ، أي : خوّفهم يوم القيامة وهو قوله تعالى : (يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ ،) أي : الذي تقدّم ذكره ، وهو شخوص أبصارهم وكونهم مهطعين مقنعي رؤوسهم. (فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا ،) أي : كفروا (رَبَّنا أَخِّرْنا ،) أي : بأن تردّنا إلى الدنيا (إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) إلى أمد واحد من الزمان قريب (نُجِبْ دَعْوَتَكَ ،) أي : بالتوحيد ونتدارك ما فرّطنا فيه (وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ) فيما يدعوننا إليه ، فيقال لهم توبيخا : (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ ،) أي : حلفتم (مِنْ قَبْلُ) في الدنيا (ما لَكُمْ) وأكد النفي بقوله : (مِنْ زَوالٍ ،) أي : ما لكم عنها انتقال ولا بعث ولا نشور كما قال في آية أخرى : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ) [النحل ، ٣٨] وكانوا يقولون : لا زوال لنا من هذه الحياة إلى الحياة أخرى ، ومن هذه الدار إلى دار المجازاة ، لا أنهم كانوا ينكرون أن يزولوا عن حياة إلى موت ، أو عن شباب إلى هرم ، أو عن غنى إلى فقر.

ثم إنه تعالى زادهم توبيخا آخر بقوله تعالى : (وَسَكَنْتُمْ) في الدنيا (فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالكفر من الأمم السابقة (وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ ،) أي : وظهر لكم بما تشاهدون في منازلهم من آثار ما نزل بهم ، وما تواتر عندكم من أخبارهم (وَضَرَبْنا ،) أي : وبينا (لَكُمُ الْأَمْثالَ) في القرآن أنّ عاقبتهم عادت إلى الوبال والخزي والنكال ، مما يعلم به أنه قادر على الإعادة كما قدر على الابتداء ، وقادر على التعذيب المؤجل كما يفعل الهلاك المعجل ، وذلك في كتاب الله تعالى كثير.

ولما ذكر تعالى صفة عقابهم أتبعه بذكر كيفية مكرهم بقوله تعالى :

(وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ ،) أي : الشديد العظيم الذي استفرغوا فيه جهدهم ، واختلف في عود الضمير في مكروا على وجوه : الأوّل : أن يعود إلى الذين سكنوا في مساكن الذين ظلموا أنفسهم ؛ لأنّ الضمير يعود إلى أقرب مذكور. والثاني : إلى قوم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدليل قوله تعالى : (وَأَنْذِرِ ،) أي : يا محمد الناس وقد مكر قومك مكرهم ، وذلك المكر هو الذي ذكر الله تعالى في قوله : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ) [الأنفال ، ٣٠]. (وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ ،) أي : ومكتوب عند الله فعلهم ، فهو مجازيهم عليه بمكر هو أعظم منه.

وقيل : إنّ مكرهم لا يزيل أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي هو ثابت كثبوت الجبال. وقد حكي عن عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه في الآية قول آخر وهو أنها نزلت في نمروذ الجبار الذي حاج إبراهيم في ربه فقال نمروذ : إن كان ما يقوله إبراهيم حقا فلا أنتهي حتى أصعد إلى السماء ، فأعلم ما فيها ، ثم أمر نمروذ صاحبه فاتخذ لنفسه تابوتا ، وجعل له بابا من أعلاه وبابا من أسفله ، وربط قوائمه الأربع بأربعة نسور ، وكان قد جوّعها ، ورفع فوق الجوانب الأربع من التابوت ، عصيا أربعة وعلق على كل واحدة منها قطعة لحم ، ثم إنه جلس مع صاحبه في ذلك التابوت ، فلما أبصرت النسور تلك اللحوم تصاعدت في جوّ الهواء ، فطارت يوما حتى أبعدت في الهواء ، فقال نمروذ لصاحبه : افتح الباب الأسفل ، وانظر إلى الأرض كيف تراها؟ ففعل فقال : أرى الأرض مثل اللجة والجبال مثل الدخان قال : فطارت النسور ، يوما آخر وارتفعت حتى حالت الريح بينها وبين الطيران ، فقال نمروذ لصاحبه : افتح الباب الأعلى ، ففتح فإذا السماء كهيئتها ، وفتح الباب الأسفل ، فإذا الأرض سوداء مظلمة ، ونودي أيها الطاغي أين تريد؟ قال عكرمة : كان معه في

٢١٣

التابوت غلام قد حمل القوس والنشاب ، فرمى بسهم فعاد إليه السهم ملطخا بالدم بدم سمكة قذفت نفسها من بحر في الهواء ، وقيل : طائر أصابه السهم فقال : كفيت إله السماء ، فنكس تلك العصيّ التي علق عليها اللحوم ، فتسفلت النسور ، وهبطت إلى الأرض ، فسمعت الجبال حفيف التابوت والنسور ، ففزعت وظنت أن قد حدث في السماء حدث وأن القيامة قد قامت ، فكادت تزول عن أماكنها فذلك قوله تعالى : (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ ،) أي : من القوّة والضخامة (لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) قال الرازي : ولا حاجة في تأويل الآية إلى هذا ، فإنه لم يجيء فيه خبر صحيح معتمد انتهى. والمراد بالجبال هنا قيل : حقيقتها وقيل شرائع الإسلام المشبهة بها في القرار والثبات. وقرأ الكسائيّ بفتح اللام الأولى ورفع الأخيرة ، والباقون بكسر الأولى وفتح الثانية ، والتقدير على القراءة الأولى : وإن كان بحيث إنه تزول منه الجبال ، وقيل : أن نافية واللام لتأكيد النفي.

(فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ) الخطاب له صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد منه أمّته (مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) من النصر وإعلاء الكلمة ، وإظهار الدين كما قال تعالى : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا) [غافر ، ٥١]. وقال تعالى : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) [المجادلة ، ٢١]. فإن قيل : هلا قال مخلف رسله وعده ولم قدّم المفعول الثاني على الأوّل؟ أجيب : بأنه تعالى قدّم ذلك ليعلم أنه لا يخلف الوعد أصلا كقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) [آل عمران ، ٩] ثم قال : رسله ليدل به على أنه تعالى لما لم يخلف وعده أحدا ، وليس من شأنه إخلاف المواعيد ، فكيف يخلف رسله الذين هم خيرته وصفوته؟ (إِنَّ اللهَ ،) أي : ذو الجلال والإكرام (عَزِيزٌ ،) أي : غالب يقدر ولا يقدر عليه (ذُو انتِقامٍ ،) أي : ممن عصاه.

وقوله تعالى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) بدل من يوم يأتيهم ، أو ظرف للانتقام ، والمعنى : يوم تبدل هذه الأرض التي تعرفونها أرضا أخرى غير هذه المعروفة ، وقوله تعالى : (وَالسَّماواتُ) عطف على الأرض وتقديره والسموات غير السموات ، والتبديل التغيير ، وقد يكون في الذوات كقولك بدلت الدراهم دنانير ، ومنه (بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) [النساء ، ٥٦](وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ) [سبأ ، ١٦]. وفي الأوصاف كقولك : بدلت الحلقة خاتما ، إذا أذبتها وسويتها خاتما فنقلتها من شكل إلى شكل آخر ، ومنه قوله تعالى : (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) [الفرقان ، ٧٠] والآية محتملة لكل واحد من هذين المفهومين ، فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : هي تلك الأرض ، وإنما تغير أوصافها ، وأنشد (١) :

وما الناس بالناس الذين عهدتهم

ولا الدار بالدار التي كنت تعلم

تبدّل أوصافها فتسير عن الأرض جبالها ، وتفجر بحارها ، وتستوي فلا ترى فيها عوجا ولا أمتا ، وتبدل السماء بانتثار كواكبها ، وكسوف شمسها ، وخسوف قمرها ، وانشقاقها وكونها أبوابا ، ويدلّ لذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقاء ليس فيها علم لأحد» (٢) أخرجاه في الصحيحين ، العفراء بالعين المهملة ، وهي البيضاء إلى حمرة ، ولهذا شبهها بقرصة النقاء ، وهو الجير الأبيض الجيد الفائق المائل إلى الحمرة. كأن النار ميلت بياض وجهه

__________________

(١) البيت من بلا نسبة في الكشاف للزمخشري ٢ / ٥٣١.

(٢) أخرجه البخاري في الرقاق حديث ٦٥٢١ ، ومسلم في القيامة حديث ٢٧٩٠.

٢١٤

إلى الحمرة ، وقوله : ليس فيها علم لأحد يعني : ليس فيها علامة لأحد لتبديل هيئتها وصفتها وزوال جبالها وجميع بنائها ، فلا يبقى فيها أثر يستدلّ به. وعن ابن مسعود أنه قال : تبدل الأرض بأرض كالفضة البيضاء نقية لم يسفك فيها دم ، ولم تعمل عليها خطيئة. وقال عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه : الأرض من فضة والسماء من ذهب. وقال محمد بن كعب وسعيد بن جبير : تبدل الأرض خبزة بيضاء يأكل المؤمن من تحت قدميه. وعن الضحاك أيضا : من فضة كالصحائف. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن هذه الآية فأين يكون الناس يومئذ يا رسول الله؟ فقال : «على الصراط» (١). أخرجه مسلم. وروى ثوبان أنّ حبرا من اليهود سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أين تكون الناس يوم تبدّل الأرض غير الأرض؟ قال : «هم في الظلمة دون الجسر» (٢). قال الرازي : واعلم أنه لا يبعد أن يقال : المراد من تبديل الأرض والسموات هو أنه تعالى يجعل الأرض جهنم والسموات الجنة ، والدليل عليه قوله تعالى : (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) [المطففين ، ١٨]. وقوله تعالى : (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) [المطففين ، ٧]. (وَبَرَزُوا ،) أي : خرجوا من قبورهم (لِلَّهِ ،) أي : لحكمه والوقوف بين يديه تعالى للحساب (الْواحِدِ ،) أي : الذي لا شريك له (الْقَهَّارِ ،) أي : الذي لا يدافعه شيء عن مراده كما قال تعالى : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) [غافر ، ١٦].

ولما وصف نفسه سبحانه وتعالى بكونه قهارا بين عجزهم وذلتهم بقوله تعالى : (وَتَرَى) يا محمد ، أي : تبصر (الْمُجْرِمِينَ ،) أي : الكافرين (يَوْمَئِذٍ ،) أي : يوم القيامة ، ثم ذكر تعالى من صفات عجزهم وذلتهم أمورا : الصفة الأولى : قوله تعالى : (مُقَرَّنِينَ ،) أي : مشدودين (فِي الْأَصْفادِ) جمع صفد وهو القيد. قال الكلبي : كل كافر مع شيطان في غل. وقال عطاء : وهو معنى قوله تعالى : (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) [التكوير ، ٧] ، أي : قرنت فتقرن نفوس المؤمنين بنفوس الحور العين ، ونفوس الكافرين بقرنائهم من الشياطين ، وقيل : هو قرن بعض الكفار ببعض فتضم تلك النفوس الشقية والأرواح الكدرة الظلمانية بعضها إلى بعض لكونها متشاكلة متجانسة ، وتنادى ظلمة كل واحدة منها إلى الأخرى. وقال ابن زيد : قرنت أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأغلال.

الصفة الثانية : قوله تعالى : (سَرابِيلُهُمْ ،) أي : قمصهم جمع سربال وهو القميص (مِنْ قَطِرانٍ) وهو شيء يتحالب من شجر يسمى الأبهل ، فيطبخ وتطلى به الإبل الجربى ، فيحرق الجرب بحرارته وحدته ، وقد تصل حرارته إلى داخل الجوف ، ومن شأنه أنه يتسارع فيه اشتعال النار ، وهو أسود اللون منتن الريح ، فتطلى به جلود أهل النار حتى يصير ذلك الطلاء كالسرابيل ، فيحصل بسببها أربعة أنواع من العذاب : لذع القطران ، وحرقته ، وإسراع النار في جلودهم ، واللون الوحش ، ونتن الريح ، وأيضا التفاوت بين قطران القيامة وقطران الدنيا كالتفاوت بين النارين.

الصفة الثالثة : قوله تعالى : (وَتَغْشى ،) أي : تعلو (وُجُوهَهُمُ النَّارُ) ونظيره قوله تعالى : (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ) [الزمر ، ٢٤]. وقوله تعالى : (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ)

__________________

(١) أخرجه مسلم في القيامة حديث ٢٧٩١ ، والترمذي في التفسير حديث ٣١٢١ ، وابن ماجه في الزهد حديث ٤٢٧٩.

(٢) أخرجه مسلم في الحيض حديث ٣١٥.

٢١٥

[القمر ، ٤٨]. ولما كان موضع العلم والجهل هو القلب ، وموضع الكفر والوهم هو الرأس ، وأثر هذه الأحوال يظهر في الوجه فلهذا خص الله تعالى هذين العضوين بظهور آثار العقاب فيها فقال في القلب : (نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) [الهمزة : ٦ ، ٧]. وقال في الوجه : (وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ.)

وقوله تعالى : (لِيَجْزِيَ اللهُ) متعلق ببرزوا (كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ ،) أي : من خير أو شرّ وهذا أولى من قول الواحدي : المراد منه أنفس الكفار ؛ لأنّ ما سبق ذكره لا يليق أن يكون جزاء لأهل الإيمان. ولما كان حساب كل نفس جديرا بأن يستعظم قال : (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ ،) أي : لا يشغله حساب نفس عن حساب أخرى ، ولا شأن عن شأن قوله تعالى :

(هذا) إشارة إلى القرآن الذي يخرج الناس من الظلمات إلى النور ، نزل منزلة الحاضر وقيل : إلى السورة (بَلاغٌ ،) أي : كان غاية الكفاية في الإيصال (لِلنَّاسِ) والموعظة لهم ، وقوله تعالى : (وَلِيُنْذَرُوا ،) أي : وليخوّفوا (بِهِ) عطف على محذوف ذلك المحذوف متعلق ببلاغ تقديره ، أي : لينصحوا ولينذروا ، وقيل : الواو مزيدة ، ولينذروا متعلق ببلاغ (وَلِيَعْلَمُوا ،) أي : بما فيه من الحجج على وحدانية الله تعالى. (أَنَّما هُوَ ،) أي : الله (إِلهٌ واحِدٌ) فيستدلوا بذلك على أنّ الله واحد لا شريك له (وَلِيَذَّكَّرَ) بإدغام التاء في الأصل في الذال ، أي : يتعظّ (أُولُوا الْأَلْبابِ) أي : أصحاب العقول الصافية من الأكدار ، والأفهام الصحيحة ، فإنه موعظة لمن اتعظ.

تنبيه : ذكر سبحانه وتعالى لهذا البلاغ ثلاث فوائد مستفادة من قوله تعالى : (وَلِيُنْذَرُوا بِهِ) وتالييه والحكمة في إنزال الكتب تكميل الرسل للناس ، واستكمالهم القوّة النظرية التي منتهى كمالها التوحيد ، واستصلاح القوّة العملية التي هي التدرع بلباس التقوى ، جعلنا الله تعالى من الفائزين بها بمحمد وآله ، وفعل ذلك بوالدينا وأحبابنا.

وما رواه البيضاوي تبعا للزمخشري من أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ سورة إبراهيم أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كل من عبد الأصنام وعدد من لم يعبد» (١) حديث موضوع. قال العلامة ابن جماعة في «شرح منظومة ابن فرج» التي أولها غرامي صحيح فرع من غرائب الجويني يكفر واضع الحديث ، أي : والمشهور عدم تكفيره.

__________________

(١) الحديث رواه الزمخشري في الكشاف ٢ / ٥٣٢.

٢١٦

سورة الحجر

مكية ، وهي تسع وتسعون آية وستمائة وأربع وخمسون كلمة ، وعدد حروفها ألفان وسبعمائة وستون حرفا.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) الملك الواحد القهار (الرَّحْمنِ) الذي أسبغ نعمه على سائر بريته ، فعجزت عن وصفه الأفكار (الرَّحِيمِ) الذي خص أهل ولايته بنجاتهم من النار ، وقوله تعالى :

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (٢) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (٤) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٥) وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (٨) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٩) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١١) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥) وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (١٨) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (٢٠) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (٢٢) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (٢٣))

(الر) ذكر فيه الفتح والإمالة أوّل يونس. وقيل : معناه : أنا الله أرى ، وقدّمنا الكلام على أوائل السور في أوّل سورة البقرة ، وقوله تعالى : (تِلْكَ) إشارة إلى آيات هذه السورة ، أي : هذه الآيات (آياتُ الْكِتابِ ،) أي : القرآن ، والإضافة بمعنى من ، وقوله تعالى : (وَقُرْآنٍ مُبِينٍ ،) أي : مظهر للحق من الباطل عطف بزيادة صفة. وقيل : المراد بالكتاب هو السورة ، وكذا القرآن ، وقيل : المراد بالكتاب التوراة والإنجيل ، وبالقرآن هذا الكتاب.

ثم بيّن سبحانه وتعالى حال الكفار يوم القيامة بقوله تعالى : (رُبَما يَوَدُّ ،) أي : يتمنى (الَّذِينَ كَفَرُوا) إذا عاينوا حالهم وحال المسلمين في ذلك اليوم (لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) وقيل : حين يعاينوا

٢١٧

حال المسلمين عند نزول النصر وحلول الموت ، ورب للتكثير ، فإنه يكثر منهم تمني ذلك. وقيل : للتقليل ، فإنّ الأهوال تدهشهم ، فلا يفيقون حتى يتمنوا ذلك إلا في أحيان قليلة. فإن قيل : لم دخلت رب على المضارع وقد أبوا دخولها إلا على الماضي؟ أجيب : بأنّ المترقب في أخبار الله تعالى بمنزلة الماضي المقطوع به في تحقيقه ، فكأنه قيل : ربما ودّ. وقرأ عاصم ونافع بتخفيف باء ربما ، والباقون بالتشديد. قال أبو حاتم : أهل الحجاز يخففون ربما ، وقيس وبكر يثقلونها.

ولما تمادوا في طغيانهم قال الله تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (ذَرْهُمْ ،) أي : دعهم عن النهي عما هم عليه والصدّ عنه بالتذكرة والنصيحة ، وخلهم (يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا) بدنياهم وتنفيذ شهواتهم ، والتمتع التلذذ ، وهو طلب اللذة حالا بعد حال كالتقرب في أنه طلب القرب حالا بعد حال. (وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ ،) أي : ويشغلهم توقعهم لطول الأعمار ، واستقامة الأحوال عن أخذ حظهم من السعادة ، وعن الاستعداد للمعاد. وقرأ أبو عمرو في الوصل بكسر الهاء والميم ، وحمزة والكسائي برفع الهاء والميم ، والباقون بكسر الهاء ورفع الميم. وأمّا الوقف فالجميع بكسر الهاء ، والكلام على الهاء الثانية ، وأمّا الهاء الأولى فمكسورة للجميع وقفا ووصلا. ولما كان هذا أمرا لا يشتغل به إلا أحمق تسبب عنه التهديد بقوله تعالى : (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ،) أي : ما يحل بهم بعدما فسحنا لهم في زمن التمتع من سوء صنيعهم ، وهذا قبل الأمر بالقتال.

تنبيه : في الآية دليل على أنّ إيثار التلذذ والتنعم في الدنيا يؤدّي إلى طول الأمل وليس ذلك من أخلاق المؤمنين. وعن بعضهم : التمتع في الدنيا من أخلاق الهالكين والأخبار في ذم الأمل كثيرة منها قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يهرم ابن آدم ويشب معه اثنتان الحرص على المال والحرص على العمر» (١). وعن علي رضي الله تعالى عنه : إنما أخشى عليكم اثنتين طول الأمل واتباع الهوى ، فإنّ طول الأمل ينسي الآخرة واتباع الهوى يصدّ عن الحق.

ولما هددهم تعالى بآية التمتع وإلهاء الأمل أتبعه بما يؤكد الزجر. بقوله تعالى : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ ،) أي : من القرى ، والمراد أهلها ومن مزيدة (إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ ،) أي : أجل مضروب محدود مكتوب في اللوح المحفوظ لهلاكها.

تنبيه : المستثنى جملة واقعة صفة لقرية والأصل أن لا تدخلها الواو ، كقوله تعالى : (إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ) [الشعراء ، ٢٠٨] وإنما توسطت لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف كما يقال في الحال : جاءني زيد عليه ثوب وجاءني وعليه ثوب.

فائدة : رسم كتاب هنا بإثبات الألف. ثم بيّن تعالى الآية السابقة بقوله تعالى : (ما تَسْبِقُ) وأكد الاستغراق بقوله تعالى : (مِنْ أُمَّةٍ) وقيل : من مزيدة كقولك : ما جاءني من أحد ، أي : أحد وبيّن أنّ المراد بالكتاب الأجل بقوله تعالى : (أَجَلَها ،) أي : الذي قدّرناه لها. (وَما يَسْتَأْخِرُونَ ،) أي : عنه.

تنبيه : أنث الأمة أولا ثم ذكرها آخرا حملا على اللفظ الأوّل وعلى المعنى في الثاني. قال البقاعي : وإنما ذكره لئلا يصرفوه إلى خطابه صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعنتا وفي الآية دليل على أنّ كل من مات أو قتل

__________________

(١) أخرجه مسلم في الزكاة حديث ١٠٤٧ ، والترمذي في الزهد حديث ٢٣٣٩ ، وابن ماجه في الزهد حديث ٤٢٣٤.

٢١٨

فإنما مات بأجله وإن من قال بجواز أن يموت قبل أجله مخطئ.

ولما بالغ تعالى في تهديد الكفار ذكر شبههم في إنكار نبوّته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله تعالى : (وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ ،) أي : القرآن في زعمه (إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) إنما نسبوه إلى الجنون إما لأنهم كانوا يستبعدون كونه رسولا حقا من عند الله لأنّ الرجل إذا سمع كلاما مستبعدا من غيره فربما قال به جنون ، وإما لأنه عليه الصلاة والسّلام كان يظهر عليه عند نزول الوحي حالة شبيهة بالغشي فظنوا أنها جنون ويدل عليه قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ) [الأعراف ، ١٨٤] ثم أتبعوه ما زعموا أنه دليل على قولهم فقالوا : (لَوْ ما ،) أي : هلا (تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ ،) أي : يشهدون لك بأنك رسول من عند الله حقا. (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في إدعائك للرسالة وأنّ هذا القرآن من عند الله ولما كان في قولهم أمران أجاب الله تعالى عن قولهم الثاني لأنه أقرب بقوله تعالى : (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِ) أي : إلا تنزلا ملتبسا بالحكمة والمصلحة ولا حكمة في أن نأتيكم بهم عيانا تشاهدونهم ويشهدون لكم بصدق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنكم حينئذ مصدقون عن اضطرار ومثله قوله تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) [الحجر ، ٨٥] وقيل الحق الوحي أو العذاب. وقرأ شعبة بضم التاء مع فتح الزاي ورفع الملائكة وحفص وحمزة والكسائي بنونين الأولى مضمومة والثانية مفتوحة وكسر الزاي ونصب الملائكة والباقون بالتاء مفتوحة مع فتح الزاي ورفع الملائكة وشدّد التاء البزي في الوصل ، وأما الزاي فهي مشدّدة للجميع من يفتح ومن يكسر (وَما كانُوا ،) أي : الكفار (إِذاً ،) أي : إذ تأتيهم الملائكة (مُنْظَرِينَ ،) أي : لزوال الإمهال عنهم فيعذبوا في الحال إن لم يؤمنوا ويصدّقوا وكان حينئذ يفوت ما قضينا به من تأخيرهم وإخراج من أردنا إيمانه من أصلابهم.

ثم أجاب تعالى عن الأوّل بقوله تعالى مؤكدا لتكذيبهم : (إِنَّا نَحْنُ) بما لنا من العظمة والقدرة (نَزَّلْنَا ،) أي : بالتدريج على لسان جبريل عليه‌السلام (الذِّكْرَ ،) أي : القرآن (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ،) أي : من التبديل والتحريف والزيادة والنقصان ، ونظيره قوله تعالى : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء ، ٨٢] فالقرآن العظيم محفوظ من هذه الأشياء كلها لا يقدر أحد من جميع الخلق من الجن والإنس أن يزيد فيه أو ينقص منه كلمة واحدة أو حرفا واحدا وهذا مختص بالقرآن العظيم بخلاف سائر الكتب المنزلة فإنه قد دخل على بعضها التحريف والتبديل والزيادة والنقصان ، فإن قيل : فلم اشتغلت الصحابة بجمع القرآن في المصحف وقد وعد الله تعالى بحفظه وما حفظه الله تعالى فلا خوف عليه؟ أجيب : بأن جمعهم القرآن في المصحف كان من أسباب حفظ الله تعالى إياه فإنه تعالى لما أراد حفظه قيضهم لذلك ، قال أصحابنا : وفي هذه الآية دلالة قوية على كون البسملة آية من أول كل سورة لأن الله تعالى قد وعد حفظ القرآن والحفظ لا معنى له إلا أن يبقى مصونا من الزيادة والنقصان فلو لم تكن البسملة آية من القرآن لما كان مصونا عن التغيير ولما كان محفوظا عن الزيادة ولو جاز أن يظنّ بالصحابة أنهم زادوا جاز أيضا أن يظن بهم النقصان وذلك يوجب خروج القرآن عن كونه حجة ، وقيل : الضمير في له راجع إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمعنى : وإنا لمحمد لحافظون ممن أراد به سوءا فهو كقوله تعالى : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة ، ٦٧]. ولما أساء الكفار عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الأول وخاطبوه بالسفاهة وقالوا : (إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) [الحجر ، ٦]. وكان عادة هؤلاء الجهال مع جميع الأنبياء قال سبحانه وتعالى تسلية له على وجه رادّ

٢١٩

عليهم : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ ،) أي : رسلا فحذف ذكر الرسل لدلالة الإرسال عليه وقوله تعالى : (فِي شِيَعِ ،) أي : فرق (الْأَوَّلِينَ) من باب إضافة الصفة إلى الموصوف كقوله تعالى : (حَقُّ الْيَقِينِ) [الواقعة ، ٩٥] سموا شيعا لمتابعة بعضهم بعضا في الأحوال التي يجتمعون عليها في الزمن الواحد ، والشيع جمع شيعة وهي الفرقة المجتمعة المتفقة كلمتهم على مذهب وطريقة. وقال الفراء : الشيعة هم الأتباع وشيعة الرجل أتباعه ، وقيل : الشيعة من يتقوى بهم الإنسان.

(وَما يَأْتِيهِمْ) عبر بالمضارع على حكاية الحال الماضية ، فإن ما لا تدخل على مضارع إلا وهو في معنى الحال ولا على ماض إلا وهو قريب من الحال ، والأصل وما كان يأتيهم (مِنْ رَسُولٍ ،) أي : على أيّ وجه كان (إِلَّا كانُوا بِهِ) جبلة وطبعا (يَسْتَهْزِؤُنَ) كاستهزاء قومك بك فصبروا فاصبر كما صبروا.

(كَذلِكَ ،) أي : مثل ادخالنا التكذيب في قلوب هؤلاء المستهزئين بالرسل (نَسْلُكُهُ ،) أي : ندخله (فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ،) أي : كفار مكة المستهزئين.

(لا يُؤْمِنُونَ بِهِ ،) أي : بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل : بالقرآن. وفي الآية دليل على أنّ الله تعالى يخلق الباطل في قلوب الكفار. والسلك إدخال الشيء في الشيء كالخيط في المخيط والرمح في المطعون ، ومنه قوله تعالى : (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) [المدثر ، ٤٢] وقيل : الضمير في نسلكه يعود للذكر كما أنّ الضمير في به يعود إليه وجملة لا يؤمنون به حال من ذلك الضمير والمعنى على هذا مثل ذلك السلك نسلك الذكر في قلوب المجرمين مكذبا به غير مؤمن به قال البيضاوي : وهذا الاستدلال ضعيف إذ لا يلزم من تعاقب الضمائر توافقها في المرجوع إليه اه. وما أعدت الضمير عليه في ذلك هو ما قاله ابن الخازن ، وجرى عليه الجلال السيوطي وقوله تعالى : (وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ ،) أي : سنة الله فيهم من تعذيبهم بتكذيبهم أنبياءهم وعيد شديد لكفار مكة بأنه ينزل بهم مثل ما نزل بالأمم الماضية المكذبة ، وقال الزجاج : قد مضت سنة الله في أن يسلك الكفر والضلال في قلوبهم. قال الرازي : وهذا أليق بظاهر اللفظ. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بإدغام تاء التأنيث في السين والباقون بالإظهار.

وقوله تعالى : (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ) الآية هو المراد في سورة الأنعام في قوله تعالى : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ) [الأنعام ، ٧] الآية ، أي : الذين يقولون لو ما تأتينا بالملائكة فلو أنزلنا الملائكة (فَظَلُّوا فِيهِ ،) أي : فظلت الملائكة (يَعْرُجُونَ ،) أي : يصعدون في الباب وهم يرونها عيانا.

(لَقالُوا ،) أي : من عتوّهم في الكفر (إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا ،) أي : سدت عن الإبصار بالسحر من السكر ويدل عليه قراءة ابن كثير بالتخفيف أو حيرت من السكر يدل عليه قراءة الباقين بالتشديد. (بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ ،) أي : قد سحرنا محمد بذلك ، أي : كما قالوه عند ظهور غيره من الآيات كانشقاق القمر وما جاء به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من القرآن المعجز الذي لا يستطيع الجنّ والإنس أن يأتوا بمثله. وقيل : الضمير في يعرجون للمشركين ، أي : فظل المشركون يصعدون في ذلك الباب فينظرون في ملكوت السموات وما فيها من العجائب لما آمنوا لعنادهم وكفرهم وقالوا : إنما سحرنا. وقرأ الكسائي بإدغام لام بل في النون والباقون بالإظهار.

ولما أجاب الله تعالى عن شبهة منكري النبوّة والقول بالنبوّة مفرع على القول بالتوحيد

٢٢٠