تفسير الخطيب الشربيني - ج ٢

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري

تفسير الخطيب الشربيني - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4207-0

الصفحات: ٧١٧

البلاد والله تعالى أهلك فرعون وجعل تلك الأرض خالصة لموسى ولقومه فأدخله البحر حين أدخل بني اسرائيل فأنجاهم وأغرق آل فرعون (وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً) كما جرت به سنة الله تعالى فيمن عاند بعد أن رأى الخوارق وكفر النعمة وأفرط في البغي بعد ظهور الحق فليحذر هؤلاء مثل ذلك ولا سيما إذا خرج رسولنا من بين أظهرهم ففي هذه الآية وأمثالها بشارة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أنّ الله تعالى يسلك به في النصرة والتمكن سبيل إخوانه من الرسل عليهم الصلاة والسّلام.

(وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ ،) أي : الإغراق (لِبَنِي إِسْرائِيلَ) الذين كانوا تحت يده أذل من العبيد لتقواهم وإحسانهم (اسْكُنُوا الْأَرْضَ ،) أي : التي أراد أن يستفزكم منها (فَإِذا جاءَ ،) أي : مجيئا محققا (وَعْدُ الْآخِرَةِ ،) أي : القيامة بعد أن سكنتم الأرض أحياء ودفنتم فيها أمواتا (جِئْنا ،) أي : بما لنا من العظمة والقدرة (بِكُمْ) منها (لَفِيفاً ،) أي : بعثناكم وإياهم مختلطين لا حكم لأحد على آخر ولا دفع لأحد عن آخر على غير الحالة التي كانت في الدنيا ثم ميزنا بعضكم عن بعض.

ثم عطف سبحانه وتعالى على قوله تعالى : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا) قوله عزوجل : (وَبِالْحَقِّ ،) أي : من المعاني الثابتة التي لا مرية فيها لا بغيره (أَنْزَلْناهُ) نحن ، أي : القرآن فهو ثابت لا يزول كما أنّ الباطل هو الذاهب الزائل وهذا القرآن الكريم مشتمل على أشياء لا تزول وذلك لأنه مشتمل على دلائل التوحيد وصفات الجلال والإكرام وعلى تعظيم الملائكة وتقرير نبوّة الأنبياء وإثبات الحشر والنشر والقيامة ، وكل ذلك مما لا يقبل الزوال ويشتمل أيضا على شريعة باقية لا يتطرّق إليها النقص والتغيير والتحريف وأيضا هذا القرآن تكفل الله تعالى بحفظه عن تحريف الزائغين وتبديل الجاهلين كما قال تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [الحجر ، ٩]. (وَبِالْحَقِ) لا بغيره (نَزَلَ) هو ووصل إليهم على لسانك بعد إنزاله عليك كما أنزلناه سواء غضا طريا محفوظا لم يطرأ عليه طارئ فليس فيه من تحريف ولا تبديل كما وقع في كتاب اليهود الذين سألهم قومك ثم قال تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ) يا أفضل الخلق بما لنا من العظمة (إِلَّا مُبَشِّراً) للمطيع (وَنَذِيراً) للعاصي من العقاب فلا عليك إلا التبشير والإنذار لا ما يقترحونه عليك من المعجزات فإن قبلوا الدين الحق انتفعوا به وإلا فليس عليك من كفرهم شيء.

ثم إنّ الله تعالى أخبر أنّ الحكمة في إنزال القرآن مفرّقا بقوله عزوجل : (وَقُرْآناً ،) أي : وفصلنا أو وأنزلنا قرآنا (فَرَقْناهُ ،) أي : أنزلناه منجما في أوقات متطاولة قال سعيد بن جبير نزل القرآن كله ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء السفلى ، ثم فصل في السنين التي نزل فيها. قال قتادة : كان بين أوّله وآخره عشرون سنة وقيل ثلاث وعشرون سنة والمعنى قطعناه آية آية وسورة سورة ولم ينزل جملة (لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ ،) أي : عامّة (عَلى مُكْثٍ ،) أي : مهل وتؤدة ليفهموه (وَنَزَّلْناهُ) من عندنا بما لنا من العظمة (تَنْزِيلاً) بعضه إثر بعض مفرّقا بحسب الوقائع لأنه أتقن في فصلها وأعون على الفهم لطول التأمّل لما نزل من نجومه في مدّة ما بين النجمين لغزارة ما فيه من المعاني.

ثم إن الله تعالى هدّدهم على لسان نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله تعالى : (قُلْ) لهؤلاء المضلين (آمِنُوا بِهِ ،) أي : القرآن (أَوْ لا تُؤْمِنُوا) فالإيمان به غير محتاج إليكم ولا موقوف عليكم لأنكم إن آمنتم به كان الحظ لكم وإلا لم تضروا إلا أنفسكم فاختاروا ما تريدون فإن إيمانكم بالقرآن لا يزيده كمالا

٣٨١

وامتناعكم منه لا يورثه نقصانا وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ ،) أي : من قبل إنزاله ممن آمن به من بني اسرائيل تعليل له ، أي : إن لم تؤمنوا به وأنتم أهل جاهلية وشرك فإنّ خيرا منكم وأفضل وهم العلماء الذين قرؤوا الكتب وعلموا ما الوحي وما الشرائع قد آمنوا به وصدّقوه وثبت عندهم أنه النبيّ العربيّ الموعود في كتبهم (إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ ،) أي : القرآن (يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ) منهم زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وعبد الله بن سلام. قال الزجاج : الذقن مجمع اللحيين وكما يبتدئ الإنسان بالخرور إلى السجود فأقرب الأشياء من وجهه إلى الأرض الذقن. وقيل : إنّ الأذقان كناية عن اللحى والإنسان إذا بالغ عند السجود في الخشوع والخضوع ربما مسح لحيته على التراب ، فإنّ اللحية يبالغ في تنظيفها فإذا عفرها الإنسان بالتراب في حوض المبالغة فقد أتى بغاية التعظيم ، وقيل : إنّ الإنسان إذا استولى عليه خوف الله تعالى فربما سقط على الأرض في معرض السجود كالمغشي عليه فيكون حينئذ خروره على الذقن فقوله (يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ) كناية عن غاية ولهه وخوفه وخشيته. فإن قيل : لم قال : (يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً) ولم يقل يسجدون؟ أجيب : بأنّ المقصود من ذكر هذا اللفظ مسارعتهم إلى ذلك حتى كأنهم يسقطون. فإن قيل : لم قال : (يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ) ولم يقل على الأذقان؟ اجيب : بأن العرب تقول إذا خرّ الرجل فوقع لوجهه خرّ للذقن ثم بين أن ذلك ليس سقوطا اضطراريا من كل جهة بقوله تعالى : (سُجَّداً ،) أي : يفعلون ذلك لما يعلمون من خيفته بما أوتوا من العلم السالف وما في قلوبهم من الإذعان والخشية للرحمن.

(وَيَقُولُونَ ،) أي : على وجه التجديد المستمرّ (سُبْحانَ رَبِّنا) تنزيها له عن خلف الوعد (إِنْ ،) أي : انه (كانَ ،) أي : كونا لا ينفك (وَعْدُ رَبِّنا ،) أي : المحسن إلينا بالإيمان وما تبعه من وجوه العرفان (لَمَفْعُولاً ،) أي : دون خلف ولا بدّ أن يأتي جميع ما وعد به في الكتب المنزلة وبشر به من بعثة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنزال الفرقان عليه ومن الثواب والعقاب وهو تعريض بقريش حيث كانوا يستهزؤون بالوعيد في قولهم أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا ونحوه مما في معناه الطعن في قدرة الله تعالى القادر على كل شيء.

وقوله تعالى : (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ) كرّره لاختلاف الحال والسبب فإنّ الأول للشك عند إنجاز الوعد والثاني لما أثر فيهم من مواعظ القرآن حال كونهم باكين من خشية الله (وَيَزِيدُهُمْ ،) أي : سماع القرآن (خُشُوعاً ،) أي : خضوعا وتواضعا ولين قلب ورطوبة عين.

ولما طالت الكلمات في المناظرة مع المشركين ومنكري النبوّات والجواب عن شبهاتهم أتبعها ببيان كيف يدعون الله ويطيعونه وكيف يذكرونه في وقت الاشتغال بأداء العبودية فقال تعالى لنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (قُلِ) لهم (ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) واختلف في سبب نزول هذه الآية فقال ابن عباس : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ذات ليلة وهو ساجد : «يا الله يا رحمن» فسمعها أبو جهل وهم لا يعرفون الرحمن. فقال : إنّ محمدا ينهانا أن نعبد إلهين وهو يدعو إلها آخر مع الله تعالى يقال له الرحمن ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، أي : إن شئتم قولوا يا الله وإن شئتم قولوا يا رحمن (١). وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجهر بالدعاء يقول : يا الله يا رحمن فسمعه أهل مكة فأقبلوا عليه فأنزل الله تعالى : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ)

__________________

(١) أخرجه ابن حجر في فتح الباري ١٣ / ٣٦٠.

٣٨٢

الآية» وعن ابن عباس أنّ ذكر الرحمن كان في القرآن قليلا في أوّل ما أنزل وكان الذين قد أسلموا من اليهود يسوءهم قلة ذلك لكثرته في التوراة كابن سلام وابن يامين وابن صوريا وغيرهم ، فسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك فنزل قوله تعالى : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ ،) فقال قريش : ما بال محمد كان يدعو إلها واحدا وهو الآن يدعو إلهين ما نعرف الرحمن إلا صاحب اليمامة فنزل (وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ) [الأنبياء ، ٣٦] ، ونزل أيضا قوله تعالى : (قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ) [الفرقان ، ٦٠] ، وفرح مؤمنو أهل الكتاب وهو قوله تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ ،) أي : مشركي قريش (مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ) [الرعد ، ٣٦]. وعن ابن عباس «سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قول الله تعالى : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) إلى آخر الآية فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هو أمان من السرقة ، فإنّ رجلا من المهاجرين تلاها حين أخذ مضجعه فدخل عليه سارق فجمع ما في البيت وحمله والرجل ليس بنائم حتى انتهى إلى الباب فوجد الباب مردودا فوضع الكارة ففعل ذلك ثلاث مرّات فضحك صاحب الدار فقال : إني أحصن بيتي». فإن قيل : إذا قال الرجل ادع زيدا أو عمرا فهم منه كون زيد مغايرا لعمرو فيوهم كون الله تعالى غير الرحمن وحينئذ تقوى شبهة أبي جهل لعنه الله تعالى؟ أجيب : بأنّ الدعاء هنا بمعنى التسمية لا بمعنى النداء والتسمية تتعدّى إلى مفعولين يقال دعوته زيدا ثم يترك أحدهما استغناء عنه فيقال دعوت زيدا والله والرحمن المراد بهما الاسم لا المسمى وأو للتخيير فمعنى الآية ادعوا باسم الله أو ادعوا باسم الرحمن ، أي : اذكروه بهذا الاسم أو اذكروه بذلك الاسم فقوله ادعوا الله ينبه على ملزم في كرمه بحكم الوعد من إفاضة الرحمة والكرم ، وأيضا تخصيص هذين الاسمين بالذكر يدل على على أنهما أشرف من سائر الأسماء وتقديم اسم الله على اسم الرحمن يدل على أنّ قولنا الله أعظم الأسماء وتقدّم الكلام على ذلك في تفسير بسم الله الرحمن الرحيم والتنوين في قوله تعالى : (أَيًّا ما تَدْعُوا) عوض عن المضاف إليه وما صلة للأبهام المؤكد والمعنى أيا تدعوا فهو حسن فوضع موضعه قوله تعالى : (فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) لأنه إذا حسنت أسماؤه كلها حسن هذان الاسمان لأنهما منها ومعنى كونها أحسن الأسماء أنها مستقلة بمعاني التمجيد والتقديس والتعظيم وقد قدّمنا ذكر الأسماء الحسنى في الأعراف عند قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) [الأعراف ، ١٨٠] وبعض الأحاديث الواردة في فضلها فليراجع ، ووقف حمزة والكسائيّ على الألف بعد الياء ووقف الباقون على الألف بعد الميم ، واختلف في تفسير ونزول قوله تعالى : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها) فروى ابن عباس أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يرفع صوته بالقراءة فإذا سمعه المشركون سبوه وسبوا من جاء به فأوحى الله تعالى إليه (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ) فيسمعه المشركون فيسبوا الله تعالى عدوا بغير علم (وَلا تُخافِتْ بِها) فلا تسمع أصحابك (وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) وروي «أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم طاف بالليل على دور الصحابة فكان أبو بكر رضي الله تعالى عنه يخفي صوته بالقراءة في صلاته وكان عمر يرفع صوته ، فلما جاء النهار وجاء أبو بكر وعمر فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي بكر : لم تخفي صوتك فقال : أناجي ربي وقد علم حاجتي ، وقال لعمر : لم ترفع صوتك؟ فقال : أزجر الشيطان وأوقظ الوسنان فأمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا بكر أن يرفع صوته قليلا وعمر أن يخفض صوته قليلا» (١). وقيل معناه ولا تجهر

__________________

(١) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان ٢ / ٤٣٠.

٣٨٣

بصلاتك كلها ولا تخافت بها كلها وابتغ بين ذلك سبيلا ، بأن تجهر بصلاة الليل وتخافت بصلاة النهار ، وقيل إنّ المراد بالصلاة الدعاء ، وهذا قول عائشة رضي الله تعالى عنها وأبي هريرة ومجاهد ، قالت عائشة : هي الدعاء. وروي هذا مرفوعا أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في هذه الآية : «إنما ذلك في الدعاء والمسألة» (١). قال عبد الله بن شدّاد كان أعراب من بني تميم إذا سلم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا : اللهمّ ارزقنا مالا وولدا يجهرون فأنزل الله تعالى هذه ، والمخافتة خفض الصوت والسكون يقال : صوت خفيف ، أي : خفيض ، ويقال للرجل إذا مات قد خفت ، أي : انقطع كلامه وخفت الزرع إذا ذبل والمستحب من ذلك التوسط وهو أن يسمع نفسه كما روي عن ابن مسعود أنه قال : من لم يخافت لم يسمع أذنيه وقد مدح الله تعالى المؤمنين بقوله تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) [الفرقان ، ٦٧] وأمر الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك فقال عز من قائل : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) [الإسراء ، ٢٩] وبعضهم قال الآية منسوخة بقوله تعالى : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) [الأعراف ، ٥٥]. قال الرازي : وهو بعيد.

ولما أمر الله تعالى أنه لا يذكر ولا ينادى إلا بأسمائه الحسنى علم كيفية التحميد بقوله تعالى : (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ،) أي : الملك الأعظم ثم ذكر سبحانه وتعالى من صفات التنزيه والجلال وهي السلوب ثلاثة أنواع الأوّل قوله تعالى : (الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ ،) أي : لكونه محيطا بالصفات الحسنى (وَلَداً) والسبب فيه وجوه الأوّل أنّ الولد هو الشيء المتولد من جزء من أجزاء ذلك الشيء فكل من له ولد فهو مركب من الأجزاء والمركب محدث والمحدث محتاج والمحتاج لا يقدر على كمال الإنعام فلا يستحق كمال الحمد. الثاني : أنّ كل من له ولد فإنه يمسك جميع النعم لولده فإذا لم يكن له ولد أفاض تلك النعم على عبيده. الثالث : أنّ الولد هو الذي يقوم مقام الوالد بعد انقضائه وفنائه فلو كان له ولد لكان منقضيا ومن كان كذلك لم يقدر على كمال الإنعام في كل الأوقات ، فوجب أن لا يستحق الحمد على الإطلاق. النوع الثاني : من الصفات السلبية قوله تعالى : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ) بوجه من الوجوه (شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) والسبب في اعتبار هذه الصفة أنه لو كان له شريك لم يعرف حينئذ أنّ هذه النعم والمنافع حصلت منه أو من شريكه فلا يعرف كونه مستحقا للحمد والشكر. النوع الثالث قوله تعالى : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ ،) أي : ولم يواله من أجل مذلة به يدفعها بموالاته والسبب في اعتباره أنه لو جاز عليه وليّ يلي أمره كان مستوجبا لأعظم أنواع الحمد ومستحقا لأقسام الشكر فنفى عنه أن يكون له ما يشاركه من جنسه ومن غير جنسه اختيارا أو اضطرارا أو ما يعاونه ويقويه ورتب الحمد عليه للدلالة على أنه الذي يستحق جنس الحمد لأنه كامل الذات المنفرد بالإيجاد المنعم على الإطلاق وما عداه ناقص مملوك نعمة أو منعم عليه ولذلك عطف عليه قوله تعالى : (وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً ،) أي : وعظمه تعظيما على نفي اتخاذ الولد والشريك والذل وكل ما لا يليق به وترتيب الحمد على ذلك للدلالة على أنه المستحق لجميع المحامد لكمال ذاته وتفرّده في صفاته.

روى الإمام أحمد في مسنده عن معاذ الجهني عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يقول : «آية العز (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) إلى آخر السورة (٢)». وعن ابن

__________________

(١) أخرجه الطبري في تفسيره ١٥ / ١٨٤.

(٢) أخرجه أحمد في المسند ٣ / ٤٣٩ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٥ / ١٣٣.

٣٨٤

عباس أنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أوّل من يدعى إلى الجنة يوم القيامة الذين يحمدونه في السراء والضراء» (١). وعن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الحمد رأس الشكر ما شكر الله عبد لا يحمده» (٢). وعن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ أفضل الدعاء الحمد لله وأفضل الذكر لا إله إلا الله» (٣). وعن سمرة بن جندب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أحب الكلام إلى الله تعالى أربع لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله لا يضرك بأيهنّ بدأت» (٤). أخرجه مسلم. وروي أنّ قول العبد الله أكبر خير له من الدنيا وما فيها. وعن عمرو بن شعيب قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أفصح الغلام من بني عبد المطلب علمه وقل الحمد لله الآية ، يقال أفصح الصبيّ في منطقه فهم ما يقول. وعن عبد الله بن كعب قال : افتتحت التوراة بفاتحة سورة الأنعام وختمت بخاتمة هذه السورة. وأمّا ما رواه البيضاويّ تبعا للزمخشريّ وتبعهما ابن عادل أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ سورة بني اسرائيل فرق قلبه عند ذكر الوالدين كان له قنطار في الجنة والقنطار ألف أوقية ومائتا أوقية» (٥) فحديث موضوع.

__________________

(١) أخرجه الحاكم في المستدرك ١ / ٥٠٢ ، والطبراني في المعجم الكبير ١٢٣٤٥.

(٢) أخرجه التبريزي في مشكاة المصابيح ٢٣٠٧ ، والبغوي في شرح السنة ٥ / ٥٠.

(٣) أخرجه الترمذي في الدعوات حديث ٣٣٨٣ ، وابن ماجه في الأدب حديث ٣٨٠٠.

(٤) أخرجه مسلم في الآداب حديث ٢١٣٧ ، وأحمد في المسند ٥ / ١٠.

(٥) ذكره الزمخشري في الكشاف ٢ / ٦٥٦.

٣٨٥

سورة الكهف

مكية ، إلا (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ) الآية وهي مائة وعشر آيات وألف وخمسمائة وسبع وسبعون كلمة وعدد حروفها ستة آلاف وثلاثمائة وستون حرفا.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) الذي لا كفء له ولا شريك (الرَّحْمنِ) الذي أقام عباده على أوضح الطرق بإنزال هذا الكتاب (الرَّحِيمِ) بتفضيل من اختصه بالصواب وهو قوله تعالى :

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (٢) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (٣) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً (٤) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (٥) فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (٦) إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (٧) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (٨) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (٩) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (١٠) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (١١) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (١٢))

(الْحَمْدُ لِلَّهِ) تقدّم الكلام عليه مستقصى في أوّل الفاتحة (الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ ،) أي : القرآن رتب تعالى استحقاق الحمد على إنزاله تنبيها على أنه أعظم إنعامه وخص رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالذكر لأن إنزال القرآن نعمة عليه على الخصوص وعلى سائر الناس على العموم ، أمّا كونه نعمة عليه فلأنّ الله تعالى أطلعه بواسطة هذا الكتاب الكريم على أسرار علوم التوحيد والتنزيه. وصفات الجلال والإكرام وأسرار أحوال الملائكة والأنبياء وأحوال القضاء والقدر وتعلق أحوال العالم السفليّ بأحوال العالم العلويّ ، وتعلق أحوال عالم الآخرة بعالم الدنيا ، وكيفية نزول القضاء من عالم الغيب ، وكيفية ارتباط عالم الجسمانيات بعالم الروحانيات ، ولا شكّ أنّ ذلك من أعظم النعم. وأمّا كون هذا الكتاب نعمة علينا فلأنه مشتمل على التكاليف والأحكام والوعد والوعيد والعقاب. وبالجملة فهو كتاب كامل في أقصى الدرجات فكل أحد ينتفع به بمقدار طاقته وفهمه فوجب عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى أمّته أن يحمدوه على هذه النعم الجزيلة. وقال تعالى : (عَلى عَبْدِهِ) لما في كل من الوصف بالعبودية والإضافة إليه سبحانه وتعالى من الإعلام بتشريفه وإشارة إلى أنه الذي

٣٨٦

أسرى به إلى حضرات مجده ليريه من آياته. ثم إنه تعالى وصف الكتاب بوصفين الأوّل قوله تعالى : (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ ،) أي : فيه (عِوَجاً ،) أي : اختلافا وتناقضا كما قال تعالى : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء ٨٢] والجملة حال من الكتاب.

الوصف الثاني : قوله تعالى : (قَيِّماً) قال ابن عباس : يريد مستقيما ، أي : معتدلا لا إفراط فيه ولا تفريط. قال الرازي : وهذا عندي مشكل لأنه لا معنى لنفي الاعوجاج إلا حصول الاستقامة فتفسير القيم بالمستقيم يوجب التكرار بل الحق أنّ المراد من كونه قيّما كونه سببا لهداية الخلق وأنه يجري مجرى من يكون قيما للأطفال فالأرواح البشرية كالأطفال والقرآن كالقيّم المشفق القائم بمصالحهم وقال قبل ذلك : إنّ الشيء يجب أن يكون كاملا في ذاته ثم يكون مكملا لغيره ، ويجب أن يكون تامّا في ذاته ثم يكون فوق التمام بأن يفيض عنه كمال الغير فقوله تعالى : (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) إشارة إلى كونه كاملا في ذاته وقوله : (قَيِّماً) إشارة إلى كونه مكملا لغيره. ونظيره قوله تعالى في سورة البقرة في صفة الكتاب : (لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة ، ٢] فقوله : (لا رَيْبَ فِيهِ) إشارة إلى كونه في نفسه بالغا في الصحة وعدم الإخلال إلى حيث يجب على العاقل أن لا يرتاب فيه ، وقوله : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) إشارة إلى كونه سببا لهداية الخلق ولكمال حالهم فقوله تعالى : (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) قائم مقام قوله تعالى : (لا رَيْبَ فِيهِ) وقوله تعالى : (قَيِّماً) قائم مقام قوله تعالى : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ.)

واختلف النحويون في نصب قوله تعالى : (قَيِّماً) على أوجه : الأوّل : قال في «الكشاف» : لا يجوز جعله حالا من الكتاب لأنّ قوله تعالى : (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) معطوف على قوله تعالى : (أَنْزَلَ) فهو داخل في حيز الصلة وأنه لا يجوز. قال : ولما بطل هذا وجب أن ينتصب بمضمر والتقدير : ولم يجعل له عوجا جعله قيما لأنه تعالى إذا نفى عنه العوج فقد أثبت له الاستقامة. قال : فإن قلت فما فائدة الجمع بين نفي العوج وإثبات الاستقامة وفي أحدهما غنى عن الآخر؟ قلت : فائدته التأكيد ورب مستقيم مشهود له بالاستقامة ولا يخلو من أدنى عوج عند السبر والتصفح.

الوجه الثاني : أنه حال ثانية والجملة المنفية قبله حال أيضا كما مرّ وتعدّد الحال الذي حال واحد جائز ، والتقدير أنزله غير جاعل له عوجا قيما.

الوجه الثالث : أنه حال أيضا ولكنه بدل من الجملة قبله لأنها حال وإبدال المفرد من الجملة إذا كانت بتقدير مفرد جائز.

ولما ذكر تعالى أنه أنزل على عبده هذا الكتاب الموصوف بما ذكر أردفه ببيان ما لأجله أنزله بقوله عزوجل : (لِيُنْذِرَ ،) أي : يخوّف الكتاب الكافرين (بَأْساً ،) أي : عذابا (شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ ،) أي : صادرا من عنده ، وقرأ شعبة بإسكان الدال وكسر النون والهاء وصلة الهاء بياء والباقون بضم الدال وسكون النون وضم الهاء ، وابن كثير على أصله بضم الهاء في الوصل بواو. (وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ ،) أي : الراسخين في هذا الوصف ، وقرأ حمزة والكسائي بفتح الياء التحتية وسكون الموحدة ، وضم الشين مخففة والباقون بضم التحتية وفتح الموحدة وكسر الشين مشدّدة. (الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ) وهي ما أمر به خالصا له وذانك الشيئان مفتاح الإيمان. (أَنَّ لَهُمْ ،) أي : بسبب أعمالهم (أَجْراً حَسَناً) هو الجنة حال كونهم. (ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً) بلا انقطاع أصلا فإنّ الأبد زمان لا آخر له ، وقوله تعالى : (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) معطوف على قوله تعالى :

٣٨٧

(لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ) والمعطوف يجب كونه مغايرا للمعطوف عليه ، فالأوّل عام في حق كل كافر ، والثاني خاص بمن أثبت لله ولدا. وعادة القرآن جارية بأنه إذا ذكر قضية كلية عطف عليها بعض جزئياتها تنبيها على كونه أعظم جزئيات ذلك الكلي كقوله تعالى : (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) [البقرة ، ٩٨] فكذا ههنا هذا العطف يدل على أنّ أقبح أنواع الكفر إثبات الولد لله تعالى.

تنبيه : الذين أثبتوا لله ولدا ثلاث طوائف الأولى : كفار العرب الذين قالوا الملائكة بنات الله. الثانية : النصارى الذين قالوا المسيح ابن الله. الثالثة : اليهود الذين قالوا عزير ابن الله. ثم إنه تعالى أنكر على القائلين ذلك من وجهين الأوّل : قوله تعالى : (ما لَهُمْ بِهِ ،) أي : القول. (مِنْ عِلْمٍ ،) أي : أصلا لأنه مما لا يمكن أن يتعلق العلم به لأنه لا وجود له ولا يمكن وجوده ، ثم قرّر تعالى هذا المعنى وأكده بقوله : (وَلا لِآبائِهِمْ) الذين يغتبطون بتقليدهم في الدين حتى في هذا الذي لا يتخيله عاقل ولو أخطؤوا في تصرف دنيوي لم يتبعوهم فيه. فإن قيل : اتخاذ الله ولدا محال في نفسه فكيف قيل : (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ؟) أجيب : بأن انتفاء العلم بالشيء قد يكون للجهل بالطريق الموصل إليه وقد لا يكون لأنه في نفسه محال لا يمكن تعلق العلم به ، ونظيره قوله تعالى : (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ) [المؤمنين ، ١١٧]. الوجه الثاني : (كَبُرَتْ ،) أي : مقالتهم (كَلِمَةً ،) أي : ما أكبرها من كلمة وصور فظاظة اجترائهم على النطق بها بقوله تعالى : (تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ ،) أي : لم يكفهم خطورها في أنفسهم وتردّدها في صدورهم حتى تلفظوا بها وكان صدورهم بها على وجه التكرير كما يشير إليه التعبير بالمضارع.

تنبيه : سميت هذه كلمة كما يسمون القصيدة كلمة. ثم بين تعالى ما أفهمه الكلام من أنه كما أنهم لا علم لهم بذلك لا علم لأحد به أصلا لأنه لا وجود له فقال تعالى : (إِنْ ،) أي : ما (يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً ،) أي : قولا لا حقيقة له بوجه من الوجوه.

ولما كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم شديد الحرص على إيمان قومه شفقة عليهم وغيرة على المقام الإلهي الذي ملأ قلبه تعظيما خفض عليه سبحانه وتعالى بقوله تعالى :

(فَلَعَلَّكَ باخِعٌ ،) أي : قاتل (نَفْسَكَ) من شدّة الغمّ والوجد وأشار تعالى إلى شدّة نفرتهم وسرعة مفارقتهم وعظيم مباعدتهم بقوله عز من قائل : (عَلى آثارِهِمْ ،) أي : حين تولوا عن التوحيد وعن إجابتك (إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ ،) أي : القرآن المتجدّد تنزيله على حسب التدريج (أَسَفاً) منك على ذلك والأسف شدّة الحزن والغضب. فإن قيل : ذلك يدل على حدوث القرآن؟ أجيب : بأنه محمول على الألفاظ وهي حادثة. ثم بين سبحانه وتعالى علة إرشاده إلى الإعراض عنهم بغير ما يقدر عليه من التبليغ للبشارة والنذارة بأنهم لم يخرجوا عن مراده تعالى ، وأنّ الإيمان لا يقدر على إدخاله قلوبهم غيره بقوله عزوجل : (إِنَّا ،) أي : إنا لا نفعل ذلك لأنا (جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ) من الحيوان والنبات والشجر والأنهار والمعادن وغير ذلك. وقال بعضهم : بل المراد الناس فهم زينة الأرض ، وبالجملة فليس في الأرض إلا المواليد الثلاثة وهي المعادن والنبات الشامل للشجر والحيوان وأشرف أنواع الحيوان الإنسان. (زِينَةً لَها ،) أي : الأرض ، قيل : المراد أهلها ، أي : زينة لأهلها. قال الرازي : ولا يمتنع أن يكون ما تحسن به الأرض زينة لها كما جعل الله السماء مزينة بالكواكب. ولما أخبر تعالى بزينتها أخبر تعالى بعلته

٣٨٨

بقوله تعالى : (لِنَبْلُوَهُمْ ،) أي : نعاملهم معاملة المختبر (أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) بإخلاص الخدمة لربه فيصير ما كنا نعلمه منهم ظاهرا فإنّ الله تعالى يعلم السرّ وأخفى ، لتقام به عليهم الحجة على ما يتعارفونه بينهم بأن من أظهر موافقة الأمر فيما نال من الزينة حاز المثوبة ومن اجترأ على مخالفة الأمر بما آتاه منها استحق العقوبة فكأنه تعالى يقول : يا محمد إني خلقت الأرض وزينتها وأخرجت منها أنواع المنافع والمصالح والمقصود من خلقها بما فيها من المنافع ابتلاء الخلق بهذه التكاليف ثم إنهم يكفرون ويتمرّدون ومع ذلك فلا أقطع عنهم مواد هذه النعم فأنت أيضا يا محمد لا ينبغي أن تنتهي في الحزن بسبب كفرهم إلى أن تترك الاشتغال بدعوتهم إلى الدين الحق.

ثم إنه تعالى لما بين أنه إنما زين الأرض لأجل الامتحان والابتلاء لا لأجل أن يبقى الإنسان فيها متنعما بها أبدا ، زهد فيها بقوله تعالى : (وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها) من جميع تلك الزينة لا يصعب علينا شيء منه (صَعِيداً ،) أي : فتاتا (جُرُزاً ،) أي : يابسا لا ينبت ونظيره قوله تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) [الرحمن ، ٢٦]. وقوله تعالى : (فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (١٠٦) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) [طه : ١٠٦ ، ١٠٧]. وتخصيص الإهلاك بما على الأرض يوهم بقاء الأرض إلا أنّ سائر الآيات على أنّ الأرض أيضا لا تبقى كما قال تعالى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) [إبراهيم ، ٤٨].

ولما أنّ القوم تعجبوا في قصة أصحاب الكهف وسألوها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على سبيل الامتحان قال تعالى : (أَمْ حَسِبْتَ ،) أي : ظننت على ما لك من العقل الرزين والرأي الرصين (أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً) على ما لزم من تهويل السائلين من الكفرة من اليهود والعرب والواقع أنهم كانوا من العجائب ليسوا بعجب بالنسبة إلى كثرة آياتنا فإنّ من كان قادرا على تخليق السموات والأرض كيف يستبعد من قدرته وحفظه ورحمته حفظ طائفة مدّة ثلاثمائة سنة وأكثر في النوم. والكهف الغار الواسع في الجبل ، واختلف في الرقيم فقيل : هو اسم كلبهم قال أمية بن أبي الصلت (١) :

وليس بها إلا الرقيم مجاورا

وصيدهم ؛ وهو بكسر الصاد مفعول مجاورا ، أي : فناءهم. والقوم في الكهف هجد ؛ ، أي : نوّم ، وقيل : هو لوح من رصاص رقمت فيه أسماؤهم وقصصهم جعل على باب الكهف. قال البغويّ : وهذا أظهر الأقاويل. وقيل : إنّ الناس رقموا حديثهم نقرا في الجبل ، وقيل : هو الوادي الذي فيه الكهف ، وقيل : الجبل ، وقيل : قريتهم ، وقيل أصحاب الرقيم قوم آخرون غير أصحاب الكهف كانوا ثلاثة يطلبون الكلأ أو نحوه لأهلهم فأخذهم المطر فأووا إلى الكهف فانحطت صخرة وسدّت عليهم بابه فقال أحدهم : اذكروا أيكم عمل حسنة لعلّ الله يرحمنا ببركته فقال واحد : استعملت أجراء ذات يوم فجاء رجل منهم وسط النهار وعمل في بقيته مثل عملهم فأعطيته مثل أجرهم فغضب أحدهم وترك أجره فوضعته في جانب البيت فمرّ بي بقر فاشتريت فصيلة والفصيلة ولد الناقة إذا انفصل عن أمّه فبلغت ما شاء الله فرجع إليّ بعد حين شيخا ضعيفا لا أعرفه وقال : إنّ لي عندك حقا وذكره حتى عرفته فدفعتها إليه جميعا اللهم إن كنت فعلت ذلك لوجهك فافرج عنا فانصدع عنهم الجبل حتى رأوا الضوء والصدع الشق والصداع وجع الرأس. وقال آخر : كان في

__________________

(١) الشطر لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

٣٨٩

فضل وأصاب الناس شدّة فجاءتني امرأة تطلب مني معروفا فقلت : والله ما هو دون نفسك فأبت وعادت ثم رجعت ثلاثا ثم ذكرت ذلك لزوجها فقال : أجيبي له وأعيني عيالك فأتت وسلمت إليّ نفسها فلما كشفتها وهممت بها ارتعدت فقلت لها : ما لك؟ فقالت : أخاف الله تعالى : فقلت لها : خفتيه في الشدّة ولم أخفه في الرخاء فتركتها وأعطيتها ملتمسها اللهمّ إن كنت فعلته لوجهك فافرج عنا فانصدع حتى تعارفوا. وقال الثالث : كان لي أبوان هرمان وكان لي غنم وكنت أطعمهما وأسقيهما ثم أرجع إلى غنمي فحبسني ذات يوم غيم فلم أرجع حتى أمسيت فأتيت أهلي وأخذت محلبي فحلبت فيه ومضيت إليهما فوجدتهما نائمين فشقّ عليّ أنّ أوقظهما فوقفت حابسا محلبي على يديّ حتى أيقظهما الصبح فسقيتهما اللهم إن كنت فعلت ذلك لوجهك الكريم فافرج عنا ففرج الله عنهم فخرجوا وقد رفع ذلك النعمان بن بشير وقد قدّمنا سبب نزول قصة أصحاب الكهف عند قوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) [الإسراء ، ٨٥].

وذكر محمد بن إسحاق سبب نزول هذه القصة مشروحا فقال : كان النضر بن الحارث من شياطين قريش ، وكان يؤذي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وينصب له العداوة ، وكان قد قدم الحيرة وتعلم بها أحاديث رستم واسفنديار ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا جلس مجلسا ذكر فيه الله تعالى وحذر قومه ما أصاب من كان قبلهم من الأمم ، وكان النضر يخلفه في مجلسه إذا قام وقال : أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثا منه فهلموا فأنا أحدثكم بأحسن من حديثه ثم يحدّثهم عن ملوك فارس ثم قال : إنّ قريشا بعثوه وبعثوا معه عقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة وقالوا لهما : سلاهم عن محمد وصفته فإنهم أهل الكتاب الأوّل وعندهم من العلم ما ليس عندنا من علم الأنبياء فخرجا حتى قدما المدينة فسألا أحبار اليهود عن أحوال محمد فقال لهم اليهود : سلوه عن ثلاثة ؛ عن فتية ذهبوا في الدهر الأوّل فإن حديثهم عجيب. وعن رجل طوّاف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها. وسلوه عن الروح وما هي فإن أخبركم فهو نبيّ وإلا فهو متقول ، فلما قدم النضر وصاحبه مكة قالا : قد جئناكم بفصل ما بيننا وبين محمد وأخبراهم بما قالته اليهود ، فجاؤوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسألوه فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أخبركم بما سألتم عنه غدا» ، ولم يستثن فانصرفوا عنه فمكث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يذكرون خمس عشرة ليلة لم ينزل عليه وحي وشق عليه ذلك ثم جاءه جبريل من عند الله بسورة أهل الكهف وفيها معاتبة الله تعالى إياه على جراءته عليهم وفيها خبر أولئك الفتية وخبر الرجل الطوّاف.

ثم بدأ بالفتية فقال : (إِذْ ،) أي : واذكر إذ (أَوَى الْفِتْيَةُ) وهم أصحاب الكهف المسؤول عنهم. جمع فتى ، وهو الشاب الكامل والشباب أقبل إلى الحق وأهدى للسبيل من الشيوخ (إِلَى الْكَهْفِ) خائفين على إيمانهم من قومهم الكفار واختلفوا في سبب مصيرهم إلى الكهف ، فقال محمد بن إسحاق بن يسار : مرج أهل الإنجيل وكثرت فيهم الخطايا وطغت فيهم الملوك حتى عبدوا الأصنام وذبحوا للطواغيت وفيهم بقايا على دين المسيح متمسكين بعبادة الله وتوحيده وكان ممن فعل ذلك من ملوكهم ملك من الروم يقال له : دقيانوس عبد الأصنام وذبح للطواغيت وقتل من خالفه وكان ينزل قرى الروم فلا يترك في قرية نزلها أحد إلا فتنه عن دينه حتى يعبد الأصنام أو يقتله ثم نزل مدينة أهل الكهف وهي أفسوس فلما نزل بها كبر على أهل الإيمان فاستخفوا منه وهربوا في كل وجه واتخذ شرطا من الكفار وأمرهم أن يتبعوهم في أماكنهم ويخرجوهم إليه فيخيروهم بين

٣٩٠

القتل وبين عبادة الأوثان والذبح للطواغيت فمنهم من يرغب في الحياة ومنهم من يأبى أن يعبد غير الله تعالى فيقتل فلما رأى ذلك أهل الشدّة في الإيمان جعلوا يسلمون أنفسهم للعذاب والقتل فيقتلون ويقطعون ثم جعل ما قطع من أجسامهم على سور المدينة من نواحيها وعلى كل باب من أبوابها حتى عظمت الفتنة فلما رأى ذلك الفتية حزنوا حزنا شديدا فقاموا واشتغلوا بالصلاة والصيام والدعاء والتسبيح وكانوا من أشراف المدينة ومن أشراف الروم وكانوا ثمانية نفر بكوا وتضرّعوا إلى الله تعالى وجعلوا يقولون : ربنا اكشف عن عبادك المؤمنين هذه الفتنة وارفع عنهم هذا البلاء حتى يعلنوا عبادتك فبينما هم على ذلك وقد دخلوا مصلى لهم أدركهم الشرط فوجدوهم سجودا على وجوههم يبكون ويتضرعون إلى الله تعالى فقالوا لهم : ما خلفكم عن أمر الملك انطلقوا إليه ثم خرجوا فرفعوا أمرهم إلى دقيانوس فقالوا : نجمع الناس للذبح لآلهتك وهؤلاء الفتية من أهل بيتك يستهزؤون بك ويعصون أمرك فلما سمع ذلك بعث إليهم فأتى بهم تفيض أعينهم من الدمع معفرة وجوههم في التراب فقال لهم : ما منعكم أن تشهدوا الذبح لآلهتنا التي تعبد في الأرض وتجعلوا أنفسكم بأسوة سراة أهل مدينتكم؟ اختاروا إمّا أن تذبحوا لآلهتنا وإمّا أن أقتلكم فقال له كبيرهم : واسمه مكسلمينا إنّ لنا إلها ملء السموات والأرض عظمته لن ندعو من دونه إلها أبدا له الحمد والتكبير والتسبيح من أنفسنا خالصا أبدا إياه نعبد وإياه نسأل النجاة والخير ، وأمّا الطواغيت فلن نعبدها أبدا ، اصنع ما بدا لك وقال أصحابه مثل ما قال ، فلما قالوا ذلك أمر الملك بنزع لباسهم ، وحلية كانت عليهم من الذهب والفضة ، وقال : سأفرغ لكم وأنجز لكم ما وعدتكم من العقوبة ، وما يمنعني أن أعجل لكم ذلك إلا أني أراكم شبابا حديثة أسنانكم فلا أحب أن أهلككم حتى أجعل لكم أجلا تذكرون فيه وترجعون إلى عقولكم ثم أمر بهم فأخرجوا من عنده وانطلق إلى مدينة أخرى قريبة منهم لبعض أموره فلما رأى الفتية خروجه بادروا قدومه وخافوا إذا قدم مدينتهم أن يذكرهم فائتمروا بينهم أن يأخذ كل واحد منهم نفقة من بيت أبيه فيتصدّقوا منها ويتزوّدوا بما بقي ثم ينطلقوا إلى كهف قريب من المدينة فيمكثوا فيه ويعبدوا الله تعالى حتى إذا جاء دقيانوس أتوه فقاموا بين يديه فيصنع بهم ما يشاء فلما قال ذلك بعضهم لبعض عمد كل فتى منهم إلى بيت أبيه فأخذ نفقة فتصدق منها وانطلقوا بما بقي معهم واتبعهم كلب كان لهم حتى إذا أتوا ذلك الكهف فلبثوا فيه.

وقال كعب الأحبار : مرّوا بكلب فتبعهم فطردوه فعاد ففعلوا ذلك مرارا فقال لهم الكلب : ما تريدون مني لا تخشوا جنايتي أنا أحب أحباب الله عزوجل فناموا حتى أحرسكم.

وقال ابن عباس : هربوا ليلا من دقيانوس وكانوا سبعة ، فمروا براع معه كلب فتبعهم على دينهم وتبعه كلبه فخرجوا من البلد إلى الكهف وهو قريب من البلد قال ابن اسحق : فلبثوا فيه ليس لهم عمل غير الصلاة والصيام والتسبيح والتمجيد ابتغاء وجه الله تعالى وجعلوا نفقتهم إلى فتى منهم يقال له : تمليخا فكان يبتاع لهم أرزاقهم من المدينة سرا وكان من أجملهم وأجلدهم وكان إذا دخل المدينة يضع ثيابا كانت عليه حسانا ويأخذ ثيابا كثياب المساكين الذين يستطعمون فيها ثم يأخذ ورقه وينطلق إلى المدينة فيشتري لهم طعاما وشرابا ويتجسس لهم الخبر هل ذكروا أصحابه بشيء ثم يرجع إلى أصحابه فلبثوا في ذلك ما شاء الله أن يلبثوا ثم قدم دقيانوس المدينة وأمر عظماء أهلها أن يذبحوا للطواغيت ففزع من ذلك أهل الإيمان وكان تمليخا يشتري لأصحابه طعامهم فرجع إلى أصحابه وهو يبكي ومعه طعام قليل أخبرهم أنّ الجبار قد دخل المدينة وأنهم قد

٣٩١

ذكروا والتمسوا من عظماء المدينة ففزعوا ووقعوا سجودا يدعون ويتضرعون ويتعوذون من الفتنة ثم إن تمليخا قال لهم : يا إخوتاه ارفعوا رؤوسكم واطعموا وتوكلوا على ربكم ، فرفعوا رؤوسهم وأعينهم تفيض من الدمع فطعموا ذلك مع غروب الشمس ثم جعلوا يتحدثون ويتدارسون ويذكر بعضهم بعضا فبينما هم كذلك إذ ضرب الله على آذانهم في الكهف وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف فأصابهم ما أصابهم وهم مؤمنون موقنون ونفقتهم عند رؤوسهم فلما كان الغد تفقدهم دقيانوس فالتمسهم فلم يجدهم فقال لبعض عظمائه وعظماء المدينة لقد ساءني شأن هؤلاء الفتية الذين ذهبوا ، لقد كانوا ظنوا أن بي غضبا عليهم لجهلهم ما جهلوا من أمري ما كنت لأجهل عليهم إن هم تابوا وعبدوا آلهتي.

فقال عظماء المدينة : ما أنت بحقيق أن ترحم قوما فجرة مردة عصاة ، فقد كنت أجلت لهم أجلا ولو شاؤوا لرجعوا في ذلك الأجل ولكنهم لم يتوبوا فلما قالوا ذلك غضب غضبا شديدا ثم أرسل إلى آبائهم فأتي بهم فسألهم وقال : أخبروني عن أبنائكم المردة الذين عصوني فقالوا له : أمّا نحن فلم نعصك فلم تقتلنا بقوم مردة قد ذهبوا بأموالنا وأهلكوها في أسواق المدينة ثم انطلقوا فارتقوا إلى جبل يدعى بنجلوس فلما قالوا ذلك خلا سبيلهم وجعل ما يدري ما يصنع بالفتية ، فألقى الله تعالى في قلبه أن يسدّ باب الكهف عليهم وأراد الله تعالى أن يكرمهم بذلك ويجعلهم آية لأمة تستخلف من بعدهم وأن يبين لهم (وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) [الحج ، ٧] ، فأمر دقيانوس بالكهف أن يسدّ عليهم وقال : دعوهم كما هم في الكهف يموتون جوعا وعطشا ويكون كهفهم الذي اختاروه قبرا لهم وهو يظن أنهم أيقاظ يعلمون ما يصنع بهم ، وقد توفى الله أرواحهم وفاة النوم وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف قد غشيه ما غشيهم يتقلبون ذات اليمين وذات الشمال ، ثم إنّ رجلين مؤمنين في بيت الملك دقيانوس يكتمان إيمانهما ائتمرا أن يكتبا شأن الفتية وخبرهم في لوحين من رصاص ويجعلاهما في تابوت من نحاس ويجعلا التابوت في البنيان وقالا : لعل الله يظهر على هؤلاء الفتية قوما مؤمنين قبل يوم القيامة فيعلم من يفتح عليهم خبرهم حين يقرأ الكتاب ففعلا ذلك وبنيا عليه وبقي دقيانوس ما بقي ثم مات وقومه وقرون بعده كثيرة.

وقد حكى الله تعالى عنهم أنهم لما أووا إلى الكهف (فَقالُوا) أي : عقب استقرارهم فيه (رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ ،) أي : من عندك (رَحْمَةً) توجب لنا المغفرة والرزق والأمن من عدوّك (وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا ،) أي : من الأمر الذي نحن عليه من مفارقة الكفار (رَشَداً) الرشد والرشد والرشاد نقيض الضلال وفي تفسير اللفظ وجهان : الأوّل : أنّ التقدير هيئ لنا أمرا ذا رشد ، أي : حتى نصير بسببه راشدين مهتدين. الثاني : اجعل أمرنا رشدا كله كقولك : رأيت منك رشدا.

ولما أجابهم سبحانه وتعالى عبر عن ذلك بقوله تعالى : (فَضَرَبْنا ،) أي : عقب هذا القول وبسببه (عَلَى آذانِهِمْ) حجابا يمنع السماع ، أي : أنمناهم نومة لا تنبههم الأصوات الموقظة فحذف المفعول الذي هو الحجاب كما يقال : بنى على امرأته يريدون بنى عليها القبة. ثم بين تعالى أنه إنما ضرب على آذانهم (فِي الْكَهْفِ) أي : المعهود وهو ظرف مكان وقوله تعالى : (سِنِينَ) ظرف زمان وقوله تعالى : (عَدَداً) أي : ذوات عدد يحتمل التكثير والتقليل فإنّ مدّة لبثهم كبعض يوم عنده كقوله تعالى : (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ) [الأحقاف ، ٣٥]. وقال الزجاج : إذا قل الشيء فهم مقدار عدده فلم يحتج إلى أن يعدّ وإذا كثر أحتاج إلى أن يعدّ (ثُمَّ بَعَثْناهُمْ ،) أي : أيقظناهم من ذلك

٣٩٢

النوم (لِنَعْلَمَ ،) أي : علم مشاهدة وقد سبق نظير هذه الآية في القرآن كثيرا منها ما سبق في سورة البقرة (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) [البقرة ، ١٤٣]. وفي آل عمران : (يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ) [آل عمران ، ١٤٢] وقد نبهنا على ذلك في محله (أَيُّ الْحِزْبَيْنِ ،) أي : الفريقين المختلفين في مدّة لبثهم (أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً) واختلفوا في الحزبين المختلفين فقال عطاء عن ابن عباس : المراد بالحزبين الملوك الذين تداولوا المدينة ملكا بعد ملك وأصحاب الكهف. وقال مجاهد : الحزبان من الفتية أصحاب الكهف لما تيقظوا اختلفوا في أنهم كم لبثوا ويدل له قوله تعالى : (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ) [الكهف ، ١٩] فالحزبان هما هذان وكأن الذين (قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ) هم الذين علموا أنّ لبثهم قد تطاول. وقال الفرّاء : إنّ طائفتين من المسلمين في زمان أصحاب الكهف اختلفوا في مدّة لبثهم.

تنبيه : أحصى فعل ماض ، أي : أيهم ضبط أمر أوقات لبثهم وأمّا من جعله أفعل تفضيل فقال في «الكشاف» : ليس بالوجه السديد وذلك أنّ بناءه من غير الثلاثي المجرّد ليس بقياس ونحو : أعدى من الجرب ، وأفلس من ابن المذلق شاذ والقياس على الشاذ في غير القرآن ممتنع فكيف به.

ثم قال الله تعالى : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (١٣) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (١٤) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً (١٥) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً (١٦) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (١٧) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (١٨) وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (١٩) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (٢٠) وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (٢١))

(نَحْنُ ،) أي : بما لنا من العظمة والقدرة الباهرة (نَقُصُّ عَلَيْكَ) يا أشرف الخلق (نَبَأَهُمْ ،) أي : خبرهم العظيم قصا ملتبسا (بِالْحَقِّ ،) أي : الصدق (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ ،) أي : شبان (آمَنُوا بِرَبِّهِمْ ،) أي : المحسن إليهم الذي تفرد بخلقهم ورزقهم ، ثم وصفهم الله تعالى بقوله : (وَزِدْناهُمْ) بعد أن آمنوا (هُدىً) بما قذفناه في قلوبهم من المعارف (وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ ،) أي : قويناها فصار ما فيها من القوى مجتمعا غير مبدد فكانت حالهم في الجلوة حالهم في الخلوة. (إِذْ قامُوا ،) أي : وقت قيامهم بين يدي الجبار دقيانوس من غير مبالاة به حين عاتبهم على ترك

٣٩٣

عبادة الأصنام (فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وذلك لأنه كان يدعو الناس إلى عبادة الطواغيت فثبت الله تعالى هؤلاء الفتية حتى عصوا ذلك الجبار وأقروا بربوبية الله تعالى وصرحوا بالبراءة من الشرك والأنداد بقولهم : (لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً) لأنّ ما سواه عاجز والله (لَقَدْ قُلْنا إِذاً ،) أي : إذا دعونا من دونه غيره (شَطَطاً ،) أي : قولا ذا بعد عن الحق جدا. وقال مجاهد : كانوا أبناء عظماء مدينتهم فخرجوا فاجتمعوا وراء المدينة من غير ميعاد فقال رجل منهم هو أكبر القوم : إني لأجد في نفسي شيئا ما أظن أنّ أحدا يجده قالوا : ما تجد؟ قال : أجد في نفسي أنّ ربي رب السموات والأرض. قالوا : نحن كذلك في أنفسنا فقاموا جميعا فقالوا : (رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.) وقال عطاء : قالوا ذلك عند قيامهم من النوم. قال الرازي : وهو بعيد لأنّ الله تعالى استأنف قصتهم بقوله تعالى : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ.)

وقال عبيد بن عمير : كان أصحاب الكهف فتيانا مطوّقين مسورين ذوي ذوائب ، وكان معهم كلب صيدهم فخرجوا في عيد لهم عظيم في زيّ وموكب وأخرجوا معهم آلهتهم التي يعبدونها وقد قذف الله تعالى في قلوب الفتية الإيمان ، وكان أحدهم وزير الملك فآمنوا وأخفى كل واحد إيمانه فقالوا في أنفسهم : نخرج من بين أظهر هؤلاء القوم لا يصيبنا عقاب بجرمهم فخرج شاب منهم حتى انتهى إلى ظل شجرة فجلس فيه ثم خرج آخر فرآه جالسا وحده فرجا أن يكون على مثل أمره من غير أن يظهر ذلك ثم خرج آخر فخرجوا كلهم جميعا فاجتمعوا فقال بعضهم لبعض : ما جمعكم وكل واحد يكتم صاحبه مخافة على نفسه ثم قالوا : ليخرج كل فتيين فيخلوا ثم يفشي كل واحد سرّه إلى صاحبه ففعلوا فإذا هم جميعا على الإيمان ، وإذا بكهف في الجبل قريب منهم فقال بعضهم لبعض :

(هؤُلاءِ قَوْمُنَا) وإن كانوا أسنّ منا وأقوى وأجل في الدنيا (اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) أشركوهم معه تعالى لشبهة واهية (لَوْ لا ،) أي : هلا (يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ ،) أي : دليل (بَيِّنٍ ،) أي : ظاهر مثل ما نأتي نحن على تقرير معبودنا بالأدلة الظاهرة فتسبب عن عجزهم عن دليل أنهم أظلم الظالمين فلذلك قالوا : (فَمَنْ أَظْلَمُ ،) أي : لا أحد أظلم (مِمَّنِ افْتَرى ،) أي : تعمد (عَلَى اللهِ ،) أي : الملك الأعظم (كَذِباً) بنسبة الشريك إليه تعالى.

ثم قال بعض الفتية لبعض : (وَإِذِ ،) أي : وحين (اعْتَزَلْتُمُوهُمْ ،) أي : قومكم (وَما يَعْبُدُونَ ،) أي : واعتزلتم معبودهم وقولهم : (إِلَّا اللهَ) يجوز أن يكون استثناء منه متصلا على ما روي أنهم كانوا يقرّون بالخالق ويشركون معه كما كان أهل مكة ، وأن يكون منقطعا وقيل : هو كلام معترض إخبار من الله تعالى عن الفتية بأنهم لم يعبدوا غير الله تعالى (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ ،) أي : الغار الذي في الجبل (يَنْشُرْ ،) أي : يبسط (لَكُمْ) ويوسع عليكم (رَبُّكُمْ ،) أي : المحسن إليكم (مِنْ رَحْمَتِهِ) ما يكفيكم به المهم من أمركم في الدارين (وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ ،) أي : الذي من شأنه أن يهمكم (مِرْفَقاً ،) أي : ما ترتفقون به وتنتفعون وجزمهم بذلك لخلوص نيتهم وقوّة وثوقهم بفضل الله. وقرأ نافع وابن عامر بفتح الميم وكسر الفاء والباقون بكسر الميم وفتح الفاء. قال الفراء : وهما لغتان واشتقاقهما من الارتفاق ، وكان الكسائي لا يذكر في مرفق الإنسان الذي في اليد إلا كسر الميم وفتح الفاء ، والفراء يجيزه في الأمر وفي اليد. وقيل : هما لغتان إلا أنّ الفتح أقيس والكسر أكثر.

٣٩٤

والخطاب في قوله تعالى : (وَتَرَى الشَّمْسَ) للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لكل أحد وليس المراد أنّ من خوطب بهذا يرى هذا المعنى ولكن العادة في المخاطبة تكون على هذا النحو ومعناه : أنك لو رأيته على هذه الصورة (إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ ،) أي : تميل (عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ ،) أي : ناحيته (وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ،) أي : تعدل في سيرها عنهم (ذاتَ الشِّمالِ ،) أي : فلا يقع شعاعها عليهم فيؤذيهم لأنّ الله تعالى زواها عنهم. وقيل : إنّ باب ذلك الكهف كان مفتوحا إلى جانب الشمال فإذا طلعت الشمس كانت على يمين الكهف وإذا غربت كانت على شماله. وقرأ السوسي بإمالة ألف ترى المنقلبة بعد الراء في الأصل بخلاف عنه ، والباقون بالفتح في الوصل وهم على أصولهم في الوقف وأبو عمرو وحمزة والكسائي بالإمالة محضة ، وورش بين اللفظين ، والباقون بالفتح ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وتتزاور بتشديد الزاي وتخفيف الراء مضمومة ، وابن عامر بسكون الزاي ولا ألف بعدها وتشديد الواو على وزن تحمرّ ، والباقون وهم عاصم وحمزة والكسائي بتخفيف الزاي والواو ولا خلاف في ضم الراء.

ولما بين أنه تعالى حفظهم من حرّ الشمس بيّن أنه أنعشهم بروح الهواء وألطفهم بسعة الموضع في فضاء الغار فقال تعالى : (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ،) أي : في وسط الكهف ومتسعه ينالهم برد الريح ونسيمها ، ثم بيّن تعالى نتيجة هذا الأمر الغريب في النبأ العجيب بقوله تعالى : (ذلِكَ ،) أي : المذكور العظيم (مِنْ آياتِ اللهِ ،) أي : دلائل قدرته (مَنْ يَهْدِ اللهُ ،) أي : الذي له الملك كله يخلق هذه الهداية في قلبه كأصحاب الكهف (فَهُوَ الْمُهْتَدِ) في أيّ زمان كان فلن تجد له مضلا مغويا ففي ذلك إشارة إلى أنّ أهل الكهف جاهدوا في الله وأسلموا له وجوههم فلطف بهم وأعانهم وأرشدهم إلى نيل تلك الكرامة السنية والاختصاص بالآية العظيمة ، وأنّ كل من سلك طريق المهتدين الراشدين فهو الذي أصاب الفلاح واهتدى إلى السعادة ، وقرأ نافع وأبو عمرو بزيادة ياء بعد الدال في الوصل دون الوقف والباقون بحذفها وقفا ووصلا. (وَمَنْ يُضْلِلْ ،) أي : يضله الله تعالى ولم يرشده كدقيانوس وأصحابه (فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا ،) أي : معينا (مُرْشِداً ،) أي : يرشده للحق.

ثم إنه تعالى عطف على ما مضى بقية أمرهم بقوله تعالى : (وَتَحْسَبُهُمْ ،) أي : لو رأيتهم أيها المخاطب (أَيْقاظاً) أي : منتبهين لأنّ أعينهم مفتحة للهواء لأنه يكون أبقى لها ، جمع يقظ بكسر القاف (وَهُمْ رُقُودٌ) أي : نيام جمع راقد قال الزجاج : لكثرة تقلبهم يظنّ أنهم أيقاظ والدليل عليه قوله تعالى : (وَنُقَلِّبُهُمْ) أي : في ذلك حال نومهم تقلبا كثيرا بحسب ما ينفعهم كما يكون النائم (ذاتَ) أي : في الجهة التي هي صاحبة (الْيَمِينِ) منهم (وَذاتَ الشِّمالِ) لينال روح النسيم جميع أبدانهم ولا يتأثر ما يلي الأرض منها بطول المكث.

تنبيه : اختلف في مقدار مدّة التقليب ، فعن أبي هريرة أنّ لهم في كل عام تقليبتين. وعن مجاهد يمكثون رقودا على أيمانهم تسع سنين ثم ينقلبون على شمائلهم فيمكثون رقودا تسع سنين ، وقيل : لهم تقليبة واحدة يوم عاشوراء. قال الرازي : وهذه التقديرات لا سبيل للعقل إليها ولفظ القرآن لا يدل عليها وما جاء فيه خبر صحيح فكيف يعرف انتهى. ولهذا قلت بحسب ما ينفعهم. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : فائدة تقلبهم لئلا تأكل الأرض لحومهم ولا ثيابهم اه. قال الرازي : وهذا أعجب من ذلك لأنه تعالى لما قدر على أن يمسك حياتهم ثلاثمائة سنة وأكثر

٣٩٥

أفلا يقدر على حفظ أجسادهم من غير تقليب اه. وهذا ليس بعجيب لأنّ القدرة صالحة لذلك وأكثر بحسب العادة ، وأمّا إمساك أرواحهم فهو خرق للعادة فلا يقاس عليه. (وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ) أي : يديه ، أي : ملقيهما على الأرض مبسوطتين غير مقبوضتين ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اعتدلوا في السجود ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب» (١).

وقال المفسرون : كان الكلب قد بسط ذراعيه وجعل وجهه عليهما.

تنبيه : باسط اسم فاعل ماض وإنما عمل على حكاية الحال والكسائيّ يعمله ويستشهد بالآية الكريمة وأكثر المفسرين على أنّ الكلب من جنس الكلاب. وروي عن ابن جريج أنه كان أسدا ويسمى الأسد كلبا فإنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا على عتبة بن أبي لهب فقال : «اللهم سلط عليه كلبا من كلابك فافترسه الأسد» (٢). وقال ابن عباس : كان كلبا أغرّ واسمه قطمير ، وعن عليّ اسمه ريان واختلف في قوله تعالى : (بِالْوَصِيدِ) فقال ابن عباس : هو باب الكهف ، وقيل : العتبة. قال السدي : والكهف لا يكون له باب ولا عتبة ، وإنما أراد موضع الباب والعتبة. وقال الزجاج : الوصيد فناء البيت وفناء الدار ، قال الشاعر (٣) :

بأرض فضاء لا يسدّ وصيدها

عليّ ومعروفي بها غير منكر

وقال مجاهد والضحاك : الوصيد الكهف. (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ) بكسر الواو على أصل التقاء الساكنين ، أي : وهم على تلك الحالة (لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ) حال وقوع بصرك عليهم (فِراراً) لما ألبسهم الله تعالى من الهيبة وجعل لهم من الجلالة تدبيرا منه لما أراد منهم حتى لا يصل إليهم أحد حتى يبلغ الكتاب أجله. (وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً) أي : فزعا ، واختلف في ذلك الرعب كان لماذا؟ فقال الكلبيّ : لأنّ أعينهم مفتتحة كالمستيقظ الذي يريد أن يتكلم وهم نيام ، وقيل من وحشة الكلام ، وقيل : لكثرة شعورهم وطول أظفارهم وتقلبهم من غير حس كالمستيقظ ، وقيل : إنّ الله تعالى منعهم بالرعب حتى لا يراهم أحد.

وروي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : غزونا مع معاوية نحو الروم فمررنا بالكهف الذي فيه أصحاب الكهف فقال معاوية : لو كشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم فقال ابن عباس : قد منع ذلك من هو خير منك (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً ،) فبعث معاوية ناسا فقال : اذهبوا فانظروا فلما دخلوا الكهف بعث الله عليهم ريحا فأخرجتهم. وقرأ نافع وابن كثير بتشديد اللام بعد الميم ، والباقون بتخفيفها والسوسي بإبدال الهمزة ياء على أصله وقفا ووصلا وحمزة في الوقف فقط. وقرأ ابن عامر والكسائي رعبا بضم العين والباقون بسكونها.

(وَكَذلِكَ ،) أي : كما فعلنا بهم ما ذكرنا آية (بَعَثْناهُمْ ،) أي : أيقظناهم آية (لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ ،) أي : ليسأل بعضهم بعضا عن أحوالهم في نومهم ويقظتهم فيتعرّفوا حالهم وما صنع الله

__________________

(١) أخرجه البخاري في الأذان حديث ٨٢٢ ، ومسلم في الصلاة حديث ٤٩٣ ، والنسائي في التطبيق حديث ١١١٠.

(٢) أخرجه القاضي عياض في الشفاء ١ / ٦٣٢ ، وابن حجر في فتح الباري ٤ / ٣٩ ، والقرطبي في تفسيره ١٧ / ٨٢ ، والبيهقي في السنن الكبرى ٥ / ٢١١.

(٣) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة في تاج العروس (فضل).

٣٩٦

تعالى بهم فيزدادوا يقينا على كمال قدرة الله تعالى وليستبصروا به أمر البعث ويشكروا ما أنعم الله به عليهم. (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ) مستفهما من إخوانه (كَمْ لَبِثْتُمْ) نائمين في ذا الكهف من ليلة أو يوم؟ وهذا يدل على أنّ هذا القائل استشعر طول لبثهم مما رأى من هيئتهم أو بغير ذلك من الأمارات (قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) لأنهم دخلوا الكهف طلوع الشمس وبعثوا آخر النهار فلما رأوا الشمس باقية قالوا : (أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) فلما نظروا إلى طول أظفارهم وشعورهم (قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ) فأحالوا العلم على الله تعالى قال ابن عباس : القائل ذلك هو رئيسهم تمليخا رد علم ذلك إلى الله تعالى ، وعلم أن مثل هذا التغيير لا يحصل إلا في الأيام الطويلة ، وقرأ نافع وابن كثير وعاصم بإظهار الثاء المثلثة عند المثناة والباقون بالإدغام ، ثم لما علموا أنّ الأمر ملتبس عليهم لا طريق لهم إلى علمه أخذوا فيما يهمهم وقالوا : (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ) أي : بفضتكم ، وقرأ أبو عمرو وشعبة وحمزة بسكون الراء والباقون بكسرها والورق اسم للفضة سواء كانت مضروبة أم لا ويدل عليه ما روي أن عرفجة اتخذ أنفا من ورق ويقال لها : الرقة وفي الحديث «في الرقة ربع العشر» (١). (إِلَى الْمَدِينَةِ) أي : التي خرجتم منها وهي مدينة طرسوس وهذه الآية تدل على أنّ السعي في إمساك الزاد أمر مهمّ مشروع وأنه لا يبطل التوكل على الله تعالى إذ حقيقة التوكل على الله تعالى تهيئة الأسباب واعتقاد أن لا مسبب للأسباب إلا الله تعالى ، فحمل النفقة وما يصلح المسافر هو رأي المتوكلين على الله دون المتوكلين على الإنفاقات على ما في أوعية القوم من النفقات. ومنه قول عائشة رضي الله تعالى عنها لمن سألها عن محرم يشدّ عليه هميانه أوثق عليك نفقتك. وما حكي عن بعض صعاليك العلماء أنه كان شديد الحب إلى أن يرزق حج بيت الله الحرام وعلم منه ذلك فكانت مياسير أهل بلده كلما عزم قوم على حج أتوه أن يحجوا به وألحوا عليه فيعتذر إليهم ويحمد إليهم بذلهم فإذا انفضوا عنه قال لمن عنده : ما لهذا السفر إلا شيئان شدّ الهميان والتوكل على الرحمن (فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً) قال ابن عباس : يريد ما حل من الذبائح لأن عامة أهل بلدهم كانوا مجوسا وفيهم قوم يخفون إيمانهم وقال مجاهد : كان ملكهم ظالما فقولهم : (أَيُّها أَزْكى طَعاماً) أي : أيها أبعد عن الغصب وكل سبب حرام ، وقيل : أيها أطيب وألذ وقيل : أيها أرخص. قال الزجاج : قولهم : (أَيُّها) رفع بالابتداء و (أَزْكى) خبره وطعاما تمييز ولا بدّ هنا من حذف ، أي : أيّ أهلها أزكى ، أي : أحل ، وقيل : لا حذف والضمير عائد على الأطعمة المدلول عليها من السياق. (فَلْيَأْتِكُمْ) ذلك الأحد (بِرِزْقٍ مِنْهُ) لنأكل (وَلْيَتَلَطَّفْ) أي : وليكن في ستر وكتمان في دخول المدينة وشراء الأطعمة حتى لا يعرف (وَلا يُشْعِرَنَ) أي : ولا يخبرنّ (بِكُمْ أَحَداً) من أهل المدينة.

(إِنَّهُمْ) أي : أهل المدينة (إِنْ يَظْهَرُوا) أي : يطلعوا عالين (عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ) أي : يقتلوكم والرجم بمعنى القتل كثير في القرآن كقوله تعالى : (وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ) [هود ، ٩١] وقوله : (لَأَرْجُمَنَّكَ) [مريم ، ٤٦] وقوله : (أَنْ تَرْجُمُونِ) [الدخان ، ٢٠]. وقال الزجاج : أي : يقتلوكم بالرجم والرجم أخبث أنواع القتل. (أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ) إن لنتم لهم (وَلَنْ تُفْلِحُوا

__________________

(١) أخرجه البخاري في الزكاة باب ٣٨ ، وأبو داود في الزكاة باب ٥ ، والنسائي في الزكاة باب ٥ ، ١٠ ، ومالك في الزكاة حديث ٢٣ ، وأحمد في المسند ١ / ١٢ ، ١٢١ ، والبيهقي في السنن الكبرى ٤ / ١٣٤.

٣٩٧

إِذاً) أي : إن رجعتم إلى ملتهم (أَبَداً) بل تكونوا خاسرين. قال بعض العلماء : ولا خوف على المؤمن الفارّ بدينه أعظم من هذين الأمرين أحدهما ما فيه هلاك النفس وهو الرجم الذي هو أخبث أنواع القتل والآخر هلاك الدين. فإن قيل : أليس أنهم لو أكرهوا على الكفر حتى أظهروا الكفر لم يكن عليهم مضرة فكيف قالوا (وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً) أجيب : بأنهم خافوا أنهم لو بقوا على الكفر مظهرين له فقد يميل بهم ذلك إلى الكفر الحقيقي فكان خوفهم بسبب هذا الاحتمال. فإن قيل : ما النكتة في العدول عن واحدكم إلى أحدكم وكل ذلك دال على الوحدة؟ أجيب : بأنّ النكتة فيه أنّ العرب إذا قالوا : أحد القوم أرادوا به فردا منهم وإذا قالوا : واحد القوم أرادوا رئيسهم والمراد في القصة أي واحد كان والقرآن الكريم أنزل بلغتهم فراعى ما راعوا.

(وَكَذلِكَ ،) أي : ومثل ما فعلنا بهم ذلك الأمر العظيم من الربط على قلوبهم والستر والحماية من الطالبين لهم والحفظ لأجسادهم على ممرّ الزمان وتعاقب الحدثان وغير ذلك (أَعْثَرْنا ،) أي : أطلعنا غيرهم (عَلَيْهِمْ) يقال : عثرت على كذا علمته وأصله أنّ من كان غافلا عن شيء فعثر به نظر إليه فعرفه فكان العثر سببا لحصول العلم فأطلق السبب على السبب بقوله تعالى : (لِيَعْلَمُوا) متعلق بأعثرنا والضمير قيل : يعود على مفعول أعثرنا المحذوف تقديره : أعثرنا الناس ، وقيل : يعود إلى أهل الكهف وهذا هو الظاهر (أَنَّ وَعْدَ اللهِ) الذي له صفات الكمال بالبعث للروح والجثة معا (حَقٌ) لأنّ قيامهم بعد نومهم يتقلبون نيفا وثلاثمائة سنة مثل من مات ثم بعث.

قال بعض العارفين : علامة اليقظة بعد النوم علامة البعث بعد الموت. ولما كان من الحق ما قد يداخله شك قال تعالى : (وَأَنَ) أي : وليعلموا أنّ (السَّاعَةَ) أي : آتية (لا رَيْبَ) أي : لا شك (فِيها.)

تنبيه : اختلف في السبب الذي عرف الناس واقعة أصحاب الكهف ، فقال محمد بن إسحاق : إنّ ملك تلك البلاد رجل صالح يقال له : تندوسيس ، فلما ملك بقي في ملكه ثمانية وستين سنة فتحزب الناس في مملكته فكانوا أحزابا ؛ منهم من يؤمن بالله ويعلم أنّ الساعة حق ، ومنهم من يكذب بها فكبر ذلك على الملك الصالح فبكى وتضرّع إلى الله تعالى وحزن حزنا شديدا لما رأى أهل الباطل يزيدون ويظهرون على أهل الحق ويقولون : لا حياة إلا الدنيا وإنما تبعث الأرواح ولا تبعث الأجساد ، وجعل الملك يرسل إلى من يظن فيهم خيرا وأنهم أئمة في الخلق فلم يقبلوا منه ، وجعلوا يكذبون بالساعة حتى كادوا يخرجون الناس عن الحق وملة الحواريين ، فلما رأى ذلك الملك دخل بيته وأغلق بابه عليه ولبس مسحا وجعل تحته رمادا ، فجلس عليه ودأب ليله ونهاره زمانا يتضرّع إلى الله تعالى ويبكي : أي رب قد ترى اختلاف هؤلاء فابعث لهم آية تبين لهم.

ثم إنّ الله تعالى الذي يكره هلكة عباده أراد أن يظهر على الفتية أصحاب الكهف ويبين للناس شأنهم ويجعلهم آية وحجة عليهم ليعلموا أنّ الساعة آتية لا ريب فيها ، ويستجيب لعبده تندوسيس ويتم نعمته عليه ، وأن يجمع من كان تبدّد من المؤمنين وألقى الله في نفس رجل من تلك البلد الذي فيه الكهف أن يهدم ذلك البنيان الذي على فم الكهف ، فيبني به حظيرة لغنمه فاستأجر غلامين فجعلا ينزعان تلك الحجارة ويبنيان تلك الحظيرة حتى إذا نزعا ما على فم الكهف وفتحا باب الكهف أذن الله تعالى ذو القدرة والسلطان محيي الموتى للفتية أن يجلسوا بين ظهري الكهف فجلسوا فرحين مسفرة وجوههم طيبة أنفسهم فسلم بعضهم على بعض كأنما استيقظوا من ساعتهم

٣٩٨

التي كانوا يستيقظون لها إذا أصبحوا من ليلتهم ثم قاموا إلى الصلاة فصلوا كالذي كانوا يفعلون لا يرى في وجوههم ولا في ألوانهم شيء يكرهونه كهيئتم حين رقدوا وهم يرون أنّ ملكهم دقيانوس في طلبهم فلما قضوا صلاتهم قالوا لتمليخا صاحب نفقتهم ائتنا بما قال الناس في شأننا عشية أمس عند الجبار وهم يظنون أنهم رقدوا كبعض ما كانوا يرقدون وقد تخيل لهم أنهم قد ناموا أطول ما كانوا ينامون حتى تساءلوا بينهم فقال بعضهم لبعض : كم لبثتم نياما؟ قالوا : لبثنا يوما أو بعض يوم. قالوا : ربكم أعلم بما لبثتم ، وكل ذلك في أنفسهم يسير فقال لهم تمليخا : ألتمستم بالمدينة وهو يريد أن يؤتى بكم اليوم فتذبحون للطواغيت أو يقتلكم فما شاء الله بعد ذلك فعل فقال لهم مكلمينا : يا إخواتاه اعلموا أنكم ملاقو الله فلا تكفروا بعد إيمانكم إذا دعاكم عدوّ الله ثم قالوا لتمليخا : انطلق إلى المدينة فتسمع ما يقال لنا بها وما الذي يذكر عند دقيانوس وتلطف ولا تشعرنّ بك أحدا وابتع لنا طعاما وائتنا به وزدنا على الطعام الذي جئتنا به فقد أصبحنا جياعا ففعل تمليخا كما كان يفعل ووضع ثيابه وأخذ الثياب التي كان يتنكر فيها وأخذ ورقا من نفقتهم التي كانت معهم التي ضربت بطابع دقيانوس وكانت كخفاف الربع فانطلق تمليخا خارجا فلما مر بباب الكهف رأى الحجارة منزوعة عن باب الكهف فعجب منها ثم مرّ ولم يبال بها حتى أتى باب المدينة مستخفيا يصدّ عن الطريق متخوّفا أن يراه أحد من أهلها فيعرفه ولا يشعر أن دقيانوس وأهله قد هلكوا قبل ذلك بثلاثمئة سنة فلما أتى تمليخا باب المدينة رفع بصره فرأى فوق ظهر الباب علامة تكون لأهل الإيمان إذا كان أمر الإيمان ظاهرا فلما رأى عجب وجعل ينظر إليها مستخفيا وينظر يمينا وشمالا ثم ترك الباب وتحوّل لباب آخر من أبوابها فرأى مثل ذلك ، فجعل يخيل إليه أن المدينة ليست بالتي كان يعرفها ورأى ناسا كثيرا محدثين لم يكن رآهم قبل ذلك فجعل يمشي ويتعجب ويخيل إليه أنه حيران ثم رجع إلى الباب الذي أتى منه فجعل يتعجب بينه وبين نفسه ، ويقول : يا ليت شعري ما هذا أمّا عشية أمس فكان المسلمون يخبؤون هذه العلامة ويستخفون بها ، وأما اليوم فإنها ظاهرة لعلي حالم ثم يرى أنه ليس بنائم فأخذ بكسائه فجعله على رأسه ثم دخل المدينة ، فجعل يمشي بين ظهري سوقها فيسمع ناسا يحلفون باسم عيسى ابن مريم فزاده فرقا ورأى أنه حيران فقام مسندا ظهره إلى جدار من جدران المدينة ويقول في نفسه : والله ما أدري ما هذا أما عشية أمس فليس على وجه الأرض إنسان يذكر عيسى ابن مريم إلا قتل ، وأمّا اليوم فأسمع كل إنسان يذكر عيسى ولا يخاف ثم قال في نفسه : لعل هذه ليست المدينة التي أعرف ، وو الله ما أعلم مدينة بقرب مدينتنا فقام كالحيران ثم لقي فتى فقال له : ما اسم هذه المدينة يا فتى؟ فقال : اسمها أفسوس. فقال في نفسه : لعل بي مسا أو أمرا أذهب عقلي والله يحق لي أن أسرع الخروج منها قبل أن أخزى فيها أو يصيبني شرّ فأهلك ثم إنه أفاق فقال : والله لو عجلت الخروج من هذه المدينة قبل أن يفطن بي لكان أكيس فدنا من الذين يبيعون الطعام فأخرج الورق التي كانت معه فأعطاها رجلا منهم فقال : بعني بهذا الورق طعاما فأخذها الرجل فنظر إلى ضرب الورق ونقشها فعجب منها ثم طرحها إلى رجل من أصحابه فنظر إليها ثم إلى آخر ، ثم جعلوا يتطارحونها بينهم من رجل إلى رجل ويتعجبون منها ، ثم جعلوا يتشاورون بينهم ويقول بعضهم لبعض : إنّ هذا أصاب كنزا مخبأ في الأرض منذ زمان ودهر طويل فلما رآهم تمليخا يتشاورون من أجله فرق فرقا شديدا ، وجعل يرتعد ويظنّ أنهم فطنوا به وعرفوه وأنهم إنما يريدون أن يذهبوا به إلى ملكهم دقيانوس ، وجعل أناس آخرون يأتونه

٣٩٩

فيتعرّفونه فقال لهم : وهو شديد الفرق أفضلوا عليّ قد أخذتم ورقي فأمسكوها ، وأمّا طعامكم فليس لي حاجة به.

فقالوا : من أنت يا فتى؟ وما شأنك؟ والله لقد وجدت كنزا من كنوز الأوّلين وأنت تريد أن تخفيه انطلق معنا وأرنا وشاركنا فيه نخف عليك ما وجدت وإنك إن لم تفعل نأت بك السلطان فنسلمك إليه فيقتلك ، فلما سمع قولهم قال : ما وجدت شيئا وقال : قد وقعت في كل شيء أحذر منه قالوا : يا فتى إنك والله لا تستطيع أن تكتم ما وجدت فجعل تمليخا لا يدري ما يقول لهم وخاف حتى أنه لم يردّ إليهم جوابا ، فلما رأوه لا يتكلم أخذوا كساءه وطرحوه في عنقه وجعلوا يقودونه في سكك المدينة حتى سمع من فيها فقيل : أخذ رجل عنده كنز واجتمع عليه أهل المدينة صغيرهم وكبيرهم فجعلوا ينظرون إليه ويقولون : والله ما هذا الفتى من أهل هذه المدينة وما رأيناه قط ، وما نعرفه فجعل تمليخا ما يدري ما يقول لهم ، فلما اجتمع عليه أهل المدينة وكان متيقنا أنّ أباه وإخوته في المدينة وأنه من عظماء أهلها وأنهم سيأتونه إذا سمعوا به ، فبينما هو قائم كالحيران ينظر متى يأتيه بعض أهله فيخلصه من بين أيديهم إذ اختطفوه وانطلقوا به إلى رئيسي المدينة ومدبريها اللذين يدبران أمرها وهما رجلان صالحان اسم أحدهما أريوس واسم الآخر أسطيوس ، فلما انطلقوا به إليهما ظنّ تمليخا أنه ينطلق به إلى دقيانوس الجبار فجعل يلتفت يمينا وشمالا وجعل الناس يسخرون منه كما يسخرون من المجنون وجعل تمليخا يبكي ويرفع رأسه إلى السماء.

وقال : اللهمّ إله السماء وإله الأرض أفرغ اليوم عليّ صبرا وأولج معي روحا منك تؤيدني بها عند هذا الجبار وجعل يقول في نفسه : فرّق ما بيني وبين إخوتي يا ليتهم يعلمون ما لقيت ويا ليتهم يأتوني فنقوم جميعا بين يدي هذا الجبار فإنا كنا توافقنا على الإيمان بالله سبحانه وتعالى وأنّ لا نشرك به شيئا ولا نفترق في حياة ولا موت ، فلما انتهى به إلى الرجلين الصالحين ورأى أنه لم يذهب به إلى دقيانوس أفاق وسكن عنه البكاء فأخذ أريوس وأسطيوس الورق فنظرا إليها وعجبا منها ثم قال أحدهما : أين الكنز الذي وجدت يا فتى؟ فقال تمليخا : ما وجدت كنزا ولكن هذا ورق آبائي ونقش المدينة وضربها ولكن والله ما أدري ما شأني وما أقول لكم فقال أحدهما : ممن أنت؟ فقال تمليخا : أمّا أنا فكنت أرى أني من أهل هذه المدينة قالوا : فمن أبوك؟ ومن يعرفك بها؟ فأنبأهم باسم أبيه فلم يجدوا أحدا يعرفه ولا أباه فقال له أحدهما : أنت رجل كذاب لا تأتينا بالحق فلم يدر تمليخا ما يقول لهم غير أنه نكس بصره إلى الأرض ، فقال بعض من حوله : هذا رجل مجنون. وقال بعضهم : ليس بمجنون ولكنه يحمق نفسه عمدا حتى ينفلت منكم.

فقال له أحدهما ونظر إليه نظرا شديدا : أتظنّ أنا نرسلك ونصدّقك بأن هذا مال أبيك ونقش هذه الورق وضربها أكثر من ثلاثمئة سنة ، وأنت غلام شاب وتظنّ أنك تأفكنا وتسخر بنا ونحن شيوخ وشمط كما ترى وحولك سراة هذه المدنية وولاة أمرها وخزائن هذه البلدة بأيدينا وليس عندنا من هذا الضرب درهم ولا دينار وإني لأظنني سآمر بك فتعذب عذابا شديدا ثم أوثقك حتى تعترف بهذا الكنز الذي وجدته ، فلما قال ذلك قال لهم تمليخا : أنبئوني عن شيء أسألكم عنه فإن فعلتم صدّقتكم عما عندي فقالوا : سل لا نكتمك شيئا.

قال : ما فعل الملك دقيانوس؟ قالوا : ليس نعرف اليوم على وجه الأرض ملكا يسمى دقيانوس ولم يكن إلا ملكا هلك منذ زمان ودهر طويل ، وهلكت بعده قرون كثيرة. فقال تمليخا :

٤٠٠