مصباح الفقيه - ج ٢

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٢

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسّسة مهدي موعود « عج »
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٤

الأثرين ، فلم يدلّ عليه دليل ، ومقتضى الأصل : عدم اعتباره وبراءة الذمّة عنه.

فالأولى الاستدلال للمدّعي من أوّل الأمر : بالأصل بعد وضوح خروج قصد الأثرين من ماهيّة المأمور به بعنوانه الواقع في حيّز الطلب ، وعدم توقّف قصد القربة والإطاعة المعتبر في صحّتها على قصد الأثرين ، بل ولا على العلم بترتّبهما على الوضوء ، فلو توضّأ لقراءة القرآن ونحوها امتثالا لأمره ، فقد نوى التقرّب وإن لم يعلم بأن هذا الوضوء مبيح للصلاة ، كما هو واضح.

ولعلّ عدول شيخنا المرتضى رحمه‌الله عن ذلك نشأ من استشكاله في التمسّك بأصل البراءة عند الشكّ في شرائط الوضوء ، كما ستعرف وجهه في بعض مجاريه ، والله العالم.

وعن المعتبر والمنتهى الاستدلال لاعتبار قصد الاستباحة التي تتحقّق تارة برفع المانع وهو الحدث ، واخرى برفع منعه ، كما في المستحاضة والمسلوس ونحوهما : بقوله تعالى (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) (١) (٢) إلى آخره.

تقريب الاستدلال : أنّ الظاهر منه كون ذلك لأجل الصلاة ، كما يقال : إذا لقيت الأسد فخذ سلاحك ، وإذا لقيت الأمير فخذ أهبتك ، فلا بدّ

__________________

(١) سورة المائدة ٥ : ٦.

(٢) حكاه عنهما الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٨٧ ، وانظر : المعتبر ١ : ١٣٩ ، ومنتهى المطلب ١ : ٥٥.

١٨١

من إيجاد هذه الأفعال لأجل الصلاة ، أي إباحتها.

وفيه : أنّ ظهور الآية الشريفة في توقّف الصلاة على هذه الأفعال ووجوبها لأجل الصلاة مسلّم ، وأمّا دلالتها على توقّف مقدّميتها على قصد التوصّل بفعلها إلى الصلاة حتى يكون هذا القصد من قيود ماهيّة الواجب ومقوّماته ممنوعة ، بل متعذّرة ، كما عرفت ذلك في نظير المقام في صدر المبحث عند تأسيس الأصل ، فراجع.

هذا ، مع أنّ الأمر بالوضوء عند إرادة الصلاة ـ بل كلّ أمر مقدّمي متعلّق به منبعث من مطلوبية شي‌ء من غاياته المشروطة بالطهور ـ ليس إلّا توصّليّا ، فإنّه لم يقصد بذلك إلّا تحصيل الطهارة التي هي شرط لذي المقدّمة ، فمتى حصل الشرط ، سقط التكليف به وإن لم يقصد بفعله امتثال هذا الأمر ، لكن الشرط بنفسه من العبادات التي تتوقّف صحّتها على قصد التقرّب ، فالذي يعرضه الوجوب المقدّمي هو الوضوء الصحيح المأتيّ به بقصد التقرّب المؤثّر في رفع الحدث واستباحة الصلاة ، لا ذات الأفعال العارية عن القصد ، التي لا أثر لها في الاستباحة ، فقصد القربة مأخوذ في موضوع المقدّمة لا في حكمها.

إن قلت : فعلى هذا يجب أن يكون الوضوء في حدّ ذاته ـ مع قطع النظر عن الأمر المقدّمي المتعلّق به المنبعث من الأمر بغاياته ـ مأمورا به بأمر نفسي ، لأنّ الشي‌ء لا يكون عبادة إلّا على تقدير كونه مأمورا به ، فلو انحصر أمره في الأمر المقدّمي ـ المفروض أنّه لا يتعلّق إلّا بما هو عبادة ـ يلزم الدور.

١٨٢

قلت : هو كذلك ، أي مستحب في حدّ ذاته ، فإنّه طهور وهو نور ، وقد ورد الحثّ عليه في جملة من الأخبار التي نشير إلى بعضها في آخر المبحث.

إن قلت : فعلى هذا يشكل الأمر في التيمّم بناء على المشهور من أنّه مبيح للغايات ، وليس بطهور ، فلا يكون مستحبّا نفسيّا ، بل وكذا في الوضوء أيضا ، بناء على أنّ الكون على الطهارة ـ الذي التزمنا باستحباب الوضوء بلحاظه ـ فعل توليدي للمكلّف يحصل بالوضوء ، فهو على هذا التقدير إحدى الغايات المستحبّة التي أمر بالوضوء مقدّمة لها ، لا أنّه أثر متفرّع على الوضوء المستحبّ ، فيتوجّه حينئذ إشكال الدور ، لأنّ الأمر المقدّمي لا يتعلّق إلّا بالمقدّمة ، والوضوء على الفرض كالتيمّم لا يكون مقدّمة لشي‌ء من الغايات إلّا إذا كان عبادة ، وكونه كذلك موقوف على الأمر ، والمفروض انحصار أمره في الأمر المقدّمي ، فيدور.

قلت : أوّلا : مرادنا بأنّ الأمر المقدّمي المتعلّق بالوضوء لا يكون إلّا توصّليّا : أنّ معروض الوجوب المقدّمي من حيث هو ليس إلّا الشي‌ء الذي يتوقّف عليه فعل الغير ، فلا يعقل أن يكون هذا الوجوب الغيري المتعلّق بذلك الشي‌ء تعبّديّا ، لكن من الجائز أن يأمر الشارع بإيجاد فعل كالوضوء ونحوه مقدّمة للصلاة مثلا ، ثم ينصب قرينة على أنّ ما يتوقّف عليه فعل الغير إطاعة هذا الأمر لا نفس المأمور به ، فينحلّ الأمر التعبّدي المتعلّق به إلى أمرين : أحدهما : أوجد هذا الفعل مقدّمة للصلاة ، والآخر :أطع هذا الأمر مقدّمة للصلاة ، فالأمر الأوّل تعبّدي ولكن سيق توطئة للأمر

١٨٣

الثاني الذي هو في الحقيقة أمر بمقدّمة الصلاة ، وهو توصّلي محض ، فليتأمّل.

وثانيا : نلتزم بالرجحان الذاتي للتيمّم أيضا ، كالوضوء والغسل ، فإنّه وضوء المضطرّ وغسله ، كما ستعرفه في محلّه ، كما أنّا نلتزم بأنّ الطهارة الثلاث ، لا أنّها فعل اختياري تعلّق به التكاليف من حيث هو ، فهو أثر الطهارات الثلاث ، لا فعل متولّد منها.

وثالثا : أنّه كما يعقل أن يكون لبعض الأفعال مقدّمات خارجيّة لا يتوقف حصولها على قصد شي‌ء من عناوينها ، كنصب السلّم بالنسبة إلى الصعود على السطح ، كذلك يعقل أن تكون له مقدّمات يتوقّف حصولها على قصد عنوان من عناوينها ، بمعنى أن الفعل بذاته ليس ممّا يتوقّف عليه فعل الغير ، بل الذي يتوقّف عليه الغير هو هذا الفعل ببعض عناوينه ، فيجب أن يقع الفعل الذي هو مقدّمة للآخر بذلك العنوان الذي يتوقّف عليه الغير ، بأن يكون وقوعه بهذا العنوان اختياريّا للمكلّف.

وحينئذ فإن علم المكلّف بالوجه الذي يتوقّف عليه الغير مفصّلا ، فأوجده بذلك الوجه ، سقط عنه وجوبه المقدّمي ، وإن لم يعلم به تفصيلا ، يجب عليه أن يجعل وجوبه المقدّمي مرآة لذلك الوجه حتى يقع الفعل على وجهه الواقعي الذي يتوقّف عليه فعل الغير ، فيكون وقوعه على وجهه اختياريّا له بعنوانه الإجمالي.

توضيح المقام : أنّا نفرض أنّ إكرام «زيد» في حدّ ذاته عار عن

١٨٤

جميع المصالح والمفاسد الملزمة ، وهو بعنوان كونه عالما ذو مصلحة ملزمة ، وبعنوان كونه فاسقا ذو مفسدة ، فيكون ذات الإكرام بعنوان كونه إكرام زيد في الفرض مباحا عقليّا ، وبعنوان كونه إكرام عالم واجبان عقليّا وبعنوان كونه إكرام فاسق حراما عقليّا ، لا يتفاوت الحال فيما ذكرناه بين أن تكون المصلحة والمفسدة الملزمتان بلحاظ نفس الفعل من حيث هو ، أو لكونه مؤثّرا في واجب عقلي آخر ، كما هو واضح.

وحينئذ إذا تعلّق وجوب شرعي بالعنوان الذي فيه المصلحة لا يكون هذا الأمر الوجوبي إلّا توصّليّا ، إذ لم يتعلّق الغرض في أوامر الشارع إلّا بحصول امتثال الواجبات العقليّة ، وهو حاصل في الفرض إذا صدر منه أكرم العالم بعنوان كونه عالما عن اختيار وشعور.

هذا إذا تعلّق الأمر بنفس العنوان الراجح ، وأمّا إذا تعلّق بإكرام زيد ، وعلم من الخارج أنّه ليس لهذا العنوان بذاته رجحان ، بل المصلحة الكامنة فيه لا تكون له إلّا ببعض عناوينه بحيث لو كان تحقّقه بداعي ذلك العنوان ، تترتّب عليه تلك المصلحة ، فإذا لم يعلم المكلّف بذلك العنوان بالخصوص ، وجب عليه أن يأتي بالفعل بداعي القربة وامتثال الأمر حتى يصدر الفعل منه بعنوانه الراجح عن اختيار وعزم ، لأنّ قصد إيجاد الفعل بداعي القربة وامتثال الأمر ملزوم لقصد إيجاد الفعل بعنوانه الراجح ، لأنّ وصف كون الفعل مقرّبا ومأمورا به ومرادا للشارع من العناوين الطارئة على الفعل بلحاظ جهته الراجحة.

إذا عرفت ذلك ، ظهر لك أنّ لنا أن نقول : إنّه قد ثبت بالإجماع أنّ

١٨٥

أفعال الوضوء وكذا الغسل والتيمّم ليست بذواتها مؤثّرة في جواز الوقوف بين يدي الله سبحانه وتعالى في الصلاة ، بل لها هذا الأثر إذا وقعت ببعض وجوهها ، كأن كان المتيمّم ـ مثلا ـ متذلّلا بفعله ، خاشعا لله تعالى ، متواضعا لديه ، إلى غيرها من الاعتبارات المحتمل مدخليتها في مصلحة الفعل ، المقتضية للأمر ، فلمّا لم تكن تلك الجهات مكشوفة لدينا ، وجب التوصّل إلى إحرازها بقصد امتثال أمر المتعلّق بها ، ولا يتفاوت الحال في ذلك بين أن يكون الأمر الذي يجعل مرآة لتعيين المأمور به نفسيّا أو غيريّا ، لأنّ الأمر تابع للمصلحة الكامنة في الفعل ، فإن كانت لذاته ، فوجوبه نفسي ، وإلّا فغيري ، فعلى هذا لا يكون قصد امتثال الأمر إلّا معرّفا ، لا أنّ المقدّميّة تتوقّف عليه ، فلا دور.

وحيث إنّك عرفت أنّ إيجاد الفعل بعنوان امتثال الأمر المقدّمي ينحلّ إلى قصد عنوان نفس الواجب إجمالا ، ظهر لك اندفاع ما ربما يتوهّم من الاعتراض على الجواب بالالتزام بالرجحان الذاتي من أنّه إنّما يكفي في صيرورة الفعل عبادة لو اتي به بداعي أمره الذاتي ، وهو خلاف سيرة المتشرّعة ، حيث لا يعنون بوضوئهم غالبا إلّا امتثال الأمر المقدّمي الذي التزمنا بأنّه توصّلي محض ، كما هو المفروض ، فيلزم بطلانه ، وهو خلاف الإجماع.

توضيح الاندفاع : أنّه إذا قصد بفعله امتثال الأمر المقدّمي ، فقد قصد إيجاده على نحو تعلّق به غرض الشارع ، فقصده ينحلّ إلى قصد إيجاده بعنوانه الذي يقع طاعة لله تعالى ، مقدّمة لهذا الفعل ، فلو صام للاعتكاف ،

١٨٦

فقد قصد بفعله الصوم الصحيح الذي جعله الشارع مقدّمة للاعتكاف ، فقصد القربة بالصوم ـ أي وقوعه على وجهه المحبوب عند الله ـ داخل في المنوي قهرا ولو لم يكن ملتفتا إلى رجحانه الذاتي تفصيلا ، لأنّ قصد الاعتكاف ملزوم لقصد الصوم الصحيح ، فيقع الصوم صحيحا ناويا فيه وجهه المقرّب بالالتزام.

وإن شئت قلت : إنّ مقدّمية الوضوء للصلاة وإن كانت موقوفة على كونه في حدّ ذاته عبادة ، لكن وقوعه عبادة لا يتوقّف على قصد امتثال أمره الذاتي ، بل على قصد امتثال مطلق الأمر ولو هذا الأمر المقدّمي.

وما يقال : من أنّ إطاعة الأوامر الغيريّة غير مقرّبة ، فكيف ينوي بها التقرّب!؟ مدفوع : بأنّا لا نتعقّل من القربة المعتبرة في وقوع الفعل عبادة إلّا إيجاد ما أمر به الشارع بداعي أمره ، وهو حاصل في الفرض.

نعم ، لا يترتّب على فعله ما هو من آثار إطاعة أمره النفسي من حيث هي لو كان لها أثر خاصّ حيث لم يقصده بالإطاعة.

ولذا استشكل بعض في استحقاق الأجر على الوضوء ونحوه من مقدّمات العبادات ، نظرا إلى ما ادّعاه من استقلال العقل بعدم استحقاق الثواب على امتثال الأوامر الغيريّة وإنّما الأجر والثواب عي امتثال الطلبات النفسيّة التي أريد إطاعتها في حدّ ذاتها لا مقدّماتها بحيث تكون المقدّمات من حيث هي منشأ لاستحقاق الأجر ، مع أنّ هذا ينافي الأخبار المتظافرة الدالّة على ترتّب الأجر على مثل هذه المقدّمات ، بل لعلّه المغروس في أذهان المتشرّعة.

١٨٧

وفيه : أنّ المناط في صحّة العبادة واستحقاق الثواب بفعلها ليس إلّا إيجاد المحبوب الذاتي بداعي طلب المولى ، بأن كان الباعث على فعله أمره ، سواء كان أمره بالفعل لإحراز مصلحة نفسه من حيث هي ، أو لكون هذه المصلحة الراجحة ذاتا من مقدّمات محبوب آخر.

وأمّا ما يقال : من أنّ العقلاء كافّة مطبقون على أنّ الإتيان بواجب واحد يتوقّف على مقدّمات عديدة ولو بلغ إطاعة واحدة وامتثال واحد ، ففيه : أنّه لو سلّم ففيما إذا لم تكن للمقدّمات بذواتها محبوبيّة ذاتيّة ، وإلّا فإطباق العقلاء على خلاف ما قيل ، فإنّ لإطاعة المقدّمات الراجحة ذاتا بنظر هم نحو ملحوظيّة واعتبار ، بل لا يرتابون ـ بعد علمهم بعدم توقّف مصلحة المقدّمة وحسنها على ترتّب فعل الغير عليها ، بل الغير يتوقّف عليها في حسنه ـ في أنّ فعل المقدّمة بنفسه سبب تامّ لاستحقاق الأجر والثواب وإن لم يأت بذيها أصلا.

نعم ، لو أتي بذي المقدّمة ـ كما في مسألة الاعتكاف ـ انتسب الثواب الى الاعتكاف ، لا لعدم سببيّة الصوم للثواب ، بل للزوم اشتمال ثواب الاعتكاف على ما يستحقّه لأجل الصوم وسائر أفعاله ، فلو صام يوما مثلا ، فبدا له إبطال الاعتكاف ، يستحقّ أجر صومه مستقلّا وإن كان ناويا بفعله المقدّميّة ، بل الحقّ أنّ إطاعة الشارع مطلقا من الجهات المحسنة للفعل ، المقتضية للمدح والثواب ، من غير فرق بين الأوامر النفسيّة والغيريّة ، ولذا شاع في الألسن وارتكز في الأذهان من حسن إيقاع المباحات على جهة العبادة بجعلها مقدّمة لعبادة واستحقاق الأجر بذلك.

١٨٨

نعم ، لا يبعد أن يكون ذلك مشروطا لدى العقل بترتيب ذي المقدّمة عليها ، وعدم نقض أثرها اختيارا ، فليتأمّل.

تنبيه : وممّا يؤيّد ما حقّقناه آنفا ـ من عدم كون الوضوء الرافع قسما خاصّا من الوضوء حتى يعتبر تمييزه في القصد ـ بل تدلّ عليه الأخبار الكثيرة التي يستفاد منها اتّحاد ماهيّة الوضوء ، وكون رفع الحدث واستباحة الدخول في الصلاة من آثار ولوازمه.

منها : قوله عليه‌السلام حكاية للحديث القدسي : «من أحدث فلم يتوضّأ فقد جفاني ، ومن أحدث وتوضّأ ولم يصلّ ركعتين فقد جفاني ، ومن أحدث وتوضّأ وصلّى ركعتين ودعاني ولم أجبه فيما سألني من أمر دينه ودنياه فقد جفوته ، ولست بربّ جاف» (١) فإنّ الظاهر من هذه الرواية استحباب الوضوء عقيب الحدث وارتفاع الحدث به وإن لم يكن غرضه فعل الصلاة ، وأنّ فعل الصلاة عقيبه مستحبّ آخر.

ومنها : ما ورد في غير واحد من الأخبار من التعبير عن مطلق الوضوء بالطهور :

مثل : قوله : عليه‌السلام : «الوضوء بعد الطهور عشر حسنات فتطهروا» (٢).

وفي خبر آخر : «الطهر على الطهر عشر حسنات» (٣).

ومنها : ما عن الأمالي من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا أنس أكثر من الطهور

__________________

(١) إرشاد القلوب : ٦٠ ، الوسائل ، الباب ١١ من أبواب الوضوء ، الحديث ٢.

(٢) المحاسن : ٤٧ ـ ٦٣ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب الوضوء ، الحديث ١٠.

(٣) الكافي ٣ : ٧٢ ـ ١٠ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب الوضوء ، الحديث ٣.

١٨٩

يزد الله في عمرك ، وإن استطعت أن تكون بالليل والنهار على طهارة فافعل فإنّك تكون إذا متّ على طهارة شهيدا» (١).

وممّا يدلّ أيضا على المطلوب : ما ورد في علّة الأمر بالوضوء للصلاة من قول أبي الحسن الرضا عليه‌السلام : «وإنّما أمروا بالوضوء وبدئ به لأن يكون العبد طاهرا إذا قام بين يدي الجبّار عند مناجاته إيّاه ، مطيعا له فيما أمره ، نقيّا من الأدناس والنجاسة مع ما فيه من ذهاب الكسل وطرد النعاس وتزكية الفؤاد للقيام بين يدي الجبّار» (٢).

فإنّ الرواية ظاهرة في أنّ رفع الحدث من قبيل الخاصيّة المترتّبة على ذات الوضوء ، وهو المنشأ للأمر به ، فيلزمه أن تكون ماهيّة الوضوء في حدّ ذاتها رافعة للحدث.

والظاهر أنّ الأمر بالوضوء في جميع الموارد إنّما هو بلحاظ هذه الخاصّيّة الكامنة فيه ، فالأمر به لقراءة القرآن أو دخول المساجد أو تكفين الأموات أو غيرها من الغايات إنّما هو لرجحان وقوعها من مرفوع الحدث ، كما يدلّ على ذلك التعبير عنه بالطهور لأغلب غاياته.

مثل قوله عليه‌السلام : «من تطهّر ثم آوى إلى فراشه بات وفراشه كمسجده» (٣).

__________________

(١) أمالي المفيد : ٦٠ ـ ٥ ، الوسائل ، الباب ١١ من أبواب الوضوء ، الحديث ٣.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٠٤ ، علل الشرائع : ٢٥٧ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب الوضوء ، الحديث ٩.

(٣) الكافي ٣ : ٤٦٨ ـ ٥ ، الوسائل ، الباب ٩ من أبواب الوضوء ، الحديث ١.

١٩٠

وقوله عليه‌السلام : «لا ينام المسلم وهو جنب ، ولا ينام إلّا على طهور» (١).

إلى غير ذلك من الأخبار التي تدلّ على أنّ مطلوبيّته لغاياته بلحاظ أثره الذي هو الطهارة ، بل لا يتبادر من الأمر بالوضوء لشي‌ء في أذهان المتشرّعة إلّا رجحان ذلك الشي‌ء متطهّرا ، فالوضوء ـ على ما هو المغروس في أذهانهم ـ طبيعة واحدة أثرها رفع الحدث.

بل في الحدائق : أنّ الأخبار الواردة مستندة للوضوءات المستحبّة كلّها إلّا ما شذّ بلفظ «الطهر» أو «الطهور» أو «الطهارة» ومن الظاهر البيّن اعتبار معنى الزوال أو الإزالة في لازم هذه المادّة ومتعدّاها لغة وشرعا ، فلا معنى لكون الوضوء مطهّرا أو طهورا أو نحوهما إلّا كونه مزيلا للحدث الموجود قبله ، وإلّا فلا معنى لهذه التسمية بالكلّيّة.

ومن ثمّ صرّحوا بأنّ الطهارة لغة : النظافة ، وشرعا حقيقة في رافع الحدث.

وأمّا الوضوء المجامع للحدث الأكبر فقرينة التجوّز فيه ظاهرة ، كإطلاق الصلاة على صلاة الجنازة (٢). انتهى.

ويمكن أن يقال : إنّ الأمر بالوضوء للجنب والحائض بالنسبة إلى بعض الغايات لا يكون أيضا إلّا بلحاظ هذا الأثر ، إلّا أنّ المحلّ لا يقبل التأثير التامّ ، فيؤثّر الوضوء بالنسبة إليهم تخفيف الحدث ورفع المنع بالنسبة إلى بعض الغايات ، والله العالم.

__________________

(١) علل الشرائع : ٢٩٥ ، الباب ٢٣٠ ، الوسائل ، الباب ٢٥ من أبواب الجنابة ، الحديث ٣.

(٢) الحدائق الناضرة ٢ : ١٩٤ ـ ١٩٥.

١٩١

فروع :

الأوّل قال العلّامة قدس‌سره ـ فيما حكي عنه في جملة من كتبه كالتذكرة والمنتهى والنهاية والقواعد ـ : إنّ من ليس عليه وضوء واجب ، فنوى بالوضوء الوجوب ، وصلّى به ، أعاد الصلاة ، فإن تعدّدتا ـ يعني الصلاة والطهارة ـ مع تخلّل الحدث ، أعاد الأولى (١). انتهى.

وقد حكى ذلك عن ولده فخر الدين (٢) رحمة الله عليه.

أقول : وجه وجوب إعادة الأولى واضح ، إذ لا وجوب حتى يقع الفعل امتثالا له ، فيفسد (٣).

وأمّا عدم إعادة الصلاة الثانية في الفرض الثاني : فلصحّة وضوئه ، لاشتغال ذمّته بتدارك الأولى ، فيجب عليه الوضوء مقدّمة له ، فإذا توضّأ بنيّة الوجوب ، فقد أتى بالواجب قاصدا لوجهه ، ناويا فيه القربة ، فيصحّ

__________________

(١) حكاه عنه الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٨٨ ، وانظر : تذكرة الفقهاء ١ : ١٤٨ ، ومنتهى المطلب ١ : ٥٦ ، ونهاية الإحكام ١ : ٣٢ ، وقواعد الأحكام ١ : ١٠.

(٢) كما في كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ٨٨.

(٣) هذا بناء على ما هو المشهور من عدم تعلّق التكليف بالمقدّمة إلّا عند حضور زمان ذيها ، لكنّك عرفت في صدر الكتاب وهن هذا النبإ ، وإمكان الالتزام بشرعية الوضوء مقدّمة لغاية لم يدخل وقتها ، وسيأتي تحقيقه عند التكلّم في عدم شرعية التيمّم قبل الوقت. وكيف كان فالكلام في هذا المقام جرى على وفق المشهور حيث كنّا نعتمد عليه حين الكتابة ، ولقد عدلنا عنه بعد حين وقد وقعت كتابة ما قبل الوضوء بعد إتمام الوضوء ، فتبصّر (منه رحمه‌الله).

١٩٢

وإن لم يقصد بفعله التوصّل إلى ما وجب لأجله ، لأنّ كونه مقدّمة لواجب علّة لوجوبه لا قيد للواجب حتى يعتبر قصده.

قال في محكي الذكرى : من عليه موجب ينوي الوجوب في طهارته ما دام كذلك ، فلو نوى الندب عمدا أو غلطا ، بنى على اعتبار الوجه ، والحدث يرتفع وإن لم يقصد فعل ما عليه من الواجب ، لأنّ وجوب الوضوء مستقرّ هنا عند سببه (١). انتهى.

بل نسب صحّة الوضوء المأتي به بنيّة الوجوب في زمان وجوبه ولو لم يكن قاصدا للتوصّل بفعله إلى إتيان ما وجب لأجله إلى جماعة (٢).

بل ربما يستظهر ذلك ممّا نسب إلى المشهور (٣) من أنّ الوضوء في وقت اشتغال الذمّة بالواجب لا يكون إلّا واجبا.

ولكن في الاستظهار نظر ، إذ غاية ما يستفاد من كلامهم عدم جواز إيقاع الوضوء بعد اشتغال الذمّة بالواجب إلّا بنيّة الوجوب ، وأمّا صحّته لو أتى به لا لأجل التوصّل إلى ما وجب لأجله فلا ، فلعلّهم يلتزمون بعدم مشروعيّة الوضوء حال وجوبه إلّا للغاية الواجبة ، كما هو أحد الاحتمالات في المسألة ، بل لعلّه لازم قول من يقول بوجوب جعل الوجوب غاية ، كما لا يخفى.

وكيف كان ، فيما ذهبوا إليه من الحكم بصحّة الوضوء المأتي به

__________________

(١) حكاه عنه الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٨٨ ، وانظر الذكرى : ٨٢.

(٢) الناسب هو الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٨٨.

(٣) كما في كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ٨٨.

١٩٣

بقصد الوجوب لا لأجل التوصّل إلى ما وجب لأجله لا يخلو عن إشكال وإن بالغ في تشييده صاحب الحدائق ـ قدس‌سره ـ حيث قال : لا يخفى أنّ الواجب هو الوضوء والصلاة ، والإتيان بأحد الواجبين وإن لم يأت بالآخر بعده غير مضرّ بصحّته ، فمن أين لا يجوز له الوضوء وهو مخاطب به وواجب عليه؟ غايته أنّه يجب عليه الصلاة معه ، ولكن وجوب الصلاة موسّع عليه ، وحينئذ فلو توضّأ أوّل الوقت لأجل الصلاة في آخره ، فلا مانع من صحّته (١). انتهى.

وأنت خبير بأنّ ما ذكره من المثال لا ربط له بمورد الإشكال ، وإنّما الكلام في أنّ من لم يرد الصلاة إلّا بوضوء آخر بعد نقض هذا الوضوء هل يصحّ وضوؤه المأتي به بعنوان الوجوب أم لا؟

ومنشؤ الإشكال : أنّ الوضوء لم يتعلّق به لذاته أمر وجوبي حتى يتقرّب بفعله ويأتيه لا بعنوان المقدّمية بداعي امتثال أمره ، وأمّا الأمر الإلزامي الغيري المتعلّق بفعله فإنّما يدعو إلى فعله بعنوان المقدّميّة لا مطلقا ، لما عرفت في صدر المبحث من أنّ الأمر لا يدعو إلى الفعل إلّا بعنوانه الذي تعلّق به الأمر ، فلو لم يوجد الفعل بهذا العنوان ، لا يقع امتثالا لهذا الأمر ، فكيف ينوي بفعله القربة بلحاظ هذا الأمر الذي لم يقصد إطاعته!؟

ولا ينافي ذلك ما تقدّم في تقريب الاستدلال : من أنّ كونه مقدّمة للواجب علّة لوجوبه لا قيد في الواجب ، لأنا لا ندّعي التقييد أصلا ، بل

__________________

(١) الحدائق الناضرة ٢ : ٢١٨.

١٩٤

نقول : إنّ وقوعه امتثالا لهذا الأمر الخاصّ يتوقّف على قصد التوصّل ، وإيجاده بعنوان المقدّميّة ، وإلّا فلا يعقل التقرّب بفعله بلحاظ هذا الأمر ، فيبطل.

نعم ، لو قلنا برجحانه ذاتا ونوى بفعله امتثال أمره الواقعي بزعم كونه إلزاميّا لا على سبيل تقييد الواقع ، لا يخلو القول بصحّته عن قوّة ، كما سيتّضح وجهه في المسألة الآتية ، بل الحكم بالصحّة على هذا التقدير في الفرض الأوّل ـ الذي أفتى العلّامة ببطلانه (١) ، وهو ما لو توضّأ بنيّة الوجوب قبل الوقت إذا أتاه بداعي أمره الواقعي زاعما وجوبه لا على سبيل تقييد الواقع ـ لا يخلو عن وجه ، بل الحكم بالصحّة هو المتّجه في جميع الصور المتصوّرة في مفروض كلام العلّامة حتى فيما لو توضّأ قبل الوقت بعنوان الوجوب للتوصّل به إلى فعل الواجب بعد دخول وقته بناء على عدم وجوب قصد الوجه ، وعدم إخلال قصد الوجوب فيما ليس بواجب إن قلنا بأنّ قصد إيقاع الوضوء مقدّمة لصلاة واجبة ، مرجعه لدى التحليل إلى إرادة التقرّب بالطهارة التي هي شرط في الصلاة ، أو قلنا بأنّه يكفي في صحة العبادة وقوعها بقصد امتثال الأمر مطلقا وإن أخطأ في تشخيص الأمر ، كما تقدّمت الإشارة إلى ذلك في دفع بعض النقوض الواردة على التفصّي عن إشكال الدور بالالتزام بالرجحان الذاتي للطهارات ، وسيأتي مزيد توضيح لذلك إن شاء الله.

كما أنّه بهذه المباني يتّجه صحّة وضوء من توضّأ بعد الوقت

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ١٩٢.

١٩٥

للصلاة التي دخل وقتها بزعم اشتغال ذمّته بها ، فانكشف بعد الوضوء فراغ ذمّته عنها.

وربما يوجّه الصحّة في هذا الفرض بكونه مكلّفا بالعمل بحسب اعتقاده ، فكان مأمورا بأمر ظاهري ، وهو يقتضي الإجزاء.

وفيه : بعد تسليم القاعدة ، فهي فيما إذا كان مأمورا بذلك بأمر ظاهري شرعي ، لا في مثل المقام الذي نوى بفعله امتثال أمر واقعي زعم توجّهه عليه خطأ.

وأوجه من ذلك : الحكم بالصحّة فيما لو توضّأ احتياطا لصلاة يحتمل اشتغال ذمّته بها مع براءة ذمّته عنها حيث إنّ المحتاط لا يقصد بفعله وجها مخالفا لما عليه في الواقع.

وربما يوجّه الصحّة في ذلك : بكونه قاصدا لامتثال الأمر بالاحتياط الذي هو راجح شرعا وعقلا.

وفيه : أنّ استحباب الاحتياط شرعا ـ بحيث يكون الفعل لأجله من العبادات المستحبّة التي تترتّب عليها آثارها الثابتة لها بعناوينها الخاصّة ـ لا يخلو عن إشكال.

فعمدة الوجه لصحّة الوضوء في هذه الفروض ونظائرها هي ما أشرنا إليه من أن الإتيان بما هو محبوب بالذات ابتغاء لمرضاة الله تعالى موجب لصحّة الفعل ووقوعه عبادة وان كان العامل مخطئا في تشخيص وجه الطلب ، ونوى بفعله امتثال أمر وراء أمره الواقعي ، أو أنّ قصد

١٩٦

التوصّل بفعله إلى الغايات المشروطة بالطهور ، أو استباحة الغاية المحتمل وجوبها لا ينفكّ عن قصد الكون على الطهارة متقرّبا بها إلى الله تعالى ، فهو المصحّح لفعله وإن لم تكن الصلاة واجبة عليه في الواقع ، ولكن هذا لا يخلو عن تأمّل.

ولعلّه هو الوجه فيما نقل عن فخر المحقّقين من أنّ من كان بالعراق ونوى بوضوئه استباحة الطواف ، صحّ وضوؤه (١).

ومثله نقل عن الشهيد الثاني في البيان (٢).

وفي الحدائق بعد أن نقل ما نقلناه عن الفخر والشهيد ـ قدس‌سره ـ ، قال : واستشكله المحقّق الشيخ على ـ رحمه‌الله ـ بأنّه نوى أمرا ممتنعا ، فكيف يحصل له!؟

وأجيب : بأنّ المنوي ليس وقوع الطواف بالفعل ، بل استباحته ، فالمنويّ غير ممتنع ، والممتنع غير منويّ.

وتوضيحه على ما حقّقه شيخنا البهائي ـ قدس‌سره ـ في بعض فوائده : أنّه لا ريب أنّ كون المكلّف على حالة يتمكّن معها من الدخول في عبادة مشروطة بالطهارة ـ كالصلاة والطواف مثلا ـ أمر راجح في نظر الشارع ،

__________________

(١) كما في جامع المقاصد ١ : ٢٠٢ ، والحدائق الناضرة ٢ : ٢١٨ ، وقال العاملي في مفتاح الكرامة ١ : ٢١٧ : قلت : هذا الذي نقله ـ الكركي ـ عن ولد المصنف وجدته في حاشية إيضاح عندي ، وهي نسخة عتيقة معربة محشّاة عن خطه ذكر ذلك ثمّ كتب في آخر الحاشية : محمد بن المطهر.

(٢) كما في الحدائق الناضرة ٢ : ٢١٨ ، وانظر : البيان : ٨.

١٩٧

فلو توضّأ المكلّف بقصد صيرورة الصلاة مباحة له ـ أعني حصول تلك الحالة ـ فينبغي أن تحصل له ، وكونه يأتي بالصلاة أم لا يأتي أمر خارج عن القصد المذكور ، فإنّ حصول تلك الحالة أمر مغاير لفعل الصلاة بغير مرية.

نعم ، لو نوى بالوضوء فعل الصلاة مجرّدا عن استباحتها ، ولم يكن من قصده فعلها ، لكان متناقضا بنيّته ، فلا بعد في القول بفساد طهارته حينئذ (١). انتهى.

أقول : لا يبعد أن يكون غرض الشيخ أيضا ما ذكرناه من أنّ قصد شي‌ء من الغايات المترتّبة على الكون على الطهارة لا ينفكّ عن قصد تحصيل الطهارة المعلوم رجحانها شرعا طاعة لله تعالى ، فمتى وقع الوضوء بقصد الكون على الطهارة ، يصحّ ، سواء تعلّق هذا القصد به أوّلا وبالذات ، أو بواسطة كونها مقدّمة لأمر آخر ، وإلّا فمجرّد قصد حصول تلك الحالة مجرّدا عن قصد إطاعة أمره الذاتي لا ينفع في حصولها ، كما لا يخفى.

ومحصّل الكلام في المقام : أنّه لا شبهة في توقّف صحّة الوضوء على وقوعه طاعة لله تعالى ، ولا تأمّل في أنّه لا يتأتّى قصد التقرّب والإطاعة بالوضوء بلحاظ أمره المقدّمي إذا لم يكن عازما على التوصّل بفعله إلى ذي المقدّمة ، لأنّ قصد امتثال هذا الأمر المتعلّق به بعنوان كونه مقدّمة يناقض عدم قصده التوصّل إليه ، فيستحيل تحقّقهما في الخارج.

وكذا لا ريب في امتناع حصول الإطاعة والتقرّب بلحاظ هذا الأمر

__________________

(١) الحدائق الناضرة ٢ : ٢١٨.

١٩٨

المقدّمي لو لم يكن منجزّا على المكلّف إمّا لعدم تنجّز الأمر بغايته ، كالوضوء قبل الوقت ، أو لعدم كون الغاية مأمورا بها ، كالوضوء مقدّمة لصلاة غير مشروعة.

وحينئذ نقول : لو نوى المتوضّي بفعله امتثال أمره الواقعي المتعلّق به لذاته لو قلنا برجحانه ذاتا ، أو للكون على الطهارة التي هي مقدّمة لجميع غاياتها المشروطة بها ، لا على سبيل تقييد الواقع بالأمر المقدّمي.

فالأقوى : صحّته في جميع الفروض المتقدّمة وما ضاهاها ، خصوصا في الفرض الذي حكم الشهيد وغيره بصحّته ، وهو : ما لو توضّأ بعد اشتغال ذمّته بواجب بقصد الوجوب ولم يكن عازما على فعل ما وجب لأجله ، فإنّه لا إشكال في صحّته حتى على القول باعتبار قصد الوجه إلّا على القول بوجوب وقوعه بعد وجوبه للغاية الواجبة لا غير ، وستعرف ضعفه في الفرع الآتي.

وأوضح منه : صحّته ما لو توضّأ بداعي أمره الواقعي للتوصّل به إلى فعل الصلوات المحتمل فوتها عند تعذّر تحصيل القطع بفوتها ولو بطريق شرعي ، إذ لا تتأتّى فيه الشبهة الآتية في الفرع الآتي.

كما أنّه لا يستشكل فيه بعدم وقوعه على وجهه ، أو وقوعه على وجه مخالف لوجهه الواقعي ، إذ لا يعتبر قصد الوجه في مثل المورد إجماعا على ما صرّح به شيخنا المرتضى (١) ـ رحمه‌الله ـ في غير مورد من

__________________

(١) انظر على سبيل المثال : فرائد الأصول : ٢٧.

١٩٩

كلماته ، ولم يقصد بفعله إلّا الاحتياط ، وهو لا ينافي وجهه الواقعي ، وهذا بخلاف بعض الفروع السابقة ، كما لو توضّأ قبل الوقت بداعي أمره الواقعي زاعما وجوبه ، فإنّه أتى بالمأمور به على خلاف وجهه.

ولكنّ الأقوى فيه أيضا الصحّة ، لما عرفت من عدم اعتبار أمر زائد في تحقّق الإطاعة عدا معرفة الأمر وتعيين المأمور به وإيجاده بداعي الأمر ، وهذا المعنى محقّق في الفرض ، فقصده الوجوب لغو صرف لا يضرّ بشي‌ء.

هذا كلّه لو أتى به بداعي أمره الواقعي لا على سبيل التقييد ، وأمّا لو أتى به بداعي أمره المقدّمي من حيث هو ، فإن قلنا بأنّ قصد التوصّل بالوضوء إلى غاية مترتّبة على الطهارة ممّا لا ينفكّ عن قصد امتثال الأمر بالتطهير ، فإطاعته مقصودة ضمنا ، أو قلنا بأنّه يكفي في صحّة ما هو عبادة بالذات وقوعه بقصد التقرّب والإطاعة وإن لم يكن بداعي أمره الواقعي ، بل بداعي أمر تخيّل توجّهه عليه ، كما هو الأظهر ، فالمتّجه أيضا صحّة الوضوء في جميع الصور ، إلّا في الفرض الذي لم يقصد بفعله التوصّل إلى ذي المقدّمة ، كما في مفروض كلام الشهيد والجماعة ، إذ لا يتأتّى منه قصد التقرّب في هذا الفرض ، إذ لا يجتمع إرادة امتثال الأمر المقدّمي مع عدم قصد التوصّل ، كما أشار إليه شيخنا البهائي ـ رحمه‌الله ـ في ذيل عبارته المتقدّمة (١).

وأمّا إن بنينا على أنّ صحّة الوضوء إنّما هي بلحاظ وقوعه إطاعة

__________________

(١) تقدّمت في ص ١٩٨.

٢٠٠