التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٤

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٤

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0694-9
الصفحات: ٤٨٧

(فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ) أى : فذهب إلى أهله فذبح عجلا وشواه ، فقربه إلى ضيوفه وقال لهم : (أَلا تَأْكُلُونَ) أى : حضهم على الأكل شأن المضيف الكريم. فقال لهم على سبيل التلطف وحسن العرض : ألا تأكلون من طعامي.

قال ابن كثير : وهذه الآيات انتظمت آداب الضيافة ، فإنه جاء بطعامه من حيث لا يشعرون بسرعة. ولم يمتن عليهم أولا فقال : نأتيكم بطعام؟ بل جاء به بسرعة وخفاء ، وأتى بأفضل ما وجد من ماله ، وهو عجل سمين مشوى فقربه إليهم ، لم يضعه وقال : اقتربوا ، بل وضعه بين أيديهم ، ولم يأمرهم أمرا يشق على سامعه بصيغة الجزم ، بل قال : (أَلا تَأْكُلُونَ) على سبيل العرض والتلطف ، كما يقول القائل اليوم : إن رأيت أن تتفضل وتحسن وتتصدق. فافعل (١).

ولكن إبراهيم مع هذا العرض الحسن ، والكرم الواضح ، لم يجد من ضيوفه استجابة لدعوته. (فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) أى : فأضمر في نفسه خوفا منهم حين رأى إعراضا عن طعامه ، مع حضهم على الأكل منه ، ومع جودة هذا الطعام.

وهنا كشف الملائكة له عن ذواتهم فقالوا (لا تَخَفْ) أى : لا تخف فإنا رسل الله (وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) أى : وبشروه بغلام سيولد له ، وسيكون كثير العلم عند ما يبلغ سن الرشد ، وهذا الغلام إسحاق ـ عليه‌السلام ـ.

ثم يحكى القرآن بعد ذلك ما كان من امرأته بعد أن سمعت بهذه البشرى فقال : (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ).

أى : فأقبلت امرأة ابراهيم ـ عليه‌السلام ـ وهي تصيح في تعجب واستغراب من هذه البشرى. فضربت بيدها على وجهها وقالت : أنا عجوز عقيم فكيف ألد؟.

والصرة : من الصرير وهو الصوت ، ومنه صرير الباب ، أى : صوته ، والصك الضرب الشديد على الوجه ، وعادة ما تفعله النساء إذا تعجبن من شيء.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ في سورة هود : (قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً ، إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ).

وهنا رد عليها الملائكة بما يزيل تعجبها واستغرابها واستبعادها لأن يكون لها ولد مع كبر سنها ، ويحكى القرآن ذلك فيقول : (قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ).

أى : قال الملائكة لامرأة إبراهيم : لا تتعجبى من أن يكون لك غلام في هذه السن ، فإن

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٣٩٧.

٢١

هذا الحكم هو حكم ربك. وهذا القول الذي بشرناك به هو قوله ـ سبحانه ـ وقوله لا مرد له : إنه ـ تعالى ـ هو الحكيم في كل أقواله وأفعاله. العليم بأحوال خلقه.

وهنا عرف إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ حقيقة ضيوفه : فأخذ يسألهم : (قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) والخطب : الأمر الهام ، والشأن الخطير ، وجمعه خطوب.

أى : قال لهم إبراهيم بعد أن اطمأن إليهم ، وعلم أنهم ملائكة. فما شأنكم الخطير الذي من أجله جئتم إلى أيها المرسلون بعد هذه البشارة؟.

(قالُوا) في الإجابة عليه ، (إِنَّا أُرْسِلْنا) ، بأمر ربنا (إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) قوم لوط (لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ) أى : لنرسل عليهم ـ بعد قلب قراهم ـ حجارة من طين متحجر ، حالة كون هذه الحجارة (مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ) أى : معلمة عند الله ـ تعالى ـ وفي علمه ، وقد أعدها ـ سبحانه ـ لرجم هؤلاء الذين أسرفوا في عصيانهم له ـ تعالى ـ وأتوا بفاحشة لم يسبقهم إليها أحد من العالمين.

فقوله : (مُسَوَّمَةً) حال من الحجارة ، والسّومة : العلامة. ومنه قوله ـ تعالى ـ : (وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ).

والفاء في قوله ـ تعالى ـ بعد ذلك : (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) هي الفصيحة ، لأنها قد أفصحت عن كلام محذوف.

والمعنى : ففارق الملائكة إبراهيم ذاهبين إلى قوم لوط لإهلاكهم وجرى بينهم وبين لوط ـ عليه‌السلام ـ ما جرى ثم أخذوا في تنفيذ ما كلفناهم به ، فأخرجنا ـ بفضلنا ورحمتنا ـ من كان في قرية لوط من المؤمنين دون أن يمسهم عذابنا ، فما وجدنا في تلك القرية غير أهل بيت واحد من المسلمين ، أما بقية سكان هذه القرية فقد دمرناهم تدميرا.

ووصف ـ سبحانه ـ الناجين من العذاب ـ وهم لوط وأهل بيته إلا امرأته ـ بصفتى الإيمان والإسلام ، على سبيل المدح لهم ، أى : أنهم كانوا مصدقين بقلوبهم ، ومنقادين لأحكام الله ـ تعالى ـ بجوارحهم.

قال ابن كثير : احتج بهاتين الآيتين من ذهب إلى رأى المعتزلة ، ممن لا يفرقون بين معنى الإيمان ، والإسلام ، لأنه أطلق عليهم المؤمنين والمسلمين وهذا الاستدلال ضعيف ، لأن هؤلاء كانوا قوما مؤمنين ، وعندنا أن كل مؤمن مسلم ولا ينعكس ، فاتفق الاسمان هنا لخصوصية الحال ، ولا يلزم ذلك في كل حال (١).

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٣٩٩.

٢٢

ثم بين ـ سبحانه ـ أنه قد ترك من وراء هلاكهم ما يدعو غيرهم إلى الاعتبار بهم فقال : (وَتَرَكْنا فِيها) أى : في قرية قوم لوط التي جعل الملائكة عاليها سافلها (آيَةً) أى : علامة تدل على ما أصابهم من هلاك ، قيل : هي تلك الأحجار التي أهلكوا بها.

وهذه الآية إنما هي (لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ) لأنهم هم الذين يعتبرون وينتفعون بها ، أما غيرهم من الذين استحوذ عليهم الشيطان ، فإن هذه الآيات لا تزيدهم إلا رجسا على رجسهم.

ثم تحدثت السورة بعد ذلك عن جانب من قصص موسى وهود وصالح ونوح. عليهم‌السلام ـ مع أقوامهم ، فقال ـ سبحانه ـ :

(وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (٤٠) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (٤١) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (٤٢) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (٤٣) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٤٤) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (٤٥) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) (٤٦)

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَفِي مُوسى) معطوف على قوله ـ تعالى ـ قبل ذلك (وَتَرَكْنا فِيها) والكلام على حذف مضاف.

والظرف في قوله : (إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ). متعلق بمحذوف هو نعت لقوله (آيَةً) قبل ذلك.

أى : وتركنا في قصة موسى ـ أيضا ـ آية ، هذه الآية كائنة وقت أن أرسلناه إلى فرعون (بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أى : بمعجزة واضحة بينة هي اليد والعصا وغيرهما.

٢٣

وقوله ـ سبحانه ـ : (فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) بيان لموقف فرعون من موسى ـ عليه‌السلام ـ أى : أرسلنا موسى بآياتنا الدالة على صدقه إلى فرعون وملئه ، فما كان من فرعون إلا أن أعرض عن دعوة الحق ، وتعاظم على موسى بملكه وجنوده وقوته ... وقال في شأن موسى ـ عليه‌السلام ـ هو ساحر أو مجنون.

والركن جانب البدن. والمراد به هنا : جنوده الذين يركن إليهم ، وقوته التي اغتر بها.

قال الآلوسى : قوله : (فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ) أى : فأعرض عن الإيمان بموسى ، على أن ركنه جانب بدنه وعطفه ، والتولي به كناية عن الإعراض ، والباء للتعدية ، لأن معناه : ثنى عطفه.

وقال قتادة : تولى بقومه على أن الركن بمعنى القوم ، لأنه يركن إليهم ويتقوى بهم ، والباء للمصاحبة أو الملابسة ... وقيل : تولى بقوته وسلطانه. فالركن يستعار للقوة .. (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ نتيجة إعراض فرعون عن الحق فقال : (فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ).

والنبذ : الطرح للشيء بدون اكتراث أو اهتمام به ، وقوله (مُلِيمٌ) من ألام ، إذا أتى ما يلام عليه ، كأغرب إذا أتى أمرا غريبا ، وجملة ، وهو مليم ، حال من المفعول في قوله (فَأَخَذْناهُ).

أى : فأخذنا فرعون هو وجنوده الذين ارتكن إليهم أخذ عزيز مقتدر ، فألقينا بهم جميعا في البحر بدون اعتداد بهم ، بعد أن أتى فرعون بما يلام عليه من الكفر والطغيان.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : كيف وصف نبي الله يونس ـ عليه‌السلام ـ بما وصف به فرعون في قوله ـ تعالى ـ : (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ)؟

قلت : موجبات اللوم تختلف ، وعلى حسب اختلافها تختلف مقادير اللوم ، فراكب الكبيرة ملوم على مقدارها ، وكذلك مقترف الصغيرة. ألا ترى إلى قوله ـ تعالى ـ : (وَعَصَوْا رُسُلَهُ) ، وقوله (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) لأن الكبيرة والصغيرة يجمعها اسم العصيان ، كما يجمعهما اسم القبيح والسيئة (٢).

ثم تنتقل السورة بعد ذلك إلى بيان ما حل بقوم هود ـ عليه‌السلام ـ فتقول : (وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ. ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ).

أى : وتركنا في قصة عاد ـ أيضا ـ وهم قوم هود ـ عليه‌السلام ـ آية وعبرة ، وقت أن

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٧ ص ١٥.

(٢) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٤٠٣.

٢٤

أرسلنا عليهم الريح العقيم. أى : الريح الشديدة التي لا خير فيها من إنشاء مطر ، أو تلقيح شجر ، وهي ريح الهلاك وأصل العقم : اليبس المانع من قبول الأثر.

شبه ـ سبحانه ـ الريح التي أهلكتهم وقطعت دابرهم ، بالمرأة التي انقطع نسلها ، بجامع انعدام الأثر في كل.

ثم وصف ـ سبحانه ـ هذه الريح التي توهموا أنها تحمل لهم الخير ، بينما هي تحمل لهم الهلاك ، وصفها بقوله : (ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ) أى : ما تترك من شيء مرت عليه.

(إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) أى : إلا جعلته كالشىء الميت الذي رم وتحول إلى فتات مأخوذ من رم الشيء إذا تفتت وتهشم. ويقال للنبات إذا يبس وتفتت : رميم وهشيم.

كما يقال للعظم إذا تكسر وبلى : رميم. ومنه قوله ـ تعالى ـ : (قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ).

ثم انتقلت السورة بعد ذلك إلى بيان ما حل بقوم صالح ـ عليه‌السلام ـ فقال ـ تعالى ـ : (وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ).

أى : وتركنا ـ كذلك ـ في قصة صالح ـ عليه‌السلام ـ مع قومه آية وعظة ، وقت أن قال لهم ـ على سبيل الإنذار والتحذير من المداومة على الكفر .. تمتعوا بحياتكم التي تعيشونها في هذه الدنيا ، حتى وقت معين في علم الله ـ تعالى ـ تنتهي عنده أعماركم.

وهذا التمتع بالحياة حتى حين ، يحتمل أن المقصود به ، ما أشار إليه ـ سبحانه ـ في سورة هود بقوله : (فَعَقَرُوها) ـ أى الناقة ـ (فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ، ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) ويحتمل أن يكون المقصود به : ما قدره الله ـ تعالى ـ من عمر منذ أن بلغهم صالح رسالة ربه إلى أن عقروا الناقة ، وحق عليهم العذاب.

قال القرطبي : قوله : (وَفِي ثَمُودَ) أى : وفيهم ـ أيضا ـ عبرة وعظة ، حين قيل لهم عيشوا متمتعين بالدنيا (حَتَّى حِينٍ) أى : إلى وقت الهلاك وهو ثلاثة أيام ، كما في سورة هود .. وقيل : معنى (تَمَتَّعُوا) أى : أسلموا وتمتعوا إلى وقت فراغ آجالكم (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ ما كان منهم من كفر وفجور فقال : (فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) أى : فتكبروا واستهانوا بما أمرهم الله ـ تعالى ـ به على لسان نبيهم صالح ـ عليه‌السلام ـ.

(فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ) وهي كل عذاب مهلك ، من الصعق بمعنى الإهلاك.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٧ ص ٥١.

٢٥

(وَهُمْ يَنْظُرُونَ) أى : وهم يرونها عيانا ، لأن العذاب ـ كما تشير الآية ـ نزل بهم نهارا.

(فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ) أى : أنه حين نزل بهم عذابنا ، أعجزهم عن الحركة ، وشل حواسهم ، فما استطاعوا أن يهربوا منه. وما قدروا على القيام بعد أن كانوا قاعدين ، وما نصرهم من بأسنا ناصر.

ثم ختم ـ سبحانه ـ هذه الآيات بلمحة عن قصة نوح ـ عليه‌السلام ـ فقال (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ) أى : وأهلكنا قوم نوح من قبل هؤلاء جميعا بالطوفان.

(إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) أى : خارجين عن طاعتنا ، منغمسين في الكفر والعصيان.

وهكذا ساقت السورة الكريمة جانبا من قصص هؤلاء الأنبياء ، ليكون في ذلك تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتذكرة للمتذكرين.

وبعد هذا الحديث عن هؤلاء الأقوام .. جاء الحديث عن مظاهر قدرة الله ـ تعالى ـ وسعة رحمته ، ووافر نعمه ، وحض الناس على شكره ـ تعالى ـ وطاعته. فقال ـ عزوجل ـ :

(وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (٤٧) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (٤٨) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٤٩) فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) (٥١)

ولفظ (السَّماءَ ...) منصوب على الاشتغال. أى : وبنينا السماء بنيناها (بِأَيْدٍ) أى : بقوة وقدرة. يقال : آد الرجل يئيد ـ كباع ـ إذا اشتد وقوى.

(وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) أى : وإنا لقادرون على توسعتها بتلك الصورة العجيبة من الوسع بمعنى القدرة والطاقة ، يقال : أوسع الرجل ، أى : صار ذا سعة ، والمفعول محذوف ، أى : وإنا لموسعون السماء ، أو الأرزاق.

فالجملة تصوير بديع لمظاهر قدرة الله ، وكمال قوته ، وواسع فضله.

(وَالْأَرْضَ فَرَشْناها) أى : وفرشنا الأرض بقدرتنا ـ أيضا ـ ، بأن مهدناها وبسطناها وجعلناها صالحة لمنفعتكم وراحتكم.

٢٦

(فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) نحن ، يقال : مهدت الفراش ، إذا بسطته ووطأته وحسنته.

وفي هاتين الآيتين ما فيهما من الدلالة على قدرة الله ـ تعالى ـ ورحمته بعباده ، حيث أوجد هذه السماء الواسعة التي تعتبر الأرض بما فيها كحلقة في فلاة بالنسبة لها ، فهي تحوى مئات الملايين من النجوم المتناثرة في أرجائها .. وأوجد ـ سبحانه ـ الأرض لتكون موطنا للإنسان ، ومنزلا لراحته.

ثم قال ـ تعالى ـ : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) أى : نوعين متقابلين كالذكر والأنثى. والليل والنهار ، والسماء والأرض ، والغنى والفقر ، والهدى والضلال.

(لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أى فعلنا ذلك لعلكم تعتبرون وتتعظون وتتذكرون ما يجب عليكم نحونا من الشكر والطاعة وإخلاص العبادة لنا وحدنا.

والفاء في قوله : (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ ...) للتفريع على قوله ـ تعالى ـ (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) ، أى : ما دام الأمر كما ذكرت لكم من وجود التذكر والاعتبار ، ففروا إلى الله من معصيته إلى طاعته ، ومن كفره إلى شكره ، ومن السيئات إلى الحسنات.

قال الإمام الرازي ما ملخصه : وفي هذا التعبير لطائف ؛ لأنه ينيء عن سرعة الإهلاك ، كأنه يقول : الإهلاك والعذاب أسرع وأقرب ، من أن يحتمل الحال الإبطاء في الرجوع. فافزعوا سريعا إلى الله ـ تعالى ـ وفروا إلى طاعته ، فإنه لا مهرب منه (١).

وقوله : (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) تعليل للأمر بالفرار ، أى : أسرعوا إلى طاعة الله ـ تعالى ـ إنى لكم من عقابه المعد لمن يصر على معصيته نذير بيّن الإنذار.

ثم أكد ـ سبحانه ـ هذا الإنذار ، ونهى عن التقاعس فقال : (وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) أى : واحذروا أن تجعلوا مع الله ـ تعالى ـ إلها آخر ، في العبادة أو الطاعة (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ) ـ سبحانه ـ (نَذِيرٌ مُبِينٌ).

فالآية الأولى كان التعليل فيها للأمر بالفرار إلى الله ـ تعالى ـ والثانية كان التعليل فيها للنهى عن الإشراك به ـ سبحانه ـ.

وبذلك ترى أن هذه الآيات الكريمة ، قد بينت جانبا من الدلائل على قدرة الله ـ تعالى ـ وأمرت الناس بإخلاص العبادة لله ، ونهت عن الإشراك به.

ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة ، ببيان مواقف الأقوام من رسلهم ، وببيان الوظيفة التي أوجد الله ـ تعالى ـ الناس من أجلها فقال :

__________________

(١) راجع تفسير الفخر الرازي ج ٧ ص ٦٥٥.

٢٧

(كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٥٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (٥٤) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (٥٥) وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (٥٦) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧) إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥٨) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (٥٩) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) (٦٠)

وقوله : (كَذلِكَ) خبر لمبتدأ محذوف. أى : الأمر كذلك ، واسم الإشارة مشار به إلى الكلام الذي سيتلوه ، إذ أن ما بعده وهو قوله : (ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ) تفسير له. أى : الأمر ـ أيها الرسول الكريم ـ كما نخبرك ، من أنه ما أتى الأقوام الذين قبل قومك من رسول يدعوهم إلى عبادتنا وطاعتنا ، إلا وقالوا له ـ كما قال قومك في شأنك ـ هو ـ ساحر أو مجنون.

والمقصود بالآية الكريمة تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما أصابه من مشركي قريش ، حيث بين له ـ سبحانه ـ أن الرسل السابقين قد كذبتهم أممهم ، فصبروا حتى أتاهم نصره ـ سبحانه ـ.

ثم أضاف ـ سبحانه ـ إلى هذه التسلية تسلية أخرى فقال : (أَتَواصَوْا بِهِ)؟ والضمير المجرور يعود إلى القول المذكور ، والاستفهام للتعجيب من أحوالهم. أى : أوصى السابقون اللاحقين أن يقولوا لكل رسول يأتيهم من ربهم. أنت ـ أيها الرسول ـ ساحر أو مجنون؟

وقوله ـ سبحانه ـ : (بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) إضراب عن تواصيهم إضراب إبطال ، لأنهم لم يجمعهم زمان واحد حتى يوصى بعضهم بعضا ، وإنما الذي جمعهم تشابه القلوب ، والالتقاء على الكفر والفسوق والعصيان.

٢٨

أى : أوصى بعضهم بعضا بهذا القول القبيح؟ كلا لم يوص بعضهم بعضا لأنهم لم يتلاقوا ، وإنما تشابهت قلوبهم ، فاتحدت ألسنتهم في هذا القول المنكر.

ثم تسلية ثالثة نراها في قوله ـ تعالى ـ : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) أى : فأعرض عنهم وعن جدالهم ، وسر في طريقك الذي رسمه الحكيم الخبير لك.

(فَما أَنْتَ) أيها الرسول الكريم ـ (بِمَلُومٍ) على الإعراض عنهم ، وما أنت بمعاتب منا على ترك مجادلتهم.

(وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) أى : أعرض عن هؤلاء المشركين ، وداوم على التذكير والتبشير والإنذار مهما تقول المتقولون ، فإن التذكير بما أوحيناه إليك من هدايات سامية ، وآداب حكيمة .. ينفع المؤمنين ، ولا ينفع غيرهم من الجاحدين.

ثم بين ـ سبحانه ـ الوظيفة التي من أجلها أوجد الله ـ تعالى ـ الجن والإنس فقال : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).

وللعلماء في تفسير هذه الآية أقوال منها : أن معناها : إنى ما أوجدت الجن والإنس إلا وهم مهيئون لعبادتي وطاعتي. بسبب ما ركبت فيهم من عقول تعقل ، وبسبب ما أرسلت إليهم من رسل يهدونهم إلى الخير ، فمنهم من أطاع الرسل ، وجرى على مقتضى ما تقتضيه الفطرة ، فآمن بالرسل ، واتبع الحق والرشد ، ففاز وسعد ، ومنهم من أعرض عن دعوة الرسل ، وعاند فطرته وموجب استعداده فخسر وخاب.

ومنهم من يرى أن معناها : إنى ما خلقت الجن والإنس إلا ليقروا لي بالعبودية طوعا أو كرها ، لأن المؤمن يطيع باختياره ، والكافر مذعن منقاد لقضاء ربه ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) (١).

ومنهم من يرى معناها : إنى ما خلقت الجن والإنس إلا ليعرفونى.

قال القرطبي ما ملخصه : قوله ـ تعالى ـ : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) قيل : إن هذا خاص فيمن سبق في علم الله أنه يعبده. فجاء بلفظ العموم ومعناه الخصوص .. فالآية في المؤمنين منهم.

وقال على ـ رضى الله عنه ـ : أى : وما خلقت الجن والإنس إلا لآمرهم بعبادتي قال ـ تعالى ـ (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ).

__________________

(١) سورة الرعد آية ١٥.

٢٩

وقيل : (إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) أى : إلا ليقروا لي بالعبادة طوعا أو كرها (١).

ويبدو لنا أن أرجح هذه الأقوال هو ما أشرنا إليه أولا ، من أن معنى الآية الكريمة ، أن الله ـ تعالى ـ قد خلق الثقلين لعبادته وطاعته ، ولكن منهم من أطاعه ـ سبحانه ـ ، ومنهم من عصاه. لاستحواذ الشيطان عليه.

قال الإمام ابن كثير بعد أن ذكر جملة من الأقوال : ومعنى الآية أنه ـ تعالى ـ خلق العباد ليعبدوه وحده لا شريك له ، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء ، ومن عصاه عذبه أشد العذاب.

وفي الحديث القدسي : قال الله ـ عزوجل ـ «يا ابن آدم ، تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى ، وأسد فقرك ، وإلا تفعل ملأت صدرك شغلا ، ولم أسد فقرك ...».

وفي بعض الكتب الإلهية. يقول الله ـ تعالى ـ «يا ابن آدم ، خلقتك لعبادتي فلا تلعب ، وتكفلت برزقك فلا تتعب ، فاطلبنى تجدني. فإن وجدتني وجدت كل شيء ، وإن فتك فاتك كل شيء ، وأنا أحب إليك من كل شيء» (٢).

ثم بين ـ سبحانه ـ أنه غنى عن العالمين فقال : (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) أى : ما أريد منهم منفعة أو رزقا كما يريد الناس بعضهم من بعض .. وما أريد منهم طعاما ولا شرابا ، فأنا الذي أطعم ولا أطعم كما قال ـ سبحانه ـ : (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا ، فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) (٣).

قال الآلوسى : والآية لبيان أن شأنه ـ تعالى ـ مع عباده ليس كشأن السادة مع عبيدهم ، لأنهم إنما يملكونهم ليستعينوا بهم في تحصيل معايشهم وأرزاقهم ، ومالك العبيد نفى أن يكون ملكه إياهم لذلك ، فكأنه ـ سبحانه ـ يقول : ما أريد أن أستعين بهم ، كما يستعين ملاك العبيد بعبيدهم ، فليشتغلوا بما خلقوا له من عبادتي (٤).

ثم بين ـ سبحانه ـ أنه هو صاحب القوة والرزق فقال : (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) أى : إن الله ـ تعالى ـ هو الرزاق لغيره دون أحد سواه ، وهو ـ سبحانه ـ صاحب القوة التي لا تشبهها قوة ، وهو المتين أى : الشديد القوة ـ أيضا ـ فهو صفة للرزاق ، أو لقوله : (ذُو) ، أو خبر مبتدأ محذوف. وهو مأخوذ من المتانة بمعنى القوة الفائقة.

__________________

(١) راجع تفسير القرطبي ج ١٧ ص ٥٦.

(٢) راجع تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٤٠١.

(٣) سورة الأنعام الآية ١٤.

(٤) تفسير الآلوسى ج ٢٧ ص ٢٢.

٣٠

ثم بين ـ سبحانه ـ سوء عاقبة الظالمين فقال : (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ).

والذّنوب في الأصل : الدلو العظيمة المملوءة ماء ، ولا يقال لها ذنوب إذا كانت فارغة. وجمعها ذنائب ، كقلوص وقلائص ، وكانوا يستسقون الماء فيقسمونه بينهم على الأنصباء. فيكون لهذا ذنوب ، ولهذا ذنوب. فالمراد بالذنوب هنا : النصيب ، والمعنى : فإن للذين ظلموا أنفسهم بعبادتهم لغير الله ، وبظلمهم لغيرهم ، نصيبا من العذاب ، مثل نصيب نظرائهم في الظلم والكفر ، فلا يستعجلون عذابي ، فإنه نازل بهم في الوقت الذي أريد.

(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) أى : فهلاك للذين كفروا ، هذا الهلاك سيكون في اليوم الذي توعدتهم بالهلاك فيه ، والذي هو نازل بهم بلا ريب أو شك.

وبعد : فهذا تفسير لسورة «الذاريات» ، نسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعله خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

القاهرة ـ مدينة نصر

د. محمد سيد طنطاوى

مساء السبت ٢١ جمادى الأولى ١٤٠٦ ه‍ ١ / ٢ / ١٩٨٦ م

٣١
٣٢

تفسير

سورة الطّور

٣٣
٣٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدمة وتمهيد

١ ـ سورة «الطور» من السور المكية الخالصة ، وعدد آياتها تسع وأربعون آية في الكوفي والشامي ، وثمان وأربعون في البصري ، وسبع وأربعون في المصحف الحجازي.

وهذه السورة من السور التي كان النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يقرأ بها كثيرا في صلاته.

روى الشيخان عن جبير بن مطعم قال : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ في المغرب بالطور ، فما سمعت أحدا أحسن صوتا أو قراءة منه.

وروى البخاري عن أم سلمة قالت : شكوت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنى اشتكى. فقال : طوفي من وراء الناس وأنت راكبة ، فطفت ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلى إلى جنب البيت ، يقرأ بالطور وكتاب مسطور (١).

٢ ـ وتفتتح سورة «الطور» بقسم من الله ـ تعالى ـ ببعض مخلوقاته على أن البعث حق ، وعلى أن الجزاء حق ، وعلى أن كل ذلك كائن يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات.

تفتتح بهذا الافتتاح الذي يبعث الوجل والخوف في النفوس فتقول : (وَالطُّورِ. وَكِتابٍ مَسْطُورٍ. فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ. وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ ، وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ. وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ. إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ. ما لَهُ مِنْ دافِعٍ).

٣ ـ وكعادة القرآن الكريم في المقارنة بين الأخيار والأشرار ، يأتى الحديث عن حسن عاقبة المؤمنين ، بعد الحديث عن سوء عاقبة المكذبين ، فيقول ـ سبحانه ـ : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ. فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ ، وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ. كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

٤ ـ ثم تنتقل السورة الكريمة إلى الحديث عن مفتريات المشركين وأكاذيبهم ، فتحكيها

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٤٠٤.

٣٥

بأمانة. وتقذف بالحق الذي أوحاه ـ سبحانه ـ إلى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا بتلك المفتريات والأكاذيب زاهقة وباطلة ، وتسوق ذلك بأسلوب ساحر خلاب فتقول : (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ. قُلْ تَرَبَّصُوا ، فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ. أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا ، أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ. أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ ، بَلْ لا يُؤْمِنُونَ. فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ).

٥ ـ ثم تختتم السورة الكريمة بما يسلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبما يرسم له العلاج الشافي فتقول : (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا ، وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ. وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ).

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

د. محمد سيد طنطاوى

٣ من جمادى الآخرة سنة ١٤٠٦ ه‍

١٢ من فبراير سنة ١٩٨٦ م

٣٦

التفسير

قال الله ـ تعالى ـ :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالطُّورِ (١) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (٦) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (٧) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (٨) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (٩) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (١٠) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (١٣) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٤) أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (١٥) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٦)

افتتح الله ـ تعالى ـ هذه السورة الكريمة بالقسم بخمسة أشياء هي من أعظم مخلوقاته ، للدلالة على كمال قدرته ، وبديع صنعته ، وتفرد ألوهيته .. فقال ـ سبحانه ـ : (وَالطُّورِ) والمراد به جبل الطور ، والمشار إليه في قوله ـ تعالى ـ : (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ. وَطُورِ سِينِينَ).

قال القرطبي : والطور : اسم الجبل الذي كلم الله ـ تعالى ـ عليه موسى. أقسم الله به تشريفا وتكريما له ، وتذكيرا لما فيه من الآيات ... وقيل : إن الطور اسم لكل جبل أنبت ، ومالا ينبت فليس بطور (١).

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٧ ص ٥٨.

٣٧

(وَكِتابٍ مَسْطُورٍ) أى مكتوب متسق الكتابة ، منتظم الحروف ، مرتب المعاني ، فالمراد بالكتاب : المكتوب. وبالمسطور : الذي سطرت حروفه وكلماته تسطيرا جميلا حسنا.

والأظهر أن المقصود به القرآن الكريم ، لأن الله ـ تعالى ـ قد أقسم به كثيرا ، ومن ذلك قوله ـ سبحانه ـ (حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ* يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ).

وقيل : المقصود به : جنس الكتب السماوية المنزلة. وقيل : صحائف الأعمال.

قال الآلوسى : قوله : (وَكِتابٍ مَسْطُورٍ) أى : مكتوب على وجه الانتظام ، فإن السطر ترتيب الحروف المكتوبة. والمراد به على ما قال الفراء : الكتاب الذي تكتب فيه الأعمال ، ويعطاه العبد يوم القيامة بيمينه أو بشماله ، وقال الكلبي : هو التوراة. وقيل : القرآن الكريم وقيل : اللوح المحفوظ (١).

وقوله : في (رَقٍّ مَنْشُورٍ) متعلق بمسطور. أى : مسطور في رق. والرق ـ بالفتح ـ كل ما يكتب فيه من ألواح وغيرها. وأصله : الجلد الرقيق الذي يكتب عليه.

والمنشور : المبسوط ، ومنه قوله ـ تعالى ـ : (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً).

أى : أن هذا الكتاب المسطور ، كائن في صحائف مبسوطة ظاهرة لكل من ينظر إليها.

وقوله : (وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) هو بيت في السماء السابعة تطوف به الملائكة بأمر الله ـ تعالى ـ.

قال ابن كثير : ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في حديث الإسراء والمعراج ، بعد مجاوزته إلى السماء السابعة : «ثم رفع بي إلى البيت المعمور ، وإذا هو يدخله في كل يوم سبعون ألفا من الملائكة» (٢).

وقيل المراد بالبيت المعمور هنا : البيت الحرام ، وسمى بذلك لأنه معمور بالحجاج والعمار ، (وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) ، أى : والسماء المرفوعة ، وسميت سقفا لكونها بمثابة السقف للأرض كما قال ـ تعالى ـ (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ).

(وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) أى : المملوء بالماء ، يقال ، سجر فلان الحوض إذا ملأه بالماء.

أو المسجور : بمعنى : المملوء بالنار من السّجر ، وهو إيقاد النار في التنور ، ومنه قوله ـ تعالى ـ : (... ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ).

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٧ ص ٢٧.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٤٠٣.

٣٨

والمراد بالبحر هنا : جنسه. قال ابن عباس : تملأ البحار كلها يوم القيامة بالنار ، فيزاد بها في نار جهنم.

وبهذا نرى أن الله ـ تعالى ـ قد أقسم بخمسة أشياء من مخلوقاته ، للدلالة على وحدانيته ، وعلى شمول قدرته ، وعلى بديع صنعته.

وجواب هذا القسم قوله ـ سبحانه ـ : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ) أى : وحق هذه المخلوقات الضخمة البديعة ، إن عذاب ربك لواقع وقوعا لا شك فيه على الكافرين يوم القيامة.

وقوله : (ما لَهُ مِنْ دافِعٍ) خبر ثان لإن في قوله : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ) أى : هو واقع دون أن يستطيع أحد أن يدفعه أو يرده.

عن جبير بن مطعم ـ رضى الله عنه ـ قال : قدمت المدينة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأكلمه في أسارى بدر ، فجئت إليه وهو يصلى بأصحابه صلاة المغرب ، فسمعته يقرأ (وَالطُّورِ) إلى (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ، ما لَهُ مِنْ دافِعٍ) فكأنما صدع قلبي ، فأسلمت خوفا من نزول العذاب وما كنت أظن أن أقوم مقامي ... (١).

والظرف في قوله : (يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً) متعلق بقوله (لَواقِعٌ) ومنصوب به ، أى : إن هذا العذاب لواقع يوم تضطرب السماء اضطرابا شديدا ، وتتحرك بمن فيها تحركا تتداخل معه أجزاؤها.

فالمور. هو الحركة والاضطراب والدوران ، والمجيء والذهاب ، والتموج والتكفّؤ ، يقال : مار الشيء مورا ، إذا تحرك واضطرب.

(وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً) أى عذاب ربك واقع يوم تضطرب السماء بأهلها وتزول الجبال عن أماكنها ، وتتطاير كالسحب ، ثم تتفتت كالرمال ، ثم تصير كالصوف المنفوش.

قال ـ تعالى ـ : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ ، صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) (٢).

وقال ـ سبحانه ـ : (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ. وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ. وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) (٣).

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٧ ص ٢٩.

(٢) سورة النمل الآية ٨٨.

(٣) سورة المعارج الآيات من ٨ ـ ١٠.

٣٩

وقوله : (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أى : فهلاك وحسرة في هذا اليوم للمكذبين به.

(الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ) أى : إذا كان الأمر كما ذكرنا لك ـ أيها العاقل ـ فهلاك وحسرة في هذا اليوم للمكذبين بالحق ، الذين هم عاشوا حياتهم الدنيا يلهون ويلعبون دون أن يذكروا حسابا ولا ثوابا ولا عقابا.

وأصل الخوض : المشي في الماء ، ثم غلب استعماله في الاندفاع في كل باطل.

ثم بين ـ سبحانه ـ حالهم يوم القيامة فقال : (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا ، هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ).

والدع : الدفع بعنف وشدة. يقال : دعّ فلان فلانا دعّا ، إذا دفعه بجفوة وغلظة ، ومنه قوله ـ تعالى ـ : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ. فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ).

أى : اذكر ـ أيها العاقل ـ لتعتبر وتتعظ ، يوم يدفع هؤلاء المكذبون إلى النار دفعا قويا. لا رحمة معه ، ولا شفقة فيه ، ثم يقال لهم بعد هذا الطرد الشديد : هذه هي النار التي كنتم بها تكذبون في الدنيا ، ادخلوها فبئس مثوى المتكبرين.

ثم يقال لهم ـ أيضا ـ على سبيل التوبيخ والزجر : (أَفَسِحْرٌ هذا) أى أفسحر هذا الذي ترونه من العذاب كما كنتم تزعمونه في الدنيا؟

(أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ) أى : أم أنتم عمى عن مشاهدة العذاب المعد لكم فلا تبصرونه؟ لا ، إن هذا العذاب ليس سحرا ، ولستم أنتم بمحجوبين عن رؤيته ، بل هو أمام أعينكم ، ومهيأ لاستقبالكم ، وهذه النار تناديكم ، وملائكتنا تقول لكم :

(اصْلَوْها) أى : ادخلوها ، وقاسوا حرها (فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا) أى : ادخلوها داخرين فاصبروا على سعيرها أو لا تصبروا ، فهي مأواكم لا محالة.

(سَواءٌ عَلَيْكُمْ) الأمران ، الصبر وعدمه ، لأن كليهما لا فائدة لكم من ورائه.

فقوله : (سَواءٌ عَلَيْكُمْ) خبر لمبتدأ محذوف. أى : الأمران سواء بالنسبة لكم.

(إِنَّما تُجْزَوْنَ) في هذا اليوم عاقبة ، (ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أى : في الدنيا.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : لم علل استواء الصبر وعدمه بقوله : (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)؟

قلت : لأن الصبر إنما يكون له مزية على الجزع ، لنفعه في العاقبة بأن يجازى عليه الصابر

٤٠