التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٤

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٤

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0694-9
الصفحات: ٤٨٧

وشبه حال الدنيا بسرعة تقضّيها ، مع قلة جدواها ، بنبات أنبته الغيث فاستوى واكتمل ، وأعجب به الكفار الجاحدون لنعمة الله ، فيما رزقهم من الغيث ، والنبات .. فبعث عليه العاهة فهاج واصفر وصار حطاما (١).

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة ببيان عظم الآخرة ، وهوان الدنيا فقال : (وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ) أى : لمن كفر بالله ـ تعالى ـ وفسق عن أمره.

(وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ) أى : لمن آمن بالله ـ تعالى ـ واتبع ما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحافظ على أداء ما كلف به بإخلاص وحسن اقتداء.

(وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) أى : وما أحوال الحياة الدنيا وما اشتملت عليه من شهوات ، إلا متاع زائل ، لا يقدم عليه ، ولا يتشبع به إلا من خدع بزخرفه ، واغتر بمظهره.

فالمراد بالغرور : الخديعة ، مصدر غره. أى : خدعه وأطمعه بالباطل.

ثم أمرهم ـ سبحانه ـ بالمسارعة الى ما يسعدهم ، بعد أن بين لهم حال الحياة الدنيا فقال : (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ).

وقوله ـ تعالى ـ (سابِقُوا) من المسابقة وهي محاولة أن يسبق الإنسان غيره.

و (مِنْ) في قوله (مِنْ رَبِّكُمْ) ابتدائية ، والجار والمجرور صفة المغفرة.

أى : سارعوا ـ أيها المؤمنون ـ مسارعة السابقين لغيرهم ، إلى مغفرة عظيمة كائنة من ربكم.

فالتعبير بقوله : (سابِقُوا) لإلهاب الحماس وحض النفوس إلى الاستجابة لما أمروا به ، حتى لكأنهم في حالة مسابقة يحرص كل قرين فيها إلى أن يسبق قرينه.

وقوله : (وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ...) معطوف على المغفرة. أى : سابقوا غيركم ـ أيها المؤمنون ـ إلى مغفرة عظيمة من ربكم ، وإلى جنة كريمة ؛ هذه الجنة عرضها وسعتها ورحابتها .. كسعة السماء والأرض.

وهذه الجنة قد (أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) إيمانا حقا ، جعلهم لا يقصرون في أداء واجب من الواجبات التي كلفهم ـ سبحانه ـ بها.

قال الإمام الفخر الرازي ما ملخصه : في كون الجنة عرضها كعرض السماء والأرض وجوه :.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٦٥.

٢٢١

منها : أن المراد لو جعلت السموات والأرضون طبقا طبقا ... لكان ذلك مثل عرض الجنة ، وهذا غاية في السعة لا يعلمها إلا الله ـ تعالى ـ.

ومنها : أن المقصود المبالغة في الوصف بالسعة للجنة ، وذلك لأنه لا شيء عندنا أعرض منهما (١).

وخص ـ سبحانه ـ العرض بالذكر ، ليكون أبلغ في الدلالة على عظمها ، واتساع طولها ، لأنه إذا كان عرضها كهذا ، فإن العقل يذهب كل مذهب في تصور طولها ، فقد جرت العادة أن يكون الطول أكبر من العرض.

قال الإمام ابن كثير : وقد روينا في مسند الإمام أحمد أن هرقل ـ ملك الروم ـ كتب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إنك دعوتني إلى جنة عرضها السموات والأرض ، فأين النار؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سبحان الله ، فأين الليل إذا جاء النهار» (٢).

واسم الإشارة في قوله ـ تعالى ـ : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) يعود إلى الذي وعد الله ـ تعالى ـ به عباده المؤمنين من المغفرة والجنة.

أى : ذلك العطاء الجزيل فضل الله ـ تعالى ـ وحده وهو صاحب الفضل العظيم لا يعلم مقداره إلا هو ـ عزوجل ـ.

فأنت ترى أن الله ـ تعالى ـ بعد أن بين حال الحياة الدنيا. دعا المؤمنين إلى المسابقة إلى العمل الصالح ، الذي يوصلهم الى ما هو أكرم وأبقى ... وهو الجنة.

وشبيه بهاتين الآيتين قوله ـ تعالى ـ : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ. قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ ...) (٣).

ثم بين ـ سبحانه ـ أن كل شيء في هذه الحياة ، خاضع لقضاء الله ـ تعالى ـ وقدره ، وأن على المؤمن الصادق أن يكون شاكرا عند الرخاء ، صابرا عند البلاء ... فقال ـ تعالى ـ :

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ

__________________

(١) راجع تفسير الفخر الرازي ج ٩ ص ٤.

(٢) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٤٠٤.

(٣) سورة آل عمران الآيات ١٤ ـ ١٧.

٢٢٢

مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٢٢) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (٢٣) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (٢٤)

و (ما) في قوله ـ تعالى ـ (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ) نافية ، و (مِنْ) مزيدة لتأكيد هذا النفي وإفادة عمومه. ومفعول «أصاب» محذوف. وقوله (فِي الْأَرْضِ) ، إشارة إلى المصائب التي تقع فيها من فقر وقحط ، وزلازل.

وقوله : (وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ) للإشارة إلى ما يصيب الإنسان في ذاته ، كالأمراض ، والهموم.

والاستثناء في قوله ـ تعالى ـ (إِلَّا فِي كِتابٍ) من أعم الأحوال ، والمراد بالكتاب : اللوح المحفوظ ، أو علمه ـ عزوجل ـ الشامل لكل شيء.

وقوله : (نَبْرَأَها) من البرء ـ بفتح الباء ـ بمعنى الخلق والإيجاد ، والضمير فيه يعود إلى النفس ، أو إلى الأرض ، أو إلى جميع ما ذكره الله ـ تعالى ـ من خلق المصائب في الأرض والأنفس.

والمعنى : واعلموا ـ أيها المؤمنون علما يترتب عليه آثاره من العمل الصالح ـ أنه ما أصابكم أو ما أصاب أحدا مصيبة ، هذه المصيبة كائنة في الأرض ـ كالقحط والزلازل ـ أو في أنفسكم ـ كالأسقام والأوجاع ـ إلا وهذه المصائب مسجلة في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ... وهذا التسجيل كائن من قبل أن نخلق هذه الأنفس ، وهذه المصائب.

وكرر ـ سبحانه ـ حرف النفي في قوله (وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ) للإيماء إلى أن المصائب التي تتعلق بذات الإنسان ، يكون أشد تأثرا واهتماما بها ، أكثر من غيرها.

واسم الإشارة في قوله : (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) يعود إلى الكتابة في الكتاب.

أى : إن ذلك الذي أثبتناه في لوحنا المحفوظ وفي علمنا الشامل لكل شيء .. قبل أن نخلقكم ، وقبل أن نخلق الأرض .. يسير وسهل علينا ، لأن قدرتنا لا يعجزها شيء ، وعلمنا لا يعزب عنه شيء.

٢٢٣

فالآية الكريمة صريحة في بيان أن ما يقع في الأرض وفي الأنفس من مصائب ـ ومن غيرها من مسرات ـ مكتوب ومسجل عند الله ـ تعالى ـ قبل خلق الأرض والأنفس.

وخص ـ سبحانه ـ المصائب بالذكر ، لأن الإنسان يضطرب لوقوعها اضطرابا شديدا ، وكثيرا ما يكون إحساسه بها ، وإدراكه لأثرها ، أشد من إحساسه وإدراكه للمسرات.

ومن الآيات التي تشبه هذه الآية في معناها قوله ـ تعالى ـ : (قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا ، هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ الحكم التي من أجلها فعل ذلك فقال : (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ ، وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ).

فاللام في قوله : (لِكَيْلا تَأْسَوْا ..) متعلقة بمحذوف. وقوله : (تَأْسَوْا) من الأسى ، وهو الحزن والضيق الشديد. يقال : أسى فلان على كذا ـ كفرح ـ فهو يأسى أسى ، إذا حزن واغتم لما حدث ، ومنه قوله ـ تعالى ـ حكاية عن شعيب ـ عليه‌السلام ـ : (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ ، فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ) (٢).

أى : فعلنا ما فعلنا من إثبات ما يصيبكم في كتاب من قبل خلقكم ، وأخبرناكم بذلك ، لكي لا تحزنوا على ما أصابكم من مصائب حزنا يؤدى بكم إلى الجزع ، وإلى عدم الرضا بقضاء الله وقدره ولكي لا تفرحوا بما أعطاكم الله ـ تعالى ـ من نعم عظمى وكثيرة .. فرحا يؤدى بكم إلى الطغيان وإلى عدم استعمال نعم الله ـ تعالى ـ فيما خلقت له .. فإن من علم ذلك علما مصحوبا بالتدبر والاتعاظ ... هانت عليه المصائب ، واطمأنت نفسه لما قضاه الله ـ تعالى ـ وكان عند الشدائد صبورا ، وعند المسرات شكورا.

ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال عند تفسيره لهذه الآية : يعنى : أنكم إذا علمتم أن كل شيء مقدر مكتوب عند الله ، قلّ أساكم على الفائت ، وفرحكم على الآتي ، لأن من علم أن ما عنده مفقود لا محالة ، لم يتفاقم جزعه عند فقده ، لأنه وطن نفسه على ذلك ، وكذلك من علم أن بعض الخير واصل إليه ، وأن وصوله لا يفوته بحال ، لم يعظم فرحه عند نيله.

فإن قلت : فلا أحد يملك نفسه عند مضرة تنزل به ، ولا عند منفعة ينالها ، أن لا يحزن ولا يفرح؟

__________________

(١) سورة التوبة الآية ٥١.

(٢) سورة الأعراف الآية ٩٣.

٢٢٤

قلت : المراد الحزن المخرج إلى ما يذهل صاحبه عن الصبر والتسليم لأمر الله ـ تعالى ـ ورجاء ثواب الصابرين ، والفرح المطغى الملهى عن الشكر.

فأما الحزن الذي لا يكاد الإنسان يخلو منه مع الاستسلام ، والسرور بنعمة الله ، والاعتداد بها مع الشكر ، فلا بأس بهما (١).

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بقوله : (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ).

أى : والله ـ تعالى ـ لا يحب أحدا من شأنه الاختيال بما آتاه ـ سبحانه ـ من نعم دون أن يشكره ـ تعالى ـ عليها ، ومن شأنه ـ أيضا ـ التفاخر والتباهي على الناس بما عنده من أموال وأولاد .. وإنما يحب الله ـ تعالى ـ من كان من عباده متواضعا حليما شاكرا لخالقه ـ عزوجل ـ.

فأنت ترى أن هاتين الآيتين قد سكبتا في قلب المؤمن ، كل معاني الثقة والرضا بقضاء الله في كل الأحوال.

وليس معنى ذلك عدم مباشرة الأسباب التي شرعها الله ـ تعالى ـ لأن ما سجله الله في كتابه علينا قبل أن يخلقنا ، لا علم لنا به. وإنما علمه مرده إليه وحده ـ تعالى ـ.

وهو ـ سبحانه ـ لا يحاسبنا على ما نجهله ، وإنما يحاسبنا على ما أمرنا به ، أو نهانا عنه عن طريق رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وكما سجل ـ سبحانه ـ أحوالنا قبل أن يخلقنا ، فقد شرع الأسباب وأمرنا بمباشرتها. وبين لنا في كثير من آياته ، أن جزاءنا من خير أو شر على حسب أعمالنا.

وعند ما قال بعض الصحابة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أفلا نتكل على ما قدره الله علينا؟

أجابهم بقوله : «اعملوا فكل ميسر لما خلق له».

وقوله ـ سبحانه ـ بعد ذلك : (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) بدل من قوله ـ تعالى ـ : (كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) والمراد بالذين يبخلون : كل من يبخل بماله أو بعلمه .. فكأنه ـ تعالى ـ يقول : والله لا يحب الذين يبخلون بما أعطاهم من فضله ، بخلا يجعلهم لا ينفقون شيئا منه في وجوه الخير ، لأن حبهم لأموالهم جعلهم يمسكونها ويشحون بها شحا شديدا .. ولا يكنفون بذلك ، بل يأمرون غيرهم بالبخل والشح.

وعلى رأس هؤلاء الذين لا يحبهم الله ـ تعالى ـ المنافقون ، فقد كانوا يبخلون بأموالهم عن إنفاق شيء منها في سبيل الله ، وكانوا يتواصون بذلك فيما بينهم ، فقد قال ـ سبحانه ـ

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٦٦.

٢٢٥

في شأنهم : (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا. وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ) (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) تذييل المقصود به ذم هؤلاء البخلاء على بخلهم.

وجواب الشرط محذوف ، أغنت عنه جملة (فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) والغنى : هو الموصوف بالغنى ـ وهي صفة من صفات الله ـ عزوجل ـ إذ هو الغنى غنى مطلقا ، والخلق جميعا في حاجة إلى عطائه ـ سبحانه ـ والحميد : وصف مبالغة من الحمد. والمراد به أنه ـ تعالى ـ كثير الحمد والعطاء للمنفقين في وجوه الخير.

أى : ومن يعرض عن هدايات الله ـ تعالى ـ وعن إرشاداته ... فلن يضر الله شيئا ، فإن الله ـ تعالى ـ هو صاحب الغنى المطلق الذي لا يستغنى عن عطائه أحد ، وهو ـ سبحانه ـ كثير الحمد والعطاء لمن استجاب لأمره فأنفق مما رزقه الله بدون اختيال أو تفاخر أو أذى.

ثم بين ـ سبحانه ـ أن حكمته قد اقتضت أن يرسل رسله إلى الناس ، ليهدوهم إلى طريق الحق ، وأن الناس منهم من اتبع الرسل ، ومنهم من أعرض عنهم ، ومنهم من ابتدع أمورا من عند نفسه لم يرعها حق رعايتها .. فقال ـ تعالى ـ :

(لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢٥) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٦) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ

__________________

(١) سورة المنافقون الآية ٧.

٢٢٦

وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) (٢٧)

والمراد بالبينات في قوله ـ تعالى ـ : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ) الحجج والدلائل التي تشهد لهم بأنهم رسل من عند الله ـ تعالى ـ وتدخل فيها المعجزات دخولا أوليا.

والمراد بالكتاب : جنس الكتب. وتشمل التوراة والإنجيل وغيرهما.

والميزان : الآلة المعروفة بين الناس لاستعمالها في المكاييل وغيرها .. والمراد بها العدل بين الناس في أحكامهم ومعاملاتهم.

وشاع إطلاق الميزان على العدل ، باستعارة لفظ الميزان على العدل ، على وجه تشبيه المعقول بالمحسوس ، والمراد بإنزاله : تبليغه ونشره بين الناس.

أى : بالله لقد أرسلنا رسلنا ، وأيدناهم بالحجج والبراهين الدالة على صدقهم ، وأنزلنا معهم كتبنا السماوية ، بأن بلغناهم إياها عن طريق وحينا ، وأنزلنا معهم العدل بأن أرشدناهم إلى طرقه ، وإلى إعطاء كل ذي حق حقه.

قال ابن كثير : يقول الله ـ تعالى ـ : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ) أى : بالمعجزات ، والحجج الباهرات ، والدلائل القاطعات (وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ) وهو النقل الصدق (وَالْمِيزانَ) وهو العدل أو وهو الحق الذي تشهد به العقول الصحيحة المستقيمة المخالفة للآراء السقيمة (١).

وأكد ـ سبحانه ـ هذا الإرسال ، للرد على أولئك الجاحدين الذين أنكروا نبوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولبيان أنه واحد من هؤلاء الرسل الكرام ، وأن رسالته إنما هي امتداد لرسالتهم .. وقوله ـ تعالى ـ : (لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) علة لما قبله. أى : أرسلنا الرسل. وأنزلنا الكتاب وشرعنا العدل ، ليقوم الناس بنشر ما يؤدى إلى صلاح بالهم ، واستقامة أحوالهم ، عن طريق التزامهم بالحق والقسط في كل أمورهم.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٣١٤.

٢٢٧

قال الآلوسى : «والقيام بالقسط» أى : بالعدل ، يشمل التسوية في أمور التعامل باستعمال الميزان ، وفي أمور المعاد باحتذاء الكتاب ، وهو ـ أى : القسط ـ لفظ جامع مشتمل على جميع ما ينبغي الاتصاف به ، معاشا ومعادا (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) معطوف على ما قبله.

والمراد بإنزال الحديد : خلقه وإيجاده. وتهيئته للناس ، والإنعام به عليهم ، كما في قوله ـ سبحانه ـ (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) (٢).

والمراد بالبأس الشديد : القوة الشديدة التي تؤدى إلى القتل وإلحاق الضرر بمن توجه إليه ، أى : لقد أرسلنا رسلنا بالأدلة الدالة على صدقهم ، وأنزلنا معهم ما يرشد الناس إلى صلاحهم.

وأوجدنا الحديد ، وأنعمنا به عليكم ، ليكون قوة شديدة لكم في الدفاع عن أنفسكم ، وفي تأديب أعدائكم ، وليكون كذلك مصدر منفعة لكم في مصالحكم وفي شئون حياتكم.

فمن الحديد تكون السيوف وآلات الحرب .. ومنه ـ ومعه غيره ـ تتكون القصور الفارهة ، والمبانى العالية الواسعة ، والمصانع النافعة .. وآلات الزراعة والتجارة.

فالآية الكريمة تلفت أنظار الناس إلى سنة من سنن الله ـ تعالى ـ قد أرسل الرسل وزودهم بالهدايات السماوية التي تهدى الناس إلى ما يسعدهم .. وزودهم ـ أيضا ـ بالقوة المادية التي تحمى الحق الذي جاءوا به وترد كيد الكائدين له في نحورهم ، وترهب كل من يحاول الاعتداء عليه ، كما قال ـ تعالى ـ : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ ، تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) (٣).

ورحم الله الإمام ابن كثير فقد قال عند تفسيره لهذه الآية : ما ملخصه : أى : وجعلنا الحديد رادعا لمن أبى الحق ، وعانده بعد قيام الحجة عليه ، ولهذا أقام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة ثلاث عشرة سنة ، تنزل عليه السور المكية ، لبيان أن دين الله حق.

فلما قامت الحجة على من خالفه ، شرع الله القتال بعد الهجرة ، حماية للحق ، وأمرهم بضرب رقاب من عاند الحق وكذبه.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٧ ص ١٨٨.

(٢) سورة الزمر الآية ٦.

(٣) سورة الأنفال الآية ٦٠.

٢٢٨

وقد روى الإمام أحمد عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له. وجعل رزقي تحت ظل رمحي ، وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمرى ، ومن تشبه بقوم فهو منهم.

ولهذا قال ـ تعالى ـ : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) يعنى السلاح كالسيف والحراب.

(وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) أى : في معايشهم كالفأس والقدوم .. وغير ذلك (١).

هذا ، ومن المفسرين الذين فصلوا القول في منافع الحديد ، وفي بيان لما ذا خصه الله ـ تعالى ـ بالذكر : الإمام الفخر الرازي فقد قال ـ رحمه‌الله ـ ما ملخصه : ثم إن الحديد لما كانت الحاجة إليه شديدة ، جعله الله سهل الوجدان ، كثير الوجود. والذهب لما كانت حاجة الناس إليه قليلة ، جعله الله ـ تعالى ـ عزيز الوجود.

وبهذا تتجلى رحمة الله على عباده ، فإن كل شيء كانت حاجتهم إليه أكثر جعل الحصول عليه أيسر.

فالهواء ـ وهو أعظم ما يحتاج الإنسان إليه ـ جعل الله تعالى ـ الحصول عليه سهلا ميسورا .. فعلمنا من ذلك أن كل شيء كانت الحاجة إليه أكثر ، كان وجدانه أسهل.

ولما كانت الحاجة إلى رحمة الله ـ تعالى ـ أشد من الحاجة إلى كل شيء ، فنرجوه من فضله أن يجعلها أسهل الأشياء وجدانا ، كما قال الشاعر :

سبحان من خص العزيز بعزة

والناس مستغنون عن أجناسه

وأذل أنفاس الهواء وكل ذي

نفس ، فمحتاج إلى أنفاسه (٢)

وقوله : ـ سبحانه ـ : (وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ..) معطوف على محذوف يدل عليه السياق.

والمراد بقوله : (وَلِيَعْلَمَ) أى : وليظهر علمه ـ تعالى ـ للناس ، حتى يشاهدوا آثاره.

أى : وأنزل ـ سبحانه ـ الحديد لكي يستعملوه في الوجوه التي شرعها الله وليظهر ـ سبحانه ـ أثر علمه حتى يشاهد الناس ، من الذي سيتبع الحق منهم ، فينصر دين الله ـ تعالى ـ وينصر رسله ، ويستعمل نعمه فيما خلقت له حالة كونه لا يرى الله ـ تعالى ـ

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٣١٥.

(٢) راجع تفسير الفخر الرازي ج ٢٩ ص ٢٤٣.

٢٢٩

بعينيه ، وإنما يتبع أمره ، ويؤمن بوحدانيته ووجوده وعلمه وقدرته .. عن طريق ما أوحاه ـ سبحانه ـ إلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فقوله : (بِالْغَيْبِ) حال من فاعل (يَنْصُرُهُ).

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بقوله : (إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) أى : أن الله ـ تعالى ـ هو المتصف بالقوة التي ليس بعدها قوة وبالعزة التي لا تقاربها عزة.

وختمت الآية بهذا الختام ، لأنه هو المناسب لإرسال الرسل ، ولإنزال الكتب والحديد الذي فيه بأس شديد ومنافع للناس.

فكان هذا الختام تعليل لما قبله. أى : لأن الله ـ تعالى ـ قوى في أخذه عزيز في انتقامه فعل ما فعل من إرسال الرسل ، ومن إنزال الحديد.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ ..) معطوف على جملة : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ) عطف الخاص على العام.

أى : لقد أرسلنا رسلا كثيرين .. وبالله لقد أرسلنا نوحا وإبراهيم ، وجعلنا في ذريتهما عددا من الأنبياء ، وأوحينا إليهم كتبنا ، التي تهدى أقوامهم إلى طريق الحق ، كالتوراة التي أنزلناها على موسى ، وكالزبور الذي أنزلناه على داود.

وخص ـ سبحانه ـ نوحا وإبراهيم ـ عليهما‌السلام ـ بالذكر ، لشهرتهما ولأن جميع الأنبياء من نسلمها.

والضمير في قوله ـ تعالى ـ : (فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) أى : فمن ذريتهم من اهتدى إلى الدين الحق ، وآمن به ، وقام بأداء تكاليفه. وكثير من أفراد هذه الذرية فاسقون. أى : خارجون عن الاهتداء إلى الحق ، منغمسون في الكفر والضلال.

(ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) والتقفيه إتباع الرسول برسول آخر يقال : قفا فلان أثر فلان .. إذا اتبعه ، وقفى على أثره بفلان ، إذا اتبعه إياه .. وأصله من القفا وهو مؤخر العنق .. فكأن الذي يتبع أثر غيره قد أتاه من جهة قفاه.

وضمير الجمع في قوله (عَلى آثارِهِمْ) يعود إلى نوح وإبراهيم وذريتهما الذين كانت فيهم النبوة والكتاب.

أى : ثم أرسلنا بعدهم رسولا بعد رسول. حتى انتهينا إلى عيسى ـ عليه‌السلام ـ (وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ) أى : أوحيناه إليه ليكون هداية لقومه.

٢٣٠

قالوا : والإنجيل كلمة يونانية من النجل وهو الأصل ، يقال : رحم الله ناجليه ، أى : والديه ، وقيل : الإنجيل مأخوذ من نجلت الشيء إذا استخرجته وأظهرته. ويقال للماء الذي يخرج من البئر : نجل. وقيل هو من النجل الذي هو سعة العين ، ومنه قولهم : طعنة نجلاء ، أى : واسعة.

وسمى الإنجيل بهذا الاسم ، لأنه سعة ونور وضياء ، أنزله الله ـ تعالى ـ على نبيه عيسى ، ليكون بشارة وهداية لقومه (١).

وأعاد ـ سبحانه ـ مع عيسى ـ عليه‌السلام ـ كلمة (وَقَفَّيْنا) للإشعار بأن المسافة التي كانت بين عيسى ـ عليه‌السلام ـ وبين آخر رسول من بنى إسرائيل كانت مسافة طويلة.

ثم بين ـ سبحانه ـ بعض السمات التي كانت واضحة في أتباع عيسى فقال : (وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ).

والرأفة : اللين وخفض الجناح ، والرحمة. العطف والشفقة.

قالوا : وعطف الرحمة على الرأفة من باب عطف العام على الخاص ، لأن الرأفة ، رحمة خاصة ، تتعلق بدفع الأذى والضر. أما الرحمة فهي أشمل وأعم ، لأنها عطف وشفقة على كل من كان في حاجة إليها.

و «الرهبانية» معناها الفعلة المنسوبة إلى الرهبان. وهم النصارى المبالغون في الرهبة والخوف من الله ـ تعالى ـ والزهد في متاع الحياة الدنيا.

قال بعض العلماء : والرهبانية : اسم للحالة التي يكون عليها الراهب متصفا بها في غالب شئون دينه ، والياء فيها ياء النسبة إلى الراهب على غير قياس ، لأن قياس النسب إلى الراهب : الراهبية ، والنون فيها مزيدة للمبالغة في النسبة ، كما زيدت في قولهم : شعرانى ، لكثير الشعر ، ولحياني لعظيم اللحية (٢).

وقوله ـ تعالى ـ : ورهبانية ابتدعوها .. منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر.

أى : وابتدعوا رهبانية ابتدعوها ، فهو من باب الاشتغال.

ويصح أن يكون معطوفا على قوله : (رَأْفَةً وَرَحْمَةً) وقوله : (ابْتَدَعُوها) في موضع

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٧ ص ١٧١.

(٢) تفسير التحرير والتنوير ج ٢٧ ص ٢٤١ للشيخ محمد الطاهر ابن عاشور. ـ رحمه‌الله ـ.

٢٣١

الصفة ، والكلام على حذف مضاف ، أى : وجعلنا في قلوبهم رأفة ورحمة ورهبانية مبتدعة لهم.

وجملة : ما كتبناها عليهم ، مستأنفة مبينة لجملة (ابْتَدَعُوها).

والاستثناء في قوله : (إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ) منقطع.

والضمير في قوله : (فَما رَعَوْها) يعود لهؤلاء الذين ابتدعوا الرهبانية.

والمعنى : ثم أتبعنا كل رسول من ذرية نوح وإبراهيم برسول آخر ، حتى انتهينا إلى عيسى ـ عليه‌السلام ـ فأرسلناه إلى بنى إسرائيل وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه وآمنوا به (رَأْفَةً) أى لينا وخفض جناح (وَرَحْمَةً) أى : شفقة وعطفا ، وحب رهبانية مبتدعة منهم ، أى : هم الذين ابتدعوها واخترعوها واختاروها لأنفسهم ، زهدا في متاع الحياة الدنيا.

ونحن ما كتبنا عليهم هذه الرهبانية ، وإنما هم الذين ابتدعوها من أجل أن يرضى الله عنهم (فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) أى : ولكنهم بمرور الأيام ، لم يحافظ كثير منهم على ما تقتضيه هذه الرهبانية من زهد وتقى وعفاف .. بل صارت طقوسا خالية من العبادة الصحيحة ، ولم يصبر على تكاليفها إلا عدد قليل منهم.

ولذا ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بقوله : (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ).

أى : أما الذين استمروا على اتباعهم لعيسى ـ عليه‌السلام ـ وعلى الإيمان بالحق إيمانا صحيحا خاليا مما يفسده .. فقد أعطيناهم أجورهم الطيبة كاملة غير منقوصة.

وأما الذين بدلوا ما جاء به عيسى ـ عليه‌السلام ـ حيث كفروا به وقالوا : الله ثالث ثلاثة ، أو قالوا : المسيح ابن الله فسيلقون ما يستحقونه من عقاب.

وقوله : (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) يدل على أن الذين خرجوا عن الدين الحق الذي جاء به عيسى ـ عليه‌السلام ـ وفسقوا عن أمر ربهم .. أكثر من الذين آمنوا به إيمانا صحيحا.

قال الإمام ابن جرير : واختلف أهل التأويل في الذين لم يرعوا الرهبانية حق رعايتها. فقال بعضهم : هم الذين ابتدعوها ، ولم يقوموا بها ، ولكنهم بدلوا وخالفوا دين الله الذي بعث به عيسى ، فتنصروا وتهودوا.

وقال آخرون : بل هم قوم جاءوا من بعد الذين ابتدعوها فلم يرعوها حتى رعايتها ، لأنهم كانوا كفارا .. فهم الذين وصفهم الله بأنهم لم يرعوها حق رعايتها.

وأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يقال : إن الذين وصفهم الله بأنهم لم يرعوا الرهبانية حق

٢٣٢

رعايتها ، بعض الطوائف التي ابتدعتها ، وذلك لأن الله ـ تعالى ـ قد أخبر أنه آتى الذين آمنوا منهم أجرهم ، فدل ذلك على أن منهم من قد رعاها حق رعايتها.

وكثير منهم ـ أى : من الذين ابتدعوا الرهبانية ـ أهل معاص ، وخروج عن طاعة الله ـ تعالى ـ وعن الإيمان به (١).

وقال الإمام الآلوسى ما ملخصه : وقوله ـ تعالى ـ (ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ) جملة مستأنفة.

وقوله ـ سبحانه ـ : (إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ) استثناء منقطع ، أى : ما فرضناها نحن عليهم رأسا ، ولكن ابتدعوها وألزموا بها أنفسهم ابتغاء رضوان الله.

وقوله ـ تعالى ـ : (فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) أى : ما حافظوا عليها حق المحافظة ، ذم لهم من حيث إن ذلك كالنذر ، وهو عهد مع الله ـ تعالى ـ يجب رعايته ، لا سيما إذا قصد به رضاه ـ عزوجل.

وجائز أن يكون الاستثناء متصلا من أعم العلل. أى : ما قضيناها عليهم لشيء من الأشياء ، إلا ليبتغوا بها رضوان الله ، ويستحقوا بها الثواب ، ومن ضرورة ذلك أن يحافظوا عليها .. إلا أنهم لم يحافظوا عليها ، ولم يرعوها حق رعايتها.

والفرق بين الوجهين : أن الأول يقتضى أنهم لم يؤمروا بها أصلا ، وأن الثاني يقتضى أنهم أمروا بها ، لابتغاء رضوان الله ، فما رعوها حق رعايتها.

والظاهر أن الضمير في قوله (فَما رَعَوْها) يعود لأولئك الذين ابتدعوا الرهبانية ، والمراد نفى وقوع الرعاية من جميعهم ، أى : فما رعاها كلهم بل بعضهم (٢).

فالآية الكريمة تثنى على الذين أحسنوا اتباع عيسى ـ عليه‌السلام ـ فطهروا أرواحهم من كل دنس ، وزهدوا في متع الحياة الدنيا .. وتذم الذين بدلوا ما جاء به عيسى ـ عليه‌السلام ـ وقالوا الأقوال الباطلة في شأنه ، وفعلوا الأفعال القبيحة التي تغضب الله ـ تعالى ـ :

ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة بهذا النداء للمؤمنين فقال ـ تعالى :

__________________

(١) راجع تفسير ابن جرير ج ٢٧ ص ٢٣٨.

(٢) راجع تفسير الآلوسى ج ٢٧ ص ١٩١.

٢٣٣

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٨) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (٢٩)

أى : يا من آمنتم بالله ـ تعالى ـ حق الإيمان ، اتقوا الله في كل ما تأتون وما تذرون ، وداوموا على الإيمان برسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واثبتوا على ذلك.

(يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) أى : يعطكم بسبب ذلك نصيبين وضعفين من رحمته ـ سبحانه ـ وفضله.

وأصل الكفل ـ كما يقول القرطبي ـ كساء يكتفل به الراكب فيحفظه من السقوط .. أى يؤتكم نصيبين يحفظانكم من هلكة المعاصي ، كما يحفظ الكفل الراكب من السقوط (١).

(وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) أى : ويجعل لكم بفضله نورا تمشون به يوم القيامة. كما قال ـ تعالى ـ : (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ).

(وَيَغْفِرْ لَكُمْ) أى : ما فرط منكم من ذنوب ، بأن يزيلها عنكم.

(وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أى : واسع المغفرة والرحمة لمن اتقاه وأطاعه.

فأنت ترى أن الله ـ تعالى ـ قد وعد المؤمنين على تقواهم وعلى إيمانهم برسوله ، أن يؤتيهم نصيبين من رحمته .. وأن يجعل لهم نورا يمشون به ، فيهديهم إلى ما يسعدهم في كل شئونهم ، وأن يغفر لهم ما سبق من ذنوبهم .. فضلا منه وكرما.

قالوا : وأعطى الله ـ تعالى ـ للمؤمنين نصيبين من الأجر ، لأن أولهما بسبب إيمانهم بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وثانيهما : بسبب إيمانهم بالرسل السابقين ، كما أعطى مؤمنى أهل الكتاب نصيبين من

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٧ ص ٢٦٦.

٢٣٤

الأجر : أحدهما للإيمان بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والثاني للإيمان ـ بعيسى ـ عليه‌السلام ـ الذي نسخت شريعته بالشريعة المحمدية.

وقوله ـ سبحانه ـ : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ ...)

رد على مزاعم أهل الكتاب أنهم شعب الله المختار ، وأنهم أفضل من الأمة الإسلامية.

قال الجمل ما ملخصه : لما سمع من لم يؤمن من أهل الكتاب قوله ـ تعالى ـ (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا ...) قالوا للمسلمين : أما من آمن منا بكتابكم فله أجره مرتين لإيمانه بكتابنا وكتباكم. ومن لم يؤمن منا بكتابكم فله أجر كأجركم ، فبأى شيء فضلتم علينا؟ فأنزل الله هذه الآية.

ولا زائدة ، واللام متعلقة بمحذوف ، هو معنى الجملة الطلبية المتضمنة لمعنى الشرط ، إذ التقدير : إن تتقوا وتؤمنوا برسوله ، يؤتكم الله من فضله كذا وكذا ـ وقد أعلمناكم بذلك ـ لكي يعلم أهل الكتاب عدم قدرتهم على شيء من فضل الله.

أى : أنهم لا ينالون شيئا مما ذكر من فضله .. كالكفلين من رحمته وكمغفرة الذنوب ـ لأنهم لم يؤمنوا برسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يخلصوا العبادة له ـ عزوجل ـ .. (١).

وقوله ـ سبحانه ـ (وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) مؤكد لما قبله ، ومقرر له.

أى : ليعلم أهل الكتاب عدم قدرتهم على الظفر بشيء من فضل الله إلا إذا آمنوا بالله ورسله .. وليعلموا ـ أيضا ـ أن الفضل والعطاء بيد الله ـ تعالى ـ وحده ، يمنحه لمن يشاء ويختار من عباده ، وهو ـ سبحانه ـ صاحب الفضل الواسع العظيم.

وعلى هذا التفسير الذي سرنا عليه يكون المقصود من الآيتين تحريض المؤمنين من هذه الأمة على الثبات على تقوى الله ـ تعالى ـ واتباع رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كل ما جاء به ، وتبشيرهم بالعطاء الجزيل إذا ما فعلوا ذلك.

والرد على المتفاخرين من أهل الكتاب ، الذين زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه ، وأنهم ليس أحد أفضل منهم ، وأن الأجر ثابت لهم سواء آمنوا بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أم استمروا على كفرهم.

قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهاتين الآيتين : لما افتخر أهل الكتاب بأنهم يؤتون أجرهم

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ٢٩٨.

٢٣٥

مرتين ، أنزل الله هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ ...) في حق هذه الأمة.

وهي كقوله ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ، وَيَغْفِرْ لَكُمْ ، وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).

ومما يؤيد هذا القول ـ أى : أن هذه الآية في حق هذه الأمة ـ ما رواه الإمام أحمد عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : مثلكم ومثل اليهود والنصارى كمثل رجل استعمل عمالا فقال : من يعمل لي من صلاة الصبح إلى نصف النهار على قيراط قيراط؟ ألا فعملت اليهود.

ثم قال : من يعمل لي من صلاة الظهر إلى صلاة العصر على قيراط قيراط؟ ألا فعملت النصارى.

ثم قال : من يعمل لي من صلاة العصر إلى غروب الشمس على قيراطين قيراطين؟ ألا فأنتم الذين عملتم فغضبت النصارى واليهود ، وقالوا : نحن أكثر عملا وأقل عطاء. قال : هل ظلمتكم من أجركم شيئا ، قالوا لا : قال فإنما هو فضلي أوتيه من أشاء (١).

ويرى بعض المفسرين أن الخطاب لمن آمن من أهل الكتاب ، فيكون المعنى : يا من آمنتم بموسى وبعيسى وبمحمد ـ عليهم الصلاة والسلام ـ اتقوا الله وآمنوا برسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واثبتوا على ذلك ، يؤتكم الله ـ تعالى ـ كفلين من رحمته.

وليعلم الذين لم يؤمنوا من أهل الكتاب ، أنهم لن ينالوا شيئا مما ناله المؤمنون منهم.

ومن المفسرين الذين ساروا على هذا التفسير الإمام ابن جرير ، فقد قال ـ رحمه‌الله ـ عند تفسيره لهذه الآية : يقول ـ تعالى ذكره ـ : يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله من أهل الكتابين : التوراة والإنجيل ، خافوا الله ، وآمنوا برسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم ..

أى : يؤتكم أجرين لإيمانكم بعيسى وبمحمد ـ عليهما الصلاة والسلام ـ (٢).

ويبدو لنا أن الخطاب في هذه الآية للمؤمنين من هذه الأمة ، على سبيل الحض والتبشير ، وأن قوله ـ تعالى ـ بعد ذلك : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ ...) واضح في ذلك ، وان جعل الخطاب لمؤمنى أهل الكتاب لا دليل عليه.

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٢٦٧.

(٢) تفسير ابن جرير ج ٢٧ ص ٢٤٢.

٢٣٦

ولذا قال بعض المحققين : هذه الآية الكريمة من سورة الحديد ، في المؤمنين من هذه الأمة ، وأن سياقها واضح في ذلك ، وأن من زعم من أهل العلم أنها في أهل الكتاب فقد غلط ، وان ما وعد الله به المؤمنين من هذه الأمة ، أعظم مما وعد به مؤمنى أهل الكتاب (١).

وبعد : فهذا تفسير لسورة «الحديد» نسأل الله ـ تعالى ـ ان يجعله خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده ـ وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

فندق الشيراتون بالدوحة ـ قطر

صباح الخميس ٢٤ من رجب ١٤٠٦ ه‍

٣ من أبريل ١٩٨٦ م

كتبه الراجي عفو ربه

محمد سيد طنطاوى

__________________

(١) راجع أضواء البيان ج ٧ ص ٨١٦ الشيخ محمد أمين الشنقيطى.

٢٣٧
٢٣٨

تفسير

سورة المجادلة

٢٣٩
٢٤٠