فلما قدموا على رسول الله صلىاللهعليهوسلم المدينة ، قال : ما أمرتكم بقتال فى الشهر الحرام ، فوقف العير والأسيرين ، وأبى أن يأخذ من ذلك شيئا. فلما قال ذلك رسول الله صلىاللهعليهوسلم سقط فى أيدى القوم ، وظنوا أنهم قد هلكوا ، وعنفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا. وقالت قريش : قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام ، وسفكوا فيه الدم ، وأخذوا فيه الأموال ، وأسروا فيه الرجال.
فلما أكثر الناس فى ذلك أنزل الله على رسوله صلىاللهعليهوسلم : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ).
فلما نزل القرآن بهذا الأمر ، وفرج الله تعالى عن المسلمين ما كانوا فيه من الخوف ، قبض رسول الله صلىاللهعليهوسلم العير والأسيرين ، وبعثت إليه قريش فى فداء عثمان بن عبد الله ، والحكم بن كيسان ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : لا نفديكموهما حتى يقدم صاحبانا ـ يعنى : سعد بن أبى وقاص ، وعتبة بن غزوان ـ فإنا نخشاكم عليهما ، فإن تقتلوهما نقتل صاحبيكم. فقدم سعد وعتبة ، فأفداهما رسول الله صلىاللهعليهوسلم منهم.
فأما الحكم بن كيسان فأسلم ، فحسن إسلامه ، وأقام عند رسول الله صلىاللهعليهوسلم حتى قتل يوم بئر معونة شهيدا ، وأما عثمان بن عبد الله فلحق بمكة ، فمات بها كافرا.
* * *
٦١ ـ غزوة بدر
ثم إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم سمع بأبى سفيان بن حرب مقبلا من
الشام ، فى عير لقريش عظيمة ، فيها أموال لقريش ، وتجارة من تجارتهم ، وفيها ثلاثون رجلا من قريش أو أربعون ، منهم : مخرمة بن نوفل بن أهيب ابن عبد مناف بن زهرة ، وعمرو بن العاص بن وائل بن هشام.
* * *
ولما سمع رسول الله صلىاللهعليهوسلم بأبى سفيان مقبلا من الشام ، ندب المسلمين إليهم ، وقال : هذه عير قريش ، فيها أموالهم ، فاخرجوا إليها ، لعل الله ينفلكموها. فانتدب الناس ، فخف بعضهم ، وثقل بعضهم ، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم يلقى حربا. وكان أبو سفيان حين دنا من الحجاز يتحسس الأخبار ويسأل من لقى من الركبان ، تخوفا على أمر الناس ، حتى أصاب خبرا من بعض الركبان : أن محمد قد استنفر أصحابه لك ولعيرك ، فحذر عند ذلك ، فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفارى ، فبعثه إلى مكة ، وأمره أن يأتى قريشا ، فيستنفرهم إلى أموالهم ، ويخبرهم أن محمدا قد عرض لها فى أصحابه. فخرج ضمضم بن عمرو سريعا إلى مكة.
وقد رأت عاتكة بنت عبد المطلب ، قبل قدوم ضمضم مكة بثلاث ليال ، رؤيا أفزعتها فبعثت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب ، فقالت له : يا أخى ، والله لقد رأيت الليلة رؤيا أفزعتنى ، وتخوفت أن يدخل على قومك منها شر ومصيبة ، فاكتم عنى ما أحدثك به. فقال لها : وما رأيت؟ قالت : رأيت راكبا أقبل على بعير له ، حتى وقف بالأبطح ، ثم صرخ بأعلى صوته : ألا انفروا بالغدر (١) لمصارعكم ، فى ثلاث ، فأرى الناس اجتمعوا إليه ، ثم دخل المسجد والناس يتبعونه ، فبينما
__________________
(١) غدر : جمع غدور.
هم حوله ، مثل به بعيره على ظهر الكعبة ، ثم صرخ بمثلها : ألا انفروا بالغدر لمصارعكم ، فى ثلاث ، ثم مثل به بعيره على رأس أبى قبيس ، فصرخ بمثلها ، ثم أخذ صخرة فأرسلها فأقبلت تهوى ، حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضت ، فما بقى بيت من بيوت مكة ، ولا دار ، إلا دخلها منها فلقة. قال العباس : والله إن هذه لرؤيا ، وأنت فاكتمها ، ولا تذكريها لأحد.
ثم خرج العباس ، فلقى الوليد بن عتبة بن ربيعة ، وكان له صديقا ، فذكرها له واستكتمه إياها ، فذكرها الوليد لأبيه عتبة ، ففشا الحديث بمكة ، حتى تحدثت به فى أنديتها.
قال العباس : فغدوت لأطوف بالبيت ، وأبو جهل بن هشام فى رهط من قريش قعود ، يتحدثون برؤيا عاتكة ، فلما رآنى أبو جهل ، قال : يا أبا الفضل ، إذا فرغت من طوافك فأقبل إلينا ، فلما فرغت أقبلت ، حتى جلست معهم ، فقال لى أبو جهل : يا بنى عبد المطلب ، متى حدثت فيكم هذه النبية؟ قلت وما ذاك؟ قال : تلك الرؤيا التى رأت عاتكة. فقلت : وما رأت؟ قال : يا بنى عبد المطلب ، أما رضيتهم أن يتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم؟ قد زعمت عاتكة فى رؤياها أنه قال : انفروا ، فى ثلاث ، فسنتربص بكم هذه الثلاث ، فإن يك حقّا ما تقول فسيكون ، وإن تمض الثلاث ولم يكن من ذلك شىء ، نكتب عليكم كتابا أنكم أكذب أهل بيت فى العرب. قال العباس : فو الله ما كان منى إليه كبير ، إلا أنى جحدت ذلك ، وأنكرت أن تكون رأت شيئا. قال : ثم تفرقنا.
فلما أمسيت ، لم تبق امرأة من بنى عبد المطلب إلا أتتنى ، فقالت : أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع فى رجالكم ، ثم قد تناول النساء وأنت تسمع ، ثم لم يكن
عندك غير لشىء مما سمعت! قلت : والله قد فعلت ، ما كان منى إليه من كبير ، وايم الله لأتعرضن له ، فإن عاد لأكفينكنه.
فغدوت فى اليوم الثالث من رؤيا عاتكة ، وأنا حديد مغضب ، أرى أنى قد فاتنى منه أمر أحب أن أدركه منه ، فدخلت المسجد فرأيته ، فو الله إنى لأمشى نحوه أتعرضه ليعود لبعض ما قال ، فأقع به ـ وكان رجلا خفيفا ، حديد الوجه ، حديد اللسان ، حديد النظر ـ إذ خرج نحو باب المسجد يشتد. فقلت فى نفسى : ما له لعنه الله ، أكل هذا فرق منى أن أشاتمه ، وإذا هو قد سمع ما لم أسمع : صوت ضمضم بن عمرو الغفارى ، وهو يصرخ ببطن الوادى واقفا على بعيره ، قد جدع بعيره ، وحول رجله ، وشق قميصه ، وهو يقول : يا معشر قريش ، اللطيمة (١) ، اللطيمة ، أموالكم مع أبى سفيان قد عرض لها محمد فى أصحابه ، لا أرى أن تدركوها ، الغوث الغوث. فشغلنى عنه ، وشغله عنى ، ما جاء من الأمر.
فتجهز الناس سراعا ، وقالوا : أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمى ، كلا والله ليعلمن غير ذلك. فكانوا بين رجلين : إما خارج ، وإما باعث مكانه رجلا. وأوعبت قريش ، فلم يتخلف من أشرافها أحد.
إلا أن أبا لهب بن عبد المطلب تخلف ، وبعث مكانه العاصى بن هشام ابن المغيرة ، وكان قد لاط له بأربعة آلاف درهم كانت له عليه ، أفلس بها ، فاستأجره بها ، على أن يجزئ عنه ، بعثه فخرج عنه ، وتخلف أبو لهب.
ولما فرغوا من جهازهم ، وأجمعوا السير ، ذكروا ما كان بينهم وبين بنى بكر بن عبد مناة بن كنانة من الحرب ، فقالوا : إنا نخشى أن يأتونا من خلفنا ، وكاد ذلك يثنيهم ، فتبدى لهم إبليس فى صورة سراقة بن مالك
__________________
(١) اللطيمة : الإبل تحمل البر والطيب.
ابن جعشم المدلجى ، وكان من أشراف بنى كنانة ، فقال لهم : أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه ، فخرجوا سراعا.
وخرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم فى ليال مضت من شهر رمضان فى أصحابه ، واستعمل عمرو بن أم مكتوم ـ أخا بنى عامر بن لؤى ـ على الصلاة بالناس ، ثم رد أبا لبابة من الروحاء واستعمله على المدينة.
ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار ، وكان أبيض.
وكان أمام رسول الله صلىاللهعليهوسلم رايتان سوداوان : إحداهما مع على بن أبى طالب ، يقال لها : العقاب ، والأخرى مع بعض الأنصار.
وكانت إبل أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم يومئذ سبعين بعيرا ، فاعتقبوها ، فكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وعلى بن أبى طالب ، ومرثد ابن أبى مرثد الغنوى ، يعتقبون بعيرا ، وكان حمزة بن عبد المطلب ، وزيد ابن حارثة ، وأبو كبشة ، وأنسة ، موليا رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، يعتقبون بعيرا ، وكان أبو بكر ، وعمر ، وعبد الرحمن بن عوف ، يعتقبون بعيرا. وجعل على الساقة قيس بن أبى صعصعة ، أخا بنى مازن بن النجار. وكانت راية الأنصار مع سعد بن معاذ. فسلك طريقه من المدينة إلى مكة ، على نقب المدينة ، ثم على العقيق ، ثم على ذى الحليفة ، ثم على أولات الجيش.
ولقوا رجلا من الأعراب ، فسألوه عن الناس ، فلم يجدوا عنده خبرا ، فقال له الناس : سلم على رسول الله صلىاللهعليهوسلم. قال : أوفيكم رسول الله؟ قالوا : نعم ، فسلم عليه ، ثم قال : إن كنت رسول الله فأخبرنى عما فى بطن ناقتى هذه. قال له سلمة بن سلامة بن وقش : لا تسأل رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، وأقبل على ، فأنا أخبرك عن ذلك : نزوت عليها ، ففي بطنها منك سخلة. فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : أفحشت على الرجل! ثم أعرض عن سلمة.
ونزل رسول الله صلىاللهعليهوسلم سجسج ، وهى بئر الروحاء ، ثم ارتحل منها ، حتى إذا كان بالمنصرف ، ترك طريق مكة بيسار ، وسلك ذات اليمين على النازية ، يريد بدرا ، فسلك فى ناحية منها ، حتى جزع واديا ، يقال له : رحقان ، بين النازية وبين مضيق الصفراء ، بعث بسبس بن الجهنى ، حليف بنى ساعدة ، وعدى بن أبى الزغباء الجهنى ، حليف بنى النجار ، إلى بدر يتحسان له الأخبار ، عن أبى سفيان بن حرب وغيره ، ثم ارتحل رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وقد قدمهما. فلما استقبل الصفراء ، وهى قرية بين جبلين ، سأل عن جبليها ما اسماهما؟ فقالوا : يقال : لأحدهما ، هذا مسلح ، وللآخر : هذا مخرئ ، وسأل عن أهلهما ، فقيل : بنو النار ، وبنو حراق ، بطنان من بنى غفار ، فكرههما رسول الله صلىاللهعليهوسلم والمرور بينهما ، وتفاءل باسميهما وأسماء أهلهما ، وتركهما رسول الله صلىاللهعليهوسلم والصفراء بيسار ، وسلك ذات اليمين على واد يقال له : ذفران ، فجزع فيه ، ثم نزل.
وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم ، فاستشار الناس ، وأخبرهم عن قريش ، فقام أبو بكر الصديق ، فقال وأحسن ، ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن ، ثم قام المقداد بن عمرو ، فقال : يا رسول الله ، امض لما أراك الله ، فنحن معك ، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا ، إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) ، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا ، إنا معكما مقاتلون ، فو الذى بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه ، حتى تبلغه ، فقال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم خيرا ، ودعا له به.
ثم قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : أشيروا علىّ أيها الناس. وإنما يريد الأنصار ، وذلك أنهم عدد الناس ، وأنهم حين بايعوه بالعقبة ، قالوا : يا رسول الله. إنا برآء من ذمامك ، حتى تصل إلى ديارنا ، فإذا وصلت إلينا فأنت فى ذمتنا ، نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا. فكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، يتخوف ألا تكون الأنصار ترى عليها نصره إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه ، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم. فلما قال ذلك رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، قال له سعد بن معاذ : والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال : أجل. قال : لقد آمنا بك وصدقناك ، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا ، على السمع والطاعة ، فامض يا رسول الله لما أردت ، فنحن معك ، فو الذى بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته ، لخضناه معك ، ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن نلقى بنا عدونا غدا ، إنا لصبر فى الحرب ، صدق فى اللقاء. ففرح رسول الله صلىاللهعليهوسلم بقول سعد ، ونشطه ذلك ، ثم قال : سيروا وأبشروا ، فإن الله تعالى قد وعدنى إحدى الطائفتين ، والله لكأنى الآن أنظر إلى مصارع القوم.
ثم ارتحل رسول الله صلىاللهعليهوسلم فنزل قريبا من بدر ، فركب هو وأبو بكر حتى وقف على شيخ من العرب ، فسأله عن قريش ، وعن محمد وأصحابه ، وما بلغه عنهم ، فقال الشيخ : لا أخبر كما حتى تخبرانى ممن أنتما؟ فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : إذا أخبرتنا أخبرناك. قال : أذاك بذاك؟ قال : نعم قال الشيخ : فإنه بلغنى أن محمدا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا ، فإن كان صدق الذى أخبرنى فهم اليوم بمكان كذا وكذا ، للمكان الذى به رسول
الله صلىاللهعليهوسلم ، وبلغنى أن قريشا خرجوا يوم كذا كذا ، فإن كان الذى أخبرنى صدقنى ، فهم اليوم بمكان كذا وكذا ، للمكان الذى فيه قريش. فلما فرغ من خبره ، قال : ممن أنتما؟ فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : نحن من ماء ، ثم انصرف عنه. قال : يقول الشيخ : ما من ماء؟ أمن ماء العراق؟
ثم رجع رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى أصحابه ، فلما أمسى بعث على ابن أبى طالب ، والزبير بن العوام ، وسعد بن أبى وقاص ، فى نفر من أصحابه ، إلى ماء بدر ، يلتمسون الخبر له عليه ، فأصابوا راوية لقريش فيها أسلم ، غلام بنى الحجاج ، وعريض أبو يسار ، غلام بنى العاص بن سعيد ، فأتوا بهما ، فسألوهما ، ورسول الله صلىاللهعليهوسلم قائم يصلى ، فقالا : نحن سقاة قريش ، بعثونا نسقيهم من الماء ، فكره القوم خبرهما ، ورجوا أن يكونا لأبى سفيان ، فضربوهما ، فلما بالغوا فى ضربهما قالا : نحن لأبى سفيان ، فتركوهما ، وركع رسول الله صلىاللهعليهوسلم وسجد سجدتين ثم سلم ، وقال : إذا صدقاكم ضربتموهما ، وإذا كذباكم تركتموهما ، صدقا ، والله إنهما لقريش ، أخبرانى عن قريش؟ قالا : هم والله وراء هذا الكثيب الذى ترى بالعدوة القصوى ـ والكثيب : العقنقل ـ فقال لهما رسول الله صلىاللهعليهوسلم : كم القوم؟ قالا : كثير. قال : ما عدتهم؟ قالا : لا ندرى. قال : كم ينحرون كل يوم؟ قالا : يوما تسعا ، ويوما عشرا. فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : القوم فيما بين التسعمائة والألف. ثم قال لهما : فمن فيهم من أشراف قريش؟ قالا : عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأبو البخترى بن هشام ، وحكيم بن حزام ، ونوفل بن خويلد ، والحارث بن عامر بن نوفل ، وطعيمة بن عدى بن نوفل ،
والنضر بن الحارث ، وزمعة بن الأسود ، وأبو جهل بن هشام ، وأمية بن خلف ، ونبيه ، ومنبه ، ابنا الحجاج ، وسهيل بن عمرو ، وعمرو بن عبد ود. فأقبل رسول الله صلىاللهعليهوسلم على الناس ، فقال : هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ أكبادها.
وكان بسبس بن عمرو ، وعدى بن أبى الزغباء ، قد مضيا حتى نزلا بدرا ، فأناخا إلى تل قريب من الماء ، ثم أخذا شنّا لهما يستقيان فيه ، ومجدى بن عمرو الجهنى على الماء ، فسمع عدى وبسبس جاريتين من جوارى الحاضر ، وهما يتلازمان على الماء ، والملزومة تقول لصاحبتها : إنما تأتى العبر غدا أو بعد غد ، فأعمل لهم ، ثم أقضيك الذى لك. قال مجدى : صدقت ، ثم خلص بينهما. وسمع ذلك عدى وبسبس ، فجلسا على بعيريهما ، ثم انطلقا حتى أتيا رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فأخبراه بما سمعا.
وأقبل أبو سفيان بن حرب ، حتى تقدم العير حذرا ، حتى ورد الماء ، فقال لمجدى بن عمرو : هل أحسست أحدا؟ فقال : ما رأيت أحدا أنكره ، إلا أنى قد رأيت راكبين قد أناخا إلى هذا التل ، ثم استقيا فى شن لهما ، ثم انطلقا. فأتى أبو سفيان مناخهما ، فأخذ من أبعار بعيريهما ، ففته ، فإذا فيه النوى ، فقال : هذه والله علائف يثرب ، فرجع إلى أصحابه سريعا ، فضرب وجه عيره عن الطريق ، فساحل بهما ، وترك بدرا بيسار ، وانطلق حتى أسرع.
وأقبلت قريش ، فلما نزلوا الجحفة ، رأى جهيم بن الصلت بن مخزمة بن المطلب بن عبد مناف رؤيا ، فقال : إنى رأيت فيما يرى النائم ، وإنى لبين النائم واليقظان ، إذ نظرت إلى رجل قد أقبل على فرس ، حتى وقف ، ومعه بعير له ، ثم قال : قتل عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأبو الحكم بن هشام ، وأمية
(م ٩ ـ الموسوعة القرآنية ـ ج ١)
ابن خلف ، وفلان وفلان ، فعدد رجالا ممن قتل يوم بدر ، من أشراف قريش ، ثم رأيته ضرب فى لبة بعيره ، ثم أرسله فى العسكر ، فما بقى خباء من أخبية العسكر إلا أصابه نضح من دمه.
فبلغت أبا جهل ، فقال : وهذا أيضا نبى آخر من بنى المطلب ، سيعلم غدا من المقتول إن نحن التقينا.
ولما رأى أبو سفيان أنه قد أحرز عيره ، أرسل إلى قريش : إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم ، فقد نجاها الله ، فارجعوا. فقال أبو جهل بن هشام : والله لا نرجع حتى نرد بدرا ـ وكان بدر موسما من مواسم العرب ، يجتمع لهم به سوق كل عام ـ فنقيم عليه ثلاثا ، فننحر الجزر ، ونطعم الطعام ، ونسقى الخمر ، وتعزف علينا القيان ، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا ، فلا يزالون يهابوننا أبدا بعدها ، فامضوا.
وقال الأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفى ، وكان حليفا لبنى زهرة ، وهم بالجحفة : يا بنى زهرة ، قد نجى الله لكم أموالكم ، وخلص لكم صاحبكم مخرمة بن نوفل ، وإنما نفرتم لتمنعوه وماله ، فاجعلوا لى جبنها وارجعوا ، فإنه لا حاجة لكم بأن تخرجوا فى غير ضيعة ، لا ما يقول هذا ، يعنى أبا جهل ، فرجعوا ، فلم يشهدها زهرى واحد أطاعوه ، وكان فيهم مطاعا. ولم يكن بقى من قريش بطن إلا وقد نفر منهم ناس ، إلا بنى عدى ، من كعب ، لم يخرج منهم رجل واحد ، فرجعت بنى زهرة مع الأخنس بن شريق ، فلم يشهد بدرا من هاتين القبيلتين أحد ، ومضى القوم. وكان بين طالب بن أبى طالب ـ وكان فى القوم ـ وبين بعض قريش محاورة ، فقالوا : والله لقد عرفنا يا بنى
هاشم ، وإن خرجتم معنا ، أن هواكم لمع محمد ، فرجع طالب إلى مكانه مع من رجع.
ومضت قريش حتى نزلوا بالعدوة القصوى من الوادى ، وبعث الله السماء ، وكان الوادى دهسا ، فأصاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأصحابه منها ما لبد لهم الأرض ، ولم يمنعهم عن السير ، وأصاب قريش منها ما لم يقدروا على أن يرتحلوا معه ، فخرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم يبادرهم إلى الماء ، حتى إذا جاء أدنى ماء من بدر نزل به.
ثم إن الحباب بن المنذر بن الجموح قال : يا رسول الله ، أرأيت هذا المنزل ، أمنزلا أنزلكه الله ، ليس لنا أن تتقدمه ، ولا نتأخر عنه ، أم هو الرأى والحرب والمكيدة؟ قال : بل هو الرأى والحرب والمكيدة. فقال : يا رسول الله ، فإن هذا ليس بمنزل ، فانهض بالناس حتى تأتى أدنى ماء من القوم ، فنزله ، ثم نغور ما وراءه من القلب ، ثم نبنى عليه حوضا ، فنملؤه ماء ، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون. فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : لقد أشرت بالرأى. فنهض رسول الله صلىاللهعليهوسلم ومن معه من الناس ، فسار حتى إذا أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه ، ثم أمر بالقلب فغورت ، وبنى حوضا على القليب الذى نزل عليه ، فملأ ماء ، ثم قذفوا فيه الآنية.
ثم إن سعد بن معاذ قال : يا نبى الله ، ألا نبنى لك عريشا تكون فيه ، ونعد عندك ركائبك ، ثم نلقى عدونا ، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا ، كان ذلك ما أحببنا ، وإن كانت الأخرى ، جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا ، فقد تخلف عنك أقوام ـ يا نبى الله ـ ما نحن بأشد لك حبّا منهم ، ولو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك ، يمنعك الله بهم ، يناصحونك ويجاهدون
معك؟ فأثنى عليه رسول الله صلىاللهعليهوسلم خيرا ، ودعا له بخير. ثم بنى لرسول الله صلىاللهعليهوسلم عريش ، فكان فيه.
وقد ارتحلت قريش حين أصبحت ، فأقبلت ، فلما رآها صلىاللهعليهوسلم تصوب من العقنقل ـ وهو الكثيب الذى جاءوا منه إلى الوادى ـ قال : اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها ، تحادك وتكذب رسولك ، اللهم فنصرك الذى وعدتنى ، اللهم أحنهم الغداة.
وقد قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم ـ وقد رأى عتبة بن ربيعة فى القوم على جمل له أحمر ـ إن يكن فى أحد من القوم خير ، فعند صاحب الجمل الأحمر ، إن يطيعوه يرشدوا.
وقد كان خفاف بن أيماء بن رحضة الغفارى ، أو أبوه أيماء بن رحضة الغفارى ، بعث إلى قريش ، حين مروا به ، ابنا له بجزائر أهداها لهم ، وقال : إن أحببتم أن نمدكم بسلاح ورجال فعلنا. فأرسلوا إليه مع ابنه : أن وصلتك رحم ، قد قضيت الذى عليك ، فلعمرى لئن كنا إنما نقاتل الناس فما بنا من ضعف عنهم ، ولئن كنا إنما نقاتل الله كما يزعم محمد ، فما لأحد بالله من طاقة.
فلما نزل الناس أقبل نفر من قريش حتى وردوا حوض رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فيهم حكيم بن حزام ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : دعوهم ، فما شرب منه رجل يومئذ إلا قتل ، إلا ما كان من حكيم بن حزام فإنه لم يقتل ، ثم أسلم بعد ذلك ، فحسن إسلامه. فكان إذا اجتهد فى يمينه قال : لا والذى نجانى من يوم بدر.
ولما اطمأن القوم ، بعثوا عمير بن وهب الجمحى ، فقالوا : احزر لنا أصحاب محمد. فاستجال بفرسه حول العسكر ، ثم رجع إليهم ، فقال : ثلاثمائة رجل يزيدون
قليلا أو ينقصون ، ولكن أمهلونى حتى أنظر : أللقوم كمين أو مدد؟ فضرب فى الوادى حتى أبعده ، فلم ير شيئا ، فرجع إليهم فقال : ما وجدت شيئا ، ولكنى قد رأيت ، يا معشر قريش ، البلايا تحمل المنايا ، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع ، قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم ، والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلا منكم ، فإذا أصابوا منكم أعدادهم ، فما خير العيش بعد ذلك؟ فروا رأيكم.
فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى فى الناس ، فأتى عتبة بن ربيعة ، فقال : يا أبا الوليد ، إنك كبير قريش وسيدها ، والمطاع فيها ، هل لك إلى أن لا تزال تذكر فيها بخير إلى آخر الدهر؟ قال : وما ذاك يا حكيم؟ قال : ترجع بالناس وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمى. قال : قد فعلت ، أنت على بذلك ، إنما هو حليفى ، فعلى عقله وما أصيب من ماله ، فأت ابن الحنظلية فإنى لا أخشى أن يشجر أمر الناس غيره. ثم قام عتبة بن ربيعة خطيبا ، فقال : يا معشر قريش إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدا وأصحابه شيئا ، والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر فى وجه رجل يكره النظر إليه ، قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلا من عشيرته ، فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب ، فإن أصابوه فذاك الذى أردتم ، وإن كان غير ذلك ألقاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون.
قال حكيم : فانطلقت حتى جئت أبا جهل ، فوجدته قد نثل درعا له من جرابها ـ فهو يهيئها ـ فقلت له : يا أبا الحكم ، إن عتبة أرسلنى إليك بكذا وكذا ، للذى قال ، فقال : انتفخ والله سحره حين رأى محمدا وأصحابه ، كلا والله لا ترجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد ، وما بعتبة ما قال ، ولكنه قد رأى
أن محمدا وأصحابه أكلة جزور ، وفيهم ابنه ، فقد تخوفكم عليه. ثم بعث إلى عامر بن الحضرمى ، فقال : هذا حليفك يريد أن يرجع بالناس ، وقد رأيت ثارك بعينك ، فقم فانشد خفرتك ومقتل أخيك.
فقام عامر بن الحضرمى ، فاكتشف ثم صرخ : وا عمراه! وا عمراه! فحميت الحرب ، وحقب أمر الناس ، واستوسقوا على ما هم عليه من الشر ، وأفسد على الناس الرأى الذى دعاهم إليه عتبة.
فلما بلغ عتبة قول أبى جهل «انتفخ والله سحره» ، قال : سيعلم مصفر استه من انتفخ سحره ، أنا أم هو؟
ثم التمس عتبة بيضة ليدخلها فى رأسه ، فما وجد فى الجيش بيضة تسعه ، من عظم هامته ، فلما رأى ذلك اعتجر على رأسه ببرد له.
وقد خرج الأسود بن عبد الأسد المخزومى ، وكان رجلا شرسا سيئ الخلق ، فقال : أعاهد الله لأشربن من حوضهم ، أو لأهدمنه ، أو لأموتن دونه. فلما خرج ، خرج إليه حمزة بن عبد المطلب ، فلما التقيا ضربه حمزة فأطن قدمه بنصف ساقه ، وهو دون الحوض ، فوقع على ظهره تشخب رجله دما نحو أصحابه ، ثم حبا إلى الحوض ، حتى اقتحم فيه ، يريد أن يبر يمينه ، وأتبعه حمزة فضربه ، حتى قتله فى الحوض.
ثم خرج بعده عتبة بن ربيعة ، بين أخيه شيبة بن ربيعة ، وابنه الوليد ابن عتبة ، حتى إذا فصل من الصف ، دعا إلى المبارزة ، فخرج إليه فتية من الأنصار ثلاثة ، وهم : عوف ، ومعوذ ـ ابنا الحارث ، وأمهما عفراء ـ ورجل آخر ، يقال : هو عبد الله بن رواحة ، فقالوا : من أنتم؟ فقالوا : رهط من الأنصار. قالوا : ما لنا بكم من حاجة. ثم نادى مناديهم : يا محمد ، أخرج إلينا
أكفاءنا من قومنا. فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : قم يا عبيدة بن الحارث ، وقم يا حمزة ، وقم يا على ، فلما قاموا ودنوا منهم ، قالوا : من أنتم؟ قال عبيدة : عبيدة ، وقال حمزة : حمزة ، وقال على : على. قالوا : نعم ، أكفاء كرام. فبارز عبيدة ، وكان أسن القوم ، عتبة بن ربيعة ، وبارز حمزة شيبة بن ربيعة ، وبارز علىّ الوليد بن عتبة. فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله ، وأما على فلم يمهل الوليد أن قتله ، واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين ، كلاهما أثبت صاحبه ، وكر حمزة وعلىّ بأسيافهما على عتبة فذففا عليه ، واحتملا صاحبهما ، فحازاه إلى أصحابه.
ثم تزاحف الناس ، ودنا بعضهم من بعض ، وقد أمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم أصحابه ألا يحملوا حتى يأمرهم ، وقال : إن اكتنفكم القوم فانضحوهم عنكم بالنبل ، ورسول الله صلىاللهعليهوسلم فى العريش ، معه أبو بكر الصديق.
فكانت وقعة بدر يوم الجمعة صبيحة سبع عشرة من شهر رمضان.
* * *
ثم إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم عدل صفوف أصحابه يوم بدر ، وفى يده قدح يعدل به القوم ، فمر بسواد بن غزية ، حليف بنى عدى بن النجار ، وهو مستنتل (١) من الصف ، فطعن فى بطنه بالقدح ، وقال : استويا سواد فقال : يا رسول الله. أوجعتنى : وقد بعثك الله بالحق والعدل. قال : فأقدنى ، فكشف رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن بطنه ، وقال : استقد. قال : فاعتنقه ، فقبل بطنه ، فقال : ما حملك على هذا يا سواد؟ قال : يا رسول الله ، حضر ما ترى
__________________
(١) مستنتل. متقدم
فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدى جلدك. فدعا له رسول الله صلىاللهعليهوسلم بخير ، وقال له خيرا.
* * *
وبعد أن عدل رسول الله صلىاللهعليهوسلم الصفوف رجع إلى العريش فدخله ، ومعه فيه أبو بكر الصديق ليس معه فيه غيره ، ورسول الله صلىاللهعليهوسلم يناشد ربه ما وعده من النصر ، ويقول فيما يقول : اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد. وأبو بكر يقول : يا نبى الله ، بعض مناشدتك ربك ، فإن الله منجز لك ما وعدك. وقد خفق رسول الله صلىاللهعليهوسلم خفقة وهو فى العريش ، ثم انتبه فقال : أبشر يا أبا بكر ، أتاك نصر الله ، هذا جبريل أخذ بعنان فرس يقوده ، على ثناياه النقع.
* * *
وقد رمى مهجع ، مولى عمر بن الخطاب ، بسهم فقتل ، فكان أول قتيل من المسلمين ثم رمى حارثة بن سراقة ، أحد بنى عدى بن النجار ، وهو يشرب من الحوض ، بسهم ، فأصاب نحره ، فقتل.
ثم خرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى الناس فحرضهم ، وقال : والذى نفس محمد بيده ، لا يقاتلهم رجل فيقتل صابرا محتسبا ، مقبلا غير مدبر ، إلا أدخله الله الجنة. فقال عمير بن الحمام ، أخو بنى سلمة ، وفى يده ثمرات يأكلهن : بخ بخ ، أفما بينى وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء؟ ثم قذف التمرات من يده ، وأخذ سيفه ، فقاتل القوم حتى قتل.
* * *
ثم إن عوف بن الحارث ، وهو بن عفراء ، قال : يا رسول الله ، ما
يضحك الرب من عبده؟ قال : غمسه يده فى العدوّ حاسرا. فنزع درعا كانت عليه ، فقذفها ، ثم أخذ سيفه ، فقاتل القوم حتى قتل.
ولما التقى الناس ، ودنا بعضهم من بعض ، قال أبو جهل بن هشام : اللهم أقطعنا للرحم ، وآتانا بما لا يعرف ، فأحنه الغداة. فكأن هو المستفتح.
ثم إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أخذ حقنة من الحصباء ، فاستقبل قريشا بها ، ثم قال : شاهت الوجوه ، ثم نقحهم بها ، وأمر أصحابه ، فقال : شدوا ، فكانت الهزيمة ، فقتل الله تعالى من قتل من صناديد قريش ، وأسر من أسر من أشرافهم. فلما وضع القوم أيديهم يأسرون ، ورسول الله صلىاللهعليهوسلم فى العريش ، وسعد بن معاذ قائم على باب العريش ، الذى فيه رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، متوشح السيف ، فى نفر من الأنصار يحرسون رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، يخافون عليه كرة العدو ، ورأى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فى وجه سعد بن معاذ الكراهية لما يصنع الناس ، فقال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم : والله لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم؟ قال : أجل والله يا رسول الله ، كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك. فكان الإثخان بأهل الشرك أحب إلى من استبقاء الرجال.
* * *
ثم إن النبى صلىاللهعليهوسلم قال لأصحابه يومئذ : إنى قد عرفت أن رجالا من بنى هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرها ، لا حاجة لهم بقتالنا ، فمن لقى منكم أحدا من بنى هاشم فلا يقتله ، ومن لقى أبا البخترى بن هشام بن الحارث ابن أسد فلا يقتله ، ومن لقى العباس بن عبد المطلب ، عم رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فلا يقتله ، فإنه إنما خرج مستكرها. فقال أبو حذيفة : أنقتل آباءنا
وأبناءنا وإخواننا وعشيرتنا ، ونترك العباس؟ والله لئن لقيته لألحمنه السيف. فبلغت رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقال لعمر بن الخطاب : يا أبا حفص ـ قال عمر : والله إنه لأول يوم كنانى فيه رسول الله صلىاللهعليهوسلم بأبى حفص ـ أيضرب وجه عم رسول الله صلىاللهعليهوسلم بالسيف؟ فقال عمر : يا رسول الله ، دعنى فلأضرب عنقه بالسيف ، فو الله لقد نافق. فكان أبو حذيفة يقول : ما أنا بآمن من تلك الكلمة التى قلت يومئذ ، ولا أزال منها خائفا ، إلا أن تكفرها عنى الشهادة. فقتل يوم اليمامة شهيدا.
وإنما نهى رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن قتل أبى البخترى ، لأنه كان أكف القوم عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو بمكة ، وكان لا يؤذيه ، ولا يبلغه عنه شىء يكرهه ، وكان ممن قام فى نقض الصحيفة ، التى كتبت قريش على بنى هاشم وبنى المطلب ، فلقيه المجذر بن ذياد البلوى ، حليف الأنصار ، ثم من بنى سالم بن عوف ، فقال المجذر لأبى البخترى : إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قد نهانا عن قتلك ـ ومع أبى البخترى زميل له ، قد خرج معه من مكة ، وهو جنادة بن مليحة بنت زهير بن الحارث بن أسد ، وجنادة رجل من بنى ليث. واسم أبى البخترى : العاص ـ قال : وزميلى؟ فقال له المجذر : لا والله ، ما نحن بتاركى زميلك ، ما أمرنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلا بك وحدك. فقال : لا والله ، إذن لأموتن أنا وهو جميعا ، لا تتحدث عنى نساء مكة أنى تركت زميلى حرصا على الحياة.
ثم إن المجذر أتى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقال : والذى بعثك بالحق ، لقد جهدت عليه أن يستأسر فآتيك به ، فأبى إلا أن يقاتلنى ، فقاتلته فقتلته.
* * *
ويقول عبد الرحمن بن عوف : كان أمية بن خلف لى صديقا بمكة ، وكان اسمى عبد عمرو ، فتسميت ، حين أسلمت : عبد الرحمن ونحن بمكة ، فكان يلقانى إذ نحن بمكة ، فيقول : يا عبد عمرو ، أرغبت عن اسم سماكه أبواك؟ فأقول : نعم. فيقول : فإنى لا أعرف الرحمن ، فاجعل بينى وبينك شيئا أدعوك به ، أما أنت فلا تجيبنى باسمك الأول ، وأما أنا فلا أدعوك بما لا أعرف. قال : فكان إذا دعانى : يا عبد عمرو ، لم أجب. قال : فقلت له : يا أبا على ، اجعل ما شئت ، قال : فأنت عبد الإله. قال : فقلت : نعم. قال : فكنت إذا مررت به قال : يا عبد الإله ، فأجيبه فأتحدث معه ، حتى إذا كان يوم بدر ، مررت به وهو واقف مع ابنه ، على بن أمية ، آخذ بيده ، ومعى أدراع ، قد استلبتها ، فأنا أحملها ، فلما رآنى قال لى : يا عبد عمرو ، فلم أجبه ، فقال : يا عبد الإله؟ فقلت : نعم. قال : هل لك فى ، فأنا خير لك من هذه الأدراع التى معك؟ قلت : نعم ، ها الله ذا. فطرحت الأدراع من يدى ، وأخذت بيده ويد ابنه ، وهو يقول : ما رأيت كاليوم قط ، أما لكم حاجة فى اللبن؟ ثم خرجت أمشى بهما.
قال لى أمية بن خلف ، وأنا بينه وبين ابنه ، آخذ بأيديهما : يا عبد الإله ، من الرجل منكم المعلم بريشة نعامة فى صدره؟ قلت : ذاك حمزة بن عبد المطلب. قال : ذاك الذى فعل بنا الأفاعيل. قال عبد الرحمن : فو الله إنى لأقودهما إذا رآه بلال معى ـ وكان هو الذى يعذب بلالا بمكة على ترك الإسلام ، فيخرجه إلى رمضاء مكة إذا حميت ، فيضجعه على ظهره ، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ، ثم يقول : لا تزال هكذا أو تفارق دين محمد ، فيقول بلال : أحد أحد ـ قال : فلما رآه ، قال : رأس الكفر أمية بن خلف ، لا نجوت إن
نجا. قلت : أى بلال ، أبأسيري! قال : لا نجوت إن نجا. قلت : أتسمع يا ابن السوداء. قال : لا نجوت إن نجا. قال : ثم صرخ بأعلى صوته : يا أنصار الله ، رأس الكفر أمية بن خلف ، لا نجوت إن نجا. فأحاطوا بنا حتى جعلونا فى مثل الحلقة وأنا أذب عنه. قال : فأخلف رجل السيف فضرب رجل ابنه فوقع ، وصاح أمية صيحة ما سمعت مثلها قط فقلت : انج بنفسك ، ولا نجاء بك ، فو الله ما أغنى عنك شيئا. فهبروهما بأسيافهم ، حتى فرغوا منهما ، فكان عبد الرحمن يقول : يرحم الله بلالا ، ذهبت أدراعى وفجعنى بأسيرى.
* * *
ويقول رجل من بنى غفار : أقبلت أنا وابن عم لى ، حتى أصعدنا فى جبل يشرف بنا على بدر ، ونحن مشركان ، ننتظر الوقعة على من تكون الدبرة ، فننتهب مع من ينتهب. قال : فبينما نحن فى الجبل ، إذ دنت منا سحابة ، فسمعنا فيها حمحمة الخيل ، فسمعت قائلا يقول : اقدم حيزوم ، فأما ابن عمى فانكشف قناع قلبه. فمات مكانه ، وأما أنا فكدت أهلك ثم تماسكت.
ولم تقاتل الملائكة فى يوم سوى بدر من الأيام ، وكانوا يكونون فيما سواه من الأيام عددا ومددا. لا يضربون.
وكان شعار أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم يوم بدر : أحد أحد.
فلما فرغ رسول الله صلىاللهعليهوسلم من عدوه ، أمر بأبى جهل أن يلتمس فى القتلى.