الزجّاج
المحقق: ابراهيم الأبياري
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٩٨
وقال الفرّاء فى قوله تعالى : (فَجاءَها بَأْسُنا) (١) إذا كان الشيئان يقعان فى حال واحدة نسقت بأيهما شئت على الآخر بالفاء كقولك : أعطيتنى فأحسنت ، وأحسنت فأعطيتنى ؛ لا فرق بين الكلامين ؛ لأن الإحسان والإعطاء وقتهما واحد.
قال أبو سعيد (٢) : وهذا مشبه الذي بدأت به فى تفسيره ، إلا أنه متى جعلنا أحدهما شرطا جاز أن يجعل الآخر جوابا ، فتدخل الفاء حيث جاز أن تكون جوابا ، كقولك : إن أعطيتنى أحسنت ، وإن أحسنت أعطيت ، وإن يعط فإنه محسن ، وإن يحسن فإنه معط.
وقال غير الفراء فى قوله : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) (٣) / : معناه / ثم كان قد استوى على العرش قبل أن يخلق السموات والأرض.
وهذا يشبه الجواب الذي حكاه الفرّاء فى قوله : (فَجاءَها بَأْسُنا) (٤).
وقالوا فيها جوابا آخر ، على جعل «ثمّ» للتقديم ، تقديره : هو الّذى خلق السّموات والأرض ، أي أخبركم بخلقهما ، ثم استوى ، ثم أخبركم بالاستواء.
ومثله : (اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ) (٥) أي : فأخبرهم بالإلقاء ، ثم أخبرهم بالتّولّى.
__________________
(١) الأعراف : ٤.
(٢) انظر الحاشية (٢ ص ٩٩) من هذا الجزء.
(٣) الحديد : ٤.
(٤) النمل : ٢٨.
ومثله : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ) (١) وقد قال قبله : (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) (٢) وقال : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) (٣) ثم يكون «ثم استوى» على الإخبار ، ويكون الدّحو بعد (٤) ، وخلق الأرض قبل خلق السماء ، وقيل فى قوله تعالى : (ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ) (٥) فليس التولي الانصراف ، وإنما معناه ، تنحّ عنهم بعد إلقاء الكتاب إليهم بحيث يكونون عنك بمرأى ومسمع ، فانظر ماذا يردّون من جواب الكتاب.
وقيل فى قوله تعالى : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) (٦) أي : مع ذلك. كما قال : (عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ) (٧) أي : مع ذلك. وعكسه قوله تعالى : (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ) (٨) أي : بعد العسر.
وأما قوله تعالى : (لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) (٩) أي : ثم دام وثبت على الاهتداء. وهذا كقوله تعالى : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (١٠).
والمعنى فى ذلك : الدوام على الإيمان والعمل الصالح ، لأن الإيمان الذي يحظر النفس والمال قد تقدم فيما ذكر فى قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ
__________________
(١) فصلت : ١١.
(٢) فصلت : ٩.
(٣) النازعات : ٣٠.
(٤) في الأصل : «ويكون أن يكون الدحو».
(٥) النمل : ٢٨.
(٦) القلم : ١٣.
(٧) الانشراح : ٦.
(٨) طه : ٨٢.
(٩) المائدة : ٩٣.
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) فقال بعد : (إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا)(١).
ومما يبين أن المعنى فيه ما ذكرت قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) (٢) وفى الأخرى (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٣) والمعنى : اتبعوا التوحيد ثم داموا عليه وأقاموا. فاستقام / مثل أقام ، كاستجاب وأجاب.
وقال أبو الحسن (٤) فى قوله تعالى : (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) (٥) : إن «ثمّ» زيادة. والمعنى على ما قال : لأن المعنى : حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت تاب عليهم ليتوبوا. فجواب الجزاء ، إن لم تقدّر «ثمّ» زيادة ، غير مذكور.
فإن قال قائل : إن «ثمّ» زيادة فى قوله : (ثُمَّ اهْتَدى) (٦) كما قال أبو الحسن (٧) فى الآية الأخرى ، فإنه يكون قوله (اهْتَدى) بعد تقدير زيادة «ثمّ» على تقديرين :
أحدهما : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) (٨) إنسانا مهتديا ، ويكون حالا. ولم يقع بعد ، فإنه كقوله : (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) (٩).
ويجوز أن يكون على إضمار «قد» على تقدير : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً) (١٠) أي : قد كنتم.
وقال أبو على فى قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) (١١) على ما تقدم من حذف المضاف. وعلى قولهم : هزمناكم ، أي : هزمنا إيّاكم ، كقوله : (فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَاللهِ) (١٢) أي : فلم قتلتم.
__________________
(١) المائدة : ٩٣.
(٢) فصلت : ٣٠.
(٣) الأحقاف : ١٣.
(٤ ، ٧) هو أبو الحسن علي بن سليمان. وانظر الحاشية (٢ ص ٤٨).
(٥) التوبة : ١١٨.
(٦) طه : ٨٢.
(٧) المائدة : ٩٥.
(٨) البقرة : ٢٨.
(٩) الأعراف : ١.
(١٠) البقرة : ٩١.
وأما قوله تعالى : (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) (١) بعد قوله (قُلْ تَعالَوْا) (٢) فالتقدير : ثم قل : آتينا موسى الكتاب.
وكذلك قوله : (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ). (٣)
هو على ترتيب الخبر ، أي : أخبركم أولا بخلقه من تراب ، ثم أخبركم بقوله «كن».
وأما قوله : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) (٤) وبعده (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) (٥) فهو مثل الأول فى ترتيب الخبر.
وأما قوله تعالى : (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) (٦) أي : اثبتوا على التوبة ودوموا عليه.
قال عثمان (٧) فى بعض كلامه فى قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ) (٨) : «الواو» وإن كان لا يوجب الترتيب ، فإن لتقديم المقدّم حظّا وفضلا على المؤخّر.
ألا ترى كيف قال : (أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) فقدّم المؤخّر فى موضع تعداد النّعم ، فكان أولى.
وقال أبو علىّ أيضا فى موضع آخر فى قوله تعالى (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) (٩) ثمّ ، زائدة ؛ وقد يجوز أن يكون جواب «إذا» محذوفا ، و «ثمّ تاب عليهم»
__________________
(١) الأنعام : ١٥٤.
(٢) الأنعام : ١٥١.
(٣) آل عمران : ٥٩.
(٤) البلد : ١١.
(٥) البلد : ١٧.
(٦) هود : ٣.
(٧) هو : أبو الفتح عثمان بن جني.
(٨) الفتح : ٢٤.
(٩) التوبة : ١١٨.
معطوف على جملة الكلام ، أي : حتى إذا / ضاقت عليهم الأرض تنصّلوا وتندّموا ، ثم تاب عليهم. و «إذا» بعد «حتى» للجزاء ، وهى بمعنى : متى ، أي : متى ضاقت عليهم الأرض.
وأما قوله تعالى : (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (١) فإن «ثم» للعطف على تراخ ، وقد عطفت فى الآية «النحر» الذي هو بآخرة ، أو «الطواف» الذي هو الخاتمة ، على الانتفاع بما يقام فى المناسك فى الدين ، أو بمنافع البدن والهدايا فى الدنيا ، على القولين ، وكذلك «إلى» التي هى غاية الفرائض ، إما لنحر الهدايا ، وإما للطواف الذي هو غاية إقامة جمع الواجبات.
وقيل معناه : إن أجرها على رب البيت العتيق.
وأما قوله تعالى : (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) (٢) فقد قيل هذا على الإخبار أيضا ، أي : ثم أخبركم بالسؤال عن النعيم ، لأن السؤال قبل رؤية الجحيم.
وقيل : بل المعنى يقال لكم : أين نعيمكم فى النار وأين نمتعكم به؟ وشاهد هذه الآي البيت المعروف ، وهو قوله :
قل للّذى ساد ثمّ ساد أبوه |
|
ثمّ ساد من بعد ذلك جدّه (٣) |
ومعلوم أن سيادة الجد قبل سيادة أبيه ، وسيادة أبيه قبل سيادته أولا ، ثم أخبركم بسيادة أبيه ثانيا ، ثم أخبركم بسيادة جده ثالثا.
__________________
(١) الحج : ٣٣.
(٢) التكاثر : ٨.
(٣) الرواية في المغني (ج ١ : ١٠٥) :
إن من ساد ثم ساد أبوه |
|
ثم قد ساد قبل ذلك جده |
الرابع
هذا باب ما جاء في التنزيل وقد حذف منه حرف الجر
فمن ذلك قوله تعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) (١). التقدير : اهدنا إلى الصراط ، فحذف «إلى» ، دليله قوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٢) ، وقوله تعالى : (وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً) (٣) ؛ لأن العرب تقول : هديته إلى الطريق ؛ فإذا قال : هديته الطريق ، فقد حذف «إلى».
ومن ذلك قوله تعالى : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ) (٤) أي : بأن لهم ، فحذف الباء وانتصب «أن» على مذهب سيبويه ، وبقي الجر عند الخليل والكسائي. وحجاجهم مذكور فى الخلاف.
وعلى هذا جميع ما جاء فى التنزيل من قوله : (يُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً) (٥) فى / بنى إسرائيل والكهف ، دليله ظهوره فى قوله تعالى : (بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ) (٦). وقوله : (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ) (٧) ، وقوله : (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ) (٨) ، وقوله : (بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ) (٩) ، وقوله : (يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى)(١٠) ، وقوله : (لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ) (١١).
ومن ذلك قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها)(١٢) أي : لا يستحيى من ضرب المثل ، فحذف «من». ويكثر
__________________
(١) الفاتحة : ٥.
(٢) الشورى : ٥٢.
(٣) النساء : ١٧٥.
(٤) البقرة : ٢٥.
(٥) الإسراء ـ بني إسرائيل : ٩ ، الكهف : ٢.
(٦) النساء : ١٣٨.
(٧) التوبة : ٢١.
(٨) هود : ٧١.
(٩) الحجر : ٥٥.
(١٠) آل عمران : ٣٩.
(١١) مريم : ٩٧.
(١٢) البقرة : ٢٦.
حذف المثل لجر من أن (١) ويقلّ مع المصدر ؛ يحسن «أن يصرب» والتقدير : من أن يضرب ، ولا يحسن حذف : من ضرب. وأما قوله «بعوضة» فقيل : التقدير : أن يضرب مثلا ببعوضة ، و «ما» صلة زائدة ، فحذف الباء.
وقيل : أن يضرب مثلا ما بين بعوضة فما فوقها ـ عن الفراء ـ فحذف «بين».
وقيل : «ما» ، نكرة فى تقدير : شىء ، و «بعوضة» بدل منه.
وقال أبو علىّ ، فى معنى الآية : لا يجوز فى القياس أن يريد أصغر منها.
وقد حكى عن الكلبي أنه يريد : دونها.
وقال ابن عبّاس «فما فوقها» الذباب فوق البعوضة ، وهو الحسن.
قال أبو علىّ : وإنما يجوز هذا فى الصفة ، هذا صغير وفوق الصغير ، وقليل وفوق القليل ، أي جاوز القليل.
فأما هذه نملة وفوق النملة ، وحمار وفوق الحمار ؛ يريد أصغر من النملة ومن الحمار ، فلا يجوز ذلك ؛ لأن «هذا» اسم ليس فيه معنى الصفة التي جاز فيها ذلك.
الفرّاء : «فما فوقها» ، يريد : أكبر منها ، وهو العنكبوت والذباب. ولو جعلت فى مثله من الكلام «فما فوقها» تريد أصغر منها ، لجاز ، ولست
__________________
(١) هكذا الأصل. ولعل صواب العبارة : «ويكثر حذف من مع الفعل».
أستحسنه ، لأن البعوضة غاية فى الصغر ، فأحبّ إلىّ أن أجعل «فما فوقها» أكبر منها.
ألا ترى أنك تقول : تعطى من الزكاة الخمسون فما دونها ، والدرهم فما فوقه ، ويضيق الكلام أن تقول : فوقه فيهما ، أو دونه فيهما. وموضع حسنها فى الكلام أن يقول القائل : إن فلانا لشريف. فيقول السامع : وفوق ذلك ؛ يريد المدح. أو يقول : إنه لبخيل. فيقول : وفوق ذلك. يريد بكليهما معنى أكبر. فإذا عرّفت الرجل فقلت : دون ذاك ؛ فكأنك تحطّه عن غاية الشرف ، أو غاية البخل.
/ ومن ذلك قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) (١) أي : بأن تذبحوا ، لأن «أمر» فعل يتعدى إلى مفعولين ، الثاني منهما بالباء ؛ دليله (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ)(٢).
ومثله : (أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ) (٣) أي : من أن أكون.
ومثله : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) (٤) أي : فى أن يؤمنوا لكم.
ومن ذلك قوله تعالى : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ) (٥) أي : بغيا لأن ينزّل الله ، فإن «ينزّل الله» متعلق ب «بغيا» بواسطة حرف الجر. و «بغيا» مفعول له ، و «أن يكفروا» رفع مخصوص بالذم. و «ما اشتروا» ، «ما» يجوز أن يكون نصبا على تقدير : بئس شيئا ؛ ويجوز أن يكون رفعا على تقدير : بئس الذي اشتروا به.
__________________
(١) البقرة : ٦٧.
(٢) البقرة : ٤٤.
(٣) البقرة : ٦٧.
(٤) البقرة : ٧٥.
(٥) البقرة : ٩٠.
ومن ذلك قوله تعالى : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) (١) أي : فى نفسه ، فحذف «فى».
وقال قوم : سفه ، بمعنى سفّه.
وقال قوم : هو تمييز. والمعرفة لا تكون تمييزا.
ومن ذلك قوله تعالى : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) (٢).
قال عثمان (٣) : يمكن أن يكون تقديره : فمن عفى له من أخيه عن شىء ، فلما حذف حرف الجر ارتفع «شىء» لوقوعه موقع الفاعل ؛ كما أنك لو قلت : سير بزيد ، ثم حذفت الباء ، قلت : سير زيد.
ومثل حذف «عن» فى التنزيل قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) (٤) والتقدير : فقد ضل عن سواء السبيل.
ومن ذلك قوله تعالى : (وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ) (٥) أي : بأن طهرا بيتي.
ومنه قوله تعالى : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) (٦) أي : فى أن يطوف ؛ وكذلك : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) (٧) أي : فى أن تبتغوا.
__________________
(١) البقرة : ١٣٠.
(٢) البقرة : ١٧٨.
(٣) هو عثمان بن جني النحوي ، وقد مر التعريف به.
(٤) البقرة : ١٠٨.
(٥) البقرة : ١٢٥.
(٦) البقرة : ١٥٨.
(٧) البقرة : ١٩٨.
ومثله قوله تعالى : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا) (١) أي : فى أن تبرّوا.
وقال أبو إسحاق : بل «أن تبروا» مبتدأ ، والخبر محذوف. أي : البرّ والتقوى أولى.
ومنه قوله تعالى : (أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ) (٢) أي لأولادكم.
ومنه قوله تعالى : (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ) (٣) أي : على عقدة النكاح ، لقوله(٤) :
/ عزمت على إقامة ذى صباح |
|
ليوم (٥) ما يسوّد من يسود. |
ومثله قوله تعالى : (وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ) (٦) التقدير : ما لنا فى ألا نقاتل ، فحذف «فى».
وقال الأخفش : إن «أن» زائدة ، أي ما لنا غير مقاتلين ؛ لأن قوله «لا نقاتل» فى موضع الحال.
وعن بعض الكوفيين : إنما دخلت «أن» لأن معناه : ما يمنعنا ، فلذلك دخلت «أن» ، لأن الكلام : مالك تفعل كذا وكذا.
قال أبو علىّ : والقول هو الأول.
__________________
(١) البقرة : ٢٢٤.
(٢) البقرة : ٢٣٣.
(٣) البقرة : ٢٣٥.
(٤) البيت لرجل من خثعم. (الكتاب ١ : ١١٦).
(٥) رواية الكتاب : «لشيء». وفي هامشه : «لأمر». والشاهد فيه جرذي صباح بالإضافة توسعا ومجازا ، والوجه فيه أن يستعمل ظرفا لقلة تمكنه.
(٦) البقرة : ٢٤٦.
وجه قول أبى الحسن إن «أن» لغو كإذن ، يكون لغوا ، كما تكون هى ، وكما تكون عوامل الأسماء لغوا ، ولا يمنعها كونها لغوا من العمل فى معمولها ، كما لم تمتنع عوامل الأسماء ، كقوله تعالى : (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ) (١).
فإن قال قائل : فهلّا أجاز فى «لن» أيضا كما أجاز فى «أن» كذلك ، فإن هذا لا يلزمه ، لأن «أن» أشد تصرفا من «لن» وهى لذلك أحمل للتوسع وأجلد به.
ألا ترى أنها تدخل على الماضي والمستقبل ، وتدخل على أمثلة الأمر ، كقولك : كتبت إليه بأن قم ، وليس شىء من هذا فى «لن».
ألا ترى أنها تلزم المستقبل ولا تتجاوز عن ذلك ، إلا أن الوجه فيها مع ذلك ألّا تكون ك «إذن» لأن «إذن» إذا وقع بعدها فعل الحال ألغيت ولم تعمل فيه ، و «أن» قد عملت هنا ، فلو كانت مثل «إذن» لوجب ألا تعمل فيما بعدها من الفعل ، كما لم تعمل «إذن» إذا كان الفعل الذي بعده فعل الحال ، ألا ترى أن الاسم فى «مالك قائما» ينتصب على الحال ، فكذلك الفعل بعد «إذن» هنا فعل حال ، فلو كانت «أن» ك «إذن» لوجب ألا تعمل فى فعل الحال كما لم تعمل «إذن» فيه ، فى نحو قولك : إذا حدّثت بحديث : إذن أظنك كاذبا. وأيضا فلا يجوز أن تكون «أن» مثل «إذن» فى أن تلغى كما تلغى «إذن».
ألا ترى أن فيها من الاتساع أكثر مما فى «أن» ، تقول : أنا أقوم إذن ؛ فلا توليه فعلا. وتقول : إذن والله أقوم ، فتفصل بينه وبين الفعل.
__________________
(١) الحاقة : ٤٧.
والإلغاء سائغ فيه. فإذا كان له من التصرف ما ليس «لأن» ، لم / ينكر أن يجوز فيه الإلغاء ، فلا يجوز فى «أن» لكون تصرفها أقل من تصرف «إذن».
وجوّز أبو الحسن أن يكون المعنى : وما لنا فى ألّا نقاتل. وهذا أوضح ، ويكون «أن» مع حرف الجر فى موضع النصب على الحال ، كقوله تعالى : (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) (١) ونحو ذلك ، ثم حذف الحرف فسدّ «أن» وصلتها ذلك المسدّ. والحال فى الأصل هو الجالب للحرف المقدّر ، إلا أنه ترك إظهاره لدلالة المنصوب عنه عليه.
ومثل هذه الآية فى التنزيل : (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا) (٢) أي : ما لكم فى ألّا تأكلوا
ومن إضمار حرف الجر قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) (٣) أي : لأن آتاه الله الملك.
ومنه قوله تعالى : (وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) (٤) أي : إلّا على إغماض فيه ، و «على» مع المجرور فى موضع الحال ، أي : إلّا مغمضين فيه.
ومن حذف حرف الجر قوله تعالى : (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ) (٥).
__________________
(١) المدثر : ٤٩.
(٢) الأنعام : ١١٩.
(٣) البقرة : ٢٥٨.
(٤) البقرة : ٢٦٧.
(٥) آل عمران : ٧٣.
الذي عليه البصريّون حذف المضاف على تقدير : كراهة أن يؤتى.
قال أبو علىّ : فى الآية «أن» لا يخلو من أن يكون منتصبا بأنه مفعول به ، أو مفعول له ؛ فلا يجوز أن ينتصب بأنه مفعول به ؛ وذلك أن الفعل قد تعدّى باللام إلى قوله: (لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) (١) كما تعدى بها فى قوله : (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) (٢) فإذا انتصب هذا بأنه مفعول به لم ينتصب به مفعول آخر ، فإذا لم ينتصب بأنه مفعول به انتصب بالوجه [الآخر] (٣) ، والتقدير : لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم : كراهة ذكر أن يؤتى أحد ، وذكر أن يحاجّوكم. والدليل على انتصابه بهذا الوجه : قوله فى الآية الأخرى (إِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ) (٤) وكما أن قوله (لِيُحَاجُّوكُمْ) فى هذه الآية مفعول له ، وقد دخلت اللام عليه ؛ وكذلك قوله (أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ) منتصب بالعطف على ما هو مفعول له.
/ وهذه الآية عندنا على غير ما قاله الشيخ رحمهالله ، والتقدير : ولا تؤمنوا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، أو يحاجوكم عند ربكم ، إلا من تبع دينكم ، فالباء مضمر ، و «أن يؤتى» مفعول «لا تؤمنوا» واللام زيادة ، ومن تبع دينكم استثناء من «أحد» على التقدير الذي ذكرنا.
ويجوز أن يكون قوله (لمن تبع دينكم) ، «من» صلة «تؤمنوا» وإنما لا يتعدى الفعل بحرفين إذا كانا متفقين ، وأما إذا كانا مختلفين فالتعدّى بهما جائز. وقد استقصينا هذه المسألة فى غير كتاب من كتبنا.
__________________
(١) آل عمران : ٧٣.
(٢) يوسف : ١٧.
(٣) تكملة يقتضيها السياق.
(٤) البقرة : ٧٦.
ومن ذلك قوله تعالى : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) (١) أي من قومه ، فحذف «من».
ومنه قوله تعالى : (فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً) (٢) أي : بظلم وزور ، فحذف الباء. وإن زعمت على أنه ليس على حذف الباء ، وإنما هو من باب (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً) (٣) لم يمكنك تقدير «زور» على لفظه ، وإنما تقدّره : ظالمين مزورين ، فتعدل أيضا عما تلزمنيه. فقد ثبت أنه على تقدير : فقد جاءوا بظلم وزور.
ومنه قوله تعالى : (وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا) (٤) أي : من أن يقولوا ، أي : يضيق صدرك من مقالتهم : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ) (٥).
ومن ذلك قوله تعالى : (عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ* أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ) (٦) أي : لأن كان ذا مال ، فحذف اللام. وفيما يتعلق به هذا اللام اختلاف واضطراب : فى قول أبى علىّ ، مرّة : هو متعلق بمحذوف ولم يعلقه بقوله (إِذا تُتْلى) (٧) ولا بقوله [«قال» الذي هو جواب «إذا»] (٨) قال : لأن ما بعد «إذا» لا يعمل فيما قبله.
وقال مرة : بقوله «عتلّ» وهذا كلامه على تفرقة.
قال فى التذكرة (٩) : ومن لم يدخل همزة (١٠) الاستفهام كان «أن» متعلقا ب «عتل» وذلك كأنه القليل الانقياد ، وأنشد أبو زيد :
وعتل داويته من العتل |
|
من قول ما قيل وقيل لم يقل |
__________________
(١) الأعراف : ١٥٥.
(٢) الفرقان : ٤.
(٣) العاديات : ١.
(٤) هود : ١٢.
(٥) القلم : ١٣ ، ١٤.
(٦) القلم : ١٥.
(٧) كتاب كبير في علوم العربية.
(٨) في المخطوطة بياض بقدر كلمتين إشارة إلى كلام ساقط ، والتكملة من الكشاف (٤ : ٥٨٨).
(٩) في المخطوطة : «مرة». ولعل الصواب ما أثبتناه.
فإن قلت : كيف جاز تعلّقه بقوله «عتل» وهو موصوف؟ وما يعمل عمل الفعل ، إذا وصف لم يعمل عمله ، ألا ترى أنه لم يستجز ولم يستحسن : مررت / بضارب ظريف زيدا؟ وقد وصف «عتل» ب «زنيم».
فالقول : إن ذلك إنما لم يستحسن لخروجه بالصفة إلى شبه الاسم ، وبعده من شبه الفعل ، وقد يعمل ما يبعد من شبه الأسماء ، نحو : مررت برجل خير منه أبوه ؛ وإن كان غير ذلك أحسن. والإعمال فى الآية له مزيّة ، وإن كان قد وصف ، وذلك أن حرف الجرّ كأنه ثابت فى اللفظ ، لطول الكلام ب «أن» ، ولأنّ «أن». قد صارت كالبدل منه ؛ ومن ثم قال الخليل فى هذا النحو : إنه فى موضع جر ، وإذا كان كذلك فقد يعمل بتوسط الحرف. وقد ينتصب «أن» من وجه آخر غير ما ذكرنا ، وذلك أن قوله : (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (١) يدل على الإنكار والاستكبار وترك الانقياد ، فأعمل هذا المعنى ، الذي دل عليه هذا الكلام ، فى «أن» وكان التقدير ، استكبر وكفر ، لأن كان ذا مال وبنين.
فأما من أدخل الهمزة فقال : أأن كان ذا مال وبنين. فقد يكون فى موضع النصب أيضا من وجهين :
أحدهما : أن ما تقدم مما دلّ عليه من قوله «عتل» صار بمنزلة الملفوظ به بعد الاستفهام ، فكأنه : ألأن كان ذا مال وبنين يعتل أو يكفر أو يستكبر ، ونحو ذلك.
__________________
(١) القلم : ١٥.
كما أن ما تقدم من ذكر قوله : (آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ)(١) صار كالمذكور بعد قوله : (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ) (٢) ، ويكون (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا) كلاما مستأنفا.
[ثانيهما (٣)] : ويجوز أيضا مع الاستفهام أن يعمل فى «أن» ما دل عليه قوله : (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ).
كما جاز أن يعمل إذا لم يدخل الاستفهام ؛ ومثل ذلك قوله تعالى : (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ) (٤).
ومن حذف الجر قوله : (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ) (٥) أي : من أن تكون.
وكذلك : (إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ) (٦) أي : من سؤالك.
فأما قوله فى التنزيل : (يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) (٧) إن حملت «السماء» / على التي هى تظل الأرض ، أو على السحاب ، كان من هذا الباب ، وكان التقدير : يرسل من السماء عليكم مدرارا. فيكون «مدرارا» مفعولا به. وإن حملت «السماء» على المطر ، كان مفعولا به ، ويكون انتصاب «مدرارا» على الحال.
ويقوّى الوجه الأول (فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً) (٨) ، (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ) (٩) ، (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) (١٠) وغير ذلك من الآي.
__________________
(١) يونس : ٩٠.
(٢) يونس : ٩١.
(٣) تكملة يقتضيها السياق.
(٤) الفرقان : ٢٢.
(٥) هود : ٤٦.
(٦) هود : ٤٧.
(٧) هود : ٥٢.
(٨) الحجر : ٢٢.
(٩) النور : ٤٣.
(١٠) البقرة : ٢٢.
ومن ذلك قوله تعالى : (إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) (١) والتقدير : يخوفكم بأوليائه. فحذف المفعول والباء.
وقيل : الأولياء : المنافقون ، لأن الشيطان يخوف المنافقين.
وأما قوله تعالى : (فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) (٢) فقيل : التقدير : لا يضل عن ربى ، أي : الكتاب لا يضل عن ربى ولا ينساه ربى ، فحذفت «عن».
وقيل التقدير : لا يضل ربى عنه ، فحذف الجار مع المجرور ، والجملة فى موضع جر صفة للكتاب.
ومن ذلك قوله تعالى : (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) (٣) أي : على صراطك.
وقال : (وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) (٤) أي : على كل مرصد.
قال أبو إسحاق : قال أبو عبيدة : المعنى كل طريق.
وقال أبو الحسن : «على» محذوفة. المعنى : على كل مرصد. وأنشد :
نغالى الّلحم للأضياف نيئا (٥)
أي : باللحم ، فحذف الباء ، وكذلك حذف «على».
قال أبو إسحاق : (كُلَّ مَرْصَدٍ) ظرف ، كقولك : ذهبت مذهبا ، وذهبت طريقا ، وذهبت كلّ طريق ، فلست تحتاج إلى أن تقول فى هذا الأمر بقوله فى الظروف ، نحو : خلف وقدام.
__________________
(١) آل عمران : ١٧٥.
(٢) طه : ٥٢.
(٣) الأعراف : ١٦.
(٤) التوبة : ٥.
(٥) عجز البيت كما في اللسان «غلا» : «ونرخصه إذا نضج القديد».
قال أبو علىّ : القول فى هذا عندى كما قال ، وليس يحتاج فى هذا إلى تقدير «على» إذا كان «المرصد» اسما للمكان. كما أنك إذا قلت : ذهبت مذهبا ، ودخلت مدخلا ، فجعلت «المدخل» و «المذهب» اسمين للمكان لم نحتج إلى «على» ولا إلى تقدير حرف جر. إلا أن أبا الحسن ذهب إلى أن «المرصد» اسم للطريق ، كما فسّره أبو عبيدة. وإذا كان اسما للطريق كان مخصوصا ، وإذا كان مخصوصا وجب ألّا يصل / الفعل الذي لا يتعدى إليه إلا بحرف جر ، نحو : ذهبت إلى زيد ، ودخلت به ، وخرجت به ، وقعدت على الطريق ؛ إلا أن يجىء فى شىء من ذلك اتساع ، فيكون الحرف معه محذوفا ، كما حكاه سيبويه من قولهم : ذهبت الشام ، ودخلت البيت (١). فالأسماء المخصوصة إذا تعدّت إليها الأفعال التي لا تتعدّى فإنما هو على الاتساع. والحكم فى تعدّيها إليها ، والأصل أن يكون بالحرف.
وقد غلط أبو إسحاق فى قوله : (كُلَّ مَرْصَدٍ) (٢) حيث جعله ظرفا كالطريق ، كقولك : ذهبت مذهبا ، وذهبت طريقا ، وذهبت كل مذهب ، فى أن جعل «الطريق» ظرفا كالمذهب ، وليس «الطريق» بظرف.
__________________
(١) الكتاب (١ : ١٦).
(٢) التوبة : ٦.
ألا ترى أنه مكان مخصوص ، كما أن البيت والمسجد مخصوصان. وقد نص سيبويه على اختصاصه ، والنص يدل على أنه ليس كالمذهب. ألا ترى أنه حمل قول ساعدة (١) :
لدن بهزّ الكفّ يعسل متنه |
|
فيه كما عسل الطّريق الثّعلب (٢) |
على أنه قد حذف معه الحرف اتساعا ، كما حذف عنده من : ذهبت الشام.
وقد قال أبو إسحاق فى هذا المعنى خلاف ما قاله هذا. ألا ترى أنه قال فى قوله تعالى : (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) (٣) أي : على صراطك.
قال : ولا اختلاف بين النحويين أن «على» محذوفة.
ومن حذف الجار قوله تعالى : (لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) (٤) أي : فى أن يجاهدوا ، فحذف «فى».
وقال : (وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا* أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً) (٥) أي : لأن دعوا ، فحذف اللام.
وأما قوله : (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) (٦) فقد قالوا : التقدير : ثم يسره للسبيل ، وإنها كناية الولد المخلوق من النطفة فى قوله (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ) (٧) ثم يسره للسبيل ، فحذف اللام وقدّم المفعول ، لأن «يسر» يتعدى
__________________
(١) هو ساعدة بن جؤية. وانظر الكتاب لسيبويه (١ : ١٦).
(٢) يعسل : يضطرب. وعسل الطريق : أي عسل في الطريق ، فحذف وأوصل.
(٣) الأعراف : ١٦.
(٤) التوبة : ٤٤.
(٥) مريم : ٩٠ ، ٩١.
(٦) عبس : ٢٠.
(٧) عبس : ١٨ ، ١٩.
الى مفعولين ، أحدهما باللام ؛ قال : (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى) (١) ، / (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) (٢) ، (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) (٣).
ولو قالوا إن التقدير : ثم السبيل يسره له ، فحذف الجار والمجرور ، لكان أحسن. كقوله تعالى : (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) (٤) فينصب إذ ذاك «السبيل» بمضمر فسره «يسره».
ومن ذلك قوله تعالى : (سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى) (٥) أي : إلى سيرتها ، أو : كسيرتها.
ومن حذف حرف الجر قوله تعالى : (نُودِيَ يا مُوسى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) (٦) فيمن فتح ؛ والتقدير : بأنى أنا ربك ، لأنك تقول : ناديت زيدا بكذا.
ومثله : (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ) (٧) فيمن فتح الهمزة ، أي : نادته بأن الله.
فأما من كسر الهمزتين فى الموضعين فبإضمار القول ، وما قام مقام فاعل «نودى» ضمير موسى ، أي : نودى هو يا موسى. ويجوز أن يقوم المصدر مقام الفاعل ، ولا يجوز أن يقوم «يا موسى» مقام الفاعل ، لأنه جملة.
هذا كلامه فى «الحجة» (٨). وقد جرى فيه على أصلهم حيث خالفوا سيبويه فى قوله : (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ) (٩) ، من أن
__________________
(١) الأعلى : ٨.
(٢) الليل : ٧.
(٣) الليل : ١٠.
(٤) طه : ٢٥ و ٢٦.
(٥) طه : ٢١.
(٦) طه : ١١ ، ١٢.
(٧) آل عمران : ٣٩.
(٨) هو كتاب الحجة في القراءات لأبي علي الحسن بن أحمد الفارسي المتوفي سنة ٣٧٧ ه.
(٩) يوسف : ٣٥.