ولما انتهى رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى ذى طوى ، وقف على راحلته معتجرا بشقة برد حبرة حمراء. وإن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ليضع رأسه تواضعا لله حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح ، حتى إن عثنونه ليكاد يمس واسطة الرحل.
* * *
ثم إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم حين فرق جيشه من ذى طوى ، أمر الزبير بن العوام أن يدخل فى بعض الناس من كدى ، وكان الزبير على المجنبة اليسرى ، وأمر سعد بن عبادة أن يدخل فى بعض الناس من كداء. وأمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم خالد بن الوليد فدخل من الليط ، أسفل مكة ، فى بعض الناس ، وكان خالد على المجنبة اليمنى ، وفيها أسلم وسليم وغفار ومزينة وجهينة وقبائل من قبائل العرب. وأقبل أبو عبيدة بن الجراح بالصف من المسلمين ، ينصب لمكة بين يدى رسول الله صلىاللهعليهوسلم. ودخل رسول الله صلىاللهعليهوسلم من أذاخر ، حتى نزل بأعلى مكة ، وضربت له هنالك قبته.
* * *
ثم إن صفوان بن أمية ، وعكرمة بن أبى جهل ، وسهيل بن عمرو ، كانوا قد جمعوا ناسا بالخندمة ليقاتلوا ، وقد كان حماس بن قيس بن خالد ، أخو بنى بكر ، يعد سلاحا قبل دخول رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ويصلح منه ، فقالت له امرأته : لما ذا تعد ما أرى؟ قال : لمحمد وأصحابه ، قالت : والله ما أراه يقوم لمحمد وأصحابه شىء ، قال : والله إنى لأرجو أن أخدمك بعضهم. ثم شهد الخندمة مع صفوان وسهيل وعكرمة. فلما لقيهم المسلمون من أصحاب خالد بن
(م ١٦ ـ الموسوعة القرآنية ـ ج ١)
الوليد ، ناوشوهم شيئا من قتال ، فقتل كرز بن جابر ، أحد بنى محارب بن فهر ، وخنيس بن خالد بن ربيعة بن أصرم ، حليف بنى منقذ ، وكانا فى خيل خالد بن الوليد ، فشذا عنه ، فسلكا طريقا غير طريقه فقتلا جميعا.
وأصيب من جهينة سلمة بن الميلاء ، من خيل خالد بن الوليد ، وأصيب من المشركين ناس قريب من اثنى عشر رجلا ، أو ثلاثة عشر رجلا ، ثم انهزموا فخرج حماس منهزما ، حتى دخل بيته ، ثم قال لامرأته : أغلقى على بابى ، فقالت : فأين ما كنت تقول؟ فقال :
إنك لو شهدت يوم الخندمة |
|
إذ فر صفوان وفر عكرمه |
لهم نهيت (١) خلفنا وهمهمه |
|
لم تنطقى فى اللوم أدنى كلمه |
* * *
ثم إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم لما نزل مكة واطمأن الناس ، خرج حتى جاء البيت ، فطاف به سبعا على راحلته ، يستلم الركن بمحجن فى يده. فلما قضى طوافه ، دعا عثمان بن طلحة ، فأخذ منه مفتاح الكعبة ، ففتحت له ، فدخلها ، فوجد فيها حمامة من عيدان فكسرها بيده ثم طرحها ، ثم وقف على باب الكعبة وقد استدار له الناس فى المسجد ، ثم جلس رسول الله صلىاللهعليهوسلم فى المسجد ، فقام إليه على بن أبى طالب ومفتاح الكعبة فى يده ، فقال يا رسول الله ، أجمع لنا الحجابة مع السقاية صلى الله عليك ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : أين عثمان بن طلحة؟ فدعى له ، فقال : هاك مفتاحك يا عثمان ، اليوم يوم بر ووفاء.
* * *
__________________
(١) النهيت : صوت الصدر.
٨٧ ـ غزوة حنين
ولما سمعت هوازن برسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وما فتح الله عليه من مكة ، جمعها مالك بن عوف النصرى. ولما سمع بهم نبى الله صلىاللهعليهوسلم بعث إليهم عبد الله بن أبى حدرد الأسلمى ، وأمره أن يدخل فى الناس ، فيقيم فيهم حتى يعلم علمهم ، ثم يأتيه بخبرهم. فانطلق بن أبى حدرد ، فدخل فيهم فأقام فيهم ، حتى سمع وعلم ما قد أجمعوا له من حرب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وسمع من مالك وأمر هوازن ما هم عليه ، ثم أقبل حتى أتى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فأخبره الخبر. فدعا رسول الله ، صلىاللهعليهوسلم ، عمر بن الخطاب ، فأخبره الخبر. فقال عمر : كذب ابن أبى حدرد. فقال ابن أبى حدرد : إن كذبتنى فربما كذبت بالحق يا عمر ، فقد كذبت من هو خير منى. فقال عمر : يا رسول الله ، ألا تسمع ما يقول ابن أبى حدرد؟ فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : قد كنت ضالا فهداك الله يا عمر.
فلما أجمع رسول الله صلىاللهعليهوسلم السير إلى هوازن ليلقاهم ، ذكر له أن عند صفوان بن أمية أدراعا له وسلاحا ، فأرسل إليه ـ وهو يومئذ مشرك ـ فقال : يا أبا أمية ، أعرنا سلاحك هذا ، نلق فيه عدونا غدا ، فقال : صفوان : أغصبا يا محمد؟ قال : بل عارية ومضمونة حتى نؤديها إليك ، قال : ليس بهذا بأس. فأعطاه مائة درع بما يكفيها من السلاح ، فزعموا أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم سأله أن يكفيهم حملها ، ففعل.
ثم خرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم معه ألفان من أهل مكة ، مع عشرة آلاف من أصحابه الذين خرجوا معه ، ففتح الله بهم مكة ، فكانوا اثنى عشر ألفا. واستعمل رسول الله صلىاللهعليهوسلم عتاب بن أسيد بن أبى العيص
ابن أمية بن عبد شمس على مكة ، أميرا على من تخلف عنه من الناس ، ثم مضى رسول الله صلىاللهعليهوسلم على وجهه يريد لقاء هوازن.
* * *
ويقول جابر : لما استقبلنا وادى حنين انحدرنا فى واد من أودية تهامة أجوف حطوط ، إنما ننحدر فيه انحدارا ، فى عماية الصبح ، وكان القوم قد سبقونا إلى الوادى ، فكمنوا لنا فى شعابه وأحنائه ومضايقه ، وقد أجمعوا وتهيئوا وأعدوا ، فو الله ما راعنا ونحن منحطون إلا الكتائب قد شدوا علينا شدة رجل واحد ، واستمر الناس راجعين ، لا يلوى أحد على أحد ، وانحاز رسول الله صلىاللهعليهوسلم ذات اليمين ، ثم قال : أين أيها الناس؟ هلموا لى ، أنا رسول الله ، أنا محمد بن عبد الله. فانطلق الناس ، إلا أنه قد بقى مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم نفر من المهاجرين والأنصار وأهل بيته ، فلما انهزم الناس ، ورأى من كان مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم من جفاة أهل مكة الهزيمة ، تكلم رجال منهم بما فى أنفسهم من الضغن.
ويقول العباس بن عبد المطلب : إنى لمع رسول الله صلىاللهعليهوسلم آخذ بحكمة بغلته البيضاء ، وكنت امرأ جسما شديد الصوت ، ورسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول ، حين رأى ما رأى من الناس : أين أيها الناس؟ فلم أر الناس يلوون على شىء ، فقال : يا عباس ، اصرخ ، يا معشر الأنصار ، يا معشر أصحاب السمرة! فأجابوا : لبيك! لبيك! قال : فيذهب الرجل ليثنى بعيره ، فلا يقدر على ذلك ، فيأخذ درعه ، فيقذفها فى عنقه ، ويأخذ سيفه وترسه ، ويقتحم عن بعيره ، ويخلى سبيله ، فيؤم الصوت ، حتى ينتهى إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، حتى إذا اجتمع إليه منهم مائة ، استقبلوا الناس
فاقتتلوا ، وكانت الدعوى أول ما كانت : يا للأنصار! ثم خلصت أخيرا : بالخزرج! وكانوا صبرا عند الحرب. فأشرف رسول الله صلىاللهعليهوسلم فى ركائبه ، فنظر إلى مجتلد القوم وهم يجتلدون ، فقال : الآن حمى الوطيس ، والتفت رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى أبى سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، وكان ممن صبر يومئذ مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وكان حسن الإسلام حين أسلم ، وهو آخذ بسير بغلته ، فقال : من هذا؟ قال : أنا ابن أمك ، يا رسول الله.
ولما انهزم المشركون ، أتوا الطائف ، ومعهم مالك بن عوف ، وعسكر بعضهم بأوطاس ، وتوجه بعضهم نحو نخلة ، ولم يكن فيمن توجه نحو نخلة إلا بنو غيرة من ثقيف ، وتبعت خيل رسول الله صلىاللهعليهوسلم من سلك فى نخلة من الناس ، ولم تتبع من سلك الثنايا.
وبعث رسول الله صلىاللهعليهوسلم فى آثار من توجه قبل أوطاس أبا عامر الأشعرى ، فأدرك من الناس بعض من انهزم ، فناوشوه القتال ، فرمى أبو عامر بسهم فقتل ، فأخذ الراية أبو موسى الأشعرى ، وهو ابن عمه ، فقاتلهم ، ففتح الله على يديه وهزمهم.
* * *
ثم إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم مر يومئذ بامرأة ، وقد قتلها خالد ابن الوليد والناس مزدحمون عليها ، فقال : ما هذا؟ فقالوا؟ امرأة قتلها خالد ابن الوليد : فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم لبعض من معه : أدرك خالدا فقل له : إن رسول الله ينهاك أن تقتل وليدا أو امرأة أو عسيفا (١).
__________________
(١) العسيف : الأجير.
٨٨ ـ غزوة الطائف
ولما قدم فل ثقيف الطائف ، أغلقوا عليهم أبواب مدينتها ، وصنعوا الصنائع للقتال. ثم صار رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى الطائف حين فرغ من حنين ، فسلك رسول الله صلىاللهعليهوسلم على نخلة اليمانية ، ثم مضى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، حتى نزل قريبا من الطائف ، فضرب به عسكره ، فقتل به ناس من أصحابه بالنبل ، وذلك أن العسكر اقترب من حائط الطائف ، فكانت النبل تنالهم ، ولم يقدر المسلمون على أن يدخلوا حائطهم ، أغلقوه دونهم ، فلما أصيب أولئك النفر من أصحابه بالنبل ، وضع عسكره عند مسجده الذى بالطائف اليوم ، فحاصرهم بضعا وعشرين ليلة ، ومعه امرأتان من نسائه ، إحداهما أم سلمة بنت أبى أمية ، فضرب لهما قبتين ، ثم صلى بين القبتين ، ثم أقام. فلما أسلمت ثقيف بنى على مصلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم عمرو بن أمية مسجدا ، وكانت فى ذلك المسجد سارية ، فيما يزعمون فحاصرهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وقاتلهم قتالا شديدا ، وتراموا بالنبل.
ورماهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم بالمنجنيق ، حتى إذا كان يوم الشدخة عند جدار الطائف ، دخل نفر من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم تحت دبابة ، ثم زحفوا بها إلى جدران الطائف ليخرقوه ، فأرسلت عليهم ثقيف سكك الحديد محماة بالنار فخرجوا من تحتها ، فرمتهم ثقيف بالنبل ، فقتلوا منهم رجالا ، فأمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم بقطع أعناب ثقيف ، فوقع الناس فيها يقطعون.
ثم إن خويلة بنت حكيم بن أمية بن حارثة بن الأوقص السلمية ، وهى امرأة عثمان ، قالت : يا رسول الله ، أعطنى إن فتح الله عليك الطائف حلى
بادية بنت غيلان بن مظعون بن سلمة ، أو حلى الفارعة بنت عقيل ، وكانتا من أحلى نساء ثقيف ، فذكر لى أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال لها : وإن كان لم يؤذن لى فى ثقيف يا خويلة؟ فخرجت خويلة ، فذكرت ذلك لعمر بن الخطاب ، فدخل على رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : يا رسول الله ما حديث حدثتنيه خويلة ، زعمت أنك قلته؟ قال : قد قلته ، قال : أو ما أذن لك فيهم يا رسول الله؟ قال : لا. قال : أفلا أؤذن بالرحيل؟ قال : بلى. قال : فأذن عمر بالرحيل.
وتزل على رسول الله صلىاللهعليهوسلم فى إقامته ممن كان محاصرا بالطائف عبيد ، فأسلموا ، فأعتقهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
ولما أسلم أهل الطائف تكلم نفر منهم فى أولئك العبيد ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : لا ، أولئك عتقاء الله.
* * *
ثم خرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم حين انصرف عن الطائف فيمن معه من الناس ، ومعه من هوازن سى كثير. وقد قال له رجل من أصحابه يوم ظعن عن ثقيف : يا رسول الله ، ادع عليهم ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : اللهم اهد ثقيفا وائت بهم.
ثم إن وفد هوازن أتوا رسول الله صلى الله عليه وقد أسلموا ، فقالوا : يا رسول الله ، إنا أصل وعشيرة ، وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك ، فامنن علينا ، منّ الله عليك. وقام رجل من هوازن فقال : يا رسول الله ، إنما فى الحظائر عماتك وخالاتك وحواضنك اللاتى كن يكفلنك ، ولو أنا ملحنا (١)
__________________
(١) ملحنا : أرضعنا.
للحارث بن أبى شمر ، أو للنعمان بن المنذر ، ثم نزل بنا بمثل الذى نزلت به ، رجونا عطفه وعائدته علينا ، وأنت خير المكفولين.
فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : أبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم؟ فقالوا : يا رسول الله ، خيرتنا بين أموالنا وأحسابنا ، بل ترد إلينا نساءنا وأبناءنا ، فهو أحب إلينا. قال لهم : أماما كان لى ولبنى عبد المطلب فهو لكم ، وإذا ما أنا صليت الظهر بالناس ، فقوموا فقولوا : إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين ، وبالمسلمين إلى رسول الله ، فى أبنائنا ونسائنا ، فسأعطيكم عند ذلك ، وأسأل لكم. فلما صلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم بالناس الظهر ، قاموا ، فتكلموا بالذى أمرهم به ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : وأما ما كان لى ولبنى عبد المطلب فهو لكم. فقال المهاجرون : وما كان لنا فهو لرسول الله صلىاللهعليهوسلم.
* * *
ولما فرغ رسول الله صلىاللهعليهوسلم من رد سبايا حنين إلى أهلها ، ركب ، واتبعه الناس يقولون : يا رسول الله ، أقسم علينا فيئنا من الإبل والغنم ، حتى ألجئوه إلى شجرة ، فاختطفت عنه رداءه ، فقال : أدوا على ردائى ، أيها الناس ، فو الله أن لو كان لكم بعدد شجر تهامة نعما لقسمته عليكم ، ثم ما ألفيتمونى بخيلا ولا جبانا ولا كذابا ، ثم قام إلى جنب بعير ، فأخذه وبرة من سنامه ، فجعلها بين إصبعيه ، ثم رفعها ، ثم قال : أيها الناس ، والله ما لى من فيئكم ولا هذه الوبرة إلا الخمس ، والخمس مردود عليكم.
وأعطى رسول الله صلىاللهعليهوسلم المؤلفة قلوبهم ، وكانوا أشرافا من أشراف الناس ، يتألفهم ويتألف بهم قومهم.
ولما أعطى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ما أعطى من تلك العطايا ، فى قريش وفى قبائل العرب ، ولم يكن فى الأنصار منها شىء ، وجد هذا الحى من الأنصار فى أنفسهم ، حتى كثرت منهم القالة ، حتى قال قائلهم : لقد لقى والله رسول الله صلىاللهعليهوسلم قومه. فدخل عليه سعد بن عبادة ، فقال : يا رسول الله ، إن هذا الحى من الأنصار قد وجدوا عليك فى أنفسهم ، لما صنعت فى هذا الفيء الذى أصبت ، قسمت فى قومك ، وأعطيت عطايا عظاما فى قبائل العرب ، ولم يك فى هذا الحى من الأنصار منها شىء. قال : فأين أنت من ذلك يا سعد؟ قال : يا رسول الله ، ما أنا إلا من قومى. قال : فاجمع لى قومك فى هذه الحظيرة. فخرج سعد ، فجمع الأنصار فى تلك الحظيرة ، فجاء رجال من المهاجرين فتركهم ، فدخلوا وجاء آخرون فردهم. فلما اجتمعوا له أتاه سعد ، فقال : قد اجتمع لك هذا الحى من الأنصار ، فأتاهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : يا معشر الأنصار ، مقالة بلغتنى عنكم ، وجدة وجدتموها علىّ فى أنفسكم؟ ألم آتكم ضلالا فهداكم الله ، وعالة فأغناكم الله ، وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟ قالوا : بلى ، الله ورسوله أمن وأفضل. ثم قال : ألا تجيبوننى يا معشر الأنصار؟ قالوا : بما ذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ولرسوله المنّ والفضل. قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : أما والله لو شئتم لقلتم ، فلصدقتم ولصدّقتم : أتيتنا مكذبا فصدقناك : ومخذولا فنصرناك ، وطريدا فآويناك ، وعائلا فآسيناك ، أوجدتم يا معشر الأنصار فى أنفسكم فى أنفسكم فى لعاعة (١) من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا ، ووكلتكم
__________________
(١) اللعاعة. بقلة خضراء ناعمة ، شبه بها زهرة الدنيا ونعيمها.
إلى إسلامكم؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار ، أن يذهب الناس بالشاة والبعير ، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ فو الذى نفس محمد بيده ، لو لا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ، ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار ، اللهم ارحم الأنصار ، وأبناء الأنصار ، وأبناء أبناء الأنصار.
فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم ، وقالوا : رضينا برسول الله قسما وحظّا ، ثم انصرف رسول الله صلىاللهعليهوسلم وتفرقوا.
* * *
ثم خرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم من الجعرانة معتمرا ، وأمر ببقايا الفيء فحبس بمجنة ، بناحية مر الظهران ، فلما فرغ رسول الله صلىاللهعليهوسلم من عمرته انصرف راجعا إلى المدينة ، واستخلف عتاب بن أسيد على مكة ، وخلف معه معاذ بن جبل ، يفقه الناس فى الدين ، ويعلمهم القرآن ، واتبع رسول الله صلىاللهعليهوسلم ببقايا الفيء.
* * *
ولما استعمل النبى صلىاللهعليهوسلم عتاب بن أسيد على مكة رزقه كل يوم درهما ، فقام فخطب الناس ، فقال : أيها الناس ، أجاع الله كبد من جاع على درهم ، فقد رزقنى رسول الله صلىاللهعليهوسلم درهما كل يوم ، فليست بى حاجة إلى أحد.
وكانت عمرة رسول الله صلىاللهعليهوسلم فى ذى القعدة ، فقدم رسول الله صلىاللهعليهوسلم المدينة فى بقية ذى القعدة ، أو فى ذى الحجة.
وقدم رسول الله صلىاللهعليهوسلم المدينة لست ليال بقين من ذى القعدة.
* * *
وحج الناس تلك السنة ، على ما كانت العرب تحج عليه ، وحج بالمسلمين تلك السنة عتاب بن أسيد ، وهى سنة ثمان.
وأقام أهل الطائف على شركهم وامتناعهم فى طائفهم ، ما بين ذى القعدة ، إذ انصرف رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى شهر رمضان من سنة تسع.
* * *
٨٩ ـ غزوة تبوك
ثم أقام رسول الله صلىاللهعليهوسلم بالمدينة ، وذلك فى زمان من عسرة الناس ، وشدة من الحر ، وجدب من البلاد ، وحين طابت الثمار ، والناس يحبون المقام فى ثمارهم وظلالهم ، ويكرهون الشخوص على الحال من الزمان الذى هم عليه. وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم قلما يخرج فى غزوة إلا كنى عنها ، وأخبر أنه يريد غير الوجه الذى يصمد له ، إلا ما كان من غزوة تبوك ، فإنه بينها للناس ، لبعد الشقة ، وشدة الزمان ، وكثرة العدو الذى يصمد له ، ليتأهب الناس لذلك أهبته ، فأمر الناس بالجهاز ، وأخبرهم أنه يريد الروم.
فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم ذات يوم ، وهو فى جهازه ذلك ، للجدين قيس ، أحد بنى سلمة : يا جد ، هل لك العام فى جلاد بنى الأصفر؟
فقال : يا رسول الله ، أو تأذن لى ولا تفتنى؟ فو الله لقد عرف قومى أنه ما من رجل بأشد عجبا بالنساء منى ، وأنى أخشى إن رأيت نساء بنى الأصفر ألا أصبر ، فأعرض عنه رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وقال : قد أذنت لك.
وبلغ رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، أن ناسا من المنافقين يجتمعون فى بيت سويلم اليهودى ، يثبطون الناس عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم فى غزوة تبوك ، فبعث إليهم النبى صلىاللهعليهوسلم طلحة بن عبيد الله فى نفر من أصحابه ، وأمره أن يحرق عليهم بيت سويلم ، ففعل طلحة ، فاقتحم الضحاك بن حليفة من ظهر البيت ، فانكسرت رجله ، واقتحم أصحابه ، فأفلتوا.
ثم إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم جد فى سفره ، وأمر الناس بالجهاز والانكماش ، وحفص أهل الغنى على النفقة والحملان (١) فى سبيل الله ، فحمل رجال من أهل الغنى واحتسبوا ، وأنفق عثمان بن عفان فى ذلك نفقة عظيمة ، لم ينفق أحد مثلها.
ثم إن رجالا من المسلمين أتوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وهم البكاءون ، وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم ، فاستحملوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وكانوا أهل حاجة ، فقال : لا أجد ما أحملكم عليه ، فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون.
__________________
(١) الحملان : ما يحمل عليه من الدواب.
فلقى ابن يامين بن عمير بن كعب النضرى ، أبا ليلى عبد الرحمن بن كعب ، وعبد الله بن مغفل ، وهما يبكيان ، قال : ما يبكيكما؟ قالا : جئنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم ليحملنا ، فلم نجد عنده ما يحملنا عليه ، وليس عندنا ما نتقوى به على الخروج معه ، فأعطاهما ناضحا له ، فارتحلاه ، وزودهما شيئا من تمر ، فخرجا مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
وجاءه المعذرون من الأعراب ، فاعتذروا إليه ، فلم يعذرهم الله تعالى.
واستعمل على المدينة محمد بن مسلمة الأنصارى ، فلما سار رسول الله صلىاللهعليهوسلم تخلف عنه عبد الله بن أبى ، فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب.
وخلف رسول الله صلىاللهعليهوسلم على بن أبى طالب ، رضوان الله عليه ، على أهله ، وأمره بالإقامة فيهم ، فأرجف به المنافقون ، وقالوا : ما خلفه إلا استثقالا له ، وتخففا منه ، فلما قال ذلك المنافقون أخذ على بن أبى طالب ، رضوان الله عليه ، سلاحه ، ثم خرج حتى أتى رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو نازل بالجرف ، فقال : يا نبى الله ، زعم المنافقون أنك إنما خلفتنى أنك استثقلتنى وتخففت منى ، فقال : كذبوا ، ولكننى خلفتك لما تركت ورائى ، فارجع فاخلفنى فى أهلى وأهلك ، أفلا ترضى يا على أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى؟ إلا أنه لا نبى بعدى ، فرجع على إلى المدينة ، ومضى رسول الله صلىاللهعليهوسلم على سفره.
* * *
ثم إن أبا خيثمة رجع بعد أن سار رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، أياما إلى أهله فى يوم حار ، فوجد امرأتين له فى عريشين لهما فى حائطه ، قد رشت كل واحدة منهما عريشها ، وبردت له فيه ماء ، وهيأت له طعاما ، فلما دخل ، قام على باب العريش ، فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له ، فقال : رسول الله صلىاللهعليهوسلم فى الضح (١) والريح والحر ، وأبو خيثمة فى ظل بارد وطعام مهيأ ، وامرأة حسناء ، فى ماله مقيم ، ما هذا بالنصف! ثم قال : والله لا أدخل عريش واحدة منكما ، حتى ألحق برسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فهيئا لى زادا ، ففعلتا. ثم قدم بعيره فارتحله ، ثم خرج فى طلب رسول الله صلىاللهعليهوسلم حتى أدركه حين نزل تبوك.
وقد كان أدرك أبا خيثمة عمير بن وهب الجمحى فى الطريق ، يطلب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فترافقا ، حتى إذا دنوا من تبوك ، قال أبو خيثمة لعمير بن وهب : إن لى ذنبا ، فلا عليك أن تخلف عنى حتى آتى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ففعل ، حتى إذا دنا من رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو نازل بتبوك ، قال الناس : هذا راكب على الطريق مقبل ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : كن أبا خيثمة ، فقالوا : يا رسول الله ، هو والله أبو خيثمة.
فلما أناخ أقبل فسلم على رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم : أولى لك يا أبا خيثمة. ثم أخبر رسول الله صلى الله
__________________
(١) الضح : الشمس.
عليه وسلم الخبر ، فقال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم خيرا ، ودعا له بخير.
* * *
وقد كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم حين مر بالحجر نزلها ، واستقى الناس من بئرها ، فلما راحوا قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : لا تشربوا من مائها شيئا ، ولا تتوضئوا منه للصلاة ، وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الإبل ، ولا تأكلوا منه شيئا ، ولا يخرجن أحد منكم الليلة إلا ومعه صاحب له. ففعل الناس ما أمرهم به رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، إلا أن رجلين من بنى ساعدة خرج أحدهما لحاجته ، وخرج الآخر فى طلب بعير له. فأما الذى ذهب لحاجة فإنه خنق على مذهبه ، وأما الذى ذهب فى طلب بعيره ، فاحتملته الريح ، حتى طرحته بجبلى طيئ ، فأخبر بذلك رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقال : ألم أنهكم أن يخرج منكم أحد إلا ومعه صاحبه. ثم دعا رسول الله صلىاللهعليهوسلم للذى أصيب على مذهبه فشفى ، وأما الآخر الذى وقع بجبلى طيئ ، فإن طيئا أهدته لرسول الله صلىاللهعليهوسلم حين قدم المدينة.
ولما مر رسول الله صلىاللهعليهوسلم بالحجر سجى ثوبه على وجهه ، واستحث راحلته ، ثم قال : لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا إلا وأنتم باكون ، خوفا أن يصيبكم مثل ما أصابهم.
فلما أصبح الناس ولا ماء معهم ، شكوا ذلك إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فدعا رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فأرسل الله سبحانه سحابة ، فأمطرت حتى ارتوى الناس ، واحتملوا حاجتهم من الماء.
* * *
ثم إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم سار حتى إذا كان ببعض الطريق ضلت ناقته ، فخرج أصحابه فى طلبها ، وعند رسول الله صلىاللهعليهوسلم رجل من أصحابه ، يقال له : عمارة بن حزم ، وكان عقبيّا بدريّا ، وهو عم بنى عمرو بن حزم ، وكان فى رحله زيد بن اللصيت القينقاعى ، وكان منافقا. فقال زيد بن اللصيت ، وهو فى رحل عمارة ، وعمارة عند رسول الله صلىاللهعليهوسلم : أليس محمد يزعم أنه نبى ، ويخبركم عن خبر السماء ، وهو لا يدرى أين ناقته؟ فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وعمارة عنده : إن رجلا قال : هذا محمد يخبركم أنه نبى ، ويزعم أنه يخبركم بأمر السماء ، وهو لا يدرى أين ناقته؟ وإنى والله ما أعلم إلا ما علمنى الله ، وقد دلنى الله عليها ، وهى فى هذا الوادى ، فى شعب كذا وكذا ، قد حبستها شجرة بزمامها ، فانطلقوا حتى تأتونى بها. فذهبوا ، فجاءوا بها. فرجع عمارة بن حزم إلى رحله ، فقال : والله لعجب من شىء حدثناه رسول الله صلىاللهعليهوسلم آنفا ، عن مقالة قائل أخبره الله عند بكذا وكذا ، للذى قال زيد بن اللصيت. فقال رجل ممن كان فى رحل عمارة ، ولم يحضر رسول الله صلىاللهعليهوسلم : زيد والله قال هذه المقالة قبل أن تأتى. فأقبل عمارة على زيد يضرب فى عنقه ويقول : إلى عباد الله ، إن فى رحلى لداهية وما أشعر! اخرج أى عدو الله من رحلى ، فلا تصحبنى.
* * *
ثم مضى رسول الله صلىاللهعليهوسلم سائرا ، فجعل يتخلف عنه الرجل ، فيقولون : يا رسول الله ، تخلف فلان ، فيقول : دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه الله تعالى بكم ، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه ، حتى قيل : يا رسول
الله ، قد تخلف أبو ذر ، وأبطأ به بعيره ، فقال : دعوه ، فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم ، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه. وتلوّم (١) أبو ذر على بعيره ، فلما أبطأ عليه ، أخذ متاعه فحمله على ظهره ، ثم خرج يتبع أثر رسول الله صلىاللهعليهوسلم ماشيا. ونزل رسول الله فى بعض منازله ، فنظر ناظر من المسلمين ، فقال : يا رسول الله ، إن هذا الرجل يمشى على الطريق وحده ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : كن أبا ذر. فلما تأمله القوم قالوا : يا رسول الله ، هو والله أبو ذر ، فقال : رسول الله صلىاللهعليهوسلم : رحم الله أبا ذر ، يمشى وحده ، ويموت وحده ، ويبعث وحده.
وقد كان رهط من المنافقين ، يشيرون إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو منطلق إلى تبوك ، فقال بعضهم لبعض : أتحسبون جلاد بنى الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضا؟ والله لكأنا بكم غدا مقرنين فى الحبال .. إرجافا وترهيبا المؤمنين.
وقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم لعمار بن ياسر : أدرك القوم ، فإنهم قد احترقوا (٢) فسلهم عما قالوا ، فإن أنكروا فقل : بلى ، قلتم كذا وكذا. فانطلق عمار ، فقال ذلك لهم ، فأتوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم يعتذرون إليه.
* * *
ثم أقبل رسول الله صلىاللهعليهوسلم حتى نزل بذى أوان ، بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار ، وكان أصحاب مسجد الضرار قد كانوا أتوه وهو يتجهز إلى تبوك ، فقالوا : يا رسول الله ، إنا قد بنينا مسجدا لذى العلة والحاجة
__________________
(١) تلوم. تلبث.
(٢) احتراقو : هلكوا.
(م ١٧ ـ الموسوعة القرآنية ـ ج ١)
والليلة المطيرة والليلة الشاتية ، وإنا نحب أن تأتينا ، فتصلى لنا فيه ، فقال : إنى على جناح سفر ، وحال شغل ، ولو قد قدمنا إن شاء الله لآتيناكم ، فصلينا لكم فيه.
فلما نزل بذى أوان ، أتاه خبر المسجد ، فدعا رسول الله صلىاللهعليهوسلم مالك بن الدخشم أخا بنى سالم بن عوف ، ومعن بن عدى ، أخا بنى العجلان ، فقال : انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله ، فاهدماه وحرقاه فخرجا سريعين حتى أتيا بنى سالم بن عوف ، وهم رهط مالك بن الدخشم ، فقال مالك لمعن : أنظرنى حتى أخرج إليك بنار من أهلى. فدخل إلى أهله ، فاخذ سعفا من النخل ، فأشعل فيه نارا ، ثم خرجا يشتدان حتى دخلاه وفيه أهله ، فحرقاه وهدماه ، وتفرقوا عنه.
* * *
وكانت مساجد رسول الله صلىاللهعليهوسلم فيما بين المدينة إلى تبوك معلومة مسماة.
وقدم رسول الله صلىاللهعليهوسلم المدينة ، وكان قد تخلّف عنه رهط من المنافقين ، وتخلّف ثلاثة من المسلمين من غير شك ولا نفاق : كعب بن مالك ، ومرارة بن الربيع ، وهلال بن أمية ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم لأصحابه : لا تكلمن أحدا من هؤلاء الثلاثة ، فاعتزل المسلمون كلام أولئك النفر الثلاثة.
ويقول كعب : وآذن رسول الله صلىاللهعليهوسلم الناس بتوبة الله علينا ، حين صلى الفجر ، فذهب الناس يبشروننا ، وذهب نحو صاحبى مبشرون ، وركض رجل إلى فرسا ، وسعى ساع من أسلم ، حتى أوفى على الجبل ، فكان الصوت أسرع من الفرس. فلما جاءنى الذى سمعت صوته
يبشرنى ، نزعت ثوبى فكسوتهما إياه بشارة ، والله ما أملك يومئذ غيرهما ، واستعرت ثوبين فلبستهما ، ثم انطلقت أتيمم رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وتلقانى الناس يبشروننى بالتوبة ، حتى دخلت المسجد ورسول الله صلىاللهعليهوسلم جالس حوله الناس.
فقام إلى طلحة بن عبد الله ، فحيانى وهنأنى ، فلما سلمت على رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال لى ، ووجهه يبرق من السرور : أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك ، قلت : أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال : بل من عند الله.
* * *
٩٠ ـ إسلام ثقيف
وقدم رسول الله صلىاللهعليهوسلم المدينة من تبوك فى رمضان ، وقدم عليه فى ذلك الشهر وفد ثقيف.
وكان من حديثهم أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم لما انصرف عنهم ، اتبع أثره عروة بن مسعود الثقفى ، حتى أدركه قبل أن يصل إلى المدينة ، فأسلم وسأله أن يرجع إلى قومه بالإسلام ، فقال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم : إنهم قاتلوك وعرف رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن فيهم نخوة الامتناع الذى كان منهم ، فقال عروة : يا رسول الله ، أنا أحب إليهم من أبكارهم.
وكان فيهم كذلك محببا مطاعا ، فخرج يدعو قومه إلى الإسلام ، رجاء ألا يخالفوه ، لمنزلته فيهم ، فلما أشرف لهم على علية له ، وقد دعاهم إلى الإسلام ، وأظهر لهم دينه ، رموه بالنبل من كل وجه ، فأصابه سهم فقتله ، فقيل لعروة :
ما ترى فى دمك؟ قال : كرامة أكرمنى الله بها ، وشهادة ساقها الله إلىّ ، فليس فى إلا ما فى الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم قبل أن يرتحل عنكم ، فادفنونى معهم ، فدفنوه معهم. فزعموا أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال فيه : إن مثله فى قومه لكمثل صاحب ياسين فى قومه.
* * *
ثم أقامت ثقيف بعد قتل عروة أشهرا ، ثم إنهم ائتمروا بينهم ، ورأوا أنه لا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب ، وقد بايعوا وأسلموا.
فلما أسلموا وكتب لهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم كتابهم ، أمر عليهم عثمان بن أبى العاص ، وكان أحدثهم سنّا ، وذلك لأنه كان أحرصهم على التفقه فى الإسلام ، وتعلم القرآن. فقال أبو بكر لرسول الله صلىاللهعليهوسلم : يا رسول الله ، إنى رأيت هذا الغلام منهم من أحرصهم على التفقه فى الإسلام ، وتعلم القرآن.
فلما فرغوا من أمرهم ، وتوجهوا إلى بلادهم راجعين ، بعث رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، معهم أبا سفيان بن حرب ، والمغيرة بن شعبة ، فى هدم الطاغية ، فهرجا مع القوم ، حتى إذا قدموا الطائف أراد المغيرة بن شعبة أن يقدم أبا سفيان ، فأبى ذلك أبو سفيان عليه ، وقال : ادخل أنت على قومك ، وأقام أبو سفيان بماله ، فلما دخل المغيرة بن شعبة علاها يضربها بالمعول ، وقام قومه دونه ، بنو معتب ، خشية أن يرمى أو يصاب كما أصيب عروة ، وخرج نساء ثقيف حسرا يبكين عليها.
* * *