لطائف الإشارات - ج ٢

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ٢

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٥٥

لم يتقدمهم فى الفضيلة ـ إلى يومنا ـ أحد (١) ؛ فأولئك مقطوع بإمامتهم ، وصدق وعد الله فيهم ، وهم على الدين المرضىّ من قبل الله ، ولقد أمنوا بعد خوفهم ، وقاموا بسياسة المسلمين ، والذّبّ عن حوزة الإسلام أحسن قيام.

وفى الآية إشارة إلى أئمة الدين الذين هم أركان الملّة ودعائم الإسلام ، الناصحون لعباده ، الهادون من يسترشد فى الله ؛ إذ الخلل فى أمر المسلمين من الولاة الظّلمة ضرره مقصور على ما يتعلّق بأحكام الدنيا ، فأما حفّاظ الدين فهم الأئمة من العلماء وهم أصناف :

قوم هم حفّاظ أخبار الرسول عليه‌السلام وحفّاظ القرآن وهم بمنزلة الخزنة ، وقوم هم علماء الأصول الرادّون على أهل العناد وأصحاب البدع بواضح الأدلة ، وهم بطارقة الإسلام وشجعانه.

وقوم هم الفقهاء المرجوع إليهم فى علوم الشريعة من العبادات وكيفية المعاملات وما يتعلق بأحكام المصاهرات وحكم الجراحات والدّيّات ، وما فى معانى الأيمان والنذور والدعاوى ، وفصل الحكم فى المنازعات وهم فى الدين بمنزلة الوكلاء والمتصرفين فى الملك.

وقوم هم أهل المعرفة وأصحاب الحقائق وهم فى الدّين كخواصّ الملك وأعيان مجلس السلطان ؛ فالدين معمور بهؤلاء ـ على اختلافهم إلى يوم القيامة.

قوله جل ذكره : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٥٧))

إنّ الباطل قد تكون له دولة ولكنها تخييل ـ وما لذلك بقاء ـ وأقلّ لبثا من عارض ينشأ عن الغيظ.

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ

__________________

(١) فى م بعدها (وما بعدهم مختلف فيهم).

٦٢١

يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ ...)(١)

ضيّق الأمر من وجه ووسّعه من وجه ، وأمر بمراعاة الاحتياط وحسن السياسة لأحكام الدين ومراعاة أمر الحرم ، والتحرر من مخاوف الفتنة ، وإذا كانت الجوانب محروسة صارت المخاوف مأمونة.

قوله جل ذكره : (وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٦٠))

يحدث تأثير بالمضرّة لبنات الصدور (٢) من دواعى الفتنة واستيلاء سلطان الشهوة ؛ فإذا سكنت تلك الثائرة سهل الباب ، وأبيحت الرّخص وأمنت الفتنة.

قوله جل ذكره : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ)

إذا جاءت الأعذار سهل الامتحان والاختيار ، وإذا حصلت القرابة سقطت الحشمة ، وإذا صدقت القرابة انتفت التفرقة والأجنبية ؛ فبشهادة هذه الآية إذا انتفت هذه الشروط صحّت المباسطة فى الارتفاق.

__________________

(١) ذكر ابن عباس أن الرسول (ص) وجّه غلاما من الأنصار يقال له مدلج بن عمرو إلى عمر ابن الخطاب رضى الله عنه وقت الظهيرة ليدعوه ، فدخل فرأى عمر بحالة كره عمر رؤيته ذلك ، فقال : يا رسول الله : وددت لو أن الله تعالى أمرنا ونهانا فى حال الاستئذان ، فنزلت هذه الآية.

وقال مقاتل نزلت فى أسماء بنت مرند حين دخل عليها غلام كبير فى وقت كرهته فشكت إلى رسول الله. فانزل الله هذه الآية.

(٢) بنات الصدور تعبير بالكناية عن الأسرار والخواطر.

٦٢٢

ثم قال : (أَوْ صَدِيقِكُمْ) : وعزيز من يصدق فى الصداقة ؛ فيكون فى الباطن كما يرى فى الظاهر ، ولا يكون فى الوجه كالمرآة ومن ورائك كالمقراض ، وفى معناه ما قلت :

من لى بمن يثق الفؤاد بودّه

فإذا ترحّل لم يزغ عن عهده

يا بؤس نفسى من أخ لى باذل

حسن الوفاء بوعده لا نقده

يولى الصفاء بنطقه لا خلقه

ويدسّ صابا فى حلاوة شهده

فلسانه يبدى جواهر عقده

وجنانه تغلى مراجل حقده

لاهمّ إنى لا أطيق مراسه

بك أستعيذ من الحسود وكيده

(وقوله : (أَوْ صَدِيقِكُمْ) من تؤمن منه هذه الخصال وأمثالها) (١).

قوله جل ذكره : (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)

السلام الأمان ، وسبيل المؤمن إذا دخل بيتا أن يسلّم من الله على نفسه ؛ أي يطلب الأمان والسلامة من الله لتسلم نفسه من الإقدام على ما لا يرضاه الله ، إذ لا يحل لمسلم أن يفتر لحظة عن الاستجارة بالله حتى لا يرفع عنه ـ سبحانه ـ ظلّ عصمته ؛ بإدامة حفظه عن الاتصاف بمكروه فى الشرع (٢).

قوله جل ذكره : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ

__________________

(١) ما بين القوسين موجود في ص وغير موجود فى م.

(٢) فى هذه الإشارة غمز بأصحاب البدع الذين يرتكبون ما يخالف الشرع بدعوى الوله والانمحاء

٦٢٣

لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٢))

شرط الاتباع موافقة المتبوع ، وألا يتفرقوا فيصيروا أحزابا كما قال : (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) (١) والعلماء ورثة الأنبياء ، والمريدون لشيوخهم كالأّمة لنبيّهم ؛ فشرط المريد ألا يتنفّس ينفس إلا بإذن شيخه ، ومن خالف شيخه فى نفس ـ سرّا أو جهرا ـ فإنه يرى غبّه سريعا فى غير ما يحبّه. ومن خالفة الشيوخ فيما يستسرونه (٢) عنهم أشدّ ممّا يظهر بالجهر بكثير لأن هذا يلتحق بالخيانة. ومن خالف شيخه لا يشمّ رائحة الصّدق ، فإن بدر منه شىء من ذلك فعليه بسرعة الاعتذار والإفصاح عمّا حصّل منه من المخالفة والخيانة ، ليهديه شيخه إلى ما فيه كفّارة جرمه ، ويلتزم فى الغرامة بما يحكم به عليه. وإذا رجع المريد إلى شيخه بالصدق وجب على شيخه جبران تقصيره بهمته ؛ فإن المريدين عيال على الشيوخ ؛ فرض عليهم أن ينفقوا عليهم من قوّة أحوالهم بما يكون جبرانا لتقصيرهم.

قوله جل ذكره : (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣))

أي عظّموه فى الخطاب ، واحفظوا فى خدمته الأدب ، وعانقوا طاعته على مراعاة الهيبة والتوقير.

قوله جل ذكره : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) (٣) (أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)

__________________

(١) آية ١٤ سورة الحشر.

(٢) فى ص (يستبشرونه) وفى م (يستسترونه) ونحن نؤيد هذه حتى تتلاءم مع (ما يظهر بالجهر) فينتظم السياق بها.

(٣) يقال خالفه عن الأمر إذا صد عنه دونه.

٦٢٤

سعادة الدارين فى متابعة السّنّة ، وشقاوة المنزلين فى مخالفة السّنّة. ومن أيسر ما يصيب من خالف سنته حرمان الموافقة ، وتعذّر المتابعة بعده ، وسقوط حشمة الدارين عن قلبه.

قوله جل ذكره : (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٤))

(١) (٢) إنّ لليوم غدا ، ولمّا يفعل العبد حسابا ، وسيطالب المكلّف بالصغير والكبير ، والنقير والقطمير.

سورة الفرقان

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

بسم الله اسم جليل شهدت بجلاله أفعاله ، ونطقت بجماله أفضاله. دلّت على إثباته آياته ، وأخبرت عن صفاته مفعولاته.

بسم الله اسم عزيز عرفت بفعله قدرته ، اسم كريم شهدت بفضله نصرته.

بسم الله اسم عزيز عرفه العقلاء بدلالات أفعاله ، وعرفه الأصفياء باستحقاقه لجلاله وجماله ؛ فبلطف جماله عرفوا جوده ، وبكشف جلاله عرفوا وجوده.

بسم الله اسمه عزيز من دعاه لبّاه ، ومن توكل عليه كفاه ، ومن توسّل إليه أكرمه وآواه ، ومن تنصّل إليه (٣) رحمه وأدناه ، ومن شكا إليه أشكاه (٤) ، ومن سأله خوّله وأعطاه.

__________________

(١) وفى قراءة (يرجعون) بفتح الياء وكسر الجيم.

(٢) يروى أن ابن عباس رضى الله عنه قرأ سورة النور على المنبر فى الموسم وفسرها على وجه لو سمعت الروم به لأسلمت.

(٣) تنصل إليه هنا معناها تبرأ من ذنبه وتاب.

(٤) أشكى أي قبل الشكاة وأعان الشاكي.

٦٢٥

قوله جل ذكره : (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (١))

يقال برك الطير على الماء إذا دام وقوفه على ظهر الماء. ومبارك الإبل مواضع إقامتها بالليل. وتبارك على وزن تفاعل تفيد دوام بقائه ، واستحقاقه لقدم ثبوته وبقاء وجوده لا عن استفتاح ولا إلى انقطاع.

وفى التفاسير (تَبارَكَ) أي تعظّم وتكبّر. وعند قوم أنه من البركة وهى الزيادة والنفع ، فداومه وجوده ، وتكبره ستحقاق ذاته لصفاته العلية ، والبركة أو الزيادة تشير إلى فضله وإحسانه ولطفه.

فوجوه الثناء عليه تنحصر بهذه الأوجه الثلاثة : ثناء عليه بذكر ذاته وحقّه ، وثناء بذكر وصفه وعزّه ، وثناء بذكر إحسانه وفضله ؛ فكلمة (تَبارَكَ) مجمع الثناء عليه ـ سبحانه.

(الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ) وهو القرآن (عَلى عَبْدِهِ) : فأكرمه بأن نبّاه وفضّله ، وإلى الخلق أرسله ، وبيّن معجزته وأمارة صدقه بالقرآن الذي عليه أنزله ، وجعله بشيرا ونذيرا ، وسراجا منيرا.

قوله جل ذكره : (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)

تفرّد بالملك فلا شريك يساهمه ، وتوحّد بالجلال فلا نظير يقاسمه ؛ فهو الواحد بلا قسيم فى ذاته ، ولا شريك فى مخلوقاته ، ولا شبيه فى حقّه ولا فى صفاته.

قوله جل ذكره : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (٣))

اتخذوا من دون الله آلهة لا يملكون قطميرا ، ولا يخلقون نقيرا ، ولا يدفعون عنهم

٦٢٦

كثيرا ولا يسيرا ، ولا ينفعونهم ولا يسهّلون عليهم عسيرا ، ولا يملكون لأحد موتا (١) ولا نشورا.

قوله جل ذكره : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (٤) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٥) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٦))

ظنّوه كما كانوا ، ولمّا كانوا بأمثالهم قد استعانوا فيما عجزوا عنه من أمورهم ، واستحدثوا لأمثالهم واستكانوا ـ فقد قالوا من غير حجّة وتقولوا ، ولم يكن لقولهم تحصيل ، ولأساطير الأولين ترّهاتهم (٢) التي لا يدرى هل كانت؟ وإن كانت فلا يعرف كيف كانت ومتى كانت؟

ثم قال : يا محمد ، إن هذا الكتاب ـ الذي أنزله الذي يعلم السّرّ فى السماوات والأرض ـ لا يقدر أحد على الإتيان بمثله ولو تشاغلوا (٣) من الوقت الذي أتى به أعداء الدين ، وهم على كثرتهم مجتهدون فى معارضته بما يوجب مساواته ؛ فادّعوا تكذيبه. وانقطعت الأعصار وانقضت الأعمار ، ولم يأت أحد بسورة مثله ، فانتفى الرّيب عن صدقه ، ووجب الإقرار بحقّه.

قوله جل ذكره : (وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ

__________________

(١) هكذا فى م وهى في ص (حياة ولا نشورا) والمعنى يتقبلهما أيضا.

(٢) هكذا فى م وهى في ص (برهانهم الذي ...) ولكننا آثرنا (ترهانهم) بدليل التأنيث فى (كانت) مكررا.

(٣) هكذا فى ص وهى فى س (ولو تساعدوا).

٦٢٧

وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (٧) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٨) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٩) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (١٠))

(١) لما عجزوا عن معارضته أخذوا يعيبونه بكونه بشرا من جنسهم يمشى فى الأسواق ، ويأكل الطعام ، وعابوه بالفقر وقالوا : هلّا نزّل عليه الملائكة فيرون عيانا؟ وهلّا جعل له الكنوز فاستكثر مالا؟ وهلّا خصّ بآيات ـ اقترحوها ـ فتقطع العذر وتزيل عنّا إشكالا؟! وما هذا الرجل إلا بشر تعتريه من دواعى الشهوات ما يعترى غيره! فأىّ خصوصية له حتى تلزمنا متابعته ولن يظهر لنا حجة؟ فأجاب الله عنهم وقال : إنّ الحقّ قادر على تمليك ما قالوا وأضعاف ذلك ، وفى قدرته إظهار ما اقترحوه وأضعاف ذلك ، ولكن ليس لهم هذا التخير (٢) بعد ما أزيح العذر بإظهار معجزة واحدة ، واقتراح ما يهوون تحكّم على التقدير ، وليس لهم ذلك. ثم أخبر أنه لو أظهر تفصيل ما قالوه وأضعافه لم يؤمنوا ؛ لأن حكم الله بالشقاوة سابق لهم ، وقال :

__________________

(١) يذكر ابن عباس أنه لم اعبر المشركون محمدا (ص) بالفاقة أقبل رضوان خازن الجنة عليه وقال : يا محمد ، رب العزة يقرئك السلام ويقول لك : هذه مفاتيح خزائن الدنيا مع ما لا ينتقص لك مما عنده فى الآخرة مثل جناح بعوضة فقال النبي : يا رضوان لا حاجة لى فيها ، لأحب إلى أن أكون عبدا صابرا شكورا فقال رضوان : أصبت أصابك الله. ورفع الرسول بصره فإذا منازله فوق منازل الأنبياء وغرفهم فدعا النبي : اللهم اجعل ما أردت أن تعطينى فى الدنيا ذخيرة عندك فى الشفاعة يوم القيامة.

(٢) يمكن أن تكون (التحيز) لتنسجم مع (ما اقترحوه) ومع (ما يهوون) ولكننا لا نستبعد أن تكون (التحيز) بالحاء لكثرة جدلهم حول ما ينبغى ـ فى تصورهم ـ للرسول.

٦٢٨

(بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (١١))

فهم فى حكم الله من جملة الكفار ، والله أعدّ لهم ولأمثالهم من الكفار وعيد الأبد .. فلا محالة يمتحنون به.

قوله : (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) : دليل على جواز التكليف بما لا يقدر عليه العبد فى الحال ؛ لأنه أخبر أنهم لا يستطيعون سبيلا ، وهم معاتبون مكلّفون.

قوله جل ذكره : (إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (١٢))

فوحشة النار توجد من مسافة بعيدة قبل شهودها والامتحان بها ، ونسيم الجنة يوجد قبل شهودها والدخول فيها ، والنار تسجّر منذ سنين قبل المحترقين بها ، والجنة تزيّن منذ سنين قبل المستمتعين بها. وكذب من أحال (١) وجودهما قبل كون سكانهما وقطانهما من المنتفعين أو المعاقبين ، لأن الصادق أخبر عن صفاتهما التي لا تكون إلا بموجود حيث قال :

(وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (١٣) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (١٤))

راحة الجنة مقرونة بسعتها ، ووحشة النار مقرونة بضيقها ، فيضيّق عليهم مكانهم ، ويضيّق عليهم قلوبهم ، ويضيق عليهم أوقاتهم. ولو كانت حياتهم تبطل وكانوا يتخلصون

__________________

(١) لهذا الرأى أهميته حيث يرى كثير من المعتزلة أن الجنة والنار لا يوجدان الآن وإنما يوجدان فى الآخرة عند الجزاء ، وأجمع المعتزلة ـ بخلاف جهم وحده ـ أنهما لا تفنيان ولا يفنى أهلهما ، وهم في هذا يتفقون مع الأشاعرة. أما مخالفة جهم لذلك فقد ذكرها الشهرستاني فى (الملل والنحل ج ١ ص ١١١ ط الخانجى) بدعوى أن تلذذ أهل الجنة بنعيمها وتألم أهل النار بجحيمها حركات تتناهى مع أن نصوص القرآن صريحة فى دوامهما .. والقشيري الأشعري يصرح بذلك فى الآيات التالية.

٦٢٩

منها لم يكن البلاء كاملا ، ولكنها آلام لا تتناهى ، ومحن لا تنقضى ؛ كلما راموا فرجة قيل لهم : فلن تريدكم إلا عذابا.

قوله جل ذكره (قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (١٥))

المتقون أبدا فى النعيم المقيم ؛ حور وسرور وحبور ، وروح وريحان ، وبهجة وإحسان ، ولطف جديد وفضل مزيد ، وألذّ شراب وكاسات محابّ ، وبسط قلب وطيب حال ، وكمال أنس ودوام طرب وتمام جذل ، لباسهم فيها حرير وفراشهم سندس وإستبرق. والأسماء أسماء فى الدنيا والأعيان بخلاف المعهودات فيها (١). ثم فيها ما يشاءون ، وهم أبدا مقيمون لا يبرحون ، ولا هم عنها يخرجون.

قوله جل ذكره : (لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ)

ولكن لا يخلق فى قلوبهم إلا إرادة ما علم أنه سيفعله ، فما هو المعلوم لله أنه لا يفعله لا تتعلق به إرادتهم ، ويمنع من قلوبهم مشيئته.

قوله جل ذكره : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (١٧))

الله يحشر الكفار ويحشر الأصنام التي عبدوها من دون الله ، فيحييها ويقول لها : هل أمرتم هؤلاء بعبادتكم؟ فيتبرأون .. كلّه تهويل وتعظيم للشأن ، وإلا فهو عليم بما كان وما لم يكن. فالأصنام تتبرأ منهم ، وتقابلهم بالتكذيب ، وهم ينادون على أنفسهم بالخطأ والضلال ، فيلقون فى النار ، ويبقون فى الوعيد إلى الأبد.

قوله جل ذكره : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) :

__________________

(١) هذا تنبيه هام جدا لتوضيح حقيقة النعم التي فى الآخرة.

٦٣٠

أخبر أن الذين تقدّموه من الرسل كانوا بشرا ، ولم تكن الخصوصية لهم إلا ظهور المعجزات عليهم. وفى الجملة الفضائل بالمعاني لا بالصورة ، ثم قال :

(وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً).

(فضّل بعضا على بعض ، وأمر المفضول بالصبر والرضاء ، والفاضل بالشكر على العطاء) (١) وخصّ قوما بالبلاء وجعلهم فتنة لأهل البلاء ، وخصّ قوما بالعوافي ، وآخرين بالأسقام والآلام ، فلا لمن نعّمه مناقب ، ولا لمن امتحنه معايب .. فبحكمه لا يجرمهم ، وبفضله لا بفعلهم ، وبإرادته لا بعبادتهم ، وباختياره لا بأوضارهم ، وبأقداره لا بأوزارهم ، وبه لا بهم.

قوله : (أَتَصْبِرُونَ؟) استفهام فى معنى الأمر ، فمن ساعده التوفيق صبر وشكر ، ومن قارنه الخذلان أبى وكفر.

قوله جل ذكره : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (٢١))

(لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) : لا يؤمنون بالحشر والنشر والرجوع إلى الله فى القيامة من الدنيا. وكما كانوا لا يخافون العذاب ، ولا ينتظرون الحشر كذلك كانوا لا يؤمنون لقاء الله.

فمنّكر الرؤية من أهل القبلة ـ ممن يؤمن بالقيامة والحشر ـ مشارك لهؤلاء فى جحد ما ورد به الخبر والنقل ؛ لأن النّقل كما ورد بكون الحشر ورد بكون الرؤية لأهل الإيمان (٢).

فالذين لم يؤمنوا قالوه على جهة رؤية المقام لأنفسهم ، وأنه مسلم لهم ما اقترحوه من نزول

__________________

(١) ما بين القوسين فى م وغير موجود فى ص.

(٢) يعود القشيري بعد قليل إلى شرح موضوع الرؤية عند تفسيره الآية : (وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً)

٦٣١

الملائكة عليهم ورؤية ربهم. وذلك وإن كان فى القدرة جائزا ـ إلا أنه لم يكن واجبا بعد إزاحة عذرهم بظهور معجزات الرسول عليه‌السلام ، فلم يكن اقتراح ما قالوه جائزا لهم.

قوله جل ذكره : (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (٢٢))

اقترحوا شيئين : رؤية الملائكة ورؤية الله ، فأخبر أنهم يرون الملائكة عند التوفّى ، ولكن تقول الملائكة لهم : «لا بشرى لكم!».

(حِجْراً مَحْجُوراً) : أي حراما ممنوعا يعنى رؤية الله عنهم ، فهذا يعود إلى ما جرى ذكره ، وحمله على ذلك أولى من حمله على الجنة ، ولم يجر لها هنا ذكر. ثم فيه بشارة للمؤمنين بالرؤية لأنهم يرون الملائكة ويبشرونهم بالجنة ، قال تعالى : (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ) (١) فكما لا تكون للكفار بشارة بالجنة وتكون للمؤمنين لا تكون الرؤية للكفار وتكون للمؤمنين.

قوله جل ذكره : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (٢٣))

هذه آفة الكفار ؛ ضاع سعيهم وخاب جهدهم ، وضاع عمرهم وخسرت صفقتهم وانقطع رجاؤهم ، وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون ، ويحسبون أنهم يحسنون صنعا.

وأما أصحاب الحقائق وأرباب التوحيد فى لوح لقلوبهم من سماع هذه الآية ما يحصل به كمال روحهم ، وتتأدّى إلى قلوبهم من الراحات ما يضيق عن وصفه شرحهم : ويتقاصر عن ثنائه نطقهم ، حيث يسمعون قوله : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) ولقد ظهرت قيمة أعمالهم حيث قال الحقّ لأجله : (وَقَدِمْنا إِلى ...) فهم إذا سمعوا ذلك وجب لهم من الأريحية ما يشغلهم عن الاهتمام لقوله : (فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) ويقولون : يا ليت

__________________

(١) آية ٣٠ سورة فصلت.

٦٣٢

لنا أعمال أهل الدارين ثم لا تقبل منها ذرة وهو يقول بسببها : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ ...)! لأنهم إذا تخلصوا من مواضع الخلل وموجبات الخجل من أعمالهم عدّوا ذلك من أجلّ ما ينالون من الإحسان إليهم (١) ، وفى معناه أنشدوا :

سأرجع من حجّ عامى مخجلا

لأنّ الذي قد كان لا يتقبّل (٢)

قوله جل ذكره : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (٢٤))

أصحاب الجنة هم الراضون بها ، الواصلون إليها ، والمكتفون بوجدانها ، فحسنت لهم أوطانهم ، وطاب لهم مستقرّهم.

قوله جل ذكره : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (٢٥))

يريد يوم القيامة إذا بدت أهوالها ، وظهرت للمبعوثين أحوالها عملوا وتحققوا ـ ذلك اليوم ـ أنّ الملك للرحمن ، ولم يتخصص ملكه بذلك اليوم ، وإنما علمهم ويقينهم حصل لهم ذلك الوقت.

ويقال تنقطع دواعى الأغيار ، وتنتفى أوهام الخلق فلا يتجدّد له ـ سبحانه ـ وصف ولكن تتلاشى للخلق أوصاف ، وذلك يوم على الكافرين عسير ، ودليل الخطاب يقتضى أنّ ذلك اليوم على المؤمنين يسير وإلا بطل الفرق ؛ فيجب ألا يكون مؤمن إلّا وذلك اليوم يكون عليه هينا.

قوله جل ذكره : (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ (٣)

__________________

(١) هذه إشارة دقيقة غاية الدقة ، نأمل أن يفطن إليها القارئ ويستمتع بها.

(٢) معنى البيت مرتبط بالفكرة الصوفية أن عمل الإنسان لا قيمة له ، والأمل كله معقود على الفضل الإلهى ، فكلما استصغر العابد عبادته بجانب هذا الفضل شعر بقصوره وارتقى فى التجريد والتفويض منزلة بعد منزلة .. وفى هذا تقول رابعة بعد عبادة ليلة كاملة : إن استغفارنا فى حاجة إلى استغفار.

(٣) قيل نزلت هذه الآية فى أبى بن خلف ، وقد قتله الرسول (ص) يوم أحد فى مبارزة ، وقيل نزلت فى عقبة بن أبى محيط وكان محالفا لأبىّ.

٦٣٣

يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (٢٧) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (٢٨))

يندم الكافر على صحبة الكفار. ودليل الخطاب يقتضى سرور المؤمنين بمصاحبة أخدانهم وأحبائهم فى الله ، وأمّا الكافر فيضلّ صاحبه فيقع معه فى الثبور ، ولكن المؤمن يهدى صاحبه إلى الرشد فيصل به إلى السرور.

قوله جل ذكره : (وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (٣٠))

شكا إلى الله منهم ، وتلك سنة المرسلين ؛ أخبر الله عن يعقوب ـ عليه‌السلام ـ أنه قال : (إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ) فمن شكا من الله فهو جاحد ، ومن شكا إلى الله فهو عارف واجد.

ثم إنه أخبر أنه لم يخل نبيا من أنبيائه صلوات الله عليهم إلا سلّط عليه عدوّا فى وقته ، إلا أنّه لم يغادر من أعدائهم أحدا ، وأذاقهم وبال ما استوجبوه على كفرهم وغيّهم.

قوله جل ذكره : (وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً).

كفى بربك اليوم هاديا إلى معرفته ، وغدا نصيرا على رؤيته.

ويقال آخر فتنة للمؤمنين ما ورد فى الخبر : أن كل أمة ترى فى القيامة الصنم الذي عبدوه يتبعونه فيحشرون إلى النار ، فيلقون فيها ويبقى المؤمنون ، فيقال لهم : ما وقفكم؟ فيقولون : إنهم رأوا معبودهم فتبعوه ونحن لم نر معبودنا! فيقال لهم : ولو رأيتموه .. فهل تعرفونه؟ فيقولون : نعم. فيقال لهم : بم تعرفونه؟

فيقولون : بيننا وبينه علامة. فيريهم شيئا فى صورة شخص فيقول لهم : أنا معبودكم فيقولون : معاذ الله .. نعوذ بالله منك! ما عبدناك. فيتجلّى الحقّ لهم فيسجدون له.

٦٣٤

قوله جل ذكره : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (٣٢))

أي إنما أنزلناه متفرقا ليسهل عليك حفظه ؛ فإنه كان أميا لا يقرأ الكتب ، ولأنه لو كان دفعة واحدة لم يتكرر نزول جبريل عليه‌السلام بالرسالة إليه فى كل وقت وكل حين .. وكثرة نزوله كانت أوجب لسكون قلبه وكمال روحه ودوام أنسه (١) ، فجبريل كان يأتى فى كل وقت بما كان يقتضيه ذلك الوقت من الكوائن والأمور الحادثة ، وذلك أبلغ فى كونه معجزة ، وأبعد عن التهمة من أن يكون من جهة غيره ، أو أن يكون بالاستعانة بمن سواه حاصلا (٢)

قوله جل ذكره : (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (٣٣))

كان الجواب لما يوردونه على جهة الاحتجاج لهم مفحما ، ولفساد ما يقولونه موضحا ، ولكن الحقّ ـ سبحانه ـ أجرى السّنة بأنه لم يزد ذلك للمسلمين إلا شفاء وبصيرة ، ولهم إلا عمى وشبهة.

ثم أخبر عن حالهم فى مآلهم فقال :

(الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٣٤))

يحشرون على وجوههم وذلك أمارة لإهانتهم ، وإن فى الخبر : «الذين أمشاهم اليوم

__________________

(١) لأنه كتاب يحمله رسول الحبيب من الحبيب إلى الحبيب.

(٢) أي أن اتصال القرآن الكريم بحياة الناس وواقع أمورهم آية كونه معجزة ؛ بعكس ما يتخرص به المضللون الملحدون الذين يدعون أن محمدا كاتب هذا القرآن ، وأنه أوتى ذكاء خارقا كان يجعله يكتب للناس ما يلي احتياجهم ويحل مشاكلهم .. خرست ألسنتهم إن يقولون إلا زورا.

٦٣٥

على أقدامهم يمشيهم غدا على وجوههم» (١) ، وهو على ذلك قادر ، وذلك منه غير مستحيل.

قوله جل ذكره : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (٣٥))

قلّما يجرى فى القرآن لنبينا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ذكر إلا ويذكر الله عقيبه موسى عليه‌السلام. وتكررت قصته فى القرآن فى غير موضع تنبيها على علو شأنه ، لأنه كما أن التخصيص بالذكر يدل على شرف المذكور فالتكرير فى الذكر يوجب التفصيل فى الوصف ؛ لأن القصة الواحدة إذا أعيدت مرات كثيرة كانت فى باب البلاغة أتمّ لا سيما إذا كانت فى كل مرة فائدة زائدة (٢).

ثم بيّن أنه قال لهما :

(فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (٣٦))

أي فذهبا فجحد القوم فدمرناهم تدميرا (٣) أي أهلكناهم إهلاكا ، وفى ذلك تسلية للنبى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما كان يقاسيه من قومه من فنون البلاء ، ووعد له بالجميل فى أنه سيهلك أعداءه كلّهم.

قوله جل ذكره : (وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (٣٧))

أحللنا بهم العقوبة كما أحللنا بأمثالهم ، وعاملناهم بمثل معاملتنا لقرنائهم. ثم عقّب هذه الآيات بذكر عاد وثمود وأصحاب الرّسّ ، ومن ذكرهم على الجملة من غير تفصيل ، وما أهلك

__________________

(١) القسم الأول من الخبر على النحو التالي : «يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف : صنف على الدواب وصنف على أرجلهم وصنف على وجوههم» قيل يا رسول الله : كيف يمشون على وجوههم فقال عليه‌السلام : الذين أمشاهم ...

(٢) يضاف هذا إلى ما سبق أن نبهنا إليه عن موقف القشيري من التكرار.

(٣) يلقت القشيري نظرنا إلى ما يعرف فى البلاغة بإيجاز الحذف ، فقد اكتفى بذكر أول القصة وآخرها وقد أحسن القشيري حين وطأ لذلك بكلام فى القصة الواحدة التي تعاد أكثر من مرة.

٦٣٦

به قوم لوط حيث عملوا الخبائث ... كل ذلك تطييبا لقلبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتسكينا لسرّه ، وإعلاما وتعريفا بأنه سيهلك من يعاديه ، ويدمّر من يناويه ، وقد فعل من ذلك الكثير فى حال حياته ، والباقي بعد مضيّه ـ عليه‌السلام ـ من الدنيا وذهابه.

قوله جل ذكره : (وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً (٤١))

كانت تكون له سلوة لو ذكر حالته وشكا إليه قصته ، فإذا أخبر الله وقصّ عليه ما كان يلاقيه كان أوجب للسّلوة وأقرب من الأنس ، وغاية سلوة أرباب المحن أن يذكروا لأحبائهم ما لقوا فى أيام امتحانهم كما قال قائلهم :

يودّ بأن يمشى سقيما لعلّها

إذا سمعت منه بشكوى تراسله

ويهتزّ للمعروف فى طلب العلى

لتذكر يوما عند سلمى شمائله

وأخبر أنهم كانوا ينظرون إليه ـ عليه‌السلام ـ بعين الإزدراء والتصغير لشأنه ؛ لأنهم كانوا لا يعرفون قدره ، قال تعالى : «وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون» (١).

قوله جل ذكره : (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (٤٣))

كانوا يعبدون من الأصنام ما يهوون ؛ يستبدلون صنما بصنم ، وكانوا يجرون على مقتضى ما يقع لهم. والمؤمن بحكم الله لا بحكم نفسه ، وبهذا يتضح الفرقان (٢) بين رجل وبين رجل.

والذي يعيش على ما يقع له فعابد هواه ، وملتحق بالذين ذكرهم الحقّ بالسوء فى هذه الآية.

قوله جل ذكره : (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٤))

__________________

(١) آية ١٩٨ سورة الأعراف.

(٢) فرق بين الشيئين فرقا وفرقانا. والفرقان البرهان والحجة ، وكل ما فرق به بين الحق والباطل.

٦٣٧

كالأنعام التي ليس لها همّ إلّا فى أكلة وشربة ، ومن استجلب حظوظ نفسه فكالبهائم. وإنّ الله ـ سبحانه ـ خلق الملائكة وعلى العقل جبلهم ، والبهائم وعلى الهوى فطرهم ، وبنى آدم وركّب فيهم الأمرين ؛ فمن غلب هواه عقله فهو شرّ من البهائم ، ومن غلب عقله هواه فهو خير من الملائكة .. كذلك قال المشايخ.

قوله جل ذكره : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (٤٥) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (٤٦))

قيل نزل الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فى بعض أسفاره وقت القيلولة فى ظل شجرة وكانوا خلقا كثيرا فمدّ الله ظلّ تلك الشجرة حتى وسع جميعهم وكانوا كثيرين ، فأنزل الله هذه الآية ، وكان ذلك من جملة معجزاته عليه‌السلام.

وقيل إن الله فى ابتداء النهار قبل طلوع الشمس يجعل الأرض كلّها ظلا ، ثم إذا طلعت الشمس ، وانبسط على وجه الأرض شعاعها فكلّ شخص يبسط له ظلّ ، ولا يصيب ذلك الموضع شعاع الشمس ، ثم يتناقص إلى وقت الزوال ، ثم يأخذ فى الزيادة وقت الزوال. وذلك من أمارات قدرة الله تعالى ؛ لأنه أجرى العادة بخلق الظلّ والضوء والفيء.

قوله : (وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً) : أي دائما. (ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً) ؛ أي حال ارتفاع الشمس ونقصان الظّلّ.

ويقال : ألم تر إلى ربك كيف مدّ ظل العناية على أحوال أوليائه ؛ فقوم هم فى ظل الحماية ، وآخرون فى ظل الرعاية ، وآخرون فى ظل العناية ، والفقراء فى ظل الكفاية ، والأغنياء فى ظل الراحة من الشكاية.

ظل هو ظل العصمة ، وظل هو ظل الرحمة ؛ فالعصمة للأنبياء عليهم‌السلام ثم للأولياء ، والرحمة للمؤمنين ، ثم فى الدنيا لكافة الخلائق أجمعين. ويقال قوله للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ) ثم قوله : (كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ) سترا لما كان كاشفة به أولا ، إجراء للسّنّة

٦٣٨

فى إخفاء الحال عن الرقيب. قال لموسى عليه‌السلام : (لَنْ تَرانِي). وقال لنبينا عليه‌السلام : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ) وشتان ما هما!

ويقال أحيا قلبه بقوله : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ) إلى أن قال : (كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ) فجعل استقلاله بقوله : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ) إلى أن سمع ذكر الظل. ويقال أحياه بقوله : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ) ثم أفناه بقوله : (كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ) وكذا سنّته مع عباده ؛ يردّدهم بين إفناء وإبقاء.

قوله جل ذكره : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (٤٧))

(١) جعل الليل وقتا لسكون قوم ووقتا لانزعاج آخرين ؛ فأرباب الغفلة يسكنون فى ليلهم ، والمحبون يسهرون فى ليلهم إن كانوا فى روح الوصال ، فلا يأخذهم النوم لكمال أنسهم ، وإن كانوا فى ألم الفراق فلا يأخذهم النوم لكمال قلقهم ، فالسّهر للأحباب صفة : إمّا لكمال السرور أو لهجوم الهموم. ويقال جعل النوم للأحباب وقت التجلّى بما لا سبيل إليه فى اليقظة ، فإذا رأوا ربّهم فى المنام يؤثرون النوم على السّهر (٢) ، قال قائلهم :

وإنى لأستغفى وما بي نعسة

لعلّ خيالا منك يلقى خياليا

وقال قائلهم :

رأيت سرور قلبى فى منامى

فأحببت التّنعّس والمناما

ويقال النوم لأهل الغفلة عقوبة ولأهل الاجتهاد رحمة ؛ فإن الحقّ ـ سبحانه ـ يدخل عليهم النوم ضرورة رحمة منه بنفوسهم ليستريحوا من كدّ المجاهدة.

قوله جل ذكره : (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (٤٨))

__________________

(١) السبت ـ القطع. والنائم مسبوت لأنه انقطع عمله وحركته. وقيل السبات ـ الموت ، والمسبوت الميت لأنه مقطوع الحياة. وهو كقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) ، ويعضده ذكر النشور فى مقابلته.

(٢) ذكر القشيري فى باب «رؤيا القوم» برسالته أمثلة كثيرة للكرامات التي تحققت للأولياء أثناء نومهم ، وكان بعضها ذا تأثير عظيم فى مجرى حيواتهم. (الرسالة ص ١٩٢ وما بعدها).

٦٣٩

يرسل رياح الكرم فتهب على قلوب ذوى الحاجات فتزعجها إلى طلب مبارّه ، ويرسل رياح الولاية فتهب على قلوب الخواص فتطهرها من جميع الإرادات فتكفى بالله لله ، ويرسل رياح الخوف على قلوب العصاة فتحملهم على النّدم ، وتطهرها من الإصرار فترجع إلى التوبة ، ويرسل رياح الاشتياق على قلوب الأحباب فتزعجها عن المساكنات ، وتطهرها عن كل شىء إلا عن اللواعج فلا تستقرّ إلا بالكشف والتجلّى.

ويقال إذا تنسّم القلب نسيم القرب هام فى ملكوت الجلال ، وامتحى عن كل مرسوم ومعهود.

قوله جل ذكره : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً).

أنزل من السماء ماء المطر فأحيا به الغياض والرياض ، وأنبت به الأزهار والأنوار ، وأنزل من السماء ماء الرحمة فغسل العصاة ما تلطخوا به من الأوضار ، وما تدنّسوا به من الأوزار.

و «الطّهور» هو الطاهر المطهّر ، وماء الحياء يطهر قلوب العارفين عن الجنوح إلى المساكنات ، وما يتداخلها فى بعض الأحيان من الغفلات. وماء الرعاية يحيي به قلوب المشتاقين بما يتداركها من أنوار التجلّى حتى يزول عنها عطش الاشتياق ويحصل فيها من سكينة الاستقلال ، ويحيى به نفوسا ميتة باتباع (١) الشهوات فيردها إلى القيام بالعبادات.

قوله جل ذكره (وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (٥١))

__________________

(١) الباء في (باتباع) معناها (بسبب).

٦٤٠