لطائف الإشارات - ج ٢

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ٢

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٥٥

ويقال للجنابة سراية ؛ فإذا أمسك الجاني عن الجناية فلا ينفعه ذلك ما لم يمض حكم السراية.

قوله جل ذكره : (قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (٦٦) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (٦٧))

ذكر هذا من باب إملاء العذر ، وإلزام الحجة ، والقطع بألا ينفع ـ الآن ـ الجزع ولا يسمع العذر ؛ والملوك إذا أبرموا حكما ، فالاستغاثة غير مؤثّرة فى الحاصل منهم ، قال قائلهم :

إذا انصرفت نفسى عن الشيء لم تكد

إليه بوجه ـ آخر الدهر ـ تقبل

قوله جل ذكره : (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨))

يعنى أنهم لو أنعموا النظر ، وسلطوا على أحوالهم صائب الفكر لاستبصروا فى الحال ، ولا نتفى عن قلوبهم الاستعجام والإشكال ، ولكنهم استوطنوا مركب الكسل ، وعرّجوا فى أوطان التغافل ، فتعودوا الجهل ، وأيسوا من الاستبصار.

قوله جل ذكره : (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩))

ذهلوا عن التحقيق فتطوّحوا فى أودية المغاليط ، وترجّمت بهم الظنون الخاطئة ، وملكتهم كواذب التقديرات (١) ، فأخبر الله (الرسول) (٢) عن أحوالهم ؛ فمرة قابلوه بالتكذيب ، ومرة رموه بالسّحر ، ومرة عابوه بتعاطيه أفعال العادة بما عليه الناس من المآكل والمشارب ، ومرة قدحوا فيه بما هو فيه من الفقر وقلّة ذات اليد ... فأخبر الله عن تشتّت أحوالهم ، وتقسّم أفكارهم

__________________

(١) هكذا فى م أما في ص فهى (التقدير) ونحن نرجه الأولى حتى يقتصر إطلاق (التقدير) بالمفرد على الفعل الإلهى أما هنا فهى (التقديرات الإنسانية) أي الظنون.

(٢) السياق يتطلب وجود كلمة (الرسول) وهى غير موجودة فى التسخين فوضعناها من عندنا لينسجم الأسلوب.

٥٨١

قوله جل ذكره : (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (٧١))

وذلك لتضادّ مناهم وأهوائهم ؛ إذ هم متشاكسون فى السؤال والمراد ، وتحصيل ذلك محال تقديره فى الوجود. فبيّن الله ـ سبحانه ـ أنه لو أجرى حكمه على وفق مرادهم لاختلّ أمر السماوات والأرض ، ولخرج عن حدّ الإحكام والإتقان.

قوله جل ذكره : (أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٧٢))

أي إنّك لا تطالبهم على تبليغ الرسالة بأجر ، ولا بإعطاء عوض حتى تكون بموضع التهمة فيما تأتيهم به من الشريعة. أم لعلّك تريد أن يعقدوا لك الرياسة. ثم قال : والذي لك من الله سبحانه من جزيل الثواب وحسن المآب يغنيك عن التصدّى لنيل ما يكون فى حصوله منهم مطمع. وهذا كان سنّة الأنبياء والمرسلين ؛ عملوا لله ولم يطلبوا أجرا من غير الله. والعلماء ورثة الأنبياء فسبيلهم التوقّى عن التّدنّس بالأطماع ، والأكل بالدّين فإنه رياء مضرّ بالإيمان ؛ فإذا كان العمل لله فالأجر منتظر من الله ، وهو موعود من قبل الله (١).

قوله جل ذكره : (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٣) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (٧٤))

الصراط المستقيم شهود الربّ بنعت الانفراد فى جميع الأشياء ، وفى الإيجاد ، والاستسلام لقضايا الإلزام بمواطأة القلب من غير استكراه الحكم.

قوله جل ذكره : (وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ).

__________________

(١) القشيري هنا يغمز بانحراف كثير من الوعاظ المحترفين الذين امتلأ بهم عصره ، ومنذ عهد الحسن البصري ـ الذي طالما نبه إلى خطورة هذا الأمر ـ ونحن نسمع هذه الصيحة ناعية ما آل إليه أمر المحترفين إلى التهافت والتهالك على أطماع الدنيا الزائلة.

٥٨٢

زاغوا عن الحجة المثلى بقلوبهم فوقعوا فى جحيم الفرقة ، وستميل وتزل أقدامهم غدا عن الصراط ، فيقعون فى نار الحرقة ؛ فهم ناكبون فى دنياهم وعقباهم.

قوله جل ذكره : (وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٥))

أخبر عن صادق علمه بهم ، وذلك صادر عن سابق حكمه فيهم ، فقال : لو كشفنا عنهم فى الحال لم يفوا بما يعدون من أنفسهم من الإيمان فى المآل ، ولقد علم أنهم سيكفرون ، وحكم عليهم بأنهم يكفرون ؛ إذ لا يجوز أن يكون حكمه فيهم بخلاف علمه بهم (١)

قوله جل ذكره : (وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (٧٦))

أذقناهم مقدمات العذاب دون شدائده .. تنبيها لهم ، فما انتبهوا وما انزجروا ، ولو أنهم إذ رأوا العذاب فزعوا إلى التضرع والابتهال لأسرع الله زواله عنهم ، ولكنهم أصرّوا على باطلهم ، ليقضى الله أمرا كان مفعولا.

قوله جل ذكره : (حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٧))

لما أجللنا بهم أشدّ العقوبات ضعفوا عن تحمّلها ، وأخذوا بغتة ، ولم ينفعهم ما قدّموا من الابتهال ، فيئسوا عن الإجابة ، وعرّجوا فى أوطان القنوط.

قوله جل ذكره : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٧٨))

ذكر عظيم منّته عليهم بأن خلق لهم هذه الأعضاء ، وطالبهم بالشكر عليها.

وشكرهم عليها استعمالها فى طاعته ؛ فشكر السّمع ألا تسمع إلا بالله ولله ، وشكر البصر ألا تنظر إلا بالله لله ، وشكر القلب ألّا تشهد غير الله ، وألّا تحبّ به غير الله.

__________________

(١) هذا التمييز بين الحكم والعلم له أهميته الكبيرة فى قضية القدر.

٥٨٣

قوله جل ذكره : (وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٩))

الابتداء للحادثات من الله بدعا ، والانتهاء إليه عودا ، والتوحيد ينتظم هذه المعاني ؛ فتعرف أنّ الحادثات بالله ظهورا ، ولله ملكا ، ومن الله ابتداء ، وإلى الله انتهاء.

قوله جل ذكره : (وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٨٠))

يحيى النفوس ويميتها والمعنى فى ذلك معلوم ، وكذلك يحيى القلوب ويميتها ؛ فموت القلب بالكفر والجحد ، وحياة القلب بالإيمان والتوحيد ، وكما أنّ للقلوب حياة وموتا فكذلك للأوقات موت وحياة ، فحياة الأوقات بيمن إقباله ، وموت الأوقات بمحنة إعراضه ، وفى معناه أنشدوا :

أموت إذا ذكرتك ثم أحيا

فكم أحيا عليك وكم أموت

قوله : (وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) ؛ فليس كلّ اختلافها فى ضيائها وظلمتها ، وطولها وقصرها ، بل ليالى المحبين تختلف فى الطول والقصر ، وفى الروح والنوح ؛ فمن الليالى ما هو أضوأ من اللآلى ، ومن النهار ما هو أشدّ من الحنادس ، يقول قائلهم : ليالىّ بعد الظاعنين شكول.

ويقول قائلهم :

وكم لظلام الليل عندى من

تخبّر أنّ المانوية تكذّب

وقريب من هذا المعنى قالوا :

ليالى وصال قد مضين كأنّها

لآلى عقود فى نحور الكواعب

وأيام هجر أعقبتها كأنّها

بياض مشيب فى سواد الذوائب

٥٨٤

قوله جل ذكره : (بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (٨١) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٨٢) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٨٣))

سلكوا فى التكذيب مسلك سلفهم ، وأسرفوا فى العناد مثل سرفهم ، فأصابهم ما أصاب الأولين من هلاكهم وتلفهم.

قوله : (لَقَدْ وُعِدْنا ...) لمّا طال عليهم وقت الحشر ، وما توعدهم به من العذاب بعد البعث والنّشر زاد ذلك فى ارتيابهم ، وجعلوا ذلك حجّة فى لبسهم واضطرابهم ، فقالوا : لقد وعدنا مثل هذا نحن وآباؤنا ، ثم لم يكن لذلك تحقيق ، فما نحن إلّا أمثالهم. فاحتجّ الله عليهم فى جواز الحشر بما أقروا به من ابتداء الخلق :

فقال جل ذكره : (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٨٥) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٨٧) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٨) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (٨٩))

أمره ـ عليه‌السلام ـ أن يلوّن عليهم الأسئلة ، وعقّب كلّ واحد من ذلك ـ مخبرا عنهم ـ أنهم سيقولون : لله ، ثم لم يكتف منهم بقالتهم تلك ، بل عاتبهم على

٥٨٥

تجرّد قولهم عن التّذكّر والفهم والعلم وتنبيها على أن القول ـ وإن كان فى نفسه صدقا ـ فلم تكن فيه غنية ؛ إذ لم يصدر عن علم ويقين.

ثم نبّههم على كمال قدرته ، وأنّ القدرة القديمة إذا تعلّقت بمقدور له ضدّ تعلّقت بضدّه ، ويتعلق بمثل متعلقه.

والعجب من اعترافهم بكمال أوصاف جلاله ، ثم تجويزهم عبادة الأصنام التي هى جمادات لا تحيا ، ولا تضرّ ولا تنفع.

ويقال أولا قال : (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) ، ثم قال بعده : (أَفَلا تَتَّقُونَ) ، فقدّم التذكر على التقوى ؛ لأنهم بتذكرهم يصلون إلى المغفرة ، ثم بعد أن يعرفوه فإنهم يجب عليهم اتقاء مخالفته. ثم بعد ذلك قال : (فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) ؛ أي بعد وضوح الحجة فأىّ شكّ بقي حتى تنسبوه إلى السّحر؟

قوله جل ذكره : (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٩٠))

بيّن أنهم أصرّوا على جحودهم ، وأقاموا على عتوّهم ونبوّهم ، وبعد أن أزيحت العلل فلات حين عذر ، وليس لتجويز المساهلة موجب بتا.

قوله جل ذكره : (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ)

اتخاذ الأولاد لا يصحّ كاتخاذ الشريك ، والأمران جميعا داخلان فى حدّ الاستحالة ، لأن الولد أو الشريك يوجب المساواة فى القدر ، والصمدية تتقدّس عن جواز أن يكون له مثل أو جنس.

قوله جل ذكره : (إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ)

٥٨٦

كلّ أمر نيط باثنين فقد انتفى عنه النظام وصحة الترتيب ، وأدلة التمانع مذكور فى مسائل الأصول.

(سُبْحانَ اللهِ) تقديسا له ، وتنزيها عما وصفوه به. (عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) : تنزّه عن أوهام من أشرك ، وظنون من أفك.

قوله جل ذكره : (قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (٩٣))

يقول إن عجلت لهم ما تتوعدهم به فلا تجعلنى فى جملتهم ، ولا توصل إلىّ سوءا مثلما توصل إليهم من عقوبتهم. وفى هذا دليل على أنّ للحقّ أن يفعل ما يريد ، ولو عذّب البريء لم يكن ذلك منه ظلما ولا قبيحا (١).

قوله جل ذكره : (وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (٩٥))

تدل على صحة قدرته على خلاف ما علم ؛ فإنه أخبر أنه قادر على تعجيل عقوبتهم ثم لم يفعل ذلك ، فصحّت القدرة على خلاف المعلوم (٢)

قوله جل ذكره : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (٩٦))

الهمزة فى (أَحْسَنُ) يجوز ألا تكون للمبالغة ؛ ويكون المعنى ادفع بالحسن السيئة. أو أن تكون للمبالغة ؛ فتكون المكافأة جائزة والعفو عنها ـ فى الحسن ـ أشدّ مبالغة.

ويقال ادفع الجفاء بالوفاء ، وجرم أهل العصيان بحكم الإحسان.

ويقال ادفع ما هو حظك إذا حصل ما هو حق له.

ويقال اسلك مسلك الكرم ، ولا تجنح إلى طريق المكافأة.

__________________

(١) لأن أفعال الله تعالى لا تعلل بالأغراض ، إذ لا يعود عليه سبحانه من هذا أو ذاك مصلحة.

(٢) فى هذا ردّ ضمنى على المعتزلة القائلين بإنكار الصفات ، إذ يتضح أن صفة العلم متميزة عن صفة القدرة. فالأشاعرة ـ ومنهم القشيري ـ حين يثبتون الصفات إنما يثبتون المعاني اللاثقة بذاته ، وهى معان وإن تنوعت فليست طوارئ على الذات ، وإنما الذات قائمة بها.

٥٨٧

ويقال الأحسن ما أشار إليه القلب ، والسيئة ما تدعو إليه النّفس.

ويقال الأحسن ما كان بإشارة الحقيقة ، والسيئة ما كان بوساوس الشيطان.

ويقال الأحسن نور الحقائق ، والسيئة ظلمة الخلائق.

قوله جل ذكره : (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (٩٧) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (٩٨))

الاستعاذة ـ على الحقيقة ـ تكون بالله من الله كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعوذ بك منك» (١) ، ولكنه ـ سبحانه ـ أراد أن نعبده بالاستعاذة به من الشيطان ، بل من كلّ ما هو مسلّط علينا ، والحقّ عندئذ يوصل إلينا مضرتنا يجرى العادة. وإلّا .. فلو كان بالشيطان من إغواء الخلق شىء لكان يمسك على الهداية نفسه! فمن عجز عن أن يحفظ نفسه كان عن إغواء غيره أشدّ عجزا ، وأنشدوا :

جحودى فيك تلبيس

وعقلى فيك تهويس

فمن آدم إلّاك

ومن فى (...) (٢) إبليس

قوله جل ذكره : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٠٠))

__________________

(١) من ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعوذ برضاك من سخطك ، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك». مسلم ، ومالك ، وأبو داود ، والنسائي ، والترمذي.

(٢) فى م (ألين) وفي ص (اللبن) ، والبيتان للحلاج فى الطواسين ص ٤٣ وفى ديوانه (المقطعة الثامنة والعشرون) جاءت البين ، والمعنى أن آدم الذي خلقته من طين هو سبب بلائي فسجودى له سجود لغيرك. وفى البيتين بعض الغموض والشطح ، ولهذا نعجب من استشهاد القشيري بهما. ونحن نلاحظ أنه بينما لم يكتب القشيري فى رسالته شيئا عن سيرة الحسين بن منصور الحلاج إلا أنه طالما يستشهد بأقواله شعرا ونثرا .. وقد عللنا لذلك في كتابنا «الإمام القشيرى وتصوفه» ط مؤسسة الحلبي.

٥٨٨

إذا أخذ البلاء بخناقهم ، واستمكن الضّرّ من أحوالهم ، وعلموا ألّا محيص ولا محيد أخذوا فى التضرّع والاستكانة ، ودون ما يرومون خرط القتاد! ويقال لهم هلّا كان عشر عشر هذا قبل هذا؟ ولقد قيل :

قلت للنفس : إن أردت رجوعا

فارجعى قبل أن يسدّ الطريق

قوله جل ذكره : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (١٠١))

يومئذ لا تنفع الأنساب وتنقطع الأسباب ، ولا ينفع النّدم ، وسيلقى كلّ غبّ ما اجترم ؛ فمن ثقلت بالخيرات موازينه لاح عليه تزيينه. ومن ظهر ما يشينه فله من البلاء فنونه ؛ تلفح وجوههم النار ، وتلمح من شواهدهم الآثار ، ويتوجه عليهم الحجاج ، فلا جواب لهم يسمع ، ولا عذر منهم يقبل ، ولا عذاب عنهم يرفع ، ولا عقاب عنهم يقطع.

قوله جل ذكره : (قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (١٠٦))

نطقوا بالحقّ ... ولكن فى يوم لا ينفع فيه الإقرار ، ولا يقبل الاعتذار ، ثم يقولون :

(رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (١٠٧))

والحقّ يقول : لو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه. علم أنّ ردّهم إلى الدنيا لا يكون ، ولكنه علم أنّه لو كان فكيف كان يكون.

قوله جل ذكره : (قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (١٠٨))

عند ذلك يتمّ عليهم البلاء ، ويشتدّ عليهم العناء ، لأنهم ما داموا يذكرون الله لم يحصل الفراق بالكلية ، فإذا حيل بينهم وبين ذكره تتم لهم المحنة ، وهو أحد ما قيل فى قوله. (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) (١).

__________________

(١) آية ١٠٣ سورة الأنبياء.

٥٨٩

وفى الخبر : أنهم ينصرفون بعد ذلك فإذا لهم عواء كعواء الذئب. وبعض الناس تغار من أحوالهم ؛ لأن الحق يقول لهم : (اخْسَؤُا فِيها) ، فيقولون : يا ليتنا يقول لنا! أليس هو يخاطبنا بذلك؟! وهؤلاء يقولون : قدح الأحباب ألذّ من مدح الأجانب ، وينشدون فى هذا المعنى :

أتانى عنك سبّك لى .. فسبىّ

أليس جرى بفيك اسمى؟ فحسبى

قوله جل ذكره : (إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (١١١))

الحقّ ـ سبحانه ـ ينتقم من أعدائه بما يطيّب به قلوب أوليائه ، وتلك خصومة الحق ، فيقول : قد كان قوم من أوليائى يفصحون بمدحى وثنائى ، ويتصفون بمدحى واطرائى ، فاتخذتموهم سخريا ... فأنا اليوم أجازيهم ، وأنتقم ممن كان يناويهم.

قوله جل ذكره : (قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (١١٣) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤))

عدد سنين الأشياء ـ وإن كانت كثيرة ـ فقد تقصر أو تقل بالإضافة إلى ما يوفى ويربى عليها ، كذلك مدة مقامهم تحت الأرض ؛ إن كانوا فى الراحة فقد تقل بالإضافة إلى الراحات التي يلقونها فى القيامة ، وإن كانت شدائد فتتلاشى في جنب ما يرونه ذلك اليوم من أليم تلك العقوبات المتوالية.

٥٩٠

قوله جل ذكره : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (١١٥))

العبث اللهو ، واللّعب والاشتغال بما يلهى عن الحقّ ، والله لم يأمر العباد بذلك ، ولم يدعهم إلى ذلك ، ولم يندبهم إليه.

والعابث فى فعله من فعله على غير حدّ الاستقامة ، ويكون هازلا مستجلبا بفعله أحكام اللهو إلى نفسه ، متماديا فى سهوه ، مستلذّ التفرقة فى قصده. وكلّ هذا من صفات ذوى البشرية ، والحقّ ـ سبحانه ـ منزّه النّعت عن هذه الجملة ، فلا هو بفعل شىء عابث ، ولا بشىء من العبث آمر.

قوله جل ذكره : (فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦))

الحقّ ـ بنعوت جلاله ـ متوحّد ، وفى عزّ آزاله وعلّو أوصافه متفرّد ، فذاته حقّ ، وصفاته حقّ ، وقوله صدق ، ولا يتوجّه لمخلوق عليه حق ، وما يفعله من إحسان بعباده فليس شىء منها بمستحق (١).

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) : ما تجمّل بالعرش ، ولكن تعزّز العرش بأنّه أضافه إلى نفسه إضافة خصوصية.

والكريم الحسن ، والكرم نفى الدناءة.

قوله جل ذكره : (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (١١٧))

حسابه على الله فى آجله. وعذابه من الله له فى عاجله ، وهو الجهل الذي أودع قلبه حتى رضى بأن يعبد معه غيره. وقولهم : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) كلام

__________________

(١) معنى هذه العبارة أنه لا يجب على الله شىء فى إحسانه لعباده ، فهو إذا أحسن إليهم فهذا من فضله ، وليس نتيجة وجوب على الله أو حق للعبد.

٥٩١

حاصل من غير دليل عقل ، ولا شهادة خبر أو نقل ، فما هو إلا إفك وبهتان ، وقول ليس يساعده برهان.

قوله جل ذكره : (وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١١٨))

اغفر الذنوب ، واستر العيوب ، وأجزل الموهوب. وارحم حتى لا تستولى علينا هواجم التفرقة ونوازل الخطوب. والرحمة المطلوبة بالدعاء من صنوف النعمة ، ويسمى الحاصل بالرحمة باسم الرحمة على وجه التوسع وحكم المجاز (١).

السورة التي يذكر فيها النور

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

بسم الله اسم نذير الوفاة فرقته ، اسم بشير الحياة وصلته ، اسم سبب الرّوح عرفانه ، اسم راحة الرّوح إحسانه ، اسم كمال الأنس إقباله ، اسم ، فتنة قلوب المهيّمين جماله ، اسم من شهده دامت سلامته ، اسم من وجده قامت قيامته ، اسم لا إليه حظوة ، ولا بدونه سلوة.

قوله جل ذكره : (سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها)

سورة هى شرف لك ـ يا محمد ـ أنزلناها لأن أقلّ ما ورد به التحدي سورة (٢) ؛ فكلّ سورة شرف له عليه‌السلام لأنها له معجزة ، بيّناها وشرعنا فيها من الحلال والحرام ، وبيّنا (فيها من الأحكام ما) (٣) لكم به اهتداء ، وللقلوب من غمرة الاستعجام شفاء.

أنزلنا فيها آيات بينات ، ودلائل واضحات ، وحججّا لائحات ؛ لتتذكروا تلك الآيات ، وتعتبروا بما فيها من البراهين والبينات.

__________________

(١) لأن الرحمة ـ فى الأصل ـ وصف للذات ، والنعمة من صفات الفعل.

(٢) إشارة إلى قوله تعالى فى سورة البقرة : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) ، وإلى قوله تعالى فى سورة يونس : (قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ).

(٣) ما بين القوسين موجود فى ص وغير موجود فى م.

٥٩٢

قوله جل ذكره : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ)

والعقوبة على الزنا شديدة أكيدة ، ولكن جعل إثبات أمره وتقرير حكمه والقطع بكونه على أكثر الناس خصلة عسيرة بعيدة ؛ إذ لا تقبل الشهادة عليه حتى يقول : رأيت ذلك منه فى ذلك منها! وذلك أمر ليس بالهّين ، فسبحان من أعظم العقوبة على تلك الفعلة الفحشاء ، ثم جعل الأمر فى إثباتها بغاية الكدّ والعناء! وحين اعترف واحد له بذلك قال له صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لعلّك قبّلت .. لعلّك لا مست ، وقال لبعض أصحابه : «استنكهوه» (١) وكلّ ذلك روما لدرء الحدّ عنه ، إلى أن ألحّ وأصرّ على الاعتراف.

قوله جل ذكره : (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)

ما يأمر به الحقّ فالواجب مقابلته بالسمع والطوع.

والرحمة من موجب الشرع وهو المحمود ، فأمّا ما يقتضيه الطّبع والعادة والسوء فمذموم غير محمود. ونهى عن الرحمة على من خرق الشرع ، وترك الأمر ، وأساء الأدب ، وانتصب فى مواطن المخالفة.

ويقال نهانا عن الرحمة بهم ، وهو يرحمهم بحيث لا يمحو عنهم ـ بتلك الفعلة الفحشاء ـ رقم الإيمان ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن» (٢) ولو لا رحمته لما استبقى عليه حلّة إيمانه مع قبيح جرمه وعصيانه.

__________________

(١) وردت الإشارة إلى حادث «ما عز» في هامش سبق ، وقوله «استنكهوه» اى ابحثوا هل فى فمه ريح الخمر ، وبعدها سأله النبي للمرة الأخيرة «أزتيت؟ فقال نعم. فأمر به فرجم» صحيح مسلم ط أولى سنة ١٩٣٠ م المصرية بالأزهر ج ١١ ص ١٩٩.

(٢) عن أبى سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب أنهما قالا : عن أبى هريرة أن النبي (ص) قال (لا يزنى ... ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن) صحيح مسلم ج ٢ ص ٤١.

٥٩٣

قوله جل ذكره : (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)

أي ليكون عليهم أشدّ ، وليكون تخويفا لمتعاطى ذلك الفعل ، ثم من حقّ الذين يشهدون ذلك الموضع أن يتذكروا عظيم نعمة الله عليهم أنهم لم يفعلوا مثله ، وكيف عصمهم من ذلك. وإن جرى منهم شىء من ذلك يذكروا عظيم نعمة الله عليهم ؛ كيف ستر عليهم ولم يفضحهم ، ولم يقمهم فى الموضع الذي أقام فيه هذا المبتلى به. وسبيل من يشهد ذلك الموضع ألّا يعيّر صاحبه بذلك ، وألا ينسى حكم الله تعالى فى إقدامه على جرمه.

قوله جل ذكره : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٣))

الناس أشكال ؛ فكلّ نظير (١) مع شكله ، وكلّ يساكن شكله ، وأنشدوا :

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه

فكلّ قرين بالمقارن يقتدى

فأهل الفساد الفساد يجمعهم ـ وإن تباعد مزارهم (وأهل السداد السداد يجمعهم ـ وإن تناءت ديارهم) (٢)

قوله جل ذكره : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤))

لئلا يستبيحوا أعراض المسلمين ، ولئلا يهتكوا أستار الناس أمر بتأديبهم ، وإقامة الحدّ عليهم إذا لم يأتوا بالشهداء.

__________________

(١) هكذا فى ص وهى فى م (وكل طير ..) وربما كانت (وكلّ يطير) أو (فكل طير) ، والمثل يقول : (الطيور على أشكالها تقع).

(٢) ما بين القوسين موجود فى م وغير موجود فى س.

٥٩٤

ثم بالغ فى عدد الشهود ، وألّا تقبل تلك الشهادة إلّا بالتضرع التام ، ثم أكمله بقوله (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً). وفى الخبر المسند قوله عليه‌السلام : «من أتى منكم بشىء من هذه القاذورات فليستتر بستر الله ، فإنّ من أبدى لنا صفحته ، أقمنا عليه حدّ الله» (١)

قوله جل ذكره : (إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥))

جعل من شرط قبول شهادته صحّة توبته ، وجعل علامة صحة توبته إصلاحه ، فقال : (وَأَصْلَحُوا) ، وهو أن تأتى على توبته مدة تنشر فيها بالصلاح صفته ، كما اشتهرت بهتك أعراض المسلمين قالته .. كلّ هذا تشديدا لمن يحفظ على المسلمين ظاهر صلاحه.

قوله جل ذكره : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦))

لمّا ضاق الأمر على من رأى أهله على فاحشة ، إذ أن فى ذلك قبول نسب غير صحيح ـ فقد نهى الشرع عن استلحاقه ولدا من غيره. وكان أمرا محظورا هتك عرض المرأة والشهادة عليها بالفحشاء ، إذ يجوز أن يكون الأمر فى المعيب ؛ أي بخلاف ما يدّعيه الزوج. ولأن ذلك أمر ذو خطر شرع الله حكم اللّعان (٢) ليكون للخصومة قاطعا ، وللمقدم على

__________________

(١) رواه البيهقي والحاكم عن ابن عمر بإسناد جيد بلفظ : «اجتنبوا هذه القاذورات التى نهى الله تعالى عنها ، فمن ألم بشىء منها فليستتر بستر الله ، وليتب إلى الله ، فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله» (ص ١٥٥ ج ١ فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوى الطبعة الأولى سنة ١٣٥٦ ه‍).

(٢) اللعان فى الشريعة أن يقسم الزوج أربع مرات على صدقه فى قذف زوجته بالزنا ، والخامسة باستحقاقه لعنة الله إن كان كاذبا وبذا يبرأ من حدّ القذف. ثم تقسم الزوجة أربع مرات على كذبه ، والخامسة باستحقاقها غضب الله إن كان صادقا فتبرأ من حد الزنا. وقد نزلت آية اللعان في هلال بن أمية أو عويمر حيث قال وجدت على بطن امرأتى خولة شريك بن سحماء فكذبته ، فلا عن النبي (ص) بينهما. فإذا قذف الزوج زوجته بالزنا ـ وهما من أهل الشهادة ـ صح اللعان بينهما ، واختلف الفقهاء هل تقع الفرقة بينهما بالتلاعن أم بتفريق القاضي.

٥٩٥

الفاحشة زاجرا ، ففى مثل هذه الأحوال عنها خرجة (١). ولو لا أنّ الله على كل شىء قدير وإلا ففى عادة الناس. من الذي يهتدى لمثل هذا الحكم لو لا تعريف سماوى وأمر نبوى ، من الوحى متلقّاه (٢) ، ومن الله مبتداه وإليه منتهاه؟

قوله جل ذكره : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (١٠))

... لبقيتم فى هذه الواقعة المعضلة ، ولم تهتدوا للخروج من هذه الحالة المشكلة.

قوله جل ذكره : (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١))

هذا قصة عائشة رضى الله عنها ، وما كان من حديث الإفك.

بيّن الله ـ سبحانه ـ أنه لا يخلى أحدا من المحنة والبلاء ، فى المحبة والولاء ؛ فالامتحان من أقوى أركانه وأعظم برهانه وأصدق بيانه ، كذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يمتحن الرجل على قدر دينه» ، وقال : «أشدّ الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل» (٣).

ويقال إنّ الله ـ سبحانه ـ غيور على قلوب خواصّ عباده ، فإذا حصلت مساكنة بعض إلى بعض يجرى الله ما يردّ كلّ واحد منهم عن صاحبه ، ويردّه إلى نفسه ، وأنشدوا :

إذا علقت روحى بشىء ، تعلّقت

به غير الأيام كى تسلبنّيا

وإن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لمّا قيل له : أي الناس أحب إليك؟

__________________

(١) الخرجة هى الخروج والخلاص من أمر شديد.

(٢) هكذا فى ص وهى فى م (مستفاد) وكلاهما صحيح ، ولكن الأولى أقوى مراعاة للموسيقى اللفظية ، وربما كانت (مستقاه).

(٣) رواه الترمذي وقال حسن صحيح ... وقد سبق تخريج هذا الحديث.

٥٩٦

قال : عائشة. فساكنها.

وفى بعض الأخبار أن عائشة قالت : «يا رسول الله إنى أحبك وأحب قربك» .. فأجرى الله حديث الافك حتى ردّ قلب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عنها إلى الله ، وردّ قلب عائشة عنه إلى الله ؛ حيث قال ـ لما ظهرت براءة ساحتها : بحمد الله لا بحمدك كشف الله عنها به تلك المحقة ، وأزال الشكّ ، وأظهر صدقها وبراءة ساحتها.

ويقال إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اتقوا فراسة المؤمن فإنّ المؤمن ينظر بنور الله» (١) ، فإذا كانت الفراسة صفة المؤمن فأولى الناس بالفراسة كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم لم تظهر له بحكم الفراسة براءة ساحتها ، حتى كان يقول : «إن فعلت فتوبى».

والسبب فيه أنه فى أوقات البلاء يسدّ الله على أوليائه عيون الفراسة إكمالا للبلاء. وكذلك إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ لم يميّز ولم يعرف الملائكة حيث قدّم إليهم العجل الحنيذ ، وتوهمهم أضيافا. ولوط عليه‌السلام لم يعرف أنهم ملائكة إلى أن أخبروه أنهم ملائكة.

ويقال إنه كان ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يقول لعائشة : «يا حميراء».

فلما كان زمان الإفك ، وأرسلها إلى بيت أبويها ، واستوحش الأبوان معها ، ومرضت عائشة ـ رضى الله عنها ـ من الحزن والوجد ، كان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إذا رأى واحدا من دار أبى بكر يقول :

كيف بيتكم؟ لا عائشة ولا حميراء! فما كان يطيب بالتغافل عنها ، فتعبيره ـ إن لم يفهم بالتصريح ـ فيفقه بالتلويح.

ثم إنه ـ سبحانه ـ قال : (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) : فبمقدار جرمهم احتمل كلّ واحد ما يخصّه من الوزر.

قوله جل ذكره : (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ

__________________

(١) الترمذي والطبراني ، الترمذي من حديث أبى سعد ، والطبراني وأبو نعيم بسند حسن عن أنس.

٥٩٧

وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (١٢))

عاتبهم على المبادرة إلى الاعتراض وبسط ألسنتهم بالسوء عنها ، وتركهم الإعراض عن حرم النبي صلى الله عليه. ثم قال : وهلّا جاءوا على ما قالوا بالشهداء؟ وإذا لم يجدوا ذلك فهلّا سكتوا عن بسط اللسان؟

قوله جل ذكره : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٤))

لأنه أخبر أن جرمهم ـ وإن كان عظيما ـ فإنه فى علم الله عنهم غير مؤثّر ، ولو لا أن الله ـ سبحانه ـ ينتقم لأوليائه ما لا ينتقم لنفسه فلعلّه لم يذكر هذه المبالغة فى أمرهم ؛ فإنّ الذي يقوله الأجانب والكفار فى وصف الحق ـ سبحانه ـ بما يستحيل وجوده وكونه يوفى ويربى على كل سوء ـ ثم لا يقطع عنهم أرزاقهم ، ولا يمنع عنهم أرفاقهم ، ولكن ما تتعلّق به حقوق أوليائه ـ لا سيما حق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فذاك عظيم عند الله.

قوله جل ذكره : (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ (١٥))

بالغ فى الشكاية منهم لما أقدموا عليه بما تأذّى به قلب الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقلوب جميع المخلصين من المسلمين.

ثم قال : (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ) : وسبيل المؤمن ألا يستصغر فى الوفاق طاعة ، ولا يستصغر فى الخلاف زلّة ؛ فإنّ تعظيم الأمر تعظيم للآمر. وأهل التحقيق لا ينظرون ما ذلك الفعل ولكن ينظرون من الآمر به.

ويقال : يسير الزّلّة ـ يلاحظها العبد بعين الاستحقار ـ فتحبط كثيرا من الأحوال ، وتكدّر كثيرا من صافى المشارب.

٥٩٨

واليسير من الطاعة ـ ربما يستقلّها العبد ـ ثم فيها نجاته ونجاة عالم معه.

قوله جل ذكره : (وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (١٦))

استماع الغيبة نوع من الغيبة ، بل مستمع الغيبة شرّ المغتابين ؛ إذ بسماعة يتمّ قصد صاحبه. وإذا سمع المؤمن ما هو سوء قالة فى المسلمين ـ مما لا صحّة له فى التحقيق ـ فالواجب الردّ على قائله ، ولا يكفى فى ذلك السكوت دون النكير ، ويجب ردّ قائله بأحسن نصيحة ، وأدقّ موعظة ، ونوع تشاغل عن إظهار المشاركة له فيما يستطيب من نشره من إخجال لقائله موحش ، فإن أبى إلا انهما كا فيما يقول فيرد عليه بما أمكن ؛ لأنه إن لم يستح فائله من قوله فلا ينبغى أن يستحى المستمع من الرّدّ عليه (١).

قوله جل ذكره (يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧))

يتعلّق هذا بأنّ من بسط لسانه فى عائشة ـ رضى الله عنها ـ بعد ذلك لم يكن مؤمنا لظاهر هذه الآية ، (ولعمرى قائل ذلك مرتكب كبيرة ولكن لا يخرج عن الإيمان بذلك) (٢) ؛ أي ينبغى للمؤمن ألا يتكلم فى هذا ، وهذا كما يقول القائل : «إذا كنت أخى فواسنى عند شدّتى ؛ فإن لم تواسنى لم تخرج عن الأخوّة بذلك» .. ومعنى هذا القول أنّه ينبغى للأخ أن يواسى أخاه فى حال عثرته ، وترك ذلك لا يبطل النّسب.

قوله جل ذكره : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي

__________________

(١) فى هذه الوصية تتجلى نزعة القشيري فيما يمكن أن نسميه (آداب السلوك) ونزمع بعون الله أن نتجز بحثا شاملا عن «علم الأخلاق عند الصوفية».

(٢) ما بين القوسين موجود فى ص وغير موجود فى م ، والعبارة هامة فى توضيح الرأى فى مرتكب الكبيرة ، ورد على من يلصقون وصمة الكفر ـ دون حساب ـ بالكثير من الناس.

٥٩٩

الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (١٩))

هؤلاء فى استحقاق الذمّ أقبح منزلة ، وأشدّ وزرا حيث أحبوا افتضاح المسلمين ، ومن أركان الدين مظاهرة المسلمين ، وإعانة أولى الدّين ، وإرادة الخير لكافة المؤمنين. والذي يودّ فتنة للمسلمين فهو شرّ الخلق ، والله لا يرضى منه بحاله ، ولا يؤهله لمنال خلاصة التوحيد.

قوله جل ذكره : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (٢٠))

كرّر قوله : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ..) ليبيّن للجميع أنّ حسن الدفع عنهم كان بفضله ورحمته وجميل المنح لهم ، وكلّ يشهد حسن المنح ويشكر عليه ، وعزيز عبد يشهد حسن الدفع عنه فيحمده على ذلك (١).

قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ)

إذا تنقى القلب عن الوساوس ، وصفا عن الهواجس بدت فيه أنوار الخواطر ، فإذا سما وقت العبد عن ذلك سقطت الخواطر ، وبدت فيه أحاديث الحق ـ سبحانه ـ كما قال فى الخبر : «لقد كان فى الأمم محدّثون فإن يكن فى أمتى فعمر». وإذا كان الحديث منه فذلك يكون تعريفا يبقى مع العبد ، ولا يكون فيه احتمال ولا إشكال ولا إزعاج ، وصاحبه يجب أن يكون أمينا ، غير مظهر لسرّ ما كوشف به (٢)

قوله جل ذكره : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)

__________________

(١) أي يكثر فى الحياة من يشكر على نعمة المنح ويقل من يشكر على نعمة الدفع لأن الأولى تجرى بأثر ملموس ، والثانية تجرى ولا يكاد يشعر بها المرء.

(٢) هنا نجد القشيري يطالب بالكتمان دون الإفصاح ففى الكتمان حفظ للأمانة.

٦٠٠