لطائف الإشارات - ج ٢

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ٢

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٥٥

فصار صاحب حجاب ـ يصحّ أن يقال بدل له الأرض ، قال بعضهم :

ما الناس بالناس الذي عهدى بهم

ولا البلاد بتلك التي كنت أعرفها

وكذلك العبد المريد إذا وقعت له وقفة أو فترة كانت الشمس له كاشفة ، وكانت الأرض به راجفة ، وكان النهار له ليلا ، وكان الليل له ويلا ، وكما قيل :

فما كانت الدنيا بسهل ولا الضحى

يطلق ولا ماء الحياة ببارد

قوله جل ذكره : (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٤٩) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (٥٠) لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٥١))

الأصفاد الأغلال. الأصفاد تجمعهم ، والسلاسل تقيدهم ، والقطران سرابيلهم ، والحميم شربهم ، والنار محيطة بهم .. وذلك جزاء من خالف إلهه.

قوله جل ذكره : (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٥٢))

الحجج ظاهرة ، والأمارات لائحة ، والدواعي واضحة ، والمهلة متسعة ، والرسول عليه‌السلام مبلّغ ، والتمكين من القيام بحق التكليف مساعد. ولكنّ القسمة سابقة ، والتوفيق عن القيام ممنوع ، والربّ ـ سبحانه ـ فعّال لما بريد ، فمن اعتبر نجا ، ومن غفل تردّى. ولله الأمر من قبل ومن بعد ، والله أعلم.

٢٦١

السورة التي يذكر فيها الحجر

بسم الله الرحمن الرحيم

سقطت ألف الوصل من كتابة بسم الله وليس لإسقاطها علة ، وزيد فى شكل الباء من بسم الله وليس لزيادتها علة ، ليعلم أن الإثبات والإسقاط بلا علة ؛ فلم يقبل من قبل لاستحقاق علة ، ولا ردّ من ردّ لاستيجاب علة. فإن قيل العلّة فى إسقاط الألف من بسم الله كثرة الاستعمال فى كتابتها أشكل بأن الباء من بسم الله زيد فى كتابتها وكثرة الاستعمال موجودة. فإن قيل العلة فى زيادة شكل الباء بركة أفضالها باسم الله أشكل بحذف ألف الوصل لأن الاتصال بها موجود ، فلم يبق إلا أن الإثبات والنفي ليس لهما علة ؛ يرفع من يشاء ويمنع من يشاء.

قوله جل ذكره : (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١))

أسمعهم هذه الحروف مقطّعة على خلاف ما كانوا يسمعون الحروف المنظومة فى الخطاب ، فأعرضوا عن كل شىء وسمعوا لها. ونبههم القرآن إلى أن هذه التي يسمعونها آيات الكتاب ، فقال لهم لما حضرت ألبابهم ، واستعدت لسماع ما يقول آذانهم : (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ).

ووصف القرآن بأنه مبين ؛ لأنه يبين للمؤمنين ما يسكن قلوبهم ، وللمريدين ما يقوى رجاءهم ، وللمحسنين ما يهيج اشتياقهم ، وللمشتاقين ما يثير لواعج أسرارهم ، ويبيّن للمصطفى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ تحقيق ما منع غيره بعد سؤاله .. ألم تر إلى ربك قال لموسى عليه‌السلام : (لَنْ تَرانِي) بعد سؤاله : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) (١)

__________________

(١) آية ١٤٣ سورة الأعراف

٢٦٢

قوله جل ذكره : (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (٢))

إذا عرفوا حالهم وحال المسلمين يوم القيامة لعلموا كيف شقوا ، وأي كأس رشفوا.

ويقال إذا صارت المعارف ضرورية أحرقت نفوس أقوام العقوبة ، وقطّعت قلوبهم الحسرة.

ويقال لو عرفوا حالهم وحال المؤمنين لعلموا أن العقوبة بإهلاكهم حاصلة لقوله تعالى بعدئذ :

(ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣))

قيمة كل امرئ على حسب همّته ؛ فإذا كانت الهمة مقصورة على الأكل والتمتع بالصفة البهيمية لا يحاسب ، وعلى العقل لا يطالب ؛ فالتّكليف يتبعه التشريف! وغدا سوف يعلمون.

قوله جل ذكره : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (٤) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٥))

الآجال معلومة ، والأحوال مقسومة ؛ والمشيئة فى الكائنات ماضية ، ولا تخفى على الحق خافية.

قوله جل ذكره : (وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦))

الجنون معني يوجب إسناد ما ينكشف للعقلاء من التحصيل على صاحبه ، فلمّا كانوا بوصف التباس الحقائق عليهم فهم أولى بما وصفوه به (١) ، فهم كما فى المثل : رمتني بدائها وانسلّت.

__________________

(١) لأنهم ليسوا عقلاء ولا تحصيل لهم.

٢٦٣

قوله جل ذكره : (لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (٨))

اقترحوا عليه الإتيان بالملائكة بعد ما أزيحت العلة عليهم بما أيّد به معجزاته ، فيتوجب اللّوم عليهم لسوء أدبهم. وأخبر الحقّ ـ سبحانه ـ أنه أجرى عادته أنه إذا أظهر الملائكة لأبصار بنى آدم فيكون ذلك عند استبصارهم ؛ لأنه تصير المعرفة ضرورية. وفى المعلوم أنه لم يكن ذلك الوقت أوان هلاكهم ؛ لعلمه أنّ فى أصلابهم من يؤمن بالله سبحانه فى المستأنف.

قوله جل ذكره : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٩))

أنزل التوراة وقد وكل حفظها إلى بنى إسرائيل بما استحفظوا من كتاب الله ، فحرّفوا وبدّلوا ، وأنزل الفرقان وأخبر أنه حافظه ، وإنما يحفظه بقرائة ؛ فقلوب القرّاء خزائن كتابه ، وهو لا يضيع كتابه.

قوله جل ذكره : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١١) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (١٣))

أخبر أنه كانت عادتهم التكذيب ، وأنه أدام سنّته معهم فى التعذيب. ثم قال : (كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) : وهم لا يؤمنون به لأنه أزاح قلوبهم عن شهود الحقيقة ، وسدّ ـ بالحرمان ـ عليهم سلوك الطريقة ، وبيّن أنه لو أراهم الآيات عيانا ما ازدادوا

٢٦٤

إلا عتوا وطغيانا ، وأن من سبق له الحكم بالشقاء فلا يزداد على ممر الأيام إلا ما سبق به القضاء.

قوله جل ذكره : (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥))

من عليه التقدير كان بأمر التكليف مدعوا ، وبأمر التكوين مقضيا .. فمتى ينفع فيه النصح؟ ومتى يكون للوعظ فيه مساغ؟ كلا .. إن البصيرة له مسدودة ، و (....) (١) الخذلان بقدمه مشدودة ، فهو يحمل النصيحة له على الوقيعة ، والحقيقة على الخديعة.

قوله جل ذكره : (وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (١٦))

بروجا أي نجوما هى لها زينة ، ثم تلك النجوم للشياطين رجوم.

(وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ)

إذا رام الشياطين أن يسترقوا السمع كانت النجوم لها رجوما

كذلك للقلوب نجوم وهى المعارف وهى فى الوقت ذاته رجوم على الشياطين ؛ فلو دنا إبليس وجنوده من قلب ولىّ من الأولياء أحرقته بل محقته نجوم عقله وأقمار علمه وشموس توحيده.

وكما أنّ نجوم السماء زينة للناظرين إذا لاحظوها فقلوب العارفين إذا نظر إليها ملائكة السماء لهى زينة.

قوله جل ذكره : (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ)

__________________

(١) مشتبهة وهى فى الخط هكذا (متقلاب) وربما كانت (مثقلات) بمعنى أثقال وقيود.

٢٦٥

النفوس أرض عبادة العابدين ، وقلوب العارفين أرض المعرفة وأرواح المشتاقين أرض المحبة ، والخوف والرجاء لها رواس. وكذلك الرغبة والرهبة.

ويقال من الرواسي التي أثبتها فى الأرض الأولياء فبهم يثبت الناس إذا وقع بهم الفزع. ومن الرواسي العلماء الذين بهم قوام الشريعة ؛ فعلماء الأصول هم قوام أصل الدّين ، والفقهاء بهم نظام الشرع ، قال بعضهم :

وا حسرتا من فراق قوم

هم المصابيح والأمن والمزن.

قوله جل ذكره : (وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ)

كما أنبت فنونا من النبات ذات أنوار (١) أنبت فى القلوب صنوفا من الأنوار (٢) ، منها نور اليقين ونور العرفان ، ونور الحضور ونور الشهود ، ونور التوحيد .. إلى غير ذلك من الأنوار.

(وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ)

سبب عيش كلّ واحد مختلف ؛ فعيش المريدين من إقباله ، وعيش العارفين التجمل بأفضاله (٣)

قوله جل ذكره : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١))

خزائنه فى الحقيقة مقدوراته ، وهو ـ سبحانه ـ قادر على كل ما هو مرسوم بالحدوث.

ويقال خزائنه فى الأرض قلوب العارفين بالله ، وفى الخزانة جواهر من كل صنف ؛ فحقائق العقل جواهر وضعها فى قلوب قوم ، ولطائف العلم جواهر بدائع المعرفة ، وأسرار العارفين

__________________

(١) أنوار النبات جمع نورة وهى الزهرة البيضاء.

(٢) أنوار القلوب جمع نور.

(٣) وردت (أفعاله) وقد رجحنا (أفضاله) لأنها أدق في المعنى ، وإن كان كلاهما صحيحا

٢٦٦

مواضع سرّه ، والنفوس خزائن توفيقه ، والقلوب خزائن تحقيقه ، واللسان خزانة ذكره.

ويقال من عرف أن خزائن الأشياء عند الله تقاصرت خطاه عن التردد على منازل الناس فى طلب الإرفاق منهم ، وسعى فى الآفاق فى طلب الأرزاق منها ، قاطعا أمله عن الخلق ، مفردا قلبه لله متجردا عن التعلّق بغير الله.

قوله : (وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) : عرف القسمة من استراح عن كدّ الطلب ؛ فإنّ المعلوم لا يتغير ، والمقسوم لا يزيد ولا ينقص ، وإذا لم يجب عليه شىء لأحد فبقدرته على إجابة العبد إلى طلبته لا يتوجب عليه شىء.

ويقال أراح قلوب الفقراء من تحمّل المنّة من الأغنياء مما يعطونهم ، وأراح الأغنياء من مطالبة الفقراء منهم شيئا ، فليس للفقير صرف القلب عن الله سبحانه إلى مخلوق واعتقاد منّة لأحد ، إذ الملك كله لله ، والأمر بيد الله ، ولا قادر على الإبداع إلا الله.

قوله جل ذكره : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً)

كما أن الرياح فى الآفاق مقدّمات المطر كذلك الآمال فى القلوب ، وما يقرب العبد مما يتوارد على قلبه من مبشرات الخواطر ، ونسيم النجاة فى الطلب يحصل ، فيستروح القلب إليه قبل حصول المأمول من الكفاية واللطف.

قوله جل ذكره : (فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ)

أسقاه إذا جعل له السّقيا ؛ كذلك يجعل الحق ـ سبحانه ـ لأوليائه ألطافا معلومة فى أوقات محدودة! كما قال فى وصف أهل الجنة : (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا).

كذلك يجعل من شراب القلوب لكلّ وردا معلوما ، ثم قضايا ذلك تختلف :

فمن شراب يسكر ، ومن شراب يحضر ، ومن شراب يزيل الإحساس ، كما قيل :

فصحوك من لفظى هو الصحو كله

وسكرك من لحظى يبيح لك الشّربا

ويقال إذا هبت رياح التوحيد على الأسرار كنست آثار البشرية ، فلا للأغيار فيها أثر ، ولا عن الخلائق لهم خبر.

٢٦٧

ويقال إذا هبّت رياح القرب على قلوب العارفين عطّرتها بنفحات الأنس ، فيسقون فى نسيمها على الدوام ، وفى معناه أنشدوا :

وهبّت شمال آخر الليل قرّة (١)

ولا ثوب إلا بردة وردائيا

وما زال بردى لينا من ردائها

إلى الحول حتى أصبح البرد باليا

ويقال إذا هبّت رياح العناية على أحوال عبد عادت مساويه مناقبه ومثالبه محاسنه.

قوله جل ذكره : (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (٢٣))

نحيى قلوبهم بالمشاهدة ، ونميت نفوسهم بالمجاهدة.

ويقال نحييهم بأن نفنيهم بالمشاهدة ، ونميتهم بأن نأخذهم عن شواهدهم.

ويقال يحيى المريدين بذكره ، ويميت الغافلين بهجره.

ويقال يحيى قوما بموافقة الأمر فى الطاعات ، ويميت قوما بمتابعة الشهوات.

ويقال يحيى قوما بأن يلاطفهم بلطف جماله ، ويميت قوما بأن يحجبهم عن أفضاله.

قوله جل ذكره : (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤))

العارفون مستقدمون بهممهم ، والعابدون مستقدمون بقدمهم ، والتائبون بندمهم.

وأقوام مستأخرون بقدمهم وهم العصاة ، وآخرون مستأخرون بهمومهم وهم الراضون بخسائس الحالات.

ويقال المستقدمون الذين يسارعون فى الخيرات ، والمستأخرون المتكاسلون عن الخيرات.

ويقال المستقدمون الذين يستجيبون خواطر الحقّ ـ من غير تعريج إلى تفكر ، والمستأخرون الذين يرجعون (٢) إلى الرّخص والتأويلات.

ويقال المستقدمون الذين يأتون على مراكب التوفيق ، والمستأخرون الذين تثبطهم مشقة الخذلان.

__________________

(١) قرة أي باردة.

(٢) وردت (يرجون) وهى خطا فى النسخ ـ حسبما نعرف من رأى القشيري فى مثل هذا الموقف.

٢٦٨

قوله جل ذكره : (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٢٥))

يبعث كلا على الوصف الذي خرجوا من الدنيا عليه : فمن منفرد القلب بربه ، ومن متطوّح فى أودية التفرقة ، ثم يحاسبهم على ما يستوجبونه.

قوله جل ذكره : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (٢٧))

ذكّرهم بخسّتهم لئلا يعجبوا بحالتهم.

ويقال القيمة فى القربة لا بالتّربة ؛ والنسب تربة ولكن النعت قربة.

(وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ). وإذا انطفأت النار صارت رمادا لا يجىء منها شىء ، والطين إذا انكسر عاد به الماء إلى ما كان عليه ، كذلك العدو (١) لمّا انطفأ ما كان يلوح عليه من سراج الطاعة لم ينجبر بعده ، وأمّا آدم ـ عليه‌السلام فلمّا اغترّ جبره ماء العناية ، قال تعالى : (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ ...) (٢)

قوله جل ذكره : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٢٩) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١))

أظهرهم بهذا القول ، وفى عين ما أظهرهم سترهم.

ويقال ليست العبرة بقوالبهم ، إنما الاعتبار بالمعاني التي أودعها فيهم.

__________________

(١) يقصد إبليس.

(٢) آية ١٢٢ سورة طه.

٢٦٩

ويقال الملائكة لا حظوه بعين الخلقة فاستصغروا قدره وحاله ، ولهذا عجبوا من أمر الله ـ سبحانه ـ لهم بالسجود له ، فكشف لهم شظية مما اختصّه به فسجدوا له.

قوله : (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) : وكذا أمر من حجب عن أحواله ادّعى الخيرة وبقي فى ظلمة الحيرة.

ويقال بخل بسجدة واحدة ، وقال : أستنكف أن أسجد لغير الله. ثم من شقاوته لا يبالى بكثرة معاصيه ، فإنه لا يعصى أحد إلّا وهو سبب وسواسه ، وداعيه إلى الزّلّة. وذلك هو عين الشّقوة وقضية الخذلان.

قوله جل ذكره : (قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٣٣) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥))

سأله ومعلوم له حاله ، ولو ساعدته المعرفة لقال : قل لى مالك؟ وما منعك؟ ومن منعك حتى أقول. أنت ... حيث أشقيتني ، وبقهرك أغويتني ، ولو رحمتني ، لهديتنى وفى كنف عصمتك آويتنى ... ولكنّ الحرمان أدركه حتى قال : (لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ)

قوله جل ذكره : (قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨))

ولمّا أبعده الحقّ ـ سبحانه ـ عن معرفته ، وأفرده باللعنة استنظره إلى يوم القيامة والبعث ، فأجابه. وظنّ اللّعين أنه حصل فى الخبر مقصوده ، ولم يعلم أنه أراد بذلك تعذيبه عذابا شديدا ، فكأنه كان فى الحقيقة مكرا ـ وإن كان فى الحال فى صورة إجابة السؤال بما يشبه اللطف والبرّ.

وبعض أهل الرجاء يقول : إن الحق ـ سبحانه ـ حينما يهين عدوّه لا يردّ دعاءه

٢٧٠

فى الإمهال ولا يمنعه من الاستنظار ؛ فالمؤمن ـ إذ أمره الاستغفار والسؤال بوصف الافتقار ـ أولى ألا يقنط من رحمته ، لأنّ إنظار اللعين زيادة شقاء له لا تحقيق عطاء.

قوله جل ذكره : (قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩))

الباء فى : (بِما أَغْوَيْتَنِي) باء القسم ، ولم يكن إغواؤه إياه مما يجب أن يقسم به لو لا فرط جهله. ثم هو فى المعنى صحيح ، لأنّ الإغواء مما يتفرّد الحق بالقدرة عليه ، ولا يشاركه فيه أحد ، ولكنّ اللّعين لا يعرف الله على الحقيقة ، إذ لو عرفه لم يدع إلى الضلال ، لأنه لو قدر على إضلال غيره لا ستبقى على الهداية نفسه. وعند أهل التحقيق إنه يقول جميع ذلك حدسا وهو لم يعرف الله ـ على الحقيقة ـ قطّ.

قوله جل ذكره : (إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١))

الإخلاص هو تصفية الأعمال عن الغين وعن الآفات المانعة من صالح الأعمال وقد علم اللعين أنه لا سبيل له إليهم بالإغواء لمّا تحقق من عناية الحقّ بشأنهم.

(قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) تهديد ، كما تقول : افعل ما شئت .. وهذا طريقى.

قوله جل ذكره : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (٤٢))

السلطان الحجة ، وهى لله على خلقه ، وليس للعدوّ حجة على مخلوق ، إذ لا تتعدّى مقدرته محلّه ، فلا تسلّط ـ فى الحقيقة (١) ـ لمخلوق على مخلوق بالتأثير فيه.

(إِنَّ عِبادِي ...) : إذا سمى الله واحدا عبدا فهو من جملة الخواص ، فإذا أضافه إلى نفسه فهو خاص الخاص ، وهم الذين محاهم عن شواهدهم ، وحفظهم وصانهم عن أسباب التفرقة

__________________

(١) نلاحظ أن القشيري يكثر فى هذا الموضوع من قوله (في الحقيقة ، وعلى الحقيقة ... ونحو ذلك) والسبب فى ذلك راجع إلى أن ظاهر النصوص أن لابليس إرادة وفعلا ، ولكن ـ فى الحقيقة ـ كل شىء مرده إلى الحق سبحانه.

٢٧١

وجرّدهم عن حولهم وقوّتهم ، وكان النائب عنهم فى جميع تصرفاتهم وحالاتهم ، وحفظ عليهم آداب الشرع ، وألبسهم صدار الاختيار فى أوان أداء التكليف ، وأخذهم عنهم باستهلاكهم فى شهوده ، واستغراقهم فى وجوده ... فأىّ سبيل للشيطان إليهم؟ وأي يد للعدو عليهم؟

ومن أشهده الحقّ حقائق التوحيد ، ورأى العالم مصرّفا فى قبضة التقدير ، ولم يكن نهبا للأغيار ... فمنى يكون للّعين عليه تسلط ، وفى معناه قالوا :

جحودى فيك تقديس

وعقلى فيك تهويس

فمن آدم إلّاك

ومن فى البيت إبليس (١)

قوله جل ذكره : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (٤٤))

اجتمعوا اليوم فى أصل الضلالة ، ثم الكفر ملل مختلفة ، ثم يجتمعون غدا فى العقوبة وهم زمر مختلفون ، لكلّ دركة من دركات جهنم قوم مخصّون.

قوله جل ذكره : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥))

المتقى من وقّاه الله بفضله لا من اتّقى بتكلّفه ، بل إنه ما اتقى بتكلفه إلّا بعد أن وقّاه الحقّ ـ سبحانه ـ بفضله. هم اليوم فى جنات ولها درجات بعضها أرفع من بعض ، كما أنهم غدا فى جنّات ولها درجات بعضها فوق بعض.

اليوم لقوم درجة حلاوة الخدمة وتوفيق الطاعة ، ولقوم درجة البسط والراحة ، ولآخرين درجة الرجاء والرغبة ، ولآخرين درجة الأنس والقربة ، قد علم كلّ أناس مشربهم ولزم كلّ قوم مذهبهم.

قوله جل ذكره : (ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (٤٦))

__________________

(١) هذان البيتان للحلاج (الطواسين ص ٤٣) والديوان المقطعة رقم ٢٨ ومعناهما : أننى لو سجدت لغيرك ـ حسبما أمرتنى ـ فأنا جاحد ، ولكن ـ نظرا لمعرفتى بك ـ فإن جحودى عين تقديسى ، لأننى أعلم أنه لا يستحق السجود على الحقيقة إلا أنت ، فأنا راض باحتمال لعنتك ثمنا لعدم امتثالى لإرادتك.

٢٧٢

معناه : يقال لهم : (ادْخُلُوها) ، وأجمل ذلك ولم يقل من الذي يقول لهم. ويرى قوم أن الملك يقول لهم : أدخلوها.

ويقال إذا وافوا الجنة وقد قطعوا المسافة البعيدة ، وقاسوا الأمور الشديدة فمن حقّهم أن يدخلوا الجنة ، خاصة وقد علموا أنّ الجنة مباحة لهم ، ولعلهم لا يفقهون حتى يقال لهم ويقال يحتمل أنهم لا يدخلونها بقول الملك حتى يقول الحقّ : أدخلوها ، كما قالوا :

ولا ألبس النّعمى وغيرك ملبس

ولا أقبل الدنيا وغيرك واهب

قوله : (بِسَلامٍ آمِنِينَ) : بمعنى السلامة ، وهى الأمان ، فيأمنون أنهم لا يخرجون منها ويقال كما لا يخرجون من الجنة لا يخرجون عما هم عليه من الحال ؛ فالرؤية لهم وما هم فيه من الأحوال الوافية ـ مديدة.

قوله جل ذكره : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ)

أمر الخليل عليه‌السلام ببناء الكعبة وتطهيرها فقال : (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ) (١) ، وأمر جبريل عليه‌السلام حتى غسل قلب المصطفى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فطهّره (٢). وتولّى هو ـ سبحانه ـ بنفسه تطهير قلوب العاصين ، فقال : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ) (٣) وذلك رفقا بهم ، فقد يصنع الله بالضعيف ما يتعجّب منه القوى ، ولو وكل تطهير قلوبهم إلى الملائكة لاشتهرت عيوبهم ، فتولّى ذلك بنفسه رفقا بهم.

ويقال قال : (ما فِي صُدُورِهِمْ) ولم يقل ما فى قلوبهم لأن القلوب فى قبضته يقلبها ، وفى الخبر : «قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن» : يريد بذلك قدرته ، فاستعمل لفظ الإصبع لذلك توسعا. وقيل بين إصبعين أي نعمتين.

قوله جل ذكره : (إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ)

قابل بعضهم بعضا بالوجه ، وحفظ كلّ واحد عن صاحبه سرّه وقلبه ، فالنفوس متقابلة

__________________

(١) آية ٢٦ سورة الحج.

(٢) أنظر كتاب (المعراج) للقشيرى ففيه تفصيل ذلك

(٣) عن على بن الحسين أن هذه الآية نزلت فى أبى بكر وعمر وعلى رضى الله عنهم وأن الغل غل الجاهلية الذي كان بين تيم وعد وبنى هاشم فلما أسلموا تحابوا.

٢٧٣

ولكنّ القلوب غير متقابلة ؛ إذ لا يشتغل بعضهم ببعض ، قال تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) (١)

قوله جل ذكره : (لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (٤٨))

أي لا يلحقهم تعب ؛ لا بنفوسهم ولا بقلوبهم. وإذا أرادوا أمرا لا يحتاجون إلى أن ينتقلوا من مكان إلى مكان ، ولا تحار أبصارهم ، ولا يلحقهم دهش ، ولا يتغير عليهم حال عما هم عليه من الأمر ، ولا تشكل عليه صفة من صفات الحق.

(وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) أي لا يلحقهم (٢) ذلّ الإخراج بل هم بدوام الوصال.

قوله جل ذكره : (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩))

لمّا ذكر حديث المتقين وما لهم من علوّ المنزلة انكسرت قلوب العاصين ، فتدارك الله قلوبهم ، وقال لنبيّه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أخبر عبادى العاصين أنى غفور رحيم ، وأنى إن كنت الشكور الكريم بالمطيعين فأنا الغفور الرحيم بالعاصين.

ويقال من سمع قوله : (أَنِّي أَنَا) بسمع التحقيق لا يبقى فيه مساغ لسماع المغفرة والرحمة ؛ لأنه يكون عندئذ مختطفا عن شاهده ، مستهلكا فى إنّيته.

قوله جل ذكره : (وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (٥٠))

العذاب الأليم هنا هو الفراق ، ولا عذاب فوق الفراق فى الصعوبة والألم (٣).

قوله جل ذكره : (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (٥١) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً)

ألا عرّفهم كيف كانت فتوة الخليل فى الضيافة ، وقيامه بحقّ الضيفان ، وكان الخليل

__________________

(١) آية ٢٤ سورة الأنفال.

(٢) هنا وقع الناسخ فى خطأ التكرار إذ أعاد كتابة عبارات سابقة مما ورد بعد (لا يلحقهم تعب ... إلخ) :

(٣) أي أن عذاب الفراق يفوق فى نظر الصوفية ـ عذاب الاحتراق.

٢٧٤

عليه‌السلام يقوم بنفسه بخدمة الضيفان ، فلمّا سلموا من جانبهم وردّ عليهم وانفضّوا عن تناول طعامه :

(قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ).

وجلون أي خائفون ، فإنّ الإمساك عن تناول طعام الكرام موضع للريبة. ولمّا علم أنهم ملائكة خاف أن يكونوا نزلوا لتعذيب قومه إذ كانوا مجرمين. ولكن سكن روعه عند ما قالوا له :

(قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٥٣))

فليس لك موضع للوجل لكن موضع للفرج ؛ فإنا جئناك مبشّرين ، وإن كنّا لغيرك معذّبين.

نحن (نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) : أي يعيش حتى يعلم ، لأن الطفل ليس من أهل العلم ، وكانت بشارتهم بالولد وببقاء الولد هى العجب فقال :

(قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (٥٤) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (٥٥) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (٥٦))

قال أبشرتموني وقد مسّنى الكبر؟ وإنّ الكبير قد فاته الوقت الذي يفرح فيه من الدنيا بشىء. بماذا تبشروني وقد طعنت فى السنّ ، وعن قريب أرتحل إلى الآخرة؟ قالوا : بشرناك بالحق فلا تكن من جملة من يقنط من رحمة الله ، ولا يقنط من رحمة ربه إلا من كان ضالا.

قال : كيف أخطأ ظنكم فىّ فتوهمتم أنى أقنط من رحمة ربى؟

فلما فرغ قلبه من هذا الحديث ، وعرف أنه لن يصيبه ضرر منهم سألهم عن حالهم :

٢٧٥

(قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (٦٠))

قال ما شأنكم؟ وإلى أين قصدكم؟

قالوا : أرسلنا لعذاب قوم لوط ، ولننجى أهله إلا امرأته لمشاركتها معهم فى الفساد ، وكانت تدل قومه على أضافه ، فاستوجبت العقوبة.

فلمّا وافى المرسلون من آل لوط أنكرهم لأنه لم يجدهم على صورة البشر ، وتفرّس فيهم على الجملة أنهم جاءوا لأمر عظيم ، قالوا : بل جئناك بما كان قومك يشكّون فيه من تعديبنا إياهم ، وآتيناك بالحق ، أي بالحكم الحق :

(فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (٦٥))

فأسر بأهلك بعد ما يمضى شىء من الليل ، وامش خلفهم ، وقدّمهم عليك ، واتبع أدبارهم ، ولا يلتفت منكم أحد لئلا يروا ما ينزل بقومهم من العذاب ، وإنا ننقذك وأهلك إلا امرأتك ، فإنا نعذبها لمشاركتها مع قومك فى العصيان. (وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) : فلكم السلامة ولقومكم العقوبة.

وقضينا إليه ذلك الأمر أي علّمناه وعرّفناه : (أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ) ؛ أي أنهم مهلكون ومستأصلون بالعقوبة.

ثم لما نزل الملائكة بلوط عليه‌السلام قال لقومه إن هؤلاء أضيافى ، فلا تتعرضوا لهم فتفضحونى ، واتقوا الله ، وذروا مخالفة أمره ولا تخجلوني. فقال قومه : ألم ننهك عن أن تحيى أحدا ، وأمرناك ألا تمنع منّا أحدا؟ فقال : هؤلاء بناتي يعنى نساء أمتى. وقال قوم :

٢٧٦

أراد بناته من صلبه ، عرضهن عليهم لئلا يلمّوا بتلك الغلطة الفحشاء ، فلم تنجع فيهم نصيحة ، ولم يقلعوا عن خبيث قصدهم.

فأخبره الملائكة ألا يخاف عليهم ، وسكنوا من روعه حين أخبروه بحقيقة أمرهم ، وأنهم إنما أرسلوا للعقوبة.

قوله جل ذكره : (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٢))

أقسم بحياته تخصيصا له فى شرفه ، وتفضيلا له على سائر البرية ، فقال وحياتك ـ يا محمد ـ إنهم لفى ضلالتهم وسكرة غفلتهم يتردّون ، وإنهم عن شركهم لا يقلعون.

ويقال أقسم بحياته لأنه لم يكن فى وقته حياة أشرف من حياته ـ إنهم فى خمار سكرهم ، وغفلة ضلالتهم لا يترقبون عقوبة ، ولا يخافون سوءا.

قوله جل ذكره : (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (٧٣) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (٧٤) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (٧٥))

باتوا فى حبور وسرور ، وأصبحوا فى محنة وثبور ، وخرّت عليهم سقوفهم ، وجعلنا مدنهم ومنازلهم عاليها سافلها ، وأمطرنا عليهم من العقوبة مالم يبق عينا ولا أثرا ، إنّ فى ذلك لعبرة لمن اعتبر ، ودلالة ظاهرة لمن استبصر ، (وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) لمن شاء أن يعتبر

قوله جل ذكره : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) (١)

جاء فى التفسير «المتفرسين» ، والفراسة خاطر يحصل من غير أن يعارضه ما يخالفه عند ظهور برهان عليه ، فيخرج من القلب عين ما يقع لصاحب الفراسة. مشتق من فريسة

__________________

(١) أخر الناسخ تفسير هذه الآية عند النقل فوضعها بعد الآية ٨٦ (إن ربك هو الخلاق العليم) وقد صححنا هذا الوضع.

٢٧٧

الأسد إذ لفريسته يقهر. والحق ـ سبحانه ـ يطلع أولياءه على ما خفى على غيرهم. وصاحب الفراسة لا يكون بشرط التفرس فى جميع الأشياء وفى جميع الأوقات ؛ بل يجوز أن تسدّ عليه عيون الفراسة فى بعض الأوقات كالأنبياء عليهم‌السلام ؛ فنبيّنا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان يقول لعائشة ـ رضى الله عنها ـ فى زمان الإفك : «إن كنت فعلت فتوبى إلى الله». وكابراهيم ولوط ـ عليهما‌السلام ـ لم يعرفا الرسل.

قوله جل ذكره : (وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (٧٨) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (٧٩) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (٨٠) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٨١) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (٨٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (٨٣) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٤))

أصحاب الأيكة هم قوم شعيب ، وكان شعيب ـ عليه‌السلام ـ مبعوثا لهم فكذّبوه ، فانتقمنا منهم.

قوله : (وَإِنَّهُما) يعنى مدين والأيكة ... (لَبِإِمامٍ مُبِينٍ) : أي بطريق واضح من قصده (...) (١)

وكذلك أخبر أن أصحاب الحجر (٢) ـ وهم ثمود ـ كذبوا المرسلين إليهم ، وأنهم أعرضوا عن الآيات التي هى المعجزات كناقة صالح وغيرها ، وأنهم كانوا أخلدوا إلى الأرضين وكانوا مغترّين بطول إمهال الله إياهم من تأخير العقوبة عنهم ، وكانوا يتخذون من الجبال بيوتا ، ويظنون أنهم على أنفسهم آمنون من الموت والعذاب.

__________________

(١) مشتبهة.

(٢) الحجر واد بين المدينة ، والشام.

٢٧٨

ثم أخبر أنهم أخذتهم الصيحة على بغتة ، ولم تغن عنهم حيلتهم لمّا حلّ حينهم.

قوله جل ذكره : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما)

دلّت الآية على أنّ أكساب العباد مخلوقة لله لأنها بين السماوات والأرض.

(إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ)

(إِلَّا بِالْحَقِّ) : أي وأنا محق فيه ويقال (بِالْحَقِّ) : بالأمر العظيم الكائن إن الساعة لآتية يعنى القيامة.

(فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ)

يقال الصفح الجميل الذي تذكر الزّلّة فيه.

ويقال الصفح الجميل سحب ذيل الكرم على ما كان من غير عقد الزّلّة ، بلا ذكر لما سلف من الذنب ، كما قيل :

تعالوا نصطلح ويكون منّا (.....) (١)

ويقال الصفح الجميل الاعتذار عن الجرم بلا عدّ الذنوب من المجرم ، والإقرار بأن الذنب كان منك لا من العاصي ، قال قائلهم :

(وتذنبون فننسى ونعتذر)

قوله جل ذكره : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨٦))

(هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) إذ لا يصح الفعل بوصف الانتظام والاتساق من غير عالم.

قوله جل ذكره : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧))

أكثر المفسرين على أنها سورة الفاتحة ، وسميت مثانى لأنها نزلت مرتين : مرة بمكة

__________________

(١) الشطر الثاني مطموس غير واضح.

٢٧٩

ومرة بالمدينة ، ولأنها شىء فى كل صلاة يتكرر ، من «التثنية» وهى التكرير ، أو لأن بعضها يضاف إلى الحق وبعضها يضاف إلى الخلق ... ومعنى هذا مذكور فى كتب التفاسير (١).

قوله جل ذكره : (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ)

لم يسلّم له إشباع النظر إلى زهرة الدنيا وزينتها.

ويقال غار على عينيه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن يستعملها فى النظر إلى المخلوقات.

ويقال أدّبه الله ـ سبحانه ـ بهذا التأديب حتى لا يعير طرفه من حيث الاستئناس به.

ويقال أمره بحفظ الوفاء لأنه لمّا لم يكن اليوم سبيل لأحد إلى رؤيته (٢) ، فلا تمدن عينيك إلى ملاحظة شىء من جملة ما خوّلناهم ، كما قال بعضهم :

لمّا تيقّنت أنى لست أبصركم

أغمضت عينى فلم أنظر إلى أحد

ويقال شتّان بينه وبين موسى ـ عليه‌السلام! قال له : (لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ) ، ونبينا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ منعه من النظر إلى المخلوقات بوصف هو تمام النظر فقال : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ).

ويقال إذا لم يلم له إشباع النظر بظاهره إلى الدنيا فكيف يسلم له السكون بقلبه إلى غير الله؟!

ويقال لما أمر بغضّ بصره عما يتمتّع به الكفار فى الدنيا تأدّب ـ عليه‌السلام ـ فلم ينظر ليلة المعراج إلى شىء مما رأى فى الآخرة ، فأثنى عليه الحقّ بقوله : (ما زاغَ الْبَصَرُ. وَما طَغى) وكان يقول لكل شىء رآه : «التحيات لله» أي الملك لله.

__________________

(١) ويرى بعضهم أنها نسبع سور وهى الطوال ، واختلف في السابعة فقيل الأنفال وبراءة لأنهما فى حكم سورة بدليل عدم التسمية بينهما ، وقيل سورة يونس. أو أسباع القرآن.

(٢) الضمير فى (رؤيته) يعود إلى الحق سبحانه ، والمقصود حفظ العين ـ من قبيل الوفاء ـ لكى لا تعاين سواه سبحانه فيما بعد.

٢٨٠