أصول الفقه - ج ٨

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٨

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-73-7
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٦١٢

الخامس ، وينحصر الأمر بالاحتمال الرابع ، ولكن الاحتمال الخامس أيضاً ممكن وإن كان بعيداً ، بأن نقول إنّ القيدية مختصّة بحال العلم بها ، ففي حال الجهل بها لا تقييد ، لكن يمكن أن تكون الخصوصية من قبيل الواجب النفسي في خصوص حال الجهل بالقيدية ، ففي حال الجهل بالقيدية لا يكون في البين إلاّوجوب الاجهار نفسياً ، وفي حال العلم بها لا يكون إلاّوجوب الاجهار شرطياً ، بل يمكن أن يكون الاجهار واجباً نفسياً في حال العلم بالقيدية وفي حال الجهل بها ، غايته أنّه في حال العلم بالقيدية يجتمع الوجوب النفسي والوجوب الشرطي للاجهار ، بخلاف حال الجهل فإنّه لا يكون فيه إلاّ الوجوب النفسي.

قوله : وأمّا المقدّمة الثانية : فللمنع عنها مجال ، إذ استحقاق العقاب وعدمه ليس من المسائل الفقهية الشرعية التي ينعقد عليها الإجماع ... الخ (١).

لا يخفى أنّ نفس استحقاق العقاب وإن كان من المسائل العقلية التي لا يدخلها الإجماع ، إلاّ أنه لمّا كان لازماً لوجود تكليف قد خالفه المكلّف ، كان مرجع الإجماع المذكور إلى الإجماع على ملزومه الذي هو توجّه ذلك التكليف الذي قد خالفه المكلّف ، فيكون من الإجماع على الحكم الشرعي ، وليس ذلك من قبيل الإجماع على أنّ نيّة المعصية موجبة لاستحقاق العقاب ، مع الاعتراف بعدم كونها قابلة للحكم الشرعي الذي هو التحريم.

ثمّ بعد تحقّق الإجماع على ذلك الملزوم الذي هو التكليف الواقعي بواسطة الاتّفاق على لازمه الذي هو استحقاق العقاب ، لا يكون قول البعض بأنّ العقاب على ترك التعلّم أو على التجرّي موجباً للخدشة فيه ، لأنّ المفروض

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٢٩٥.

٥٨١

حينئذ أنّ هذا البعض قد اعترف بذلك الاتّفاق ، لكنّه يوجّه استحقاق العقاب بترك التعلّم أو بالتجرّي ، ونحن بعد أن نبطل استحقاق العقاب على ترك التعلّم وعلى التجرّي ، ينحصر الوجه عندنا في الاستحقاق بما عرفت من وجود التكليف.

لكن الإنصاف : أنّ هذا الإجماع غير محقّق ، ولو تحقّق لما أمكن أن يكون إجماعاً على التكليف المذكور ، لكون استحقاق العقاب أعمّ من ذلك التكليف ، فيكون من قبيل الإجماع على اللازم الأعمّ ، ولعلّ هذا هو المراد له قدس‌سره.

ثمّ إنّ قوله عليه‌السلام : « فلا شيء عليه وقد تمّت صلاته » (١) لا دلالة فيه على عدم استحقاق العقاب ، لجواز أن يكون النظر بقوله : « لا شيء عليه » إلى الاعادة في قوله عليه‌السلام قبل هذا : « أيّ ذلك فعل متعمّداً فقد نقض صلاته وعليه الاعادة ».

ثمّ لا يخفى أنّا لو التزمنا بعدم استحقاق العقاب ، لم نتخلّص من إشكال الصحّة في خصوص حال الجهل مع فرض لزوم الاعادة في حال العلم إلاّبجعل التقيّد بالاجهار مقيّداً بالعلم به ، ليكون هذا الدليل مخصّصاً لأدلّة مشاركة العالم للجاهل.

قوله : ولكن وجوبهما الاستقلالي عند العلم به ينقلب إلى وجوب غيري ... فيرتفع الإشكال بحذافيره ... الخ (٢).

ملخّصه : هو ما عرفت عند الكلام على ما في الكفاية ، من أنّ الجهر واجب نفسي محلّه صلاة الغداة مثلاً ، سواء كان المكلّف عالماً به أو جاهلاً ، لكن كونه شرطاً في صحّة الصلاة مشروط بعلم المكلّف بذلك الوجوب النفسي ، فيكون وجوبه النفسي غير مشروط بالعلم ، ولكن وجوبه الشرطي مشروط بالعلم

__________________

(١) تقدّم استخراجه في الصفحة : ٥٧٩ ، الهامش (٣).

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٢٩٥.

٥٨٢

بوجوبه النفسي.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ هذا التوجيه لا يتمّ في حقّ أغلب المكلّفين ، لعدم علمهم بذلك الوجوب النفسي كي يكون علمهم به محقّقاً لشرط الوجوب الشرطي ، الذي هو عبارة عن تقييد الصلاة بذلك الواجب النفسي.

فالأولى أن يقال : إنّ التقييد المزبور منحصر بصورة العلم بنفس التقييد المزبور على نحو نتيجة التقييد ، بحيث يكون المستفاد من دليل عدم الاعادة في صورة الجهل هو سقوط القيدية في مورد الجهل ، ويكون نتيجة ذلك هو انحصار القيدية بصورة العلم بها ، لكن لا بنحو التقييد اللحاظي ، بل بنحو نتيجة التقييد المقابل للاطلاق الذاتي المعبّر عنه بنتيجة الاطلاق ، ويكون العقاب على ترك ذلك الواجب النفسي ، أعني نفس الجهر الواجب في حدّ نفسه في الصلاة من قبيل الواجب في ضمن واجب.

ثمّ لا يخفى أنّه بناءً على ما ذكرناه من كون قيدية الجهر للصلاة المعبّر عنها بالوجوب الشرطي مختصّة بحال العلم بها لا بالعلم بالوجوب النفسي المتعلّق بنفس الجهر ، يمكن أن يقال إنّ الوجوب النفسي مختصّ بصورة الجهل بتلك القيدية ، ومقتضاه أنّه عند العلم بالقيدية يتحقّق الوجوب الشرطي وينتفي الوجوب النفسي ، فنستريح حينئذ من إشكال الجمع بين الوجوبين ، ومن إشكال العقابين فيما لو ترك الصلاة حال كونه عالماً بالقيدية ، لكنّه تكلّف لا يخلو عن منافاة لظاهر الأدلّة القائلة إنّه لو كان جاهلاً فلا يعيد ، الشاملة باطلاقها لما إذا كان جاهلاً بالوجوب النفسي وإن كان عالماً بالوجوب الشرطي ، كشمولها لما إذا كان جاهلاً بالشرطية وإن كان عالماً بالوجوب النفسي ، اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ مركز العلم والجهل المستفاد من التفصيل في الرواية هو الوجوب الشرطي ، لأنّ ذلك

٥٨٣

هو المنصرف إليه من التفصيل المزبور.

لكنّه يشكل من جهة أنّ هذا الوجوب النفسي المختصّ بحال الجهل لا يعقل فيه الباعثية ، فلا أثر له إلاّ العقاب ، وهو من هذه الجهة بعيد بل قبيح.

فالأولى أن يقال : إنّ الوجوب النفسي للاجهار مطلق شامل للعالم والجاهل والوجوب الشرطي مختصّ بخصوص العالم بذلك الوجوب الشرطي ، وحينئذ يسلم من إشكال أخذ العلم بالوجوب النفسي شرطاً في القيدية ، أعني بها الوجوب الشرطي ، وذلك الإشكال هو ما عرفت من عدم العلم بالوجوب النفسي لأغلب المكلّفين ، ويسلم أيضاً من تعدّد العقوبة لو ترك الصلاة ، لأنّ الوجوب النفسي مشروط بالاتيان بها على ما ستعرف إن شاء الله تعالى.

نعم ، يكون اللازم أنّه عند العلم بالقيدية يجتمع الوجوبان النفسي والغيري المعبّر عنه بالوجوب الشرطي أو الوجوب الضمني ، ولا ضير في ذلك.

نعم ، فيه إشكال آخر وهو أنّه عند الجهل بالوجوب الشرطي لو اتّفق حصول العلم بالوجوب النفسي وعصاه وصلّى إخفاتاً ، ينبغي أن نقول بصحّة صلاته ، لكن إطلاق قوله عليه‌السلام : « أيّ ذلك فعل متعمّداً فقد نقض صلاته وعليه الاعادة » (١) شامل للفرض المذكور ، ولا محيص حينئذ من توجيه شمول الاطلاق لهذا الفرض بما أفاده المرحوم الحاج آغا رضا قدس‌سره من إمكان كون مجرّد اقتران الصلاة بهذا العصيان لذلك الوجوب النفسي الذي علمه موجباً لبطلانها ولو قصد التقرّب بالصلاة ، إذ لا يصحّ التقرّب بشخصها المقرون بعصيان تكليف آخر معلوم له حال فعلها.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٦ : ٨٦ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٢٦ ح ١.

٥٨٤

أمّا إشكال تعدّد العقوبة الوارد على هذا التقريب الذي ذكرناه وعلى التقريب الذي أفاده شيخنا قدس‌سره فلا ضير فيه ، لامكان أن يلتزم بتعدّد العقوبة ، فإنّ من عصى وترك الظهر يعاقب على مخالفة وجوبها النفسي وعلى مخالفة وجوبها الشرطي الذي ... (١) عن العقاب على ترك العصر المقيّدة بمسبوقية الظهر. وهكذا الحال فيما نحن فيه ، فإنّ العالم بكلّ من الوجوب النفسي والشرطي للجهر لو ترك الصلاة ، يعاقب على ترك نفس الجهر وعلى ترك الصلاة الجهرية ، وكذلك الجاهل لو ترك أصل الصلاة يعاقب على ترك نفس الصلاة وعلى ترك نفس الجهر ، لأنّ كلاً منهما واجب نفسي ، لكنّه في خصوص مقامنا لا يخلو من بعد.

فالأولى أن يقال : إنّ الوجوب النفسي للجهر ليس بمطلق مثل وجوب الظهر ، بل لمّا كان ظرفه الاتيان بالصلاة كان مشروطاً قهراً بالاتيان بها ، وإن كانت هي واجبة عليه ، فيكون حاله من هذه الجهة حال استحباب التعقيب أو وجوبه مثلاً ، فإنّ الأمر به يكون مشروطاً بالاتيان بالصلاة ، ولا يضرّه كونها واجبة على المكلّف ولا كونها اختيارية له.

وبالجملة : أنّ الظاهر من قوله : اجهر بالقراءة حال الصلاة ، أنّ الاتيان بالصلاة موضوع لذلك الأمر ، لا أنّه من الأفعال الاختيارية التي يتوقّف عليها وجود الواجب نظير نصب السلّم بالنسبة إلى الصعود على السطح.

وإن شئت فقل : إنّ وجوب الاجهار في الصلاة لا يقتضي وجوبها مقدّمة له فإنّها وإن كانت كذلك ، بمعنى أنّه لا يمكنه الاجهار إلاّبعد فعل الصلاة ، إلاّ أنه من الممكن أخذ وجودها في وجوبه ، وفراراً عن لزوم تعدّد العقوبة نقول إنّ وجودها شرط في وجوبه ، وإذا تمّ لنا ذلك قلنا إنّه عند تركه للصلاة لا يكون

__________________

(١) [ في الأصل هنا سِقط ].

٥٨٥

الاجهار واجباً نفسياً عليه ، فلا يستحقّ إلاّعقاباً واحداً على ترك الصلاة ، سواء كان ذلك مع الجهل بكون الجهر واجباً نفسياً ، أو كان مع العلم بذلك الوجوب النفسي.

ثمّ إنّه ربما يشكل على ما أفاده شيخنا قدس‌سره من أنّ الوجوب النفسي الطارئ على الجهر يتبدّل بالعلم به إلى الوجوب الغيري أوّلاً : بأنّه يلزم أن يكون العلم بذلك الوجوب موجباً لانعدامه ، وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به.

وثانياً : أنّا لو أغضينا النظر عن هذه الجهة لكان فيه إشكال آخر ، وهو لغوية تشريع ذلك الوجوب ، لعدم تمكّن المكلّف من امتثاله ، أمّا في صورة الجهل به فواضح ، وأمّا بعد العلم به فلتبدّله إلى الوجوب الغيري.

ويمكن الجواب عنه بأنّا لا نلتزم بالتبدّل ، بل نقول إنّ الوجوب النفسي ثابت في كلّ من حالتي الجهل والعلم به ، غايته أنّ العلم به يكون موضوعاً لتقييد الصلاة به ، من دون أن يكون هو مقيّداً بها ، فيكون حال الجهر عند العلم به كحال صلاة الظهر بالنسبة إلى العصر في كون العصر مقيّدة بها ، من دون أن تكون هي ـ أعني صلاة الظهر ـ مقيّدة بها.

وأمّا ما أشكلنا به من أنّ هذا الوجوب النفسي لا يحصل العلم به لعامّة المكلّفين ، فيمكن دفعه بأنّ العلم بأنّه واجب في الصلاة في الجملة كافٍ في تحقّق العلم به وإن لم يكن علماً بأنّه نفسي ، وفيه تأمّل سيأتي إن شاء الله تعالى.

لا يقال : كيف قلتم إنّ الجهر ليس بمقيّد بالصلاة مع أنّ معنى وجوبه النفسي فيها عبارة أُخرى عن أنّه لا يمكن إيقاعه على صفة الوجوب إلاّفي ضمنها.

لأنّا نقول : إنّ هذا المعنى لا يضرّ بما هو المطلوب ، إذ لا مانع من الالتزام

٥٨٦

بأنّ وقوعه على صفة الوجوب النفسي مقيّد بوقوعه في ضمنها ، مع أنّها عند العلم بوجوبه النفسي تكون مقيّدة به ، لأنّ ذلك لا يوجب كونه جزءاً ارتباطياً فيها بحيث يكون هو وباقي الأجزاء مقيّداً كلّ منهما بالآخر.

وإن شئت فقل : إنّه من حيث وجوبه النفسي تكون صحّته مرتبطة بها من دون أن تكون صحّتها مرتبطة به ، وبعد العلم بوجوبه النفسي تكون صحّتها مرتبطة به ، فيكون المجموع في ذلك الحال ـ أعني العلم بالوجوب النفسي ـ واجباً ارتباطياً ، أمّا قبل العلم فلا يكون في البين إلاّذلك الوجوب النفسي الاستقلالي الوارد على الجهر ، ويكون ذلك الوجوب النفسي مشروطاً بالاتيان بالمركّب ، وقهراً تكون صحّة الجهر من حيث كونه امتثالاً للأمر النفسي الاستقلالي مقيّدة بالاتيان به في ضمن الصلاة.

لا يقال : إذا التزمتم بكون الصلاة عند العلم بوجوبه النفسي مقيّدة به ، كان شرطاً في صحّتها ، وحينئذ يكون واجباً ضمنياً كما هو مبناكم في مسألة شروط الصلاة من كونها واجبة ضمناً ، وبذلك صحّحتم عبادية الطهارات ، فيلزم اجتماع الوجوبين.

لأنّا نقول : لا ضير في ذلك ، فنقول إنّ الجهر عند العلم بوجوبه النفسي يكون شرطاً لصحّة الصلاة ، ويكون واجباً نفسياً ضمنياً ، غير أنّ هذا الوجوب النفسي الضمني الناشئ عن كونه في ذلك الحال شرطاً في صحّتها يكون مندكّاً بالوجوب النفسي الاستقلالي ، هذا هو حقيقة الأمر في مقام الثبوت.

وأمّا عمل المكلّف الغافل عن ذلك الوجوب النفسي الاستقلالي ، فقد عرفت أنّه يكفي فيه الاتيان به بداعي أنّه واجب في الصلاة وإن لم يعلم بأنّه واجب نفسي استقلالي ، بل وإن كان معتقداً بأنّه واجب شرطي أو جزئي ، لأنّ

٥٨٧

ذلك من باب الخطأ في التطبيق.

ولكن لا يخفى أنّ الخطأ في التطبيق لا مورد له في المقام ، إذ ليس الإشكال في المقام من جهة كيفية الامتثال ، بل إنّ الإشكال إنّما هو في تحقّق شرط الوجوب الغيري وهو العلم بالوجوب النفسي ، فإنّه لا ينفع علمه بالوجوب الواقعي متخيّلاً أنّه شرطي مع فرض أنّ الشرط هو العلم بالوجوب النفسي.

وبعين هذا الجواب يجاب عن الإشكال على ما ذكرناه من كون القيدية مختصّة بحال العلم بها على نحو نتيجة التقييد ، فإنّه قد يشكل على ذلك بأنّ تشريع الوجوب النفسي حينئذ يكون لغواً ، لعدم تأثيره وعدم قابليته للداعوية لعدم العلم به في كلّ من حالتي الجهل بالقيدية والعلم بها ، وحينئذ يجاب عنه بأنّه يكفي في تأثيره أنّه عند العلم بالقيدية يكون قابلاً للامتثال ، ولو باعتقاد كونه جزئياً أو شرطياً وأنّه واجب ضمني.

لا يقال : إنّ لازم كون وجوب الجهر النفسي من قبيل الواجب في ضمن واجب هو أن يكون وجوبه متأخّراً عن تشريع وجوب الصلاة ، ولازم كون تقيّد الصلاة الواجبة بالعلم بوجوبه النفسي هو كون العلم بوجوبه النفسي سابقاً في الرتبة على وجوبها. والحاصل : أنّه يكون خلاصة المسألة أنّ وجوب الجهر نفسياً مشروط بوجوب الصلاة ، لأنّ وجوبه من قبيل الواجب في ضمن واجب ، فيكون وجوبها سابقاً في الرتبة على وجوبه ، وحيث إنّ العلم بوجوبه يكون شرطاً في صحّتها ، يكون لازم ذلك أنّ العلم بوجوبه يكون سابقاً في الرتبة على الوجوب المتعلّق بها بما أنّها مقيّدة به.

قلنا أوّلاً : لا ضير في ذلك ، فإنّ العلم بوجوبه النفسي إنّما يكون سابقاً في الرتبة على الوجوب المتعلّق بها بما أنّها مقيّدة به ، وهو ـ أعني الوجوب النفسي ـ

٥٨٨

إنّما يكون متأخّراً عن الوجوب المتعلّق بالصلاة من دون تقييدها به.

وثانياً : أنّ الوجوب النفسي إنّما كان من قبيل الواجب في ضمن هذا المركّب لا بلحاظ كونه واجباً ، فلا يكون الوجوب المتعلّق بالصلاة سابقاً في الرتبة على ذلك الوجوب النفسي ، بل يكون كلّ من الوجوبين واقعاً في رتبة الآخر ، بمعنى أنّ الآمر يورد الأمر على ذلك المركّب ، وفي عرض إيراده الوجوب على ذلك المركّب يورد الوجوب النفسي على الجهر في ضمن ذلك المركّب فتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّ أصل هذا الإشكال إنّما يتّجه على ما تضمّنه هذا التحرير من الإصرار على تبدّل الوجوب النفسي بعد العلم به إلى الوجوب الغيري ، ولا أظن صدور ذلك من شيخنا قدس‌سره. والذي حرّرته عنه خال عن ذلك ، بل هو صريح بخلافه قال فيما حرّرته عنه (١) :

والجواب : أمّا عن مسألة الجهر والاخفات ، فيمكن أن يكون واجباً مستقلاً في ضمن الصلاة أو القراءة ، بمعنى أنّه يجب وجوباً مستقلاً أن يجهر في قراءته ، وهذا الوجوب النفسي مشترك بين العالم والجاهل ، ولكن إذا علم به المكلّف كان الجهر قيداً في الصلاة ، فيكون استحقاق العقاب على ترك الجهر في حال الجهل بوجوبه مع الحكم بكون الصلاة صحيحة ، كاشفين عن كونه واجباً في ضمن واجب ، وعن كون الصلاة غير مقيّدة بالجهر في حال الجهل بوجوبه النفسي ، والحكم ببطلان الصلاة في ترك الجهر حال العلم بوجوبه كاشف عن كون الصلاة مقيّدة به في حال العلم بوجوبه النفسي ، وهكذا الحال في الاخفات في موارد وجوبه ، انتهى.

__________________

(١) الاثنين ٢٤ شوال سنة ١٣٤٣ [ منه قدس‌سره ].

٥٨٩

وبنحو ذلك صرّح في بحث الفقه عند التعرّض لمسألة الجاهل بالقصر أو التمام من صلاة المسافر.

ثمّ في درس الأربعاء ٢٦ شوال قال فيما حرّرته عنه قدس‌سره : وقد يورد على ما وجّهنا به مسألة الجهر والاخفات من كون الجهر في مورده واجباً نفسياً ، وهو مشترك بين العالم والجاهل ، وكونه شرطاً في صحّة الصلاة في مورد العلم بوجوبه : بأنّه في مورد العلم يلزم اجتماع الوجوب النفسي والشرطي.

والجواب عن هذا الايراد : أنّ الوجوب النفسي يندكّ في الوجوب الشرطي ويكون له وجوب واحد أكيد ، وعلى ما حقّقناه في أمثال هذه المقامات من أنّ كلاً من الحكمين يعطي الآخر ما يفقده من الخصوصية التي يكون هو واجداً لها كما في مثل نذر النافلة ، فإنّ وجوب الوفاء واستحباب النافلة يندكّ أحدهما بالآخر ، ويكون طلباً واحداً مؤكّداً جامعاً لخصوصية كلا ذينك الحكمين ، فيأخذ من الأمر بالوفاء جهة وجوبه ، ومن الأمر بالنافلة جهة العبادية ، فيكون واجباً عبادياً ، ففيما نحن فيه يندكّ الأمر النفسي بالأمر الشرطي ، ويكون أمراً واحداً وجوبياً يترتّب عليه بطلان العبادة لو خالفه كما هو خاصية الوجوب الشرطي ، ففي مورد العلم لا تكون جهة الوجوب النفسي مؤثّرة وجوباً نفسياً على حدة ، وحيث إنّ الوجوب الشرطي معلّق على العلم بالوجوب النفسي ، ففي مورد الجهل لا يكون الوجوب الشرطي متحقّقاً ، فتؤثّر جهة الوجوب النفسي حينئذ أثرها ، انتهى.

وبنحو ذلك صرّح في التحريرات المطبوعة في صيدا (١) ، وكذا فيما حرّرته عنه قدس‌سره في درس الفقه في صلاة المسافر.

ولا يخفى أنّ هذه الكلمات صريحة في كون الوجوب النفسي متحقّقاً

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٥٧٤ ـ ٥٧٥.

٥٩٠

ومشتركاً بين العالم والجاهل ، لا أنّه بالعلم ينقلب من الوجوب النفسي ويتبدّل إلى الوجوب الغيري ، غاية الأمر أنّه يندكّ حينئذ مع الوجوب الشرطي ، فيعطيه الوجوب الشرطي ما كان فاقده من توقّف صحّة الصلاة على وجوده ، ومن الواضح أنّه ليس من قبيل التبدّل والانقلاب ، اللهمّ إلاّ أن يراد من هذا التبدّل والانقلاب المشتمل عليهما عبارة الكتاب هو ما عرفت من الاندكاك.

أمّا العقاب عند ترك الصلاة بعد العلم بالوجوب النفسي ، فقد عرفت أنّه لا يتعدّد ، لكون الوجوب النفسي مشروطاً بفعل الصلاة. وهكذا الحال في كلّ واجب في واجب ، فإنّ وجوبه على الظاهر يكون مشروطاً بالاتيان بذلك المركّب الذي هو واجب في أثنائه. نعم لو فعل الصلاة ولم يجهر فيها بعد العلم بوجوب الجهر فيها نفسياً ، فإنّ لازمه تعدّد العقاب ، فعقاب على ترك نفس الجهر لتحقّق شرط وجوبه وهو الاتيان بالصلاة نفسها ، وعقاب على ترك قيد الصلاة بالجهر ، لأنّها بعد العلم بوجوب الجهر نفسياً يكون تقيّدها به واجباً شرطياً وقد تركه.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ المتروك لمّا كان شيئاً واحداً وهو الجهر في قراءتها ، لا يكون العقاب إلاّواحداً ، وإن كان بذلك الترك الواحد قد ترك واجبين ، أحدهما نفسي وهو ذات الجهر ، والآخر شرطي وهو تقيّد الصلاة به. أو يقال : إنّه بعد فرض اندكاك أحد الوجوبين بالآخر كما أفاده شيخنا قدس‌سره ، لا يكون العقاب إلاّ واحداً ، إذ ليس في البين بعد الاندكاك إلاّوجوب واحد ، وبهذا يجاب عن لزوم التعدّد فيما لو ترك الصلاة بعد العلم بالوجوب النفسي حتّى لو قلنا بأنّ الوجوب النفسي غير مشروط بالاتيان بالمركّب.

لكن لنا إشكال في أصل دعوى الاندكاك ، وصيرورة الوجوبين وجوباً

٥٩١

واحداً ، شرحناه في مبحث عبادية الطهارات الثلاث (١) وفي مسألة التداخل (٢) ، وحاصله : أنّه لا يمكن في مثل أكرم الهاشمي وأكرم العالم عند اجتماعهما في شخص واحد أن يقال : إنّ ذلك الفرد واجب بوجوب واحد ، فإنّ ذلك الوجوب إن كان مجموعاً من الوجوبين نظير اجتماع الضياءين ، ليكون وجوباً واحداً مؤكّداً ، فذلك لا يعقل في الإيجاب ، لأنّه لا يقبل الشدّة والضعف ، وإن كان وجوباً واحداً كسائر الوجوبات ، فإن كان هو أحد الوجوبين ، أعني وجوب إكرام الهاشمي أو وجوب إكرام العالم ، فذلك ترجيح بلا مرجّح ، وإن كان غير هذين الوجوبين ، فذلك عبارة أُخرى عن خروج ذلك الفرد عن كلّ من هذين العمومين وحدوث وجوب فيه جديد غير وجوبهما ، ولا يخفى ما فيه من أنّه لا دليل على خروجه منهما ولا على ذلك الوجوب الجديد. وشيخنا وإن صرّح في ذلك المبحث في صورة اجتماع الاستحباب والوجوب بالاندكاك ، لكن صرّح ببقاء ذات الاستحباب ، غير أنّ حدّه الذي هو الترخيص في الترك منتف. ولا يخفى أنّ ذلك التزام ببقاء كلّ من الطلبين بذاتهما ، وهو عبارة أُخرى عن تحقّق المثلين ، غير أنّ حدود كلّ منهما تكون منتفية.

ولا يبعد أن يقال : إنّه لا مانع من اجتماعهما ، إذ لا تناقض بينهما ، إذ ليسا مثل الوجوب والتحريم. أمّا التأكّد في مرحلة الملاك ، فذلك خارج عمّا نحن فيه ، إذ ليس المقام من قبيل الواجب الواحد ذي الملاكين ، فإنّ مثل العالم والهاشمي ومثل الواجب النفسي والواجب الشرطي ليسا من قبيل تعدّد الملاك ، بل من قبيل

__________________

(١) راجع الحاشية المتقدّمة في المجلّد الثاني من هذا الكتاب ، الصفحة : ٢١٨ ومابعدها.

(٢) راجع المجلّد الخامس من هذا الكتاب ، الصفحة : ٥٢ وما بعدها.

٥٩٢

اجتماع العنوانين.

ثمّ لو سلّمنا صحّة الاندكاك في غير المقام ، وأنّه يتولّد من ذلك وجوب مؤكّد أو وجوب واحد بسيط ، فلا يمكننا تسليمه في المقام ، لأنّ هذا الوجوب الشرطي لمّا كان مشروطاً بالعلم بالوجوب النفسي ، كان متأخّراً في الرتبة عن الوجوب النفسي ، وحينئذ يستحيل كونه مؤكّداً للوجوب الأصلي النفسي ، لعدم الاتّحاد بينهما في الرتبة.

وربما يقال في الجواب عن أصل المسألة : بأنّ ذلك الوجوب النفسي الأصلي الاستقلالي ينقلب عند العلم به إلى الوجوب النفسي الضمني الارتباطي المعبّر عنه بالوجوب الشرطي ، بمعنى أنّه عند العلم به يكون متّحداً مع الوجوب الوارد على ذلك المركّب ، مع عدم الاختلاف بين الوجوبين في الهوية.

وفيه : ما لا يخفى ، فإنّه لا يغني عن الالتزام بالتأكّد أو الانقلاب ، فإنّ الوجوب النفسي الاستقلالي الطارئ على ذات الجهر ـ مثلاً ـ غير الوجوب الضمني الطارئ عليه في ضمن الأمر بالكل المركّب منه ومن باقي الأجزاء ، وحينئذ يكون العلم بذلك الوجوب الاستقلالي موجباً لتحوّله إلى الوجوب الضمني ، فيكون العلم بذلك الوجوب الاستقلالي موجباً لانعدامه ، وحدوث وجوب جديد هو في ضمن الأمر بالمركّب منه ومن باقي الأجزاء ، وهكذا الحال فيما لو ادّعي أنّ القيد بعد العلم هو امتثال الأمر بالجهر لا الجهر نفسه.

وربما يقال : إنّ العلم بالتكليف النفسي لا يحدث سوى القيدية وشرطية الصحّة ، دون أن يكون في البين وجوب شرطي.

وفيه : أنّ الشرطية عندنا منتزعة من التكليف الوارد على المشروط ، ولا يمكن للشارع جعلها بنفسها ، وحينئذ لابدّ من الالتزام بطرو وجوب ضمني

٥٩٣

شرطي على نفس الجهر كسائر شروط الصلاة ، وحينئذ نحتاج إلى الالتزام بالتأكّد الذي ذكره شيخنا قدس‌سره.

قوله : بل ربما يدّعى ظهور الأدلّة في ذلك ، فإنّ الركعتين الأخيرتين ممّا فرضهما النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأوّلتين ممّا فرضهما الله تعالى ، كما ورد بذلك عدّة من الروايات ... الخ (١).

وجه الظهور واضح ، فإنّ الأخيرتين لو كانت قيداً في الأُوليين لكان وجوبها ضمنياً ، والوجوب الضمني لا يمكن أن يبرز في عالم الإنشاء بلفظ مستقل ، بل يكون حاصلاً بانشاء الايجاب متعلّقاً بالمجموع ، فلابدّ أن تكون الروايات (٢) الدالّة على أنّ الأخيرتين فرض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله متعرّضة للوجوب النفسي. نعم ، باقي الروايات (٣) الدالّة على كون صلاة الظهر مثلاً أربع ركعات ، تكون متكفّلة للوجوب الضمني للأخيرتين الذي هو عبارة عن التقييد والارتباطية. ومنه يظهر لك أنّ دليل الارتباطية لا ينحصر بالإجماع.

ثمّ لا يخفى أنّ ظاهر تلك الروايات الدالّة على أنّ الظهر أربع ركعات هو إطلاق القيدية لحال الجهل ، وحينئذ لو دلّ دليل على أنّ الجاهل بوجوب التمام لو صلّى قصراً تصحّ صلاته ، ولا يجب الاعادة عليه بعد العلم وإن كان معاقباً ، تكون مقيّدة لذلك الاطلاق ، وموجبة لانحصار القيدية بحال العلم ، هذا.

ولكن لا يخفى أنّ الروايات المتكفّلة لكون الأخيرتين فرض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إنّما هي حاكية لما صنعه صلى‌الله‌عليه‌وآله من إلحاق الأخيرتين ، ولم يعلم من تلك الروايات

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٢٩٨.

(٢) وسائل الشيعة ٤ : ٤٥ / أبواب أعداد الفرائض ب ١٣ ح ٢ ، ١٢ ، ١٤ وغيرها.

(٣) وسائل الشيعة ٤ : ٤٧ / أبواب أعداد الفرائض ب ١٣ ح ٦ ، ٢٣ ، ٢٥ وغيرها.

٥٩٤

أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر بالأخيرتين كي نقول : إنّ مقتضى الأمر بهما هو الوجوب النفسي بالتقريب الذي عرفته ، إذ لعلّ ما صدر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله هو الأمر بالأربع ، بحيث إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قيّد الأُوليين بالأخيرتين ، ولكن مع ذلك نقول : إنّه لو دلّ الدليل على ما ذكر من عدم الاعادة في الصورة المزبورة ، نوجّهه باختصاص القيدية بحال العلم ، وأنّه في حال الجهل لا يكون إلاّ الوجوب النفسي.

ثمّ لا يخفى أنّ هذا التوجيه الذي أفاده قدس‌سره لمسألة الجهر في موضع الاخفات ، والاخفات في موضع الجهر ، والقصر في موضع الاتمام يجري فيه البحث السابق (١) عن صحّة ما يأتي به مطابقاً للواقع الذي اعتقد خلافه ، فلو كان المقيم الجاهل بوجوب الاتمام عليه معتقداً أنّ الواجب عليه هو القصر ، ولكن مع ذلك صلّى تماماً ، لكان ينبغي أن يحكم بفساد صلاته وإن كانت مطابقة للواقع ، لما عرفت من كون قصد التشريع مفسداً لها ، ولو لم نقل بفسادها من هذه الجهة فلا طريق لنا للحكم بفسادها ، إلاّ أن يدّعى الإجماع على الفساد ، فحينئذ يوجّه بما تقدّم ذكره من اعتبار العلم بوجوب الاتمام شرطاً في صحّة الصلاة الاتمامية.

قوله : وأمّا المسألة الثالثة : وهي الاتمام في موضع وجوب القصر فيمكن أن يقال في مقام التفصّي عن الإشكال فيها : بأنّ الواجب ... الخ (٢).

ممّا أفاده قدس‌سره في درس الفقه أنّه يمكن أن يكون ترك الأخيرتين واجباً نفسياً وعند العلم بذلك الوجوب النفسي أو عند العلم بالقيدية يكون عدمهما قيداً في الصلاة ، ويمكن أيضاً أن يكون السلام على الثانية واجباً نفسياً ، وعند العلم به أو عند العلم بكونه قيداً يكون قيداً في صحّة الصلاة.

__________________

(١) راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : ٥٧٣.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٢٩٨.

٥٩٥

ولكنّه قدس‌سره أورد على هذه الوجوه بأنّه لو قصد المسافر الأمر بالتمام فأتمّ صلاته ، لكانت صلاته صحيحة ، مع أنّه بناءً على هذه الوجوه تكون الصلاة فاسدة لأنّه بناءً عليها لا يكون هذا المكلّف مكلّفاً في الواقع بالاتمام ، فكيف صحّ أن يقصد امتثال الأمر بالاتمام.

ولأجل ذلك عدل عن هذه الوجوه ، وأفاد قدس‌سره وجهاً آخر وهو كون المأمور به المشترك بين العالم والجاهل هو التخيير بين القصر والاتمام ، لكن القصر واجب نفسي ، وعند العلم به يكون قيداً.

ثمّ إنّه قدس‌سره أورد عليه بأنّ لازمه صحّة القصر من الجاهل لو تأتّت منه نيّة القربة ، ولأجل ذلك التجأ قدس‌سره إلى إنكار مسألة العقاب ، وأنّه ليس في البين إلاّتقييد لزوم هذه الخصوصيات بالعلم بها ولو على نحو نتيجة التقييد ، وأفاد أنّه مع الالتزام بترتّب العقاب على مخالفة تكليف مجهول ، فلا محيص من الالتزام بالترتّب السابق الذكر ، وقد عرفته مشروحاً بما لا مزيد عليه.

قلت : أمّا النقض على الوجه الثاني بفساد القصر الصادرة من الجاهل به فهو متوجّه أيضاً على باقي الوجوه ، لكنّه يمكن اندفاعه بما عرفت سابقاً من إمكان كون القصد تفصيلاً إلى شخص الأمر معتبراً في صحّة صلاة القصر.

وأمّا النقض على الوجوه السابقة على هذا الوجه بصحّة صلاة الجاهل عند قصد الاتمام ، مع أنّها تقتضي فساد هذه الصلاة لعدم كونه في الواقع مأموراً بالاتمام ، وإنّما هو مأمور بالركعتين وترك الأخيرتين نفسياً ، أو السلام على الأخيرتين نفساً ، فيمكن الجواب عنه بأنّه لمّا كان المطلوب منه الأُوليين ، ولم تكونا مقيّدتين بعدم الأخيرين ، ولا بالسلام عليهما ، بل كان ترك الأُخريين أو السلام على الأُوليين واجباً نفسياً مستقلاً ، فلا مانع من صحّة صلاته المزبورة ،

٥٩٦

غايته أنّه تخيّل كون الأمر المتوجّه إليه في الواقع هو الاتمام فقصده ، ولكنّه قد أتى بما يصحّ أن ينطبق عليه الأمر الواقعي ، غايته أنّه يكون عاصياً في الاتيان بالأخيرتين أو عدم السلام على الأُوليين.

وفيه تأمّل ، وكذا الوجه الأخير لا يخلو من تأمّل ، فإنّ الوجوب التخييري الطارئ على النوعين إنّما يصحّ اجتماعه مع كون الخصوصية في أحدهما واجبة نفسياً إذا كان وجوبها النفسي اتّفاقياً لعارض أوجبها ، أمّا لو كانت الخصوصية دائماً كذلك فلا يخلو الوجوب التخييري بينهما عن اللغوية.

ومن ذلك يتّضح لك أنّ خير ما يمكن أن يجاب به عن هذه المسائل هو الترتّب بالنحو الذي مرّ شرحه. كلّ ذلك بعد تسليم أنّ في البين عقاباً على مخالفة تكليف مجهول ، وإلاّ فلا إشكال في المسألة أصلاً بأن يكون لزوم القصر مشروطاً بالعلم به ، وإلاّ ففي حال الجهل يكون المكلّف مخيّراً بين القصر والتمام ، إن قلنا بأنّه لو فعل القصر من باب الاتّفاق وتأتّت منه نيّة القربة صحّت صلاته ، وإلاّ كان من الممكن أنّه عند العلم بالقصر يتعيّن عليه وعند الجهل به يتعيّن عليه الاتمام.

نعم ، يمكن إتمام المسألة والالتزام بالعقاب بمسلك الكفاية على ما شرحناه من التضادّ بين النوعين ـ أعني القصر والاتمام ـ في حال الجهل ولو باعتبار التضادّ بين المصلحتين ـ أعني مصلحة القصر ومصلحة الاتمام الحاصلة عند الجهل ـ مع فرض كون مصلحة القصر أهمّ ، غايته أنّه يكون التضادّ الحاصل بينهما في حال الجهل دائمياً ، ومقتضاه خروج المسألة عن باب التزاحم المأموري ودخولها في الآمري الذي يكون راجعاً إلى باب التعارض ، وحينئذ لا يبقى لنا ما يدلّ على المصلحة في الاتمام ، لكن دليل صحّتها كافٍ في الحكم باشتمالها على المصلحة في هذا الحال ، وإن كانت هي أقلّ من مصلحة القصر ،

٥٩٧

لكن لا يمكن الأمر بها ولو من باب الترتّب ، لما عرفت من الإشكال فيه من كونه من قبيل الضدّين اللذين لا ثالث لهما ، وحينئذ تصحّ الصلاة قصراً لو تأتّت منه نيّة القربة ، كما تصحّ تماماً ، غايته أنّه يعاقب على تفويت الأهمّ.

وهذه الطريقة جارية في المسائل الثلاث ، ولا يرد عليها شيء ممّا تقدّم سوى أنّ جريانها في مسألتي الجهر والاخفات مناف لظاهر قوله عليه‌السلام : « تمّت صلاته » (١) الجامعة بين الناسي والجاهل ، فلابدّ أن تكون التمامية فيهما بوتيرة واحدة. ويمكن الجواب عنه بالتسامح في التمامية بعد فرض كونهما ضدّين ، فيراد تمامية هذا الضدّ الذي أتى به ، فلاحظ وتدبّر.

قوله : وأمّا الشبهات الموضوعية ففي التحريمية منها لا يجب الفحص إجماعاً على ما حكاه الشيخ قدس‌سره (٢) ... الخ (٣).

العمدة هو النظر إلى ما تقتضيه القاعدة من لزوم الفحص وعدمه. أمّا البراءة العقلية فالظاهر أنّه لا مانع منها ، فإنّ ما ذكر من الموانع في الشبهة الحكمية كالعلم الاجمالي وعدم المعذورية لا محلّ له في الشبهات الموضوعية. وأمّا البراءة الشرعية ، فإن كان المانع منها في الشبهات الحكمية هو العلم الاجمالي ، فلا شبهة في عدم المحلّ له هنا ، وإن كان المانع في الشبهات الحكمية هو ما تقدّم من عدم المعذورية ، فقد عرفت هناك أنّه لا يقف في قبال إطلاق أدلّتها ، وأنّ أقصى ما ادّعيناه هناك هو الانصراف ، فبناءً عليه ينبغي أن نقول هنا بالانصراف المذكور ، لكن لمّا قام الإجماع على إجرائها هنا قبل الفحص كان ذلك الإجماع بمنزلة

__________________

(١) وسائل الشيعة ٦ : ٨٦ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٢٦ ح ١.

(٢) فرائد الأُصول ٢ : ١٤٠.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ٣٠١.

٥٩٨

القرينة المنفصلة الموجبة لحمل « ما لا يعلمون » على الشمول لما قبل الفحص في الشبهات الموضوعية ، وإن كان ذلك لو خلّي ونفسه لكان اللفظ منصرفاً عنه.

قوله : أحدهما أن لا يلزم من العمل بالبراءة إثبات حكم آخر (١).

لو فسّر ذلك بما تقدّم في حديث الرفع ، وأنّه مسوق للامتنان ، فلا يجري فيما يكون موجباً للضيق على المكلّف ، كما لو شككنا في شمول الجزئية لحال التعذّر ، وكان أثر شمولها له هو لزوم الاتيان بالباقي عند تعذّر الجزء ، فإنّ الجزئية في حال التعذّر وإن كانت مشكوكة ، إلاّ أنه لا يمكن رفعها بحديث الرفع ، لأنّه لا أثر له إلاّ إيجاب الباقي ، لكان في محلّه ، لكنّه موقوف على النظر في نصّ عبارة الفاضل التوني ، ليظهر لنا هل يمكن أن يريد بها هذا المعنى ، والأمر سهل.

قوله : وفي مثل ذلك يستقيم مقالة الفاضل التوني من أنّه لا يثبت أحد الحكمين بمجرّد نفي الحكم الآخر بالبراءة ... الخ (٢).

هذا أيضاً ممّا يتوقّف على النظر في عبارة الفاضل ، إذ الظاهر أنّ هذا الشرط إنّما هو شرط في إجرائها لا أنّه شرط في ترتّب الحكم على مجراها ، فنحن وإن سلّمنا أنّ وجوب الحجّ لا يترتّب على البراءة من الدين ، بل لابدّ من استصحاب العدم ، لكن ذلك على الظاهر لا دخل له في إجراء البراءة ، بل إنّ البراءة جارية في حدّ نفسها في مجراها في جميع تلك الأمثلة ، سواء ترتّب الحكم الآخر لكونها محقّقة لموضوعه أو لم يترتّب ، وأنّ مراد الفاضل التوني هو أنّها لا تجري إذا كانت مثبتة للحكم. والظاهر أنّه لا ينطبق إلاّعلى ما قدّمناه ، لكن عبارته المنقولة

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٣٠٣.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٣٠٤.

٥٩٩

عنه في الرسائل وحواشيها لا تنطبق على هذا الذي قدّمناه ، فراجع الآشتياني فيما نقله من نصّ عبارة الفاضل المذكور ، فإنّها صريحة في مطلب آخر هو في نهاية الغرابة ، فإنّ حاصل مطلبه هو دعوى أنّ الأُصول العدمية كأصالة البراءة ويعبّر عنها بأصالة عدم الوجوب ، وكأصالة العدم في كلّ حادث يحتمل حدوثه ، وأصالة عدم تقدّم الحادث ، كلّ هذه الأُصول إنّما تجري في مقام نفي التكليف ، فإذا فرض ترتّب تكليف على ذلك العدم لم يكن لهاتيك الأُصول مورد ، لأنّ الأصل ليس من الأدلّة على ثبوت التكليف ، وليس الفاضل ناظراً إلى منع كون الأصل مثبتاً باصطلاح المتأخّرين ، بل إنّه يقول إنّ الأصل العدمي لا ... (١) كنت تحتمل أنّ الملاقاة كانت قبل تطهيره ، فإنّه يقول إنّ أصالة عدم تقدّم التطهير لا تجري لأنّه يترتّب عليه الحكم بنجاسة اليد ووجوب تطهيرها ، ولأجل ذلك نراه يقول : واعلم أنّ هنا قسماً من الأصل كثيراً ما يستعمله الفقهاء ، وهو أصالة عدم الشيء وأصالة عدم تقدّم الحادث ، بل هما قسمان. والتحقيق : أنّ الاستدلال بالأصل بمعنى النفي والعدم إنّما يصحّ على نفي الحكم الشرعي بمعنى عدم ثبوت التكليف ، لا على إثبات الحكم الشرعي ، ولذا لم يذكره الأُصوليون في الأدلّة الشرعية ، وهذا يشترك فيه جميع أقسام الأُصول المذكورة ، مثلاً إذا كانت أصالة البراءة مستلزمة لشغل الذمّة من جهة أُخرى ، فحينئذ لا يصحّ الاستدلال بها ، كما إذا علم نجاسة أحد الاناءين واشتبه بالآخر ، فإنّ الاستدلال بأصالة عدم وجوب الاجتناب عن أحدهما بعينه لو صحّ يستلزم وجوب الاجتناب عن الآخر ، وكذا في الثوبين المشتبه طاهرهما بنجسهما ، والزوجة المشتبهة بالأجنبية ، والحلال المشتبه بالحرام المحصور ونحو ذلك ، وكذا أصالة العدم ، كأن يقال : الأصل عدم

__________________

(١) [ في الأصل هنا سِقط ].

٦٠٠