النّفس من كتاب الشّفاء

أبو علي حسين بن عبد الله بن سينا [ شيخ الرئيس ابن سينا ]

النّفس من كتاب الشّفاء

المؤلف:

أبو علي حسين بن عبد الله بن سينا [ شيخ الرئيس ابن سينا ]


المحقق: الشيخ حسن حسن زاده الآملي
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-146-0
الصفحات: ٣٧٦

المرآة على الهيئة التى تنطبع الصورة المادية فى موادها وبحيث لا تجتمع فيه الأضداد ، بل هذه الصورة تنطبع كليتها فى كلية المرآة ، ولا بأس أن يجتمع فيها شبح بياض وسواد معا لأنهما فيها لا على سبيل التكيف بهما ، بل كما يكون فى المعقول. والعقول تعقل السواد والبياض من غير تعاند ولا انقسام. ثم إنما يتأدى إلى البصر ما يكون على نسبة ما بين الثلاث أعنى البصر والمرآة والمبصر. ولا تتفق نسبة الجميع من كل جزء من المرآة ، بل يكون جزء منها (١) يؤدى البياض بعينه وجزء آخر يؤدّى السواد بعينه ويتحدد بينهما حدّ فى الرؤية ، فتكون جملة الأداء والتحدد محصلة لصورة مثل المبصر فى البصر.

وهذا الجواب مما لا أقول به ولا أعرفه ، ولا أفهم كيف تكون الصورة تنطبع فى جسم مادى من غير أن تكون موجودة فيه ، وقد يخلو الجسم عنها وهى منطبعة فيه ، وكيف يكون غير خال عنها وهو (٢) لا يرى فيه ، بل ترى صورته التى له ، مع أن من شأن ذلك أيضا أن يرى. أو كيف يكون خاليا بالقياس إلى واقف دون واقف وهذا اشتطاط (٣) وتكلف بعيد.

ومما فيه من التكلّف أنهم لا يجعلون للشكل انطباعا فيه. فإن جعلوا جعلوا الشكل غير محدود ، ومما فيه من التكلف أن يجعلوا صورة السواد فى جسم من غير أن يكون ذلك سوادا للجسم ، وأن يجوّزوا أيضا اجتماع البياض فيه فى وقت واحد ويجعلوا صورة السواد غير السواد وصورة

__________________

(١) قوله : « بل يكون جزء منه يؤدى » هكذا كانت النسخ المخطوطه التى عندنا. وفى مطبوعة مصر : « بل يكون جزء منها يؤدى » وهو الصواب ، لارجاع الضمير الى المرآة.

(٢) وهى. نسخة. وفى تعليقة نسخة : اى المرئى والمبصر الذى يتراى فى المرآة.

(٣) الشطط : الجور والظلم والبعد عن الحق.

٢٠١

البياض غير البياض.

وأما حديث العقل والمعقول فدعه إلى وقته.

وأما الجوابان الآخران اللذان يمكن أن يجيب بهما مجيب : أحدهما متشدّد فيه والآخر مقارب فيه (١).

فأما المتشدد فيه فأن يقال : أما أولا فليس يجب إذا كان شىء يحتاج إليه أن يفعل شىء فى شىء أن يكون المحتاج إليه مثل المرآة او المشف هاهنا ينفعل من المبدأ مثل الانفعال الذى ينفعل به الثالث ، فيرى أن السيف إذا أولم به الم ، والهدية إذا سر بها سرّت.

وأما ثانيا فليس بيّنا بنفسه ولا ظاهرا لا شك فيه أن كل جسم فاعل يجب أن يكون ملاقيا للملموس ، فإن هذا وإن كان موجودا بالاستقراء فى أكثر الأجسام فليس واجبا ضرورة أن يكون كل فعل وانفعال باللقاء والتماس ، بل يجوز أن تكون أفعال أشياء فى أشياء من غير ملاقاة. فكما يجوز أن يفعل ما ليس بجسم فى الجسم من غير ملاقاة كالبارى والعقل والنفس ، فليس ببدع أن يكون جسم يفعل فى جسم بغير الملاقاة ، فتكون أجسام تفعل بالملاقاة وأجسام تفعل لا بالملاقاة.

وليس يمكن أحدا أن يقيم برهانا على استحالة هذا. ولا على أنه لا يمكن أن يكون بين الجسمين نصبة (٢) ووضع يجوز أن يؤثر أحدهما فى الآخر من غير ملاقاة ، إنما يبقى هاهنا ضرب من التعجب كما لو كان انفق أن كانت الأجسام كلها إنما يفعل بعضها فى بعض بمثل تلك النصبة (٣) المباينة ، فكان إذا اتفق أن شوهد فاعل يفعل بالملاقاة يعجب منه كما

__________________

(١) متقارب فيه. نسخة. اى مساهل فيه كما سيصرح به.

(٢ و ٣) علم ونشانه. نسبة ، النسبة ـ خ ل.

٢٠٢

يتعجب الآن من مؤثر بغير ملاقاة.

فإذا كان هذا غير مستحيل فى أول العقل وكان صحة مذهبنا المبرهن عليه يوجبه وكان لا برهان ألبتة ينقضه فنقول :

إن من شأن الجسم المضىء بذاته والمستنير الملون أن يفعل فى الجسم ـ الذى يقابله إذا كان قابلا للشبح قبول البصر وبينهما جسم لا لون له ـ تأثيرا هو صورة مثل صورته من غير أن يفعل فى المتوسط شيئا ، إذ هو غير قابل لأنه شفاف. فإذا كان غير بيّن بنفسه ولا قام عليه برهان الا أن يكون جسم يفعل فى مقابل له بتوسط شفاف ألبتة.

وكان هذا مجوزا فى أول العقل ومتضحا بما برهّنا عليه من كيفية الإدراك ، وكان ذلك غير محال ، فكذلك غير محال أيضا أن يكون بدل المتوسط الواحد متوسطان : المتوسط ومتوسط آخر ، وبدل النصبة والوضع نصبتان ووضعان : النصبة والوضع المذكوران ، مع وضع ونصبة أخرى. فيكون بدل هذا المتوسط الشفاف وحده متوسط ملوّن صقيل مع الشفاف ، وبدل نصبة المقابلة مع هذا المضىء والمستنير النصبة والمقابلة مع ذلك الصقيل الذى له النصبة والوضع المذكوران مع المضىء المستنير المرئى. فيكون من شأن هذا الجسم أن يفعل فى كل ما قابل مقابلا له صقيلا يكون مقابله فى شفيف ولو صقيل بعد صقيل إلى غير النهاية بعد أن يكونا على وضع محدود فعلا هو مثل صورته من غير أن يفعل فى الصقيل ألبتة. فيكون المشف والصقيل شيئين يحتاج إليهما حتّى يفعل شىء فى شىء آخر ولا يكون ذلك الفعل بعينه فيهما. فإذا كان كذلك واتفق أن وافى خيال الصقيل إلى البصر وخيال الشىء الآخر معا ورؤيا معا فى جزء من الناظر واحد ، ظن أن الخيال يرى فى الصقيل بعكس ما

٢٠٣

قالوا فى الشعاعات (١).

وأما الطريق المساهل فيه فهو أنه ليس يجب أن يؤثر كل شىء فى كل شىء مثل نفسه ، كما يجوز أن يؤثر أيضا مثل نفسه. فالمضىء والمستنير يجوز أن يؤثّرا فى الهواء أثرا مّا ، ذلك الأثر ليس أن يتشبح بشبح مثل صورة المضىء والمستنير ، بل يؤثر فيه أثرا لا يدرك بالحس البصرى أو غيره من الحواس ، وكذلك يجوز أن يؤثّر فى الصقيل أثرا مّا إما بواسطة المشف أو بغير واسطة ثم المشف أو الصقيل يفعل فى آلة البصر أولا ، أو بتوسط فعله فى سطح الهواء الذى يليه أثرا ، ذلك الأثر هو مثل صورة (٢) مّا أثّر فى كل واحد منهما أولا ، فيكون كل واحد من المؤثّرين يؤثّر أثرا خلاف ما فيه ، أعنى بالمؤثرين (٣) : المؤثر المرئى الذى يؤثر فى المشف أو الصقيل ، والمشف أو الصقيل الذى يؤثر فى البصر. ومثل هذا كثير ، أعنى أن يكون شىء يؤثّر فى شىء أثرا خلاف طبيعته ، ثم يؤثر هو فى شىء آخر مثل طبيعة الأول ، مثل الحركة فإنها تحدث فى جرم سخونة فتسخّن الشىء ، ثم تلك السخونة تحدث حركة غير الحركة الأولى بالعدد ومثلها فى النوع.

وقد يمكن أن يشاهد هذا بمرآة ينعكس عنها ضوء ولون إلى حائط

__________________

(١) فى تعليقة نسخة : قوله : بعكس ما قالوا فى الشعاعات ، لان اصحاب الشعاعات يقولون ان الشىء الخارجى يرى فى المرآة والصقيل لا ان خيال الصقيل وخيال المرئى الخارج رؤيا معا فى جزء من الناظر واصحاب الشعاعات يقولون انّه ينبعث اسباب الرؤية من الرائى وتصل الى المرئى واصحاب الانطباع يقولون ان اسباب الرؤية تنبعث من المرئى وتصل الى الرائى.

(٢) اى المضىء والمستنير.

(٣) من المؤثرين مؤثرا خلاف ... نسخة.

٢٠٤

بحيث يستقر فى الحائط ولا ينتقل بحسب مقامات الناظر ولا يكون مستقرا ألبتة فى المرآة. وهذا المستقر يعلم أنه وارد من طريق المرآة إلى الحائط ، وهو وإن كان يرى فى المرآة فلا يرى مستقرا فيها فتكون المرآة أثّرت أثرا مثل كيفية مّا أثّرت فيها ليس مثل كيفيته فى الاستقرار ، وعلى ذلك حال البصر.

وأما حديث الانعطاف عن الماء (١) فقد قال أصحاب الشعاع إن الشعاع إذا وقع عليه انبسط وانكسر أولا فأخذ مكانا أكثر ثم نفذ فرآه مع أكثر مما يحاذيه.

وأما أصحاب الأشباح (٢) فقد قال بعضهم : إن السبب فيه أن بعض ما يحاذى (٣) يؤدّى على أنه منفذ فى المحاذاة ، وبعضه على أنه مرآة ، ولا يبعد أن يظن أن الجميع يؤدّى على أنه مرآة ، والمرآة من داخل خلاف المرآة من خارج.

وقال فاضل قدماء المفسرين (٤) : إن البصر يعرض له لما يفوته من استقصاء (٥) تأمل الشىء أن يراه أبعد ويتفرق البصر لتأمله فيعظم شبحه.

__________________

(١) اى رؤية الشىء اعظم مما كان. قال شارح المقاصد ويرى الشىء فى الماء اعظم منه فى الهواء لان الشعاع ينفذ فى الهواء على استقامة واما فى الماء فبعضه ينفذ مستقيما وبعضه ينعطف على سطح الماء ثمّ ينفذ الى المبصر فيرى بالامتداد الشعاعى النافذ مستقيما ومنعطفا معا من غير تمايز وذلك إذا قرب المرئى من سطح الماء واما اذا بعد فيرى فى موضعين لكون رؤيته بالامتدادين المتمايزين.

(٢) اى اصحاب الانطباع.

(٣) اى بعض ما من الماء يحاذى البصر.

(٤) وهو اسكندر الافروديسى.

(٥) اى من جهة استقصاء.

٢٠٥

ويمكن أن يؤكّد هذا القول بأن الشىء الذى اعتيد أن يرى من بعد مّا على قدر مّا فإذا تخيل أبعد من حيث هو ولم ير قدره القدر الذى يخيّله ذلك البعد ، بل أعظم منه لأنه بالحقيقة قريب رؤى له مقدار أعظم من المقدار الذى يستحقه ببعده فيتخيّل أعظم من المعهود.

ثم فى هذا فضل نظر يحتاج أن يفطن له المتحقق للأصول ، ويكون بحيث لا يخفى عليه كيف ينبغى أن يكون الحق فى ذلك.

ثم هذه الشبهة ليست مما تخص بلزومها إحدى الفرقتين دون الأخرى فإن الانكسار الذى يقوله أصحاب الانكسار إن كان للصك فلم بقى على حاله ولم لا يرجع كرّة أخرى فيستوى ، إذ طبيعة الشعاع أن ينفذ على الاستقامة. فإن كان هذا مستحيلا فى الشعاع النافذ إليه إذا لاقاه ثم ازداد الشىء غورا فلم يعرض له أن يزداد لغوره انكسارا ولم لا يزداد بامتداده انتظاما ، فإن القياس يوجب أن يحدث له بالامتداد اتصال لا ينبسط.

وبالجملة فنعم ما قال المعلم الأول حين قال : لأن يمتد المبصر من سعة إلى ضيق فيجتمع فيه يكون ذلك فيه أعون على تحقيق صورته (١) من أن يخرج الرائى من العين منتشرا فى السعة.

ومما يتصل بهذا الموضع حال ما نقوله من أوضاع المرئى والرائى والضوء والمرآة ، فنقول :

قد يعرض أن يكون المرئى والمضىء والرائى فى شفّاف واحد وقد يعرض أن يكون المضىء والمرئى فى شفّافات بينها سطوح.

__________________

(١) فى تعليقة نسخة : يعنى اذا نفذ فى الماء لزم ان يمتد منتظما بل انتظامه فى الضيق اولى من انتظامه حيث انتشاره فى سعة العالم كذا فى التلخيص.

٢٠٦

فإن كان وضع السطح فى المحاذاة التى بين الرائى والمضىء الفاعل للاستنارة لم ير ذلك السطح كسطح الفلك والهواء.

وإن كان السطح خارجا عن ذلك كسطح الماء ونحن فى الهواء ، والمضىء ليس فى هذه المحاذاة ، فإن ذلك السطح ينعكس عنه الضوء الآتى من المضىء إلى البصر ، فيرى متميزا ، فقد علمت ما نعنى بالعكس. وإن كان فى داخل السطح المنعكس عنه مرئى أراه ما هو فيه على أنه مشف وأراه على أنه مرآة ، وكانت المرآة التى هناك مطابقة لما يحاذى المرئى إن كان مكشوفا للرائى.

وإن كان مستورا وكانت المرآة ملتقى الخط الخارج من البصر والعمود الخارج من المرئى الذى فى الماء ، فإن شبحه يتأدى عنه على استقامة. فإنك إن ألقيت خاتما فى الطشت بحيث لا تراه ثم ملأته ماء رأيته.

وإن كان المرئى خارجا عن شفاف متوسط غير الشفاف الذى فيه الرائى والمضىء ، فإن المشف المتوسط يريه وإن كان ليس كذلك (١) ، بل هو من جهة الرائى ، فإن سطح ذلك المشف لا يريه إلا أن يجعل له لون غريب بشىء يوضع من ذلك الجانب حتى يرى ككرة البلور الملون أحد جانبيها.

__________________

(١) فى تعليقة نسخة : قوله وان كان ليس كذلك : يعنى ان كان ذلك المشف وقع خلف المرئى بالنسبة الى الرائى فان كان المرئى متوسطا بين البصر وذلك المشف لم يؤده المشف كذا فى التلخيص.

٢٠٧

الفصل الثامن

فى سبب رؤية الشىء الواحد كشيئين

لنقل فى سبب رؤية الشىء الواحد كشيئين فإنه موضع نظر ، وذلك لأنه أحد ما يتعلق به أصحاب الشعاعات أيضا. ويقولون : إنه إذا كان الإبصار بشىء خارج من البصر يلقى المبصر ثم يتفق أن ينكسر وضعه عند البصر (١) ، وجب أن يرى الشىء الواحد لا محالة كشيئين متباينين فيرى اثنين. وليسوا يعلمون أن هذا يلزمهم الشناعة بالحقيقة ، وذلك لأن الإبصار إن كان بمماسة أطراف الشعاعات وقد اجتمعت عليه ، فيجب أن يرى على كل حال واحدا. ولا يضر فى ذلك انكسار أطراف الشعاعات المنكسرة.

بل الحق هو أن شبح المبصر يتأدى بتوسط الشفاف إلى العضو القابل المتهيئ الأملس النيّر من غير أن يقبله جوهر الشفاف أصلا من حيث هو

__________________

(١) فى تعليقة نسخة : انكسار النور هو انحراف النور عن جهة مسيره اذا اجتاز الى مادة شفافة اكثف او الطف من التى كان مسيره فيها فاذا اجتاز الى مادة اكثف صار الى نحو خط عمودى فرض فى تلك المادة من ملتقى النور مع سطح تلك المادة على ذلك السطح ، واذا اجتاز الى الطف صار عن العمودى المذكور.

٢٠٨

تلك الصورة ، بل يقع (١) بحسب المقابلة لا فى زمان ، وأن شبح المبصر أوّل ما ينطبع إنما ينطبع فى الرطوبة الجليدية ، وأن الإبصار بالحقيقة لا يكون عندها ، وإلا لكان الشىء الواحد يرى شيئين لأن له فى الجليدتين شبحين كما إذا لمس باليدين كان لمسين. ولكن هذا الشبح يتأدى فى العصبتين المجوّفتين إلى ملتقاهما على هيئة الصليب ، وهما عصبتان نبيّن لك حالهما حين نتكلم فى التشريح.

وكما أن الصورة الخارجة يمتد منها فى الوهم مخروط يستدق إلى أن توقع زاويته وراء سطح الجليدية ، كذلك الشبح الذى فى الجليدية يتأدى بوساطة الروح المؤدية التى فى العصبتين إلى ملتقاهما على هيئة مخروط فيلتقى المخروطان ويتقاطعان هناك (٢) فتتّخذ منهما صورة شبحية واحدة عند الجزء من الروح الحامل للقوة الباصرة.

ثم أن ما وراء ذلك روحا مؤدّية للمبصر لا مدركة مرة أخرى ، وإلا لافترق الإدراك مرة أخرى لافتراق العصبتين. وهذه المؤدّية هى من

__________________

(١) اى هذا التأدى.

(٢) قوله قدّس سره : « ويتقاطعان هناك » يعنى يتقاطعان ثم ينعطفان كما هو مختاره فى ذلك. والقول الآخر : انهما يتقاطعان على التقاطع الصليبى من غير انعطاف. فقد قال الشيخ فى الفصل الثانى من الجملة الثانية من كليات القانون فى تشريح العصب الدماغى ومسالكه ما هذا لفظه : « قد تنبت من الدماغ ازواج من العصب سبعة فالزوج الاول مبدأه من غور البطنين المقدمين من الدماغ عند جواز الزائدتين الشبيهتين بحلمتى الثدى اللتين بهما الشمّ وهو صغير مجوّف يتيا من النابت منهما يسارا ويتياسر النابت منهما يمينا ثم يلتقيان على تقاطع صليبى ثم ينعطفان وينفذ النابت يمينا الى الحدقة اليمنى والنابت يسارا الى الحدقة اليسرى ويتسع فوهاتهما حتى يشتمل على الرطوبة التى تسمّى زجاجية. وقد ذكر غير جالينوس انهما ينفذان على التقاطع الصليبى من غير انعطاف ». ص ١١٤.

٢٠٩

جوهر المبصر وتنفذ إلى الروح المصبوبة فى الفضاء المقدم من الدماغ فتنطبع الصورة المبصرة مرة أخرى فى تلك الروح الحاملة لقوة الحس المشترك فيقبل الحس المشترك تلك الصورة وهو كمال الإبصار (١).

والقوة المبصرة غير الحس المشترك ، وإن كانت فائضة منه مدبّرا لها. لأن القوة الباصرة تبصر ولا تسمع ولا تشم ولا تلمس ولا تذوق ، والقوة التى هى الحاسة المشتركة تبصر وتسمع وتشم وتلمس وتذوق على ماستعلم.

ثم إن القوة التى هى الحاس المشترك تؤدى الصورة إلى جزء من الروح يتصل بجزء من الروح الحامل لها فتنطبع فيها تلك الصورة وتخزنها هناك

__________________

(١) قال الشيخ فى التعليقات : المبصر اما ان يكون المؤدّى له الهواء او الماء فان كان المؤدى له الهواء لا يكون الهواء مرئيا معه فيجب ان يكون قدر ما يحصل منه فى البصر لا يكون زايدا على حقيقته وذلك يختلف بحسب القرب والبعد فان القريب يجعله اكبر والبعيد يجعله اصغر لان القاعدة يكون فى المبصر والزاوية فى البصر واذا بعد المبصر يكون الزاوية احدّ. وان كان المؤدى له الماء فيجب ان يكون القدر الحاصل منه فى البصر اكبر لان البصر ينتشر فى الماء ، ويكون الماء مرئيا فيكون القاعدة جزء من الماء الذى ينتشر فيه البصر ثم يمتد الى البصر على خطين من جرم الماء فيكون الزاوية اعظم والمرئى فى المرايا انما يحصل فيها صورة المبصر بقدر جرم المرآة ثم ينعكس منها الى البصر فيكون على زوايا مختلفة. التعليقات ص ٦٩.

وقال صاحب الشوارق : « قال اصحاب الشعاع يجب ان يلتف المخروطان عند الخروج من العينين بحيث يتحد سهماهما حتى يرى الشىء الواحد واحدا فان عارض عارض يمنع عن التفافهما كذلك بل تعدد السهمان رؤى الشىء الواحد شيئين لان قوة النور فى سهم المخروط ومن توهم ان اتحاد سهمى المخروطين غير ممكن بل الصواب ان يقال باتحاد موقعى السهمين وتعددهما فقد غفل عن قيد الالتفات وما زعمه صوابا فهو خطأ لان اتحاد الموقعين مع تعدد السهمين انما يكفى فى رؤية الشىء واحدا لو كان المرئى نقطة منه واما اذا كان المرئى ذلك الشىء كله فلا يكفى ذلك ». شوارق الالهام ج ٢ ص ٣٨٢.

٢١٠

عند القوة المصورة وهى الخيالية ـ كما ستعلمها ـ فتقبل (١) تلك الصورة وتحفظها (٢). فإن الحس المشترك قابل للصورة لا حافظ ، والقوة الخيالية حافظة لما قبلت تلك.

والسبب فى ذلك أن الروح التى فيها الحس المشترك إنما تثبت فيها الصورة المأخوذة من خارج منطبعة مادامت النسبة المذكورة بينها وبين المبصر محفوظة أو قريبة العهد. فإذا غاب المبصر انمحت الصورة عنها ولم تثبت زمانا يعتد به.

وأما الروح التى فيها الخيال فإن الصورة تثبت فيها ، ولو بعد حين كثير ، على ما سيتضح لك عن قريب.

والصورة إذا كانت فى الحس المشترك كانت محسوسة بالحقيقة فيه (٣) ، حتى إذا انطبع فيه (٤) صورة كاذبة فى الوجود أحسها كما يعرض للممرورين ، وإذا كانت فى الخيال كانت متخيلة لا محسوسة.

ثم إن تلك الصورة التى فى الخيال تنفذ إلى التجويف المؤخر إذا شاءت القوة (٥) الوهمية ففتحت الدودة بتبعيد ما بين العضوين المسميين

__________________

(١) اى قوة الحس المشترك.

(٢) اى قوة الخيال.

(٣ و ٤) فيها. نسخة. فالتذكير باعتبار الحس المشترك ، والتأنيث باعتبار الروح.

(٥) قوله : « اذا شاءت القوة الوهمية » ، اعلم ان القوة المسماة بالوهم هى الرئيسة الحاكمة فى الحيوان ومعنى هذا الكلام ان جميع القوى التى دونها من الحس المشترك والخيال والمتصرفة والحافظة من شئونها وافعال تلك القوى كلها فى الحقيقة هى فعل هذه القوة الرئيسة. إلا أن لها فى موطن كل واحدة من تلك القوى اسما خاصا ، ففى موطن تسمى الحس المشترك ، وفى آخر الخيال وهكذا. فوزان الوهم مع تلك القوى وزان النفس الناطقة مع قواها.

ثم لما كان ادراك المعانى الجزئية بين سائر افعال القوى الحيوانية اشرف من غيرها

٢١١

أليتى الدودة ، فاتصلت بالروح الحاملة للقوة الوهمية بتوسط الروح الحاملة للقوة المتخيلة التى تسمى فى الناس مفكرة ، فانطبعت الصورة التى فى الخيال فى روح القوة الوهمية (١). والقوة المتخيلة خادمة للوهمية

__________________

اسندوها الى القوة الرئيسة الحاكمة وان كانت افعال سائر القوى فعلها. فافهم وتبصّر.

ثم اعلم ان القوة الخيالية الخازنة تسمى مصورة عند الاطباء وليس المراد منها القوة المصورة التى عملها تصوير الاعضاء وتشكيلها على اختلاف الآراء فى ذلك. وان القوة المتصرفة والمتخيلة والمفكرة والمتفكرة هى قوة واحدة تسمى باسامى مختلفة باعتبارات مختلفة.

وللشيخ ـ قدس‌سره ـ كلام منيع فى المباحثات فى المقام يجديك فى فهم عبارة الكتاب فى سريان القوة الوهمية فى جميع القوى التى دونها ورياستها عليها وهذا كلامه بعباراته : « القوة العقلية اذا اشتاقت الى صورة معقولة تضرّعت بالطبع الى المبدأ الواهب فان ساحت عليها على سبيل الحدث كفيت المؤونة ، والا فزعت الى حركات من قوة اخرى من شأنها ان تعدّه لقبول الفيض لتأثير ما مخصوص يكون فى النفس مثلا ومشاكلة بينها وبين شىء من الصور التى فى عالم الفيض ، فيحصل لها بالاضطرار ما كان لا يحصل لها بالحدس ، فالقوة الفكرية ان عنى بها الطالبة فهى للنفس الناطقة وهو من قبيل العقل بالملكة لا سيما اذا زاد استكمالا بما جاوز الملكة ، وان عنى بها العارضة للصورة المتحركة فهى المتخيلة من حيث تتحرك مع شوق القوة العقلية ». ص ٢٣٢.

ثم اعلم ان وزان النفس الناطقة مع قويها وزان الوهم مع دونها من القوى كما قلنا.

فعلى هذا الفعل الذى يسند الى قوة من القوى الانسانية فهو بالحقيقة مسند الى النفس الاّ انّ للنفس وافعالها فى كل شأن من شئونها اسما خاصا. ويقول صدر المتالهين فى آخر الباب الرابع من نفس الاسفار فى هذا المقصد الاسنى بعد مطالب ما هذا لفظه :

« فكل محسوس فهو معقول بمعنى انه مدرك للعقل بالحقيقة لكن الاصطلاح قد وقع على تسمية هذا الادراك الجزئى بوساطة الحس بالمحسوس قسيما للمعقول اعنى ادراك المجردات بالكلية هذا ». ص ٤٩ ج ٤ ط ١ ـ ص ٢٠٤ ج ٨ ط ٢.

(١) القوة المسماة بالوهم هى الرئيسة الحاكمة فى الحيوان حكما ليس فصلا كالحكم العقلى. وسيجىء تفصيل الكلام فيها فى آخر الفصل الاول من المقالة الآتية.

٢١٢

مؤدية ما فى الخيال إليها ، إلا أن ذلك لا يثبت بالفعل فى القوة المتوهمة ، بل مادام الطريق مفتوحا والروحان متلاقيين والقوتان متقابلتين فإذا أعرضت القوة المتوهمة عنها بطلت عنها تلك الصورة.

والدليل على صحة القول بأن حصول هذه الصورة فى الوهم غير حصولها فى الخيال ، أن الخيال كالخازن وليست الصورة التى فيه متخيلة للنفس بالفعل دائما ، وإلا لكان يجب أن نتخيل معا صورا كثيرة أىّ صورة كانت فى الخيال ، ولا هذه الصور أيضا فى الخيال على سبيل ما بالقوة وإلا لكان يحتاج إلى أن نسترجع بالحس الخارج مرة أخرى ، بل هى مخزونة فيه ، والوهم بتوسط المفكرة والمتخيلة يعرضها على النفس وعنده يقف تأدّى الصور للمحسوسة ، وأما الذكر فهو لشىء آخر كما نذكره بعد. فهذه أصول يجب أن تكون عتيدة عندك.

ولنرجع إلى غرضنا فنقول : إن السبب فى رؤية الشىء الواحد اثنين أربعة أسباب :

أحدها انفتال (١) الآلة المؤدية للشبح الذى فى الجليدية إلى ملتقى العصبتين فلا يتأدى الشبحان إلى موضع واحد على الاستقامة ، بل ينتهى كل عند جزء من الروح الباصر المرتب هناك على حدة ، لأن خطى الشبحين لم ينفذا نفوذا من شأنه يتقاطعا عند مجاورة ملتقى العصبتين ، فيجب لذلك أن ينطبع من كل شبح ينفذ عن الجليدية خيال على حدة وفى جزء من الروح الباصرة على حدة ، فيكون كأنهما خيالان عن شيئين مفترقين

__________________

ص ٣٣٤. وراجع آخر الفصل التاسع من النمط الثالث من الاشارات وشرحه للمحقق الطوسى. ص ٨٤.

(١) انفتال : اعوجاج وپيچيدگى.

٢١٣

من خارج ، إذ لم يتحد الخطان الخارجان منهما إلى مركز الجليديتين نافذين فى العصبتين ، فلهذا السبب ترى الأشياء كثيرة متفرقة (١).

والسبب الثانى حركة الروح الباصرة وتموّجه يمنة ويسرة حتى يتقدم الجزء المدرك مركزه المرسوم له فى الطبع آخذا إلى جهة الجليديتين أخذا متموجا مضطربا فيرتسم فيه الشبح والخيال قبل تقاطع المخروطين فيرى شبحين ، وهذا مثل الشبح المرتسم من الشمس فى الماء الراكد الساكن مرة واحدة والمرتسم منها فى المتموج ارتساما متكررا. وذلك أن الزاوية الحاصلة بين خط البصر إلى الماء وخط الشمس إلى الماء التى عندها يكون

__________________

(١) فى تعليقة نسخة : قال حكماء الافرنج ان طبقة الزجاجية تكون عدسية الشكل فاذا كان تحديبها اكثر مما ينبغى فالاشعة المنعكسة من الاشياء فى العين يجتمع قبل ان يصل الى مجمع النورين وذلك يوجب ان لا يرى الاشياء البعيدة واضحة ظاهرة ويرى الاشياء القريبة واضحة ظاهرة وان كان تحديها اقل مما ينبغى يكون الرؤية على عكس ما ذكر اى يرى الاشياء البعيدة واضحة والقريبة غير واضحة لاجتماع الاشعة بعد المضيىء فى مجمع النورين ولعلاج كل منهما صنعوا آلة وقالوا ان الحول يعرض اذا كان عضو الزجاجى من احد العينين مخالفا للعين الاخرى فى قلة التحديب وكثرته فلا محالة يرى الشىء الواحد حينئذ شيئين لانه محال ان يرى الشىء الواحد بعيدا وقريبا فى زمان واحد وفى محل واحد كما ان الشخص اذا وضع على احدى عينيه آلة يسمى بالفارسية دوربين ويرى بتلك الآلة من هذه العين شيئا كالقمر مثلا ويلاحظ ايضا فى تلك الحالة بالعين الاخرى التى لا يوضع على الآلة هذا الشىء بعينه يرى ذلك الشىء فى تلك الحالة شيئين لان الشىء بالآلة يرى قريبا وبدونها بعيدا ومحال ان يرى الشىء الواحد قريبا وبعيدا فى زمان واحد وفى محل واحد فلا محالة يرى الشىء الواحد حينئذ شيئين وكذا الحول يعرض اذا لم يكن الطبقة المذكورة على النهج الطبيعى وفى الموضع الطبيعى بل يقع اما اقرب مما ينبغى او ابعد فانه حينئذ لا يجتمع الاشعة المنعكسة فى العين فى نقطة واحدة بل تجتمع فى نقطتين متجاورتين فيرى الشىء الواحد حينئذ ايضا شيئين.

٢١٤

إبصار الشىء على طريق التأدى من المرآة لشىء لا تبقى واحدة ، بل يتلقاها الموج فى مواضع فتكثر هذه الزاوية فتنطبع أشباح فوق واحد.

والسبب الثالث من اضطراب حركة الروح الباطن الذى (١) وراء التقاطع إلى قدام وخلف حتى تكون لها حركتان إلى جهتين متضادتين :

حركة إلى الحس المشترك ، وحركة إلى ملتقى العصبتين ، فتتأدى إليها صورة المحسوس مرة أخرى قبل أن ينمحى ما تؤديه إلى الحس المشترك ، كأنها كما أدّت الصورة إلى الحس المشترك رجع منها جزء يقبل ما تؤدّيه القوة الباصرة وذلك لسرعة الحركة ، فيكون مثلا قد ارتسم فى الروح المؤدية صورة فنقلتها إلى الحس المشترك ، ولكل مرتسم زمان ثبات إلى أن ينمحى ، فلما زال القابل الأول من الروح عن مركزه لاضطراب حركته يخلفه جزء آخر فقبل قبوله (٢) قبل أن ينمحى عن الأول ، فتجزّأت الروح للاضطراب إلى جزء متقدم كان فى سمت المرئى فأدركه ثم زال ، ولم تزل عنه الصورة دفعة ، بل هى فيه وإلى جزء آخر قابل للصورة أيضا بحصوله فى السمت الذى فى مثله يدرك الصورة عاقبا للجزء الأول والسبب الاضطراب. وإذا كان كذلك حصل فى كل واحد منهما صورة مرئية ، لأن الأولى لم تنمح بعد عن الجزء القابل الأول المؤدّى إلى الحس المشترك أو عن المؤدى إليه (٣) حتى انطبعت فى الثانى.

والفرق بين هذا القسم والقسم الذى قبله أن هذه الحركة المضطربة إلى قدّام وخلف ، وكانت تلك إلى يمنة ويسرة.

__________________

(١) الباطنة التى ، نسخة.

(٢) قوله : « فقبل قبوله » اى قبل الجزء الآخر مثل قبول الجزء القابل الاول.

(٣) عن غير المؤدى اليه ، نسخة.

٢١٥

ولمثل هذا السبب ما يرى الشىء السريع الحركة إلى الجانبين كشيئين. لأنه قبل أن انمحى عن الحس المشترك صورته وهو فى جانب يراه البصر وهو فى جانب آخر فيتوافى (١) إدراكاه فى الجانبين معا. وكذلك إذا دارت نقطة ذات لون على شىء مستدير رؤيت خطا مستديرا ، وإذ امتدت بسرعة على الاستقامة رؤيت خطا مستقيما.

ونظير هذه الحركة الدوار ، فإنه إذا عرض سبب من الأسباب المكتوبة فى كتب الطب فحرك الروح الذى فى التجويف المقدم من الدماغ على الدور (٢) ، وكانت القوة الباصرة تؤدى إلى ما هناك صورة محسوسة ، فالجزء من الروح القابل لها لا يثبت مكانه ، بل ينتقل ويخلفه جزء آخر يقبل تلك الصورة بعد قبوله وقبل انمحائها عنه. وكذلك على الدور ، فيتخيل أن المرئيات تدور وتتبدل على الرائى ، وإنما الرائى هو الذى يدور ويتبدل على المرئى. وإذا كان القابل ثابتا وتحرّك الشىء المبصر بسرعة انتقل لامحالة شبحه الباطن من جزء من القابل إلى جزء آخر ، فإنه لو كان الشبح يثبت فى ذلك الجزء بعينه لكان نسبة القابل مع المقبول واحدة ثابتة. فإذن إذا عرض لحامل الشبح أن ينتقل عن مكانه انتقل الشبح لا محالة ، فتغيّرت نسبته إلى الجسم الذى من خارج ، فعرض ما يعرض لو كان الشىء الذى من خارج ينتقل.

وأيضا فإن الناظر فى ماء شديد الجرى يتخيل له أنه هوذا يميل عن جهة ويسقط إليها ، والسبب فى ذلك أنه يتخيل الأشياء كلها تميل إلى خلاف جهة ميل الماء ، فإن شدة الحركة الموجبة لسرعة المفارقة توهم أن

__________________

(١) فتوافى ، نسخة.

(٢) متعلق بقوله : « فحرك ».

٢١٦

المفارقة من الجانبين معا ، والسبب انتقال الشبح فى القابل مع ثباته فى كل جزء تفرضه زمانا مّا.

ويجب أن يعلم أن مع هذه الأسباب سببا آخر معينا لها ماديا ، وذلك أن جوهر الروح جوهر فى غاية اللطافة وفى غاية سرعة الإجابة إلى قبول الحركة ، حتى أنه إذا حدث فيه سبب موجب لانتقال الشبح من جزء إلى جزء يلزمه أن يتحرك جوهر الروح حركة مّا ـ وإن قلّت ـ إلى سمت ذلك الجزء. والسبب فى ذلك أن لكل قوة من القوى المدركة انبعاثا بالطبع إلى مدركها ، حتى أنها تكاد تلتذ به وإذا انبعثت نحوه مال حاملها إليه أو مالت بحاملها إليه.

ولهذا ما كان الروح الباصر يندفع جملة إلى الضوء وينقبض عن الظلمة بالطبع ، فإذا مال الشبح إلى جزء من الروح دون جزء كانت القوة كالمندفعة إلى جهة ميل للشبح بآلتها. فإن الآلة مجيبة لها إلى نحو الجهة التى تطلبها القوة فيحدث فى الروح تموّج إلى تلك الجهة للطافتها وسرعتها إلى قبول الأثر كأنها تتبع الشبح (١). ولهذا السبب إذا أطال الإنسان النظر إلى شىء يدور يتخيل له أن سائر الأشياء تدور لأنه تحدث فى الروح حركة مستديرة لاتباعها لانتقال الشبح.

وكذلك إذا أطال النظر إلى شىء سريع الحركة فى الاستقامة تحدث فى الروح حركة مستقيمة إلى ضد تلك الجهة ، لأن جهة حركة الشىء متضادة لجهة حركة الشبح (٢) ، فحينئذ ترى الأشياء كلها تنتقل إلى ضد

__________________

(١) فى غير واحد من النسخ : « تتبع حركة الشبح ».

(٢) فى تعليقة نسخة : « وفى بعض النسخ لان جهة حركة الشبح مضادة لجهة حركة ذى الشبح ». لان حركة الشبح تكون الى الداخل والى الحس المشترك.

٢١٧

تلك الجهة ، لأن أشباح الأشياء لا تثبت.

والسبب الرابع اضطراب حركة تعرض للثقبة العنبية ، فإن الطبقة العنبية (١) سهلة الحركة إلى هيئة تتسع لها الثقبة وتضيق تارة إلى خارج ، وتارة إلى داخل على الاستقامة أو إلى جهة ، فيتبع اندفاعها إلى خارج انضغاط يعرض لها واتساع من الثقبة ، ويتبع اندفاعها إلى داخل اجتماع يعرض لها وتضيّق من الثقبة. فإذا اتفق أن ضاقت الثقبة يرى (٢) الشىء أكبر أو اتسعت (٣) رؤى أصغر ، أو اتفق أن مالت إلى جهة رؤى فى مكان آخر. فيكون كأنّ المرئى أولا غير المرئى ثانيا ، وخصوصا إذا كان قد تمثل قبل انمحاء الصورة الأولى صورة أخرى (٤).

__________________

(١) فى تعليقة نسخة : اعلم ان كل واحدة من العينين مركبة من سبع طبقات وثلاث رطوبات : الطبقة الاولى الملتحمة وهى التى تلى الهواء. والثانية القرنية وهى وراء الملتحمة ولا لون لها وانما تتلون بلون الطبقة التى تحتها. والطبقة الثالثة العنبيّة وهى قد تكون سوداء وقد تكون زرقاء وقد تكون شهلاء وهى بعد القرنية وبعد الطبقة العنبية الرطوبة البيضية وهى رطوبة صافية شبيهة ببياض البيض. والطبقة الرابعة العنكبوتية وهى شبيهة بنسج العنكبوت وهى بعد الرطوبة البيضية وبعد هذه الطبقة الرطوبة الجليدية وهى رطوبة صافية نيرة تشبّه الجليد وبعدها رطوبة الزجاجية وهى تشبه الزجاج الذائب. والطبقة الخامسة الشبكية وهى تشبه الشبكة وهذه الطبقة بعد الرطوبة الزجاجية. والطبقة السادسة الطبقة المشيمية وهى تشبه المشيمة وهذه بعد الطبقة الشبكية. والطبقة السابعة الصلبة وهى بعد المشيمية وتلاقى عظم العين.

كرد آفريدگار تعالى بفضل خويش

چشمت به هفت پرده وسه آب منقسم

صلب ومشيمه شبكه زجاج وآنگهى جليد

پس عنكبوت وبيض وعنب قرن وملتحم

(٢) رؤى ، نسخة.

(٣) واذا اتّسعت ، نسخة.

(٤) قال القرشى فى شرح القانون : ان سبب ذلك ان الروح اذا كانت اكثر من المقدار الذى يقتضيه الثقبة لزم ان يتكاثف ويتصغر حجمها ليمكن حصولها فى مكان صغير واذا وقع

٢١٨

ولقائل أن يقول : فلم لا تثبت الصورة واحدة مع انتقال القابل كمال تبقى صورة الضوء واحدة مع انتقال القابل ، فيكون إذا زال القابل عن المحاذاة بطلت الصورة عنه وحدثت فيما يقوم مقامه ، فلم تكن صورتان ، فلم تكن رؤيتان ، ولا اتصال خط من نقطة ، ولا رؤيت الأشياء تستدير.

فنقول : لا يبعد أن يكون من شأن الروح التى للحس المشترك أن لا تكون إنما تنضبط الصورة بالمحاذاة فقط ، وإن كان لا تضبطها بعد المحاذاة مدة طويلة فيكون يضبط لا كضبط المستنير بالضوء للضوء الذى يبطل دفعة ولا كضبط الحجر للنقش الذى يبقى مدة طويلة ، بل بين بين. وتكون تخليته عن الصورة بسبب تقوى وتعان بعد المحاذاة بزمان مّا لأسباب تجدها مذكورة فيما تفتر حركته وفيما يعود إلى طبيعته حيث نتكلم فى مثله.

ومن هذا يعلم أن قبول الروح الباطن للخيالات المبصرة ليست كقبول الشبح الساذج الذى يزول مع زوال المحاذاة. وبالحرى أن تكون الحواس هى هذه المشهورة ، وأن تكون الطبيعة لا تنتقل من درجة الحيوانية إلى درجة فوقها ، أو توفى جميع ما يكون فى تلك الدرجة. فيجب من ذلك أن تكون جميع الحواس محصلة عندنا ، ومن رام أن يبين هذا بقياس واجب فقد يتكلّف شططا. وجميع ما قيل فى هذا فهو غير مبرهن ، أو لست أفهمه فهم المبرهن عليه ويفهمه غيرى ، فلتتعرف ذلك من غير كلامنا.

__________________

عليه الشبح وهو لا محالة يكون على ما هو المقدار الطبيعى له فعند ما ينتقل الروح من ذلك المكان الى جهة التقاطع يزول القاسر لها على الاجتماع والتكاثف وحينئذ ينتقل الى مقداره الطبيعى ويلزم ذلك انبساط مثل الشبح فيصير اعظم مما هو عليه الامر الطبيعى فيرى القوة ذلك المرئى اعظم مما هو عليه.

٢١٩

فالحواس المفردة والمحسوسات المفردة ما ذكرنا ، وهاهنا حواس مشتركة (١) ومحسوسات مشتركة فلنتكلم أولا فى المحسوسات المشتركة فنقول :

إن الحواس منا قد تحسّ مع ما تحسّ أشياء أخرى لو انفردت وحدها لم تحسّ ، وهذه الأشياء هى المقادير والأوضاع والأعداد والحركات والسكونات والأشكال والقرب والبعد والمماسة وما هو غير ذلك مما يدخل فيه. وليس إنما تحسّ هذه بالعرض ، وذلك لأن المحسوس بالعرض هو الذى ليس محسوسا بالحقيقة ، لكنه مقارن لما يحسّ بالحقيقة مثل إبصارنا أبا عمرو وأبا خالد ، فإن المحسوس هو الشكل واللون ، ولكن عرض أن ذلك مقارن لشىء مضاف ؛ فنقول : إنا أحسسنا بالمضاف ولم نحسّه ألبتة ولا فى أنفسنا خيال أو وهم ولا رسم لأبى خالد من حيث هو أبو خالد يكون ذلك الوهم ، أو الخيال مستفادا من الحس بوجه من الوجوه. وأما الشكل والعدد وغير ذلك فإنه وإن كان لا يحسّ بانفراده ، فإن رسمه وخياله يلزم (٢) خيال ما يحسّ وما يدرك بأنه لون أو حرارة أو برودة مثلا ، حتى يمتنع ارتسام أمثال هذه (٣) فى الخيال دونها (٤) أيضا.

وليس إذا كان الشىء متمثلا ومدركا لشىء فى شىء بتوسط شىء فهو

__________________

(١) قال شارح المواقف اى تشترك فى ادراكها الحواس الظاهرة فلا يحتاج فى الاحساس بها الى قوة اخرى. قال بهمنيار فى التحصيل اما المحسوس المشترك هو ما يدركه جميع الحواس او اكثرها بواسطة محسوسه الخاص.

(٢) يلزمه ، نسخة.

(٣) فى تعليقة نسخة : اى اللون والحرارة والبرودة.

(٤) فى تعليقة نسخة : اى دون الشكل والعدد والحركة والسكون.

٢٢٠