شرح الحلقة الثّالثة

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٣

ففي مثال العنب المتقدّم ، فكما نعلم بالحرمة التعليقيّة عند تحقّق العنب وكونه رطبا والتي مفادها ( أنّ هذا العنب لو غلى لحرم ) ، فكذلك نعلم بالحلّيّة الفعليّة التنجيزيّة التي مفادها ( إنّ هذا العنب فعلا حلال ) حيث إنّ موضوع الحرمة غير ثابت فعلا ؛ لعدم وجود الغليان فعلا.

وعليه فكما يجري استصحاب الحرمة التعليقيّة فيما بعد جفاف العنب وغليانه ، حيث يشكّ في بقاء تلك الحرمة ، فكذلك يجري استصحاب الحلّيّة المنجّزة الفعليّة فيما بعد الجفاف والغليان للشكّ في ارتفاع هذه الحلّيّة وبقائها.

وهذان الاستصحابان متعارضان ؛ لأنّ أحدهما ينفي ما يثبته الآخر عن نفس الموضوع ، فيحكم بتساقطهما ، وبالتالي يرجع إلى الأصول العمليّة الجارية في المقام كأصالة الحلّيّة أو أصالة الطهارة أو أصالة البراءة.

وهذا الاعتراض يظهر من السيّد المجاهد صاحب ( المناهل ) ، حيث قدّم بعد إبراز التعارض استصحاب الحلية الفعلية.

وقد يجاب على ذلك بجوابين :

أحدهما : ما ذكره صاحب ( الكفاية ) (١) من أنّه لا معارضة بين الاستصحابين ، إذ كما أنّ الحرمة كانت معلّقة فتستصحب بما هي معلّقة ، كذلك الحلّيّة كانت في العنب مغيّاة بالغليان فتستصحب بما هي مغيّاة ، ولا تنافي بين حلّيّة مغيّاة وحرمة معلّقة على الغاية.

وأجيب على هذا الاعتراض بأجوبة أهمّها :

الجواب الأوّل : ما ذكره صاحب ( الكفاية ) من أنّ هذين الاستصحابين يمكن الأخذ بهما معا ولا تعارض بينهما.

والوجه في ذلك : أنّ استصحاب الحلّيّة يثبت لنا الحلّيّة المغيّاة بالغليان ؛ وذلك لأنّنا نعلم بأنّ هذا العنب حلال قبل غليانه ، إلا أنّ هذه الحلّيّة ليست مطلقة ، بل هي مغيّاة إلى حين غليانه ، ثمّ بعد صيرورة العنب جافّا وشككنا في بقاء هذه الحلّيّة جرى استصحابها فتثبت لنا الحلّيّة المغيّاة بالغليان.

وأمّا استصحاب الحرمة المعلّقة التي كانت ثابتة للعنب الرطب والتي يثبت بقاؤها

__________________

(١) كفاية الأصول : ٤٦٨ ـ ٤٦٩.

٣٢١

للعنب الجافّ ، فهي حرمة معلّقة على الغليان ، وهذا معناه أنه بعد صيرورة العنب جافّا ثبت لنا حلّيّته الفعليّة المنجّزة ولكن قبل غليانه ، أي أنّه ما دام لم يتحقّق الغليان فهذه الحلّيّة ثابتة للعنب الجافّ ، وكذلك تثبت لنا حرمته المعلّقة على الغليان ، ولا يلزم التعارض بينهما ؛ لأنّه قبل الغليان ليس لدينا إلا الحلّيّة ؛ لأنّ قيد الحرمة لم يتحقّق ، وبعد الغليان ليس لدينا إلا الحرمة لتحقّق قيدها وارتفاع الحلّيّة لانتهاء أمدها بتحقّق الغاية.

وبهذا يظهر أنّه يمكن الأخذ بالاستصحابين معا ؛ لأنّهما لن يجتمعا معا وبالتالي لن يحصل التعارض بينهما.

ونلاحظ على ذلك : أنّ الحلّيّة التي نريد استصحابها هي الحلّيّة الثابتة بعد الجفاف وقبل الغليان ، ولا علم بأنّها مغيّاة لاحتمال عدم الحرمة بالغليان بعد الجفاف ، فنستصحب ذات هذه الحلّيّة.

ويرد عليه : أنّ الحلّيّة الفعليّة التي يدّعى معارضتها لاستصحاب الحرمة التعليقيّة ليست هي الحلّيّة الثابتة للعنب حينما كان رطبا ، بل هي الحلّيّة الثابتة للعنب بعد أن جفّ وصار زبيبا ؛ وذلك لأنّ الحلّيّة الثابتة للعنب الرطب يعلم كونها مغيّاة بالغليان ، وأمّا حلّيّة العنب بعد جفافه فهذه لا يعلم كونها مغياة بالغليان ، إذ من المحتمل أن تكون هذه الحلّيّة مطلقة حتّى بعد الغليان.

فلو أريد استصحاب الحلّيّة قبل الجفاف فهي حلّيّة مغيّاة يقينا ، وأمّا إن أريد استصحاب الحلّيّة بعد الجفاف وقبل الغليان فهي حلّيّة فعليّة ومنجّزة ولا يعلم كونها مغيّاة ، ولذلك يرد الإشكال من ناحية استصحاب الحلّيّة الثابتة بعد الجفاف ؛ لأنّها منجّزة وفعليّة ولا يعلم كونها مغيّاة فتتعارض مع استصحاب الحرمة التعليقيّة.

فإن قيل : إنّ الحلّيّة الثابتة قبل الجفاف نعلم بأنّها مغيّاة ، ونشكّ في تبدّلها إلى الحلّيّة غير المغيّاة بالجفاف ، فنستصحب تلك الحلّيّة المغيّاة المعلومة قبل الجفاف.

فإن قيل : لا يوجد لدينا إلا حلّيّة واحدة هي حلّيّة العنب قبل جفافه وقبل غليانه ، وهذه الحلّيّة يعلم كونها مغيّاة بالغليان ؛ لأنّ هذا العنب الرطب لو غلى لحرم ، فحلّيّته الفعليّة مقيّدة ومغيّاة بالغليان ، ثمّ بعد جفاف هذا العنب وصيرورته زبيبا وقبل غليانه

٣٢٢

فحلّيّته فعليّة أيضا ، ولكنّنا نشكّ في أنّ هذه الحلّيّة الفعليّة هل هي نفس الحلّيّة التي كانت قبل الجفاف والتي هي الحلّيّة المغياة ، أو أنّها تبدّلت إلى حلّيّة أخرى منجّزة ومطلقة وغير مغيّاة بالغليان؟

ووجه الشكّ هو أنّ الرطوبة هل هي حيثيّة دخيلة على وجه التقييد في ثبوت الحرمة للعنب ، أو أنّها ليست دخيلة كذلك؟

ومع هذا الشكّ نجري استصحاب الحلّيّة المغيّاة ؛ لأنّها كانت متيقّنة قبل الجفاف ونشكّ في زوالها وحدوث حلّيّة أخرى مكانها ، فيثبت لنا الحلّيّة المغيّاة أيضا بعد الجفاف ، فإذا غلى هذا الزبيب جرى استصحاب حلّيّته المغيّاة وحرمته التعليقيّة معا ولا تعارض بينهما.

كان الجواب : أنّ استصحابها لا يعيّن حال الحلّيّة المعلومة بعد الجفاف ، ولا يثبت أنّها مغيّاة إلا بالملازمة ، للعلم بعدم إمكان وجود حلّيّتين ، وما دامت الحلّيّة المعلومة بعد الجفاف لا مثبت لكونها مغيّاة فبالإمكان استصحاب ذاتها إلى ما بعد الغليان.

كان الجواب : أنّ استصحاب الحلّيّة المغيّاة الثابتة للعنب قبل جفافه إلى ما بعد جفافه لا يثبت لنا أنّ هذه الحلّيّة مغياة أيضا إلا بضمّ مقدّمة عقليّة ، وهي أنّه لا يوجد لدينا حلّيّتان إحداهما للعنب قبل جفافه والأخرى للعنب بعد جفافه ، إذ لو كان لدينا حلّيّتان فما هو المانع أن تكون الحلّيّة الأولى مغيّاة والثانية غير مغيّاة ، وعليه فإثبات الحلّيّة المغيّاة إلى ما بعد الجفاف والغليان لا يكون إلا بواسطة الملازمة العقليّة بين هذه الحلّيّة والحلّيّة السابقة ، وأنّ الثانية هي نفس الأولى واستمرار لها استنادا إلى ثبوت حكم واحد للشيء الواحد وإن تغيّرت بعض أحواله المشكوك دخالتها كالرطوبة والجفاف.

ومن الواضح أنّ الاستصحاب لا يثبت به اللوازم العقليّة المترتّبة على المستصحب كما تقدّم سابقا ، ولذلك فلا تثبت الحلّيّة المغيّاة بعد الجفاف ، وإنّما القدر المتيقّن ثبوت الحلّيّة ، وأمّا كونها مغيّاة أم لا فهذا غير معلوم ، ولذلك فإذا غلى هذا العنب بعد جفافه وشكّ في بقاء حلّيّته جرى استصحاب ذات الحلّيّة المعلومة لا الحلّيّة المغيّاة ، وبالتالي سوف تتعارض مع الحرمة المعلّقة.

٣٢٣

والجواب الآخر : ما ذكره الشيخ الأنصاري (١) والمحقّق النائيني (٢) من أنّ الاستصحاب التعليقي حاكم على الاستصحاب التنجيزي.

ويمكن أن يقال في توجيه ذلك : أنّ استصحاب القضيّة الشرطيّة للحكم إمّا أن يثبت فعليّة الحكم عند تحقّق الشرط ، وإمّا ألاّ يثبت ذلك ، فإن لم يثبت لم يجر في نفسه ، إذ أي أثر لإثبات حكم مشروط لا ينتهي إلى الفعليّة.

وإن أثبت ذلك تمّ الملاك لتقديم استصحاب الحكم المعلّق على استصحاب الحكم المنجّز وحكومته عليه ، وفقا للقاعدة المتقدّمة في الحلقة السابقة (٣) القائلة :

إنّه كلّما كان أحد الأصلين يعالج مورد الأصل الثاني دون العكس قدّم الأصل الأوّل على الثاني.

الجواب الثاني : ما ذكره الشيخ الأنصاري والميرزا النائيني من حكومة الاستصحاب التعليقي على الاستصحاب التنجيزي فيقدّم الأوّل على الثاني ، ولا معارضة بينهما.

ووجه الحكومة أن يقال : إنّ استصحاب القضيّة الشرطيّة القائلة : ( بأنّ العنب إذا غلى حرم ) تارة يراد بها إثبات فعليّة الحرمة عند تحقّق الشرط وأخرى لا يراد بها ذلك.

فإن لم يكن المراد بها إثبات الحرمة الفعليّة ، بل اقتصر على إثبات نفس هذه القضيّة التي يستفاد منها الحكم المشروط والمعلّق ، فمثل هذا الاستصحاب لا يجري في نفسه لاختلال ركنه الرابع ؛ لأنّه لا يوجد أثر تنجيزي أو تعذيري مترتّب على الحكم المشروط ؛ لأنّه لا يدخل في العهدة ولا تشتغل به الذمّة ؛ لأنّ ذلك من شئون الحكم الفعلي.

وإن أريد باستصحاب هذه القضيّة الشرطيّة التوصّل إلى إثبات الحكم الفعلي أي الحرمة الفعليّة عند تحقّق الشرط الذي هو الغليان ، فحينئذ يجري الاستصحاب لتماميّة أركانه كما تقدّم ، وبالتالي يكون هذا الاستصحاب حاكما على استصحاب الحليّة

__________________

(١) فرائد الأصول ٣ : ٢٢٣.

(٢) فوائد الأصول ٤ : ٤٧٣.

(٣) في النقطة الخامسة من بحث التطبيقات في الاستصحاب ، تحت عنوان : الاستصحاب في حالات الشكّ السببي والمسبّبي.

٣٢٤

التنجيزيّة ؛ لأنّ ملاك الحكومة موجود هنا وهو كون أحد الأصلين ينظر إلى موضوع الأصل الآخر وينقّحه إثباتا أو نفيا ، فالاستصحاب التعليقي ينقّح موضوع الاستصحاب التنجيزي فيكون حاكما عليه.

وبيان ذلك :

فإنّ مورد الاستصحاب التنجيزي مرحلة الحكم الفعلي ، ومورد استصحاب [ الحكم ] المعلّق مرحلة الثبوت التقديري للحكم ، والمفروض أنّ استصحاب [ الحكم ] المعلّق يثبت حرمة فعليّة ، وهو معنى نفي الحلّيّة الفعليّة ، وأمّا استصحاب الحلّيّة الفعليّة فلا ينفي الحرمة المعلّقة ولا يتعرّض إلى الثبوت التقديري.

توضيح الحكومة : أنّ الاستصحاب التنجيزي يثبت لنا الحرمة الفعليّة بعد الغليان للعنب الجافّ.

والاستصحاب التعليقي يثبت لنا الحرمة الفعليّة بعد الغليان للعنب الجافّ.

إلا أنّ الاستصحاب التعليقي مورده إثبات الحرمة التعليقيّة ، أي أنّه يجري في مرحلة الثبوت التقديري للحرمة ، وهذا يعني أنّه ينظر إلى الحرمة والحلّيّة معا ، بمعنى أنّه إذا تحقّق الغليان فالحرمة ثابتة ، وإذا لم يتحقّق الغليان فلا حرمة بل الحلّيّة ثابتة.

وأمّا الاستصحاب التنجيزي فمورده إثبات الحلّيّة الفعليّة بعد الغليان ، أي أنّه يجري في مرحلة الثبوت الفعلي للحكم فهو ناظر إلى الحلّيّة فقط ، ولا نظر فيه إلى الحرمة التعليقيّة أصلا.

وعليه : فالاستصحاب التعليقي يعالج موضوع الاستصحاب التنجيزي ؛ لأنّه يثبت الحرمة الفعليّة بعد الغليان ، وهذا معناه نفي الحلّيّة الفعليّة بعد الغليان ، بينما الاستصحاب التنجيزي لا يعالج موضوع الاستصحاب التعليقي ؛ لأنّه لا ينظر إلى الحرمة التعليقيّة لا سلبا ولا إيجابا ، وإنّما يثبت الحلّيّة الفعليّة فقط ، وأمّا هل أنّه توجد حرمة تعليقيّة أو لا؟ فهذا ليس موردا لنظره.

ومن هنا كان الاستصحاب التعليقي مقدّما على الاستصحاب التنجيزي ؛ لأنّه يعالج مورده دون العكس.

وبتعبير آخر أنّ الشكّ الموجود في الاستصحاب التنجيزي مسبّب عن الشكّ في الاستصحاب التعليقي ؛ لأنّ الاستصحاب التعليقي يثبت الحرمة الفعليّة عند تحقّق

٣٢٥

الغليان ، وبذلك يرتفع الشكّ في الحلّيّة التي هي مورد جريان الاستصحاب التنجيزي.

ولا يقال : إنّ الاستصحاب التنجيزي إذا جرى ثبت به الحلّيّة الفعليّة ، وبالتالي لا شكّ في الحرمة التعليقيّة ، لأنّه لا يوجد ملازمة وسببيّة بين ثبوت الحلّيّة الفعليّة وعدم ثبوت الحرمة المعلّقة ، بل يجتمعان معا.

ونلاحظ على ذلك : أنّ هذا لا يتمّ عند من لا يثبت الفعليّة باستصحاب القضيّة المشروطة ، ويرى كفاية وصول الكبرى والصغرى في حكم العقل بوجوب الامتثال ، فإنّ استصحاب الحكم المعلّق على هذا الأساس لا يعالج مورد الاستصحاب الآخر ليكون حاكما عليه.

ويرد على ذلك : أنّه إنّما يتمّ لو قلنا بأنّ الفعليّة من شئون الحكم في عالم المجعول دون عالم الجعل ، كما يظهر من مدرسة الميرزا التي فرّقت بين الجعل والمجعول ، واعتبرت الفعليّة للحكم المجعول.

إلا أنّه تصوّر غير صحيح ؛ لأنّ الفعليّة والمنجّزيّة يكفي فيها وصول الكبرى والصغرى معا ، فإذا وصلتا معا وجدانا أو وجدانا وتعبّدا تحقّق موضوع المنجّزيّة وحكم العقل بوجوب الإطاعة والامتثال.

وعليه ففي مقامنا : لا يشترط في منجّزيّة الاستصحاب التعليقي أن يثبت لنا الحرمة الفعليّة ، بل يكفي أن يوصل الكبرى وهي القضيّة الشرطيّة التي مفادها : ( أنّ العنب إذا غلى حرم ).

وأمّا المنجّزيّة والفعليّة فهي تابعة لاجتماع الصغرى مع الكبرى لدى المكلّف ، وهذا متحقّق ؛ لأنّ المكلّف يعلم وجدانا بالغليان إذ المفروض أنّ هذا العنب الجافّ قد غلى فعلا ، فالصغرى واصلة إليه وجدانا ، والكبرى وهي الجعل الشرعي تثبت بالاستصحاب ، حيث إنّه يثبت الحرمة التعليقيّة على الغليان ، فإذا ضمّت الصغرى إلى الكبرى تحقّقت المنجّزيّة وحكم العقل بوجوب الامتثال.

ولذلك لا يكون الاستصحاب التعليقي ناظرا إلى مورد الاستصحاب التنجيزي ورافعا له ليكون حاكما ومقدّما عليه ؛ لأنّه لا يثبت لنا الحرمة الفعليّة لترتفع الحلّيّة الفعليّة ، وإنّما يثبت لنا القضيّة الشرطيّة من دون التعرّض للفعليّة والمنجّزيّة أصلا ، فلا نظر فيه إلى مورد الأصل الآخر.

٣٢٦

ومن هنا كان كلّ من الأصلين جاريا في مورده ، وبالتالي يقع التعارض بينهما ويحكم بتساقطهما (١).

__________________

(١) ثمّ إنّ السيّد الشهيد قد دفع هذا الاعتراض الثالث وكانت النتيجة عنده أنّ الاستصحاب التعليقي يجري من دون معارض ، فليراجع هناك.

٣٢٧
٣٢٨

استصحاب عدم النسخ

٣٢٩
٣٣٠

٢ ـ استصحاب عدم النسخ

تقدّم في الحلقة السابقة (١) أنّ النسخ بمعناه الحقيقي مستحيل بالنسبة إلى مبادئ الحكم ، ومعقول بالنسبة إلى الحكم في عالم الجعل ، وعليه فالشكّ في النسخ بالنسبة إلى عالم الجعل يتصوّر على نحوين :

الأوّل : أن يشكّ في بقاء نفس الجعل وعدمه بمعنى احتمال إلغاء المولى له.

الثاني : أن يشكّ في سعة المجعول وشموله من الناحية الزمانيّة ، بمعنى احتمال أنّ الجعل تعلّق بالحكم المقيّد بزمان قد انتهى أمده.

معنى النسخ : تقدّم في الحلقة السابقة أنّ النسخ بمعناه الحقيقي مستحيل بحقّ المولى عزّ وجلّ ؛ لاستلزامه الجهل ؛ وذلك لأنّ معناه أنّه كان يعتقد وجود المصلحة أو المفسدة بلحاظ المبادئ ثمّ ينكشف عدم ذلك ، فهذا المعنى يتصوّر بحقّ الموالي العرفيّين فقط ، هذا بلحاظ الحكم في عالم المبادئ.

نعم ، النسخ بلحاظ الحكم في عالم الجعل والاعتبار معقول بحقّ المولى ، وذلك بأن يجعل الحكم مطلقا ثبوتا لمصلحة في نفس إرادة الحكم بهذا النحو ، ولكنّه يكون مقيّدا في علم الله تعالى بأمر محدّد أخفاه الله عزّ وجلّ ، ولم يذكره إثباتا لمصلحة وحكمة ولو هي إبراز هيبة الأحكام ولزوم احترامها.

وعلى هذا الأساس سوف يكون الشكّ في النسخ بلحاظ عالم الجعل على نحوين :

الأوّل : أن يشكّ في النسخ بمعنى الشكّ في بقاء الجعل أو إلغائه ، فهل الشارع ألغى هذا الجعل أم لا؟

الثاني : أن يشكّ في سعة المجعول وشموله من الناحية الزمانيّة ، بمعنى أنّ ما جعله

__________________

(١) في بحث الدليل العقلي ، تحت عنوان : إمكان النسخ وتصويره.

٣٣١

الشارع هل هو شامل لجميع الأزمنة أم هو مختصّ ببعضها فقط ، فيكون الجعل متعلّقا بالحكم المقيّد بهذا الزمان دون ذاك؟

وحيث إنّ الزمان الذي قيّد به قد انتهى فيشكّ في بقاء الحكم وارتفاعه ؛ لأنّه لو كان مقيّدا لارتفع الآن ، وإن لم يكن مقيّدا فهو باق ومستمر.

فإذا كان الشك من النحو الأوّل فلا شكّ في إمكان إجراء الاستصحاب ؛ لتماميّة أركانه ، غير أنّ هنا شبهة قد تمنع عن جريانه على أساس أن ترتّب المجعول على الجعل ليس شرعيّا بل عقليّا ، فإثباته باستصحاب الجعل غير ممكن.

أمّا النحو الأوّل : بأن كان الشكّ في النسخ بلحاظ عالم الجعل مرجعه إلى احتمال إلغاء المولى لهذا الجعل ، فهنا لا إشكال في جريان استصحاب عدم النسخ ؛ لتماميّة أركان الاستصحاب حيث يعلم يقينا بثبوت الحكم ويشكّ في بقائه.

وهنا شبهة وهي أنّ استصحاب عدم النسخ بلحاظ عالم الجعل إن أريد به إثبات بقاء الجعل فقط فهذا لا أثر له ؛ لأنّ الحكم بلحاظ عالم الجعل ليس فعليّا ، وما يدخل في العهدة هو الحكم المجعول الفعلي.

وإن أريد به إثبات الحكم المجعول الفعلي فهذا وإن كان ممكنا ولكنّه لا يتمّ إلا على أساس الملازمة العقليّة بين بقاء الجعل وبقاء الحكم الفعلي بعد ثبوت الموضوع وقيوده ، وهذا يجعله من الأصل المثبت.

والحاصل : أنّ إثبات الجعل فقط لا يفيد ؛ لأنّه ليس منجّزا ؛ لأنّ المنجّزيّة من شئون الحكم الفعلي ، وإثبات المجعول وفعليّته باستصحاب الجعل تثبت على أساس الملازمة العقليّة لا الشرعيّة.

والجواب : أنّا لسنا بحاجة إلى إثبات شيء وراء الجعل في مقام التنجيز ؛ لما تقدّم من كفاية وصول الكبرى والصغرى ، وعليه فالاستصحاب يجري خلافا للأصل اللفظي بمعنى إطلاق الدليل ، فإنّه لا يمكن التمسّك به لنفي النسخ بهذا المعنى.

والجواب عن هذه الشبهة : أنّ المنجّزيّة لا تحتاج إلى إثبات المجعول الفعلي ، إذ لا يوجد شيء حقيقي وراء الجعل ، وإنّما المجعول أمر وهمي اعتباري ، ولذلك فيكفي في المنجّزيّة وصول الكبرى أي الجعل والصغرى أي الموضوع.

٣٣٢

ولذلك ففي مقامنا يجري الاستصحاب لإثبات الكبرى وعدم النسخ ، والمفروض أنّ الصغرى واصلة للمكلّف وجدانا فتتحقّق المنجّزيّة بذلك ، وهذا ليس على أساس الملازمة العقليّة ، بل من باب تحقّق موضوع المنجّزيّة بجزأيها ، غاية الأمر أنّ الصغرى ثابتة وجدانا والكبرى تعبّدا.

ولا يمكننا أن نتمسّك بإطلاق الدليل الدالّ على الحكم لإثبات بقاء الحكم وعدم نسخه في عالم الجعل ؛ لأنّنا لم نفرض احتمال كون الحكم مقيّدا بزمان أو نحوه من القيود ، وإنّما فرضنا احتمال رفع الشارع يده عن الحكم بعد أن جعله مطلقا وشاملا لكلّ الأزمنة ، فالإطلاق إنّما يصحّ التمسّك به فيما إذا كان أصل الحكم ثابتا وشكّ في وجود قيد فيه ، وهنا الشكّ في أصل ثبوت الحكم وبقائه لا في قيد زائد لينفى بالإطلاق.

وإذا كان الشكّ من النحو الثاني فلا شكّ في إمكان التمسّك بإطلاق الدليل لنفيه ، ولكنّ جريان الاستصحاب موضع بحث ، وذلك لإمكان دعوى أنّ المتيقّن ثبوت الحكم على المكلّفين في الزمان الأوّل ، والمشكوك ثبوته على أفراد آخرين ، وهم المكلّفون الذين يعيشون في الزمان الثاني ، فمعروض الحكم متعدّد إلا بالنسبة لشخص عاش كلا الزمانين بشخصه.

وأمّا النحو الثاني : بأن كان الشكّ في سعة المجعول وضيقه ، وهذا مرجعه إلى احتمال كون الجعل متعلّقا بالحكم المقيّد بزمان قد انتهى أمده ، فهنا لا إشكال في إمكان التمسّك بإطلاق الدليل لنفي هذا القيد وإثبات الإطلاق ، بأن يقال : إنّ الجعل مفاده مطلق ، فلو كان مقيّدا بزمان لكان اللازم نصب قرينة على ذلك ، فمع عدم وجودها تنفى بالإطلاق ومقدّمات الحكمة.

والوجه في صحّة هذا الإطلاق : أنّ الشكّ هنا في مفاد الدليل لا في أصل ثبوته ، أي أنّه بعد الفراغ عن ثبوت الدليل وعدم رفع اليد عنه يشكّ في مفاده سعة وضيقا من حيث الزمان ، فيتمسّك بالإطلاق لإثبات العموم والشمول لجميع الأزمنة وعدم اختصاصه بزمان دون آخر ؛ لأنّ ذلك يحتاج إلى مئونة زائدة ، وهي غير موجودة في المقام.

وأمّا الاستصحاب أي استصحاب بقاء الجعل إلى الزمان المشكوك فقد استشكل

٣٣٣

فيه الشيخ الأنصاري بدعوى : أنّ أركان الاستصحاب غير تامّة فيه ؛ لأنّ المتيقّن هو ثبوت الحكم على الأشخاص الموجودين في الزمان الأوّل والمشكوك هو ثبوت الحكم على الأشخاص الموجودين في الزمان الثاني ، فالموضوع متعدّد ؛ لأنّ المعروض مختلف ، ومع تعدّد المعروض والموضوع لا يحرز كون الشك متعلّقا بنفس ما تعلّق به اليقين ، فلا يجري الاستصحاب.

نعم ، يجري الاستصحاب بلحاظ الأشخاص الذين عاشوا الزمانين ؛ لأنّ الحكم كان متيقّن الثبوت بالنسبة لهم ، ثمّ يشكّون في بقائه فيستصحب.

وعلاج ذلك : أنّ الحكم المشكوك في نسخه ليس مجعولا على نحو القضيّة الخارجيّة التي تنصبّ على الأفراد المحقّقة خارجا مباشرة ، بل على نحو القضيّة الحقيقيّة التي ينصبّ فيها الحكم على الموضوع الكلّي المقدّر الوجود ، وفي هذه الحالة لا فارق بين القضيّة المتيقّنة والقضيّة المشكوكة موضوعا إلا من ناحية الزمان وتأخّر الموضوع للقضيّة المشكوكة زمانا عن الموضوع للقضيّة المتيقّنة ، وهذا يكفي لانتزاع عنواني الحدوث والبقاء عرفا على نحو يعتبر الشكّ المفروض شكّا في بقاء ما كان فيجري الاستصحاب.

وعلاج هذه الشبهة أن يقال : إنّ الملحوظ في عالم الجعل لو كان الأشخاص والأفراد الموجودين في الخارج فعلا لكان لهذا التوهّم مجالا ، حيث يكون الزمان المتيقّن ثبوت الحكم فيه هو الأشخاص المغايرين للأشخاص الذين يشكّ في ثبوت الحكم بحقّهم ، إلا أنّ الصحيح هو أنّ الحكم يجعل في عالم التشريع على نهج القضيّة الحقيقية لا القضيّة الخارجيّة.

وهذا يعني ملاحظة الموضوع مقدّر ومفترض الوجود ، وهو طبيعي الإنسان المكلّف لا خصوص الأشخاص الذين يعيشون في زمان الجعل والتشريع أو غيرهم.

وعلى هذا فالحكم مجعول على موضوعه المقدّر الوجود والذي يكون مقدّر الوجود في جميع الأزمنة والأمكنة ، ولذلك يرى للقضيّة حدوث وبقاء بهذا اللحاظ ؛ لأنّ موضوعهما واحد ومعروضهما واحد ، وهو طبيعي المكلّف ، غاية الأمر كان يعلم بثبوت هذا الجعل والحكم في زمان ثمّ يشكّ في بقائه في زمان آخر ، فالاختلاف بلحاظ الزمان تقدّما وتأخّرا لا بلحاظ الموضوع والمعروض.

٣٣٤

وهذا المقدار من انحفاظ الموضوع يكفي لأن ينتزع عنواني الحدوث والبقاء عرفا ، فيقال : هذا الحكم والجعل كان معلوما حدوثه وثبوته على طبيعي المكلّف في ذاك الزمان ؛ والآن يشكّ في بقائه على طبيعي المكلّف في الزمان اللاحق ، فيستصحب ؛ لأنّ الشكّ المفروض يعتبر شكّا في بقاء الحكم الذي كان متيقّنا ثبوته سابقا.

والاستصحاب على هذا الضوء استصحاب تنجيزي مفاده التعبّد ببقاء المجعول الكلّي الملحوظ بما هو صفة لطبيعي المكلّف.

وهذا الاستصحاب استصحاب تنجيزي ؛ لأنّه يثبت لنا الحكم المجعول الكلّي بقاء بحقّ طبيعي المكلّف المقدّر الوجود ، فلا إشكال في جريانه.

وبالإمكان التعويض عنه باستصحاب الحكم المعلّق ، بأن يشار إلى الفرد المكلّف المتأخّر زمانا ويقال : إنّ هذا كان حكمه كذا على تقدير وجوده ولا يزال كما كان ، وبذلك يتمّ التخلّص عن مشكلة تعدّد معروض الحكم.

وهناك علاج آخر : وهو أن نجري الاستصحاب التعليقي حيث إنّ أركانه تامّة ، فيقال : إنّ هذا الشخص الموجود في الزمان اللاحق لو كان موجودا في الزمان السابق لكان الحكم شاملا له وثابتا بحقّه ، والآن حيث إنّه موجود فعلا في الزمان اللاحق فنشكّ في بقاء تلك القضيّة الشرطيّة والحكم التعليقي بالنسبة له فيجري استصحابها ، حيث إنّها كانت متيقّنة الحدوث في الزمان اللاحق لكلّ شخص وجد فيه فعلا أو تقديرا ومشكوكة البقاء في الزمان اللاحق فتستصحب ، فيثبت الحكم المعلّق بشأنه ويصبح منجّزا عند تحقّق الصغرى وجدانا.

وبتعبير آخر : يمكننا أن نشير إلى الفرد المكلّف الموجود في الزمان اللاحق ونقول : إنّ هذا الفرد لو كان موجودا في الزمان السابق فالحكم ثابت بحقّه ، والآن بما أنّ هذا الفرد موجود فعلا في الزمان المتأخّر فيشكّ في بقاء ذلك الحكم المعلّق بشأنه فيجري استصحابه ؛ لأنّ هذا الحكم المعلّق كان معلوم الحدوث سابقا على فرض وجود هذا الشخص سابقا ، ومشكوك البقاء بعد الالتفات إلى وجود ذاك الشخص فعلا ، فالمعروض واحد وهو ذاك الفرد المكلّف ، ولكن يشكّ في الحكم بحقّه نتيجة الاختلال في الزمان بين الحدوث والبقاء.

٣٣٥

وهذا العلاج لا يرد عليه الإشكال المتقدّم من تعدّد المعروض في الخارج ؛ لأنّ المعروض في هذا الاستصحاب هو الفرد الخارجي وهو واحد.

ولكن توجد مشكلة أخرى يواجهها الاستصحاب في المقام ، سواء أجري بصيغته التنجيزيّة أو التعليقيّة ، وهي : أنّه معارض باستصحاب العدم المنجّز الثابت لآحاد المكلّفين الذين يعيشون في الزمان المحتمل وقوع النسخ فيه ، وهذا يشبه الاعتراض على الاستصحاب التعليقي عموما بمعارضته بالاستصحاب التنجيزي.

ثمّ إنّ استصحاب عدم النسخ بكلتا صيغتيه أي الاستصحاب التنجيزي أو الاستصحاب التعليقي يواجه مشكلة تقدّمت ، وهي أنّه معارض باستصحاب عدم التكليف الثابت لكلّ فرد فرد ولو في فترة ما قبل البلوغ ، وهذا الاستصحاب منجّز ؛ لأنّه يثبت عدم التكليف فعلا لا تعليقا ، حيث إنّ هذا الشخص لم يكن مكلّفا قبل البلوغ فعلا أو قبل تحقّق قيود التكليف في الخارج.

والآن حيث يشكّ في النسخ بعد صيرورته مكلّفا ، أو بعد تحقّق قيود التكليف سوف يشكّ في ارتفاع عدم التكليف وتبدّله إلى التكليف فيستصحب ذلك العدم ، وهذا الاستصحاب يتعارض مع استصحاب عدم النسخ الذي يثبت التكليف.

والجواب ما تقدّم سابقا عند الحديث عن الاعتراض الثالث على الاستصحاب التعليقي ، فإنّ هذا الاعتراض شبيه بذاك.

* * *

٣٣٦

استصحاب الكلّي

٣٣٧
٣٣٨

٣ ـ استصحاب الكلّي

استصحاب الكلّي هو التعبّد ببقاء الجامع بين فردين من الحكم أو الجامع بين شيئين خارجيّين إذا كان له أثر شرعي ، والكلام فيه يقع في جهتين :

الجهة الأولى : في أصل إجراء استصحاب الكلّي ، إذ قد يعترض على ذلك في باب الأحكام تارة وفي باب الموضوعات أخرى.

المقصود من استصحاب الكلّي هو التعبّد ببقاء الجامع فيما إذا كان لهذا الجامع على إجماله أثر شرعي تنجيزي أو تعذيري ، سواء كان هذا الجامع بين حكمين أم بين موضوعين.

أمّا الجامع بين الحكمين فمثاله أن يعلم بوجوب الظهر أو الجمعة يوم الجمعة ، فالجامع بينهما هو كلّي الوجوب.

وأمّا الجامع بين الموضوعين فمثاله أن يعلم بوجوب إكرام إمّا خالد وإمّا زيد ، فإنّه يعلم بالجامع بينهما وهو كلّي الإنسان.

ومن الجامع بين الموضوعين أيضا ما إذا علم بخروج البول أو المني ، فإنّه يعلم بكلّي الحدث.

ومن الجامع بين الحكمين أيضا موارد الأقلّ والأكثر ، كوجوب العتق بنفسه أو وجوبه مخيّرا بينه وبين الإطعام أو الصيام.

والبحث هنا يقع في جهتين :

الجهة الأولى : في أصل جريان مثل هذا الاستصحاب ، بمعنى أنّه قد يمنع من جريان الاستصحاب في نفسه بدعوى عدم تماميّة أركانه من ناحية الشكّ في البقاء أو من ناحية عدم وجود الأثر.

وتفصيل الكلام في ذلك : أنّه تارة يستشكل في جريان الاستصحاب بالنسبة

٣٣٩

للجامع بين الحكمين ، وأخرى بالنسبة للجامع بين الموضوعين ، فالكلام في الجهة الأولى يقع في مقامين :

أمّا في باب الأحكام فالاعتراض ينشأ من المبنى القائل بأنّ المجعول في دليل الاستصحاب هو الحكم المماثل للمستصحب ، فيقال حينئذ : إنّ المستصحب إذا كان هو الجامع بين الوجوب والاستحباب أو بين وجوبين اقتضى ذلك جعل المماثل له بدليل الاستصحاب ، وهو باطل ؛ لأنّ الجامع بحدّه لا يعقل جعله ؛ إذ يستحيل وجود الجامع إلا في ضمن فرده ، والجامع في ضمن أحد فرديه بالخصوص ليس محطّا للاستصحاب ليكون مصبّا للتعبّد الاستصحابي.

المقام الأوّل : في بيان الإشكال على جريان استصحاب الكلّي بين الحكمين ، فإذا علم بوجوب الجمعة أو الظهر أو علم بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال أو استحبابه ، فالجامع على الأوّل هو كلّي الوجوب وعلى الثاني هو كلّي الطلب أو الإرادة أو المحبوبيّة.

وعليه فإذا بنينا على أنّ المجعول في دليل الاستصحاب هو الحكم المماثل للمستصحب ـ والذي هو أحد المسالك في تفسير حقيقة الحكم الظاهري ـ كان المفاد بدليل التعبّد الاستصحابي هو جعل المماثل لهذا الجامع ظاهرا ، وهذا باطل.

والوجه في بطلانه هو أنّه :

إن أريد من جعل المماثل إثبات بقاء الجامع بحدّه الجامعي أي بعنوانه الخاصّ من دون النظر إلى وجوده ضمن الأفراد فهذا مستحيل ؛ لأنّ الجامع لا يوجد أصلا مستقلاّ عن الفرد فكيف يبقى بدونه؟!

وإن أريد منه إثبات بقائه ضمن أحد فرديه فهو معقول ، إلا أنّه لا يثبت بالتعبّد الاستصحابي ؛ لعدم تماميّة أركان الاستصحاب ، إذ لا علم بحدوث هذا الفرد بخصوصه ولا ذاك ، فكيف يجري استصحاب بقاء الجامع ضمن الفرد؟

والحاصل : أنّ إثبات بقاء الجامع مستقلاّ عن الفرد مستحيل ؛ لأنّ الجامع يستحيل وجوده من دون الفرد.

وإثبات بقاء الجامع ضمن الفرد وإن كان معقولا ، إلا أنّه لا يقين بوجود الفرد بخصوصه فلا يجري الاستصحاب ؛ لعدم تماميّة أركانه.

٣٤٠