شرح الحلقة الثّالثة

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٣

والاستصحاب نفسه ثابت بدليل محرز وهو الأخبار المتقدّمة الدالّة عليه ، وحيث إنّ الأخبار من جملة الأمارات ، وحيث إنّ الأمارات لوازمها حجّة سواء الشرعيّة أو العقليّة ، فما يثبت بالأمارة هو الأعمّ من المدلول المطابقي والمدلول الالتزامي ، والمدلول المطابقي للأخبار هو الاستصحاب ، والمدلول الالتزامي لها هو حجّيّته ومنجّزيّته فتكون المنجّزيّة ثابتة بالدليل المحرز أي الأمارة.

وكذا يمكن تصوير ثبوت اللازم العقلي فيما إذا كان مترتّبا على نفس الحجّيّة أي المنجّزية والمعذّريّة كوجوب الإطاعة وحرمة المعصية أي لزوم الامتثال وحرمة العصيان ، فإنّهما لازمان عقليّان مترتّبان على نفس المنجّزيّة والمفروض أنّ المنجّزيّة ثابتة للاستصحاب يقينا ؛ لأنّها ثابتة بالدليل المحرز فهي مقطوعة وجدانا ، واللازم العقلي لا إشكال في ثبوته عند القطع الوجداني.

هذا كلّه على تقدير عدم ثبوت أماريّة الاستصحاب كما هو الصحيح على ما عرفت.

وأمّا لو قيل بأماريّته واستظهرنا من دليل الاستصحاب أنّ اعتبار الحالة السابقة بلحاظ الكاشفيّة ، كان حجّة في إثبات اللوازم العقليّة للمستصحب وأحكامها أيضا ، وفقا للقانون العامّ في الأمارات على ما تقدّم سابقا (١).

ثمّ إن ما تقدّم من عدم حجّيّة اللوازم العقليّة المترتّبة على المستصحب إنّما يأتي على القول بأنّ الاستصحاب أصل عملي تنزيلي ومحرز.

وأمّا على القول بأماريّة الاستصحاب لوجود الحيثيّة الكاشفة فيه فيكون من جملة الأمارات التي تكون لوازمها الشرعيّة والعقليّة حجّة كما تقدّم في الجزء السابق ، حيث تقدّم أنّ مثبتات الأمارة حجّة بينما مثبتات الأصول ليست حجّة.

والوجه في ذلك : ما تقدّم من أنّ المجعول في الأمارات هو العلميّة والطريقيّة وتتميم الكشف بناء على تصوّرات المشهور ، بينما المجعول فيها قوّة الاحتمال الكاشف التي نسبتها إلى المدلول المطابقي والمدلول الالتزامي على حدّ واحد على ما اخترناه هناك.

__________________

(١) عند عرض المبادئ العامّة لبحث الأدلّة المحرزة في الجزء الأوّل من الحلقة الثالثة ، تحت عنوان : مقدار ما يثبت بدليل الحجّيّة.

٢٨١

إلا أنّ أحدا لم يقل بأنّ الاستصحاب أمارة سوى السيّد الخوئي ، ولكنّه رغم ذلك لم يذهب إلى حجّيّة مثبتات الأمارات كما تقدّم عنه سابقا ، فالنتيجة العمليّة واحدة حينئذ سواء كان أصلا أم لا.

وبهذا ينتهي الكلام عن الأصل المثبت واللوازم الشرعيّة والعقليّة.

* * *

٢٨٢

عموم

جريان الاستصحاب

٢٨٣
٢٨٤

عموم جريان الاستصحاب

بعد ثبوت كبرى الاستصحاب وقع البحث بين المحقّقين في إطلاقها لبعض الحالات ، ومن هنا نشأ التفصيل في القول به ، ولعلّ أهمّ التفصيلات المعروفة قولان :

بعد الفراغ عن استفادة كبرى الاستصحاب من الروايات المتقدّمة ، وقع الكلام بينهم في أنّ هذه القاعدة هل هي عامّة وشاملة لكلّ الموارد التي يوجد فيها يقين وشكّ أم أنّها مختصّة ببعض تلك الموارد؟

ومن هنا وجدت عدّة تفصيلات :

منها : ما تقدّم من اختصاص الاستصحاب في الشبهات الحكميّة فقط ، فلا يجري في الشبهات الموضوعيّة.

ومنها : عكس السابق ، أي اختصاصه بالشبهات الموضوعيّة دون الحكميّة.

ومنها : جريانه في الشبهات الحكميّة الثابتة بدليل الشرع دون الشبهات الحكميّة الثابتة بدليل العقل.

ومنها : جريانه في موارد الشكّ في الرافع دون الشكّ في المقتضي.

وهناك تفصيلات تفريعيّة مرجعها إلى أحد هذه التفصيلات ، وسوف نتحدّث عن اثنين من هذه التفصيلات فقط :

أحدهما : ما ذهب إليه الشيخ الأنصاري (١) من التفصيل بين موارد الشكّ في المقتضي والشكّ في الرافع. والالتزام بجريان الاستصحاب في الثاني دون الأوّل.

ومدرك المنع من جريانه في الأوّل أحد وجهين :

التفصيل الأوّل : ما ذهب إليه الميرزا تبعا للشيخ الأنصاري الذي قال : إنّ أوّل من

__________________

(١) فرائد الأصول ٣ : ٥١.

٢٨٥

التفت إلى هذا التفصيل هو المحقّق الخوانساري ، ولعلّ المحقّق الحلّي سبقهم إلى ذلك في ( المعارج ) ، وعلى كلّ حال فالتفصيل يتّجه إلى أنّ الاستصحاب لا يجري إذا كان الشكّ في المقتضي. وأمّا إذا كان الشكّ في الرافع فيجري الاستصحاب.

فهنا دعويان إحداهما إيجابيّة وهي جريان الاستصحاب في موارد الشكّ في الرافع ، وهي صحيحة لا كلام فيها.

والأخرى سلبيّة وهي عدم جريان الاستصحاب في موارد الشكّ في المقتضي ، وهي غير مقبولة عندنا.

وقبل الدخول في الاستدلال على هذه الدعوى والنقاش فيها لا بدّ من تعيين المراد من المقتضي والرافع.

فالمقتضي يراد به ألاّ يكون الشيء له قابليّة واستعداد للاستمرار والامتداد في عمود الزمان ، فيشكّ في بقائه من جهة الشكّ في انتهاء استعداده وقابليّته للاستمرار ، ككبير السنّ الذي يشكّ في بقائه حيّا ، فإنّ منشأ الشكّ هو أنّ كبر السنّ لا يوجب استمرار الحياة وامتدادها ، وكخيار الغبن الذي يشكّ في بقائه من جهة انتهاء زمانه حيث يشكّ أنّه هل له القابليّة والاستعداد للاستمرار والامتداد أم لا؟

وأمّا الرافع فهو أن يكون الشيء له قابليّة واستعداد للاستمرار في عمود الزمان ، وإنّما ينشأ الشكّ في بقائه نتيجة الشكّ في طروّ المانع والمزيل والرافع لهذا الاستمرار والاستعداد ، كالشاب الفتى ، الذي يشكّ في بقائه حيّا من جهة وجود مانع من استمرار الحياة كالقتل أو الغرق ونحو ذلك ، وكالطهارة أو النجاسة التي تستمرّ إلى وجود الرافع والمزيل.

وأمّا مدرك هذا التفصيل فيمكن أن يستدلّ عليه بوجهين كلاهما غير تامّ :

الأوّل : أن يدّعى بأنّ دليل الاستصحاب ليس فيه إطلاق لفظي ، وإنّما ألغيت خصوصيّة المورد في قوله : « ولا ينقض اليقين أبدا بالشكّ » بقرينة الارتكاز العرفي وكون الكبرى مسوقة مساق التعليل الظاهر في الإشارة إلى قاعدة عرفيّة مركوزة ، وليست هي إلا كبرى الاستصحاب ، ولمّا كان المرتكز عرفا من الاستصحاب لا يشمل موارد الشكّ في المقتضي ، فالتعميم الحاصل في الدليل بضمّ هذا الارتكاز لا يقتضي إطلاقا أوسع من موارد الشكّ في الرافع.

٢٨٦

الوجه الأوّل : أن يقال : إنّ روايات الاستصحاب ليس فيها إطلاق لفظي ، لكي يتمسّك بهذا الإطلاق في كلّ الموارد حتّى موارد الشكّ في المقتضي ، بل روايات الاستصحاب واردة في موارد خاصّة ، وهي موارد الشكّ في الرافع ؛ لأنّ بعضها كان في الشكّ في حصول النوم الرافع للطهارة وبعضها كان في الشكّ في طروّ النجاسة على الثوب الطاهر.

إلا أنّنا ألغينا خصوصيّة الطهارة الحدثيّة أو الخبثيّة وعمّمنا الاستصحاب كقاعدة كلّيّة عامّة تجري في كلّ الموارد ، إلا أنّ هذه الموارد ليست هي إلا موارد الشكّ في الرافع فقط دون المقتضي ؛ وذلك لأنّ التعميم كان مستندا على أساس كون كبرى الاستصحاب ظاهرة في التعليل بأمر مركوز عند العرف والعقلاء ؛ لأنّها مسوقة مساق بيان العلّة والسبب للحكم بالبقاء.

والوجه في كونها عرفيّة مركوزة هو التعبير بـ ( لا ينبغي ) أو ( لا ينقض اليقين أبدا بالشكّ ) فإنّ الأولى قرينة على أنّ العرف والعقلاء لا يفعلون ذلك ، والثانية فيها ذكر لفظي للتأبيد الذي يفيد العموم.

وحينئذ لا بدّ من ملاحظة ما هو المركوز عند العقلاء لنرى مدى سعة هذا التعميم؟

ومن الواضح أنّ العرف والعقلاء إنّما يجرون الاستصحاب في موارد الشكّ في الرافع فقط دون المقتضي ؛ لأنّهم إنّما يحكمون ببقاء الشيء عند ما يشكّون في بقائه بعد علمهم باستعداده وقابليّته للبقاء.

والحاصل : أنّه لا يوجد إطلاق لفظي ليتمسّك به ، والإطلاق والتعميم وإلغاء خصوصيّة المورد يفيد أنّه يجري في سائر الموارد التي هي من هذا القبيل ، أو التي ارتكز عند العرف جريان الاستصحاب فيها ، وليست هي إلا موارد الشكّ في الرافع.

وهذا البيان يتوقّف ـ كما ترى ـ على عدم استظهار الإطلاق اللفظي في نفسه ، وظهور ( اللام ) في كلمتي ( اليقين ) و( الشكّ ) في الجنس.

والجواب عن هذا البيان : أنّه متوقّف على أمرين :

الأوّل : عدم استظهار الإطلاق اللفظي من أدلّة الاستصحاب ، إذ لو استظهر الإطلاق اللفظي لأمكن التمسّك به ؛ لتعميم القاعدة لكلّ الموارد سواء الشكّ في المقتضي أم الرافع.

٢٨٧

الثاني : عدم ظهور ( اللام ) في كلمتي ( اليقين والشكّ ) في الجنس ، إذ لو كانت ظاهرة في الجنس لأمكن التمسّك بهذا الظهور لاستفادة التعميم ، فكلّ يقين لا ينقض بكلّ شكّ.

وكلا هذين الأمرين غير تامّ.

أمّا الأوّل ، فلأنّ بعض أدلّة الاستصحاب يمكن أن يستفاد منها الإطلاق اللفظي كما في رواية إسحاق بن عمّار عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : « إذا شككت فابن على اليقين » ، قلت : هذا أصل؟ قال : « نعم ».

فهذه ظاهرة في الإطلاق اللفظي ، حيث لم يكن هناك مورد خاصّ فيها ، بل كانت ابتداء من الإمام عليه‌السلام.

وأمّا الثاني ، فلأنّ الروايات التي كان لها مورد خاصّ ، قد استفدنا منها التعميم والإطلاق من خلال استظهار أنّ ( اللام ) في كلمتي ( اليقين والشكّ ) ، وأنّها ( لام ) الجنس لا ( لام ) العهد ، والدليل على هذا الاستظهار هو نفس كون هذه الكبرى مركوزة في الذهن العرفي ، فإنّ هذا الارتكاز يلغي خصوصيّة المورد ، وبالتالي يتعيّن كون ( اللام ) للجنس فيهما ، فيتمسّك بالعموم الذي تدلّ عليه هذه ( اللام ) الشامل لموارد الشكّ في المقتضي والشكّ في الرافع.

الثاني : أن يسلّم بالإطلاق اللفظي في نفسه ، ولكن يدّعى وجود قرينة متّصلة على تقييده ، وهي كلمة ( النقض ) حيث إنّها لا تصدق في موارد الشكّ في المقتضي.

الوجه الثاني : أنّنا لو سلّمنا بوجود الإطلاق اللفظي ، إلا أنّه يوجد أيضا قرينة لفظيّة متّصلة بهذا الإطلاق ، والقرينة المتّصلة تمنع من أصل انعقاد ظهور الكلام في الإطلاق ، بل ينعقد الظهور على وفق هذه القرينة المتّصلة ، وهذه القرينة توجب تقييد الإطلاق بموارد الشكّ في الرافع دون المقتضي.

والقرينة هي كلمة ( النقض ) ، فإنّ النقض يحمل على الشيء الذي له صفة إحكام واستقرار ، وهذا يفترض كون الشيء المنقوض مستحكما في نفسه ، وهذا معناه كون الشيء له القابليّة والاستعداد في نفسه لو لا الرافع والمانع. إذ في موارد الشكّ في المقتضي لا يوجد مثل هذا الاستحكام والاستعداد ؛ لأنّه يشكّ في أصل ذلك.

٢٨٨

وقد تقدّم تحقيق الكلام في ذلك في الحلقة السابقة (١) ، واتّضح أنّ كلمة ( النقض ) لا تصلح للتقييد.

والجواب : أنّ كلمة ( النقض ) وإن كان معناها يفترض الاستحكام والإبرام إلا أنّها مسندة إلى اليقين نفسه لا إلى المتيقّن ، ومن الواضح أنّ اليقين فيه استحكام ؛ لأنّه التصديق وإذعان النفس واستقرارها ، فلا تكون هذه الكلمة دالّة على التقييد إلا إذا استظهر كونها مسندة إلى المتيقّن ، وهذا غير تامّ كما تقدّم سابقا.

والقول الآخر : ما ذهب إليه السيّد الأستاذ (٢) من عدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة واختصاصه بالشبهات الموضوعيّة ، وذلك ـ بعد الاعتراف بإطلاق دليل الاستصحاب في نفسه لكلا القسمين من الشبهات ـ بدعوى أنّ عدم جريان الاستصحاب في الشبهة الحكميّة ينشأ من التعارض بين استصحاب المجعول واستصحاب عدم الجعل.

التفصيل الثاني : ما ذكره المحقّق النراقي وطوّره السيّد الخوئي رحمه‌الله ، وحاصله : أنّ دليل الاستصحاب شامل في نفسه لكلا القسمين تمسّكا بالإطلاق ، فيشمل الشبهات الموضوعيّة والشبهات الحكميّة.

أمّا الشبهات الموضوعيّة فيجري فيها استصحاب الموضوع واستصحاب الحكم الجزئي المترتّب على هذا الموضوع ، فإذا كان لدينا طعام طاهر ثمّ شككنا في بقاء طهارته جرى استصحاب طهارته وجرى استصحاب جواز أكله ؛ لأنّه متيقّن أيضا.

وأمّا في الشبهات الحكميّة الكلّيّة كوجوب صلاة الجمعة حال الغيبة ، أو طهارة الماء المتغيّر الذي زال عنه التغيّر من نفسه ، فهنا لا يجري الاستصحاب ؛ لأنّه مبتلى بالمعارض ، أو أنّ الاستصحاب يجري لكنّه يسقط بالمعارضة.

وهذا مختصّ في الحكم الإلزامي لا الترخيصي ، فإنّ استصحاب الحكم الترخيصي لا معارض له فيجري ؛ لأنّه في الحكم الإلزامي إذا أجري استصحاب بقاء الحكم المجعول فيعارضه استصحاب عدم الجعل ، بينما في الحكم الترخيصي إذا أجري استصحاب عدم المجعول فلا يكون استصحاب عدم الجعل معارضا له بل مؤيّدا.

__________________

(١) في بحث الاستصحاب ، تحت عنوان : عموم جريان الاستصحاب.

(٢) مصباح الأصول ٣ : ٣٦.

٢٨٩

وتوضيح ذلك : أنّ الحكم الشرعي ـ كما تقدّم في محلّه (١) ـ ينحلّ إلى جعل ومجعول ، والشكّ فيه تارة يكون مصبّه الجعل وأخرى يكون مصبّه المجعول.

فالنحو الأوّل من الشكّ يعني أنّ الجعل قد تعلّق بحكم محدّد واضح بكلّ ما له دخل فيه من الخصوصيّات ، غير أنّ المكلّف يشكّ في بقاء نفس الجعل ويحتمل أنّ المولى ألغاه ورفع يده عنه ، وهذا هو النسخ بالمعنى الحقيقي في عالم الجعل.

توضيح التفصيل المذكور : أنّ الحكم الشرعي ينحلّ إلى الحكم بلحاظ عالم الجعل ، وإلى الحكم بلحاظ عالم المجعول.

أمّا الحكم بلحاظ عالم الجعل فهو عبارة عن الحكم الإنشائي والاعتبار المولوي وتشريع الحكم على المكلّف.

وأمّا الحكم بلحاظ عالم المجعول فهو عبارة عن الحكم الفعلي الذي يكون محرّكا وباعثا للمكلّف ، فإنّ الحكم إنّما يصير فعليّا فيما إذا تحقّقت قيوده وشروطه وموضوعه وقيوده في الخارج.

وحينئذ نقول : إنّ الشكّ في الحكم الشرعي تارة يكون بلحاظ عالم الجعل وأخرى بلحاظ عالم المجعول.

أمّا الشكّ في الحكم بلحاظ عالم الجعل فهو يكون بأصل تشريع الحكم ، أي أنّ المولى هل شرّع هذا الحكم أم لا؟ كالشكّ في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، فإنّ الموضوع محدّد ومعروف بكلّ خصوصيّاته ، وكذا الحكم لا شكّ في قيوده وشروطه وإنّما يشكّ في أصل جعله على المكلّف.

ويتصوّر أيضا في الموارد التي يعلم فيها بأصل الجعل والتشريع ، أي أنّ المكلّف يعلم بأنّ الشارع قد جعل هذا الحكم بكلّ ما له من خصوصيّات على موضوعه المحدّد من جميع الحيثيّات ، ولكنّه يشكّ في الحكم من جهة احتمال أن يكون الشارع قد ألغاه ورفع اليد عنه ، وهذا يسمّى بالشكّ في النسخ بمعناه الحقيقي.

والنحو الثاني من الشكّ يعني أنّ الجعل ثابت ولا يحتمل نسخه ، غير أنّ الشكّ في مجعوله والحكم المنشأ به ، فلا يعلم مثلا هل أنّ المولى جعل النجاسة على الماء المتغيّر حتّى إذا زال تغيّره من قبل نفسه ، أو جعل النجاسة منوطة بفترة التغيّر

__________________

(١) بحث الدليل العقلي من الحلقة الثانية ، تحت عنوان : قاعدة إمكان التكليف المشروط.

٢٩٠

الفعلي؟ فالمجعول مردّد بين فترة طويلة وفترة قصيرة ، وكلّما كان المجعول مردّدا كذلك كان الجعل مردّدا لا محالة بين الأقلّ والأكثر ؛ لأنّ جعل النجاسة للفترة القصيرة معلوم وجعل النجاسة للفترة الإضافيّة مشكوك.

وأمّا الشكّ في الحكم بلحاظ عالم المجعول فمعناه أنّ الحكم بلحاظ عالم الجعل معلوم وثابت ولا يشكّ في إلغائه ونسخه ، وإنّما يشكّ في حدود المجعول والمنشأ به أي المقدار الذي جعله الشارع وأنشأه.

فمثلا يعلم المكلّف بأنّ الشارع قد جعل الحكم بالنجاسة على الماء المتغيّر ، ولكنّه لا يدري حدود هذا الجعل والمقدار المنشأ شرعا ، فهل هذا الجعل يشمل الماء المتغيّر حتّى بعد زوال التغيّر من نفسه ، أو أنّه يختصّ بحال التغيّر فعلا؟ وهذا الشكّ والترديد ليس في أصل الجعل والحكم بالنجاسة ، وإنّما هو بلحاظ مقدار المجعول سعة وضيقا.

فالمجعول مردّد بين الفترة الطويلة التي هي الحكم بالنجاسة إلى ما بعد التغيّر أيضا ، وبين الفترة القصيرة وهي الحكم بالنجاسة في فترة التغيّر الفعلي ، فقط ، وهذا معناه أنّ المجعول مردّد بين الأقلّ والأكثر ؛ لأنّ جعل النجاسة في الفترة القصيرة معلوم ، ويشكّ في المقدار الزائد وهي فترة زوال التغيّر من قبل نفسه.

ففي النحو الأوّل من الشكّ ـ إذا كان ممكنا ـ يجري استصحاب بقاء الجعل.

وأمّا في النحو الثاني من الشكّ فيوجد استصحابان متعارضان :

أحدهما : استصحاب بقاء المجعول أي بقاء النجاسة في الماء بعد زوال التغيّر مثلا ؛ لأنّها معلومة حدوثا ومشكوكة بقاء.

والآخر : استصحاب عدم جعل الزائد أي عدم جعل نجاسة الفترة الإضافيّة مثلا ، لما أوضحناه من أنّ تردّد المجعول يساوق الشكّ في الجعل الزائد.

وهذان الاستصحابان يسقطان بالمعارضة ، فلا يجري استصحاب الحكم في الشبهات الحكميّة.

أمّا النحو الأوّل من الشكّ أي الشكّ في الحكم بلحاظ عالم الجعل ، فيجري استصحاب عدم جعل الحكم بلا إشكال فيما إذا كان الشكّ في أصل الجعل والتشريع ، وأمّا إذا كان الشكّ في النسخ بمعناه الحقيقي فيجري استصحاب عدم النسخ أيضا على القول بأنّ النسخ بمعناه الحقيقي ممكن ، حيث يوجد معنيان للنسخ

٢٩١

أحدهما محال لاستلزامه الجهل وهو النسخ المستلزم للعلم بعد الجهل ، والآخر ممكن وهو أن يكون الحكم مؤقّتا بوقت لم يذكره الشارع فعند انتهاء أمده يرتفع ، فيكون الشكّ بمعنى أنّ هذا الحكم هل انتهى وقته أم أنّه مطلق من حيث الزمان؟

وأمّا النحو الثاني من الشكّ أي الشكّ بلحاظ عالم المجعول والفعليّة ، فهنا يجري استصحابان :

أحدهما : استصحاب بقاء المجعول الفعلي ، حيث إنّ المكلّف يعلم بحدوث النجاسة للماء المتغيّر فعلا الموجود في الخارج ، ثمّ يشكّ في بقاء هذه النجاسة من أجل الشكّ في أنّ زوال التغيّر من نفسه هل يوجب ارتفاع النجاسة أو لا؟ فيجري الاستصحاب ؛ لأنّ النجاسة معلومة الحدوث ، ومشكوكة البقاء.

والآخر : استصحاب عدم جعل الزائد ، أي عدم جعل الحكم بالنجاسة على المقدار الزائد وهو الفترة الإضافيّة الطويلة ، حيث تقدّم أنّ مرجع الشكّ في المجعول إلى التردّد في كون الحكم منصبّا على الفترة القصيرة أي الأقلّ ، وهي فترة التغيّر الفعلي أو على الفترة الطويلة أيضا وهي فترة زوال التغيّر من نفسه ، وهو من الدوران بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين ، فيجري الأصل المؤمّن أي استصحاب عدم جعل النجاسة على الفترة الإضافيّة ؛ لأنّها مشكوكة بينما الفترة القصيرة معلومة.

وحينئذ يقع التعارض بين هذين الاستصحابين ؛ لأنّ الأوّل ينجّز النجاسة للفترة الإضافيّة المشكوكة ، بينما الثاني يؤمّن عنها فيحكم بتساقطهما ، وهذا معناه عدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة ؛ لأنّه دائما معارض.

ولكي نعرف الجواب على شبهة المعارضة هذه ينبغي أن نفهم كيف يجري استصحاب المجعول في الشبهة الحكميّة بحدّ ذاته قبل أن نصل إلى دعوى معارضته بغيره؟

فنقول : إنّ استصحاب المجعول نحوان :

أحدهما : استصحاب المجعول الفعلي التابع لفعليّة موضوعه المقدّر الوجود في جعله ، وهو لا يتحقّق ولا يتّصف باليقين بالحدوث والشكّ في البقاء إلا بعد تحقّق موضوعه خارجا ، فنجاسة الماء المتغيّر لا تكون فعليّة إلا بعد وجود ماء متغيّر بالفعل ، ولا تتّصف بالشكّ في البقاء إلا بعد أن يزول التغيّر عن الماء فعلا.

٢٩٢

وحينئذ يجري استصحاب النجاسة الفعليّة ، واستصحاب المجعول بهذا المعنى يتوقّف جريانه ـ كما ترى ـ على وجود الموضوع ، وهذا يعني أنّه لا يجري بمجرّد افتراض المسألة على وجه كلّيّ والالتفات إلى حكم الشارع بنجاسة الماء المتغيّر ، ويقضي ذلك بأنّ إجراء الاستصحاب من شأن المكلّف المبتلى بالواقعة خارجا لا من شأن المجتهد الذي يستنبط حكمها على وجه كلّي ، فالمجتهد يفتيه بجريان الاستصحاب في حقّه عند تماميّة الأركان لا أنّ المجتهد يجريه ويفتي المكلّف بمفاده.

وقبل الجواب عن شبهة المعارضة بين استصحاب المجعول واستصحاب عدم الجعل يجب أن نذكر المراد من استصحاب المجعول ، فإنّ تنقيح ذلك يلقي ضوءا على حلّ هذه الشبهة ؛ وذلك لأنّ استصحاب المجعول قد يراد به أحد معنيين :

الأوّل : استصحاب المجعول الفعلي الموجود في الخارج ، أي استصحاب الحكم المجعول الجزئي.

الثاني : استصحاب المجعول تقديرا ، أي استصحاب الحكم المجعول الكلّي.

أمّا النحو الأوّل : أي استصحاب المجعول الفعلي ، فهذا يفترض أن يكون الموضوع فعليّا ، وفعليّة الموضوع معناها وجود الموضوع في الخارج بوجود كلّ قيوده وشروطه وخصوصيّاته ، فلا بدّ أن يكون الموضوع محقّق الوجود في الخارج لكي يكون الحكم فعليّا.

وحينئذ يمكن أن يتّصف باليقين بالحدوث والشكّ في البقاء الذي هو الركن الثالث من أركان الاستصحاب ، أي تكون هناك قضيّة واحدة متيقّنة ومشكوكة.

فمثلا نجاسة الماء المتغيّر إنّما تكون فعليّة ، فيما إذا وجد في الخارج ماء واتّصف بالتغيّر بأوصاف النجاسة فعلا ، فيصدق حينئذ اليقين بالحدوث ، ثمّ إذا زال التغيّر من نفسه عن هذا الماء فعلا فتغيّرت الأوصاف فهنا يصدق الشكّ في البقاء ؛ وذلك لأنّ القضيّة المتيقّنة والمشكوكة واحدة وهي الماء الموجود في الخارج فعلا ، والذي كان متيقّن النجاسة عند اتّصافه بالتغيّر الفعلي ، ثمّ صار مشكوك النجاسة عند ما زال عنه التغيّر فعلا ، ولهذا يكون الماء الثاني امتدادا واستمرارا للماء الأوّل ، أي الحصّة الثانية وهي الماء الذي زال عنه التغيّر هي بقاء للحصّة الأولى أي الماء الذي كان متغيّرا ؛ لأنّ

٢٩٣

الماء يوجد أوّلا ثمّ يتغيّر ثمّ يزول عنه التغيّر ، فهناك طولية بين الحصّتين في عمود الزمان.

وبما أنّ أركان الاستصحاب تامّة لوجود يقين بحدوث النجاسة وشكّ في بقائها ، والقضيّة المتيقّنة والمشكوكة واحدة للطوليّة بين الحصّتين في الخارج ، فيجري استصحاب بقاء المجعول الفعلي ، أي النجاسة الفعليّة الثابتة للماء الموجود في الخارج.

إذا النحو الأوّل من استصحاب المجعول يتمّ فيما إذا كان الموضوع موجودا فعلا في الخارج.

وأمّا إذا لم يكن الموضوع موجودا فعلا في الخارج بل كان مفروض ومقدّر الوجود ، فلا يجري استصحاب المجعول الفعلي ؛ لأنّ الالتفات إلى الموضوع في عالم الجعل واللحاظ المولوي يعني أنّ الموضوع كلّي فيكون الحكم الثابت له كلّيّا أيضا ، وهذا يعني أنّ الحكم المراد استصحابه وهو الحكم المجعول الفعلي لا يقين بحدوثه ؛ لأنّ اليقين بحدوثه إنّما يتحقّق إذا وجد الموضوع فعلا في الخارج لا ما إذا كان مفترض الوجود ، ولذلك فلا يجري الاستصحاب بهذا اللحاظ.

ومن هنا نعرف أنّ استصحاب المجعول الفعلي إنّما هو من شئون المكلّف لا من شئون المجتهد.

وبيانه : أنّ الماء المتغيّر فعلا يعلم به من كان لديه ماء متغيّر فعلا وهو المكلّف ، ثمّ يزول هذا التغيّر فعلا ، والذي يكون امتدادا للماء الأوّل.

وأمّا المجتهد الذي يستنبط الأحكام الشرعيّة فهو يفترض وجود الماء المتغيّر ، ويفترض وجود الماء الذي زال عنه التغيّر ، أي أنّه يفترض الحصّتين معا ، وهاتان الحصّتان موجودتان معا في عالم الافتراض والتقدير ، وليست إحداهما امتدادا للأخرى ، ولذلك لا تكون القضيّة المتيقّنة والقضيّة المشكوكة واحدة ؛ لأنّهما موجودتان في عرض واحد ، ولذلك لا يتمكّن المجتهد من إجراء استصحاب الحكم المجعول الفعلي ، وإنّما يفتي المكلّف بإجراء هذا الاستصحاب اذا تمّت أركانه عنده.

وهذه النتيجة التي نحصل عليها مخالفة للوجدان العرفي والفقهي ، حيث إنّه يرى أنّ إجراء الاستصحاب بلحاظ الحكم المجعول الفعلي حقّ للمكلّف وللمجتهد معا ، فكما يحقّ للمجتهد أن يجري الاستصحاب في الشبهات الحكميّة التي يكون

٢٩٤

الموضوع فيها كلّيّا أي مفترض الوجود ، كذلك يجريه فيما إذا كان الموضوع جزئيّا وفعليّا أي محقّق الوجود.

ولا تفصيل بين هذين النحوين فقهيّا ، ولذلك يكون هذا المرتكز قرينة على أنّ المراد من استصحاب المجعول ليس هذا النحو ؛ لأنّه يؤدّي إلى نتيجة غير مقبولة فقهيّا.

والنحو الآخر لاستصحاب المجعول : هو إجراء الاستصحاب في المجعول الكلّي على نحو تتمّ أركانه بمجرّد التفات الفقيه إلى حكم الشارع بنجاسة الماء المتغيّر وشكّه في شمول هذه النجاسة لفترة ما بعد زوال التغيّر.

وعلى هذا الأساس يجري الاستصحاب بدون توقّف على وجود الموضوع خارجا ، ومن هنا كان بإمكان المجتهد إجراؤه والاستناد إليه في إفتاء المكلّف بمضمونه.

ولا شكّ في انعقاد بناء الفقهاء والارتكاز العرفي على استفادة هذا النحو من استصحاب المجعول من دليل الاستصحاب.

وأمّا النحو الثاني من استصحاب المجعول فهو أن يكون الموضوع مفترض ومقدّر الوجود في عالم التشريع فيكون كليا وحكمه كلي أيضا.

وذلك بأن يلتفت المجتهد ـ حين استنباطه الحكم الشرعي ـ إلى الماء المتغيّر فيفترض وجوده ، فيكون الحكم بالنجاسة ثابتا له ، ثمّ يفترض زوال التغيّر عن الماء من نفسه فيحصل له شكّ في بقاء ذاك الحكم ، فيجري استصحابه لتماميّة أركانه ، حيث إنّه يوجد للمجتهد يقين بحدوث الحكم بالنجاسة الكلّي على كلّي الماء المتغيّر ، ثمّ يشكّ في بقاء هذا الحكم الكلّي لزوال التغيّر تقديرا وافتراضا عن ذلك الماء ، فاليقين بالحدوث موجود والشكّ في البقاء موجود والقضيّة المتيقّنة والمشكوكة واحدة ، وهي الماء المفترض الوجود الذي اتّصف بالتغيّر ثمّ زال عنه التغيّر.

وعلى هذا سوف يجري استصحاب المجعول الكلّي سواء وجد في الخارج ماء متغيّر بالفعل أم لا ؛ لأنّ موضوع هذا الاستصحاب هو الماء المقدّر الوجود.

ولذلك يتمكّن المجتهد من إجراء الاستصحاب بنفسه ومن ثمّ إفتاء المكلّف ببقاء المجعول ، ولا يحتاج إلى أن يجري هذا الاستصحاب نفس المكلّف.

والدليل على ذلك : هو البناء الفقهي والارتكاز العرفي على جريان مثل هذا

٢٩٥

الاستصحاب ، فإنّ هذا البناء يعتبر دليلا على تماميّة أركان الاستصحاب بحقّ الفقيه.

وهذا النحو هو المراد من استصحاب بقاء المجعول الذي أراده السيّد الخوئي ، حيث أبرز له استصحابا آخر معارضا له وهو استصحاب عدم الجعل لهذا الحكم الكلّي.

غير أنّه قد يستشكل في النحو المذكور بدعوى : أنّ المجعول الفعلي التابع لوجود موضوعه له حدوث وبقاء تبعا لموضوعه ، وأمّا المجعول الكلّي فليس له حدوث وبقاء ، بل تمام حصصه ثابتة ثبوتا عرضيّا آنيّا بنفس الجعل بلا تقدّم وتأخّر زماني.

وهذا يعني أنّا كلّما لاحظنا المجعول على نهج كلّيّ لم يكن هناك يقين بالحدوث وشكّ في البقاء ليجري الاستصحاب. فأركان الاستصحاب إنّما تتمّ في المجعول بالنحو الأوّل لا الثاني.

وقد أشرنا سابقا (١) إلى هذا الاستشكال وعلّقنا عليه بما يوحي بإجراء استصحاب المجعول على النحو الأوّل ، غير أنّ هذا كان تعليقا مؤقّتا إلى أن يحين الوقت المناسب.

إلا أنّ المحقّق العراقي استشكل على إجراء الاستصحاب بالنحو الثاني بدعوى عدم تماميّة أركانه.

وتوضيح ذلك : أنّنا إذا لاحظنا المجعول الفعلي أي الحكم الجزئي فهذا تابع لفعليّة موضوعه ، والفعلية تكون بلحاظ عالم الخارج ، فلا بدّ من وجود ماء في الخارج يتّصف بالتغيّر ثمّ يزول عنه التغيّر ، فإذا اتّصف بالتغيّر فعلا ثبت له الحكم بالنجاسة ، وهذا حكم جزئي لكون موضوعه جزئيّا ، وإذا زال التغيّر شككنا في بقاء هذا الحكم فيجري استصحابه لتماميّة أركان الاستصحاب فيه من اليقين بحدوث هذا الحكم الجزئي والشكّ في بقائه ، ووحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة ؛ لأنّ الوحدة إنّما تصدق فيما إذا كان الشكّ شكّا في البقاء والذي يعني كون الحصّة الثانية امتدادا للحصّة الأولى ، وهذا يفترض الطوليّة بين الحصّتين ، فلكي يصدق الشكّ في البقاء لا بدّ من فرض الطوليّة في الزمان بين القضيّتين ، وهذا حاصل في موارد استصحاب المجعول الفعلي الجزئي.

__________________

(١) تحت عنوان : الشبهات الحكميّة في ضوء الركن الثاني.

٢٩٦

وأمّا إذا لاحظنا المجعول على نهج كلّي أي افترضنا الموضوع وافترضنا ثبوت الحكم الكلّي له ، ثمّ افترضنا الشكّ في بقاء هذا الحكم الكلّي نتيجة زوال التغيّر ، فهنا لا يجري الاستصحاب لعدم تماميّة أركانه ؛ وذلك لأنّ الشكّ المفترض لا يصدق عليه أنّه شكّ في البقاء للحكم المفترض ؛ لأنّ الحكم الكلّي ينصبّ في عالم الجعل على موضوعه الكلّي بتمام حصصه في عرض واحد ، أي أنّ الشارع يتصوّر تمام الحصص من الموضوع في مرتبة واحدة ويجعل الحكم.

فهو إمّا أن يكون قد جعل الحكم على تمام الحصص معا أو لا يكون كذلك ، بل جعله على هذه الحصّة دون تلك.

ولذلك عند ما نشكّ في ثبوت الحكم للحصّة الثانية فهو حكم غير الحكم الثابت للحصة الأولى ؛ لأنّ الثانية ليست بقاء للأولى ؛ لأنّ صدق الشكّ في البقاء يفترض الطوليّة بين الحصّتين ، وهذه الطوليّة لا تصدق إلا في عالم الخارج ؛ لأنّ الماء في الخارج هو الذي يتّصف بالتغيّر وبعدمه.

وأمّا في عالم التصوّر واللحاظ الذهني فنفرض سائر الحصص معا في آن واحد فلا طوليّة بينها ، وإنّما هي في عرض واحد ، ولذلك لا يصدق الشكّ في البقاء والوحدة بين القضيّتين ، فلا يجري الاستصحاب.

وهذا مخالف للوجدان العرفي والفقهي.

وبهذا تحصّل : أنّ إجراء استصحاب الحكم الفعلي تامّ في نفسه ، لكنّه يبتلي بأنّه من حقّ المكلّف لا المجتهد. وأمّا إجراء استصحاب الحكم الكلّي المجعول فهو غير تامّ الأركان.

ونحن قد أشرنا إلى هذا الاستشكال عند الكلام عن الركن الثاني من أركان الاستصحاب ، وهناك قلنا بأنّه يجري استصحاب الحكم المجعول الفعلي الجزئي ، غير أنّ هذا لا يحلّ المشكلة التي أثارها المحقّق العراقي هنا ، ولذلك لا بدّ من تعميق الكلام أكثر فنقول :

وأمّا الصحيح في الجواب فهو : أنّ المجعول الكلّي وهو نجاسة الماء المتغيّر مثلا يمكن أن ينظر إليه بنظرين :

أحدهما : النظر إليه بما هو أمر ذهني مجعول في أفق الاعتبار.

٢٩٧

والآخر : النظر إليه بما هو صفة للماء الخارجي.

فهو بالحمل الشائع أمر ذهني وبالحمل الأوّلي صفة للماء الخارجي.

وبالنظر الأوّل ليس له حدوث وبقاء ، لأنّه موجود بتمام حصصه بالجعل في آن واحد.

وبالنظر الثاني له حدوث وبقاء ، وحيث إنّ هذا النظر هو النظر العرفي في مقام تطبيق دليل الاستصحاب فيجري استصحاب المجعول بالنحو الثاني لتماميّة أركانه.

والجواب عن إشكال المحقّق العراقي أن يقال : إنّ المجعول الكلّي ليس شيئا زائدا عن الجعل ، فالمجعول الكلّي هو الجعل نفسه ؛ وذلك لأنّه لا يوجد للحكم حقيقتان إحداهما بلحاظ عالم الجعل والأخرى بلحاظ عالم المجعول ، وإنّما هناك حقيقة واحدة هي الحكم الثابت في عالم الجعل والتشريع ، وهذا قد تتحقّق صغراه في الخارج فيطلق عليه المجعول إلا أنّه لا حقيقة له مستقلّة زائدة عن أصل الجعل.

وعلى هذا الأساس فالمجعول الكلّي الذي هو الجعل عبارة عن تلك القضيّة الحقيقيّة التي بالتحليل ترجع إلى قضيّة تقديريّة شرطيّة ، فإذا قيل : ( الماء المتغيّر نجس ) كان المفاد ( أنّه كلّما وجد ماء متغيّر فهو نجس ).

وهذه القضيّة يمكن النظر إليها بنظرين ولحاظين هما :

١ ـ أن ينظر إليها بالحمل الشائع أي بلحاظ نفس حقيقة هذا الجعل ، فهي بهذا اللحاظ تكون صورة ذهنيّة موجودة في نفس الشارع ، أي في عالم الاعتبار والتشريع ؛ وذلك لأنّ الحمل الشائع عبارة عن الواقع الذي توجد فيه القضيّة ، وواقع القضيّة المجعولة هو نفس الجعل ؛ لأنّه لا يوجد شيء زائد على الجعل.

٢ ـ أن ينظر إليها بالحمل الأوّلي أي بلحاظ عنوان القضيّة ، فهي بهذا اللحاظ تحكي عن المفاهيم التالية ( الماء والتغيّر والنجاسة ) بحيث تكون النجاسة صفة للماء المتغيّر ، فإنّ الماء المتغيّر الموجود في الخارج يتّصف بالنجاسة ، فتكون هذه القضيّة حاكية عن هذه المفاهيم بما هي موجودة في الخارج بحيث يلحظ الوجود الخارجي سواء وجد فعلا ماء متغيّر أم لا.

فإذا نظرنا إلى القضيّة بالحمل الشائع فهذه القضيّة موجودة دفعة واحدة في نفس الشارع بحيث تلحظ تمام الحصص والأفراد في عرض واحد ، ولذلك لا

٢٩٨

يكون هناك حدوث وبقاء ؛ لأنّ هذا الجعل إمّا أن يوجد في نفس الاعتبار والتشريع أو لا يوجد.

وأمّا إذا نظرنا إلى القضيّة بالحمل الأوّلي أي بما هي حاكية عن هذه المفاهيم ، فهذه المفاهيم موجودة في الخارج ، وفي الخارج يكون هناك ماء ثمّ يتّصف بالتغيّر ثمّ يزول عنه التغيّر ، ولذلك يكون هناك حدوث وبقاء ؛ لأنّ الحصص توجد في طول بعضها فتكون الثانية امتدادا واستمرارا وبقاء للأولى.

ومن هنا كان الاستصحاب تامّ الأركان بلحاظ القضيّة المجعولة بالحمل الأوّلي دون الحمل الشائع.

والمستفاد من دليل الاستصحاب تطبيقه على ما يفهمه العرف ، والعرف إنّما يجري الاستصحاب بلحاظ الحمل الأوّلي ؛ لأنّه يفهم القضيّة المجعولة بما هي حاكية عن المفاهيم بوجوداتها الخارجيّة ، ولا يفهم القضيّة المجعولة بما هي موجودة في واقعها أي نفس عالم الاعتبار والتشريع.

وممّا يدلّ على ذلك أنّ نفس المفصّل لم يدّع أنّ الاستصحاب غير تامّ الأركان ، وإنّما ادّعى أنّه يجري ولكنّه يسقط بالمعارضة.

إذا اتّضح ذلك فنقول لشبهة المعارضة بأنّه في تطبيق دليل الاستصحاب على الحكم الكلّي في الشبهة الحكميّة لا يعقل تحكيم كلا النظرين ؛ لتهافتهما.

فإن سلّم بالأخذ بالنظر الثاني تعين إجراء استصحاب المجعول ، ولم يجر استصحاب عدم الجعل الزائد ، إذ بهذا النظر لا نرى جعلا ومجعولا ولا أمرا ذهنيّا ، بل صفة لأمر خارجي لها حدوث وبقاء.

وإن ادّعي الأخذ بالنظر الأوّل فاستصحاب المجعول بالنحو الثاني الذي يكون من شأن المجتهد إجراؤه لا يجري في نفسه ، لا أنّه يسقط بالمعارضة.

والجواب عن شبهة المعارضة أن يقال : إنّ دليل الاستصحاب عند تطبيقه على الحكم الكلّي في الشبهات الحكميّة يحتمل فيه ثلاثة احتمالات :

الأوّل : تطبيق دليل الاستصحاب على الحكم الكلّي بلحاظ الحمل الأوّلي والحمل الشائع معا ، وهذا مستحيل ؛ لأنّه يؤدّي إلى التناقض والتهافت ، إذ لا يمكن الجمع بين هذين اللحاظين معا ؛ لأنّ الملحوظ في أحدهما هو نفس الشارع بينما الملحوظ في

٢٩٩

الآخر المفاهيم في واقعها ، فلا يمكن أن يكون دليل الاستصحاب ناظرا إلى الحكم الكلّي بهذين النظرين معا ؛ لأنّ أحدهما تصوّري والآخر تصديقي ، وسيأتي بيانه مفصّلا.

الثاني : أن يطبّق دليل الاستصحاب على الحكم الكلّي بلحاظ الحمل الأوّلي ، فهنا يجري استصحاب المجعول الكلّي ، ولا يجري استصحاب عدم جعل الزائد ؛ لأنّه بهذا اللحاظ لا يوجد إلا المجعول الكلّي الذي هو نفس الجعل ولا يوجد جعل ومجعول كلّ على نحو مستقلّ ، وهذا المجعول الكلّي ينظر إليه بما هو صفة لأمر خارجي ، ولذلك كان هذا الجعل أو المجعول الكلّي يتّصف بالحدوث والبقاء ؛ لأنّ الأمر الخارج له حدوث وبقاء حيث إنّ وجوده في واقعه الذي هو الخارج يكون على أساس الطوليّة بين حصصه.

وأمّا استصحاب عدم جعل الزائد فلا يجري ؛ لأنّ هذا الاستصحاب المنظور فيه القضيّة أي ( المجعول الكلّي ) بلحاظ نفس الاعتبار والتشريع أي الحمل الشائع لا الأوّلي ، وبهذا اللحاظ لا يوجد حدوث وبقاء ، بل إمّا أن يجعل أو لا.

الثالث : أن يطبّق الاستصحاب في الشبهات الحكميّة على المجعول الكلّي بالحمل الشائع ، أي بلحاظ واقع هذه القضيّة المجعولة والذي هو نفس الشارع وعالم الاعتبار والتشريع ، وبهذا اللحاظ سوف لا يجري استصحاب بقاء المجعول الكلّي ؛ لأنّه في هذا اللحاظ توجد الحصص في عرض واحد وليس هناك طوليّة بينهما ليعقل الشكّ في البقاء.

وأمّا استصحاب عدم جعل الزائد فهو يجري هنا ؛ لأنّ الجعل لإحدى الحصّتين معلوم ، بينما الجعل للحصّة الأخرى مشكوك حدوثه فيستصحب عدمه.

وبهذا ظهر : أنّه لا تعارض بين استصحاب المجعول واستصحاب الجعل ؛ وذلك لأنّ استصحاب المجعول إنّما يكون بلحاظ المجعول الكلّي بالحمل الأوّلي ، بينما استصحاب عدم الجعل يكون بلحاظ المجعول الكلّي بالحمل الشائع.

فإذا جرى استصحاب المجعول لا يجري استصحاب عدم الجعل ، وإذا جرى استصحاب عدم الجعل لا يجري استصحاب المجعول ، إذ جريانهما معا معناه النظر إلى المجعول الكلّي بلحاظين ونظرين معا وهو مستحيل.

٣٠٠