شرح الحلقة الثّالثة

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٣

والحاصل : أنّه في هذه الصور الأربعة أمكننا تفادي الإشكال المتقدّم من عدم جريان الاستصحاب عند قيام الأمارة على الحدوث ما دام الركن هو اليقين بالحدوث ؛ وذلك لأنّنا لم نستصحب الحكم الحادث بالأمارة مباشرة ، وإنّما أجرينا استصحابا آخر ، وهو إمّا الاستصحاب الموضوعي في بعض الصور ، وإمّا الاستصحاب الحكمي في بعضها الآخر ، وإمّا كلا الاستصحابين معا.

والوجه في ذلك : أنّ الحكم المدلول عليه بالأمارة إن كان له مدلول التزامي يمكن التعبّد به كالمدلول المطابقي ، وكان هذا المدلول الالتزامي عبارة عن قضيّة كلّيّة أو يعالج شبهة حكميّة جرى استصحاب هذه الملازمة وهذا هو الاستصحاب الحكمي ، وإن كان المدلول عليه بالأمارة موضوعا له أمد وغاية ورافع ثمّ شكّ في تحقّق هذا الرافع والغاية ، جرى استصحاب عدم تحقّقه ، وهذا هو الاستصحاب الموضوعي.

ويجمعهما أن يكون لمدلول الأمارة غاية ورافع وأمد ثمّ يشكّ في تحقّقه ، إمّا بنحو الشبهة الموضوعيّة وإمّا بنحو الشبهة الحكميّة ، فإنّه يجري الاستصحاب الموضوعي أو الحكمي أو كلاهما ، كما تقدّم آنفا.

نعم ، قد لا يكون الشكّ على هذا الوجه ، بل يكون الشكّ في قابليّة المستصحب للبقاء ، كما إذا دلّت الأمارة على وجوب الجلوس في المسجد إلى الزوال وشكّ في بقاء هذا الوجوب بعد الزوال ، فإنّ الأمارة هنا لا يحتمل أنّها تدلّ مطابقة أو التزاما على أكثر من الوجوب إلى الزوال ، وهذا يعني أنّ التعبّد على وفقها المستفاد من دليل الحجّيّة لا يحتمل فيه الاستمرار أكثر من ذلك.

وفي مثل هذا يتركّز الإشكال ، لأنّ الحكم الواقعي بالوجوب غير متيقّن الحدوث ، والحكم الظاهري المستفاد من دليل الحجّيّة غير محتمل البقاء ، ويتوقّف دفع الإشكال حينئذ على إنكار ركنيّة اليقين بلحاظ مثل رواية عبد الله بن سنان المتقدّمة.

استدراك : هناك صور أخرى لا يجري فيها ما ذكرناه من الاستصحاب الموضوعي أو الحكمي ، والجامع لهذه الصور أن يقال : أن تقوم الأمارة على الحدوث ثمّ يشكّ في البقاء من جهة الشكّ في أنّ ما قامت عليه الأمارة هل له القابليّة للاستمرار والبقاء أو لا؟

٢٠١

أو الشكّ في أنّ ما قامت عليه الأمارة حدوثا لم يكن له غاية وأمد ورافع مفترض شرعا لكي يكون استمراره مغيّا به ، فيكون الشكّ في بقائه من جهة أخرى غير الشكّ في تحقّق الرافع ، والغاية بنحو الشبهة الموضوعيّة أو الحكميّة.

مثال ذلك : أن تقوم الأمارة على وجوب الجلوس في المسجد إلى زوال الشمس ، ثمّ بعد تحقّق الزوال نشكّ في بقاء وجوب الجلوس أيضا.

فهاهنا دليل حجّيّة الأمارة يعبّدنا بالمدلول المطابقي وهو وجوب الجلوس إلى الزوال ، أي أنّ هذا الوجوب ثابت ومستمرّ إلى الزوال ، فإذا تحقّق الزوال ارتفع وجوب الجلوس المذكور للعلم بتحقّق غايته فعلا.

ولا يوجد مدلول التزامي لهذه الأمارة لكي يعبّدنا به دليل الحجّيّة ؛ لأنّ وجوب الجلوس بعد الزوال غير معلوم إذ هو مسكوت عنه نفيا وإثباتا ، بل وجوب الجلوس إلى ما بعد الزوال المدلول عليه بالمطابقة يعلم بانتفائه ؛ لأنّه مقيّد بالزوال ، ووجوب آخر غيره مماثل له يحتاج إلى دليل خاصّ.

وعليه فلا يوجد لدينا أكثر من وجوب الجلوس إلى الزوال ، وهذا ثابت بالأمارة.

وهنا التعبّد بدليل الحجّيّة للأمارة لا يفيدنا أكثر من ذلك ، فإذا شككنا في وجوب الجلوس بعد الزوال فهذا الشكّ لا يمكن علاجه لا بأصل موضوعي ولا بأصل حكمي.

أمّا الأصل الموضوعي فلأنّ الوجوب قبل الزوال علم بارتفاعه بعد الزوال ، فالمشكوك وجوب آخر لم يكن حادثا سابقا.

وأمّا الأصل الحكمي فلأنّ دليل الحجّيّة للأمارة لا يعبّدنا بأكثر من الملازمة بين الوجوب والبقاء إلى الزوال ، وأمّا بعد الزوال فالشكّ في أمر آخر غير ما هو ثابت بالملازمة.

ولا يمكن علاج هذا الشكّ إلا بما تقدّم سابقا من تخريجات إن تمّت ؛ لأنّ الإشكال هنا مستحكم ، إذ لو كان اليقين بالحدوث ركنا في الاستصحاب فلا يمكن جريان استصحاب وجوب الجلوس قبل الزوال إلى ما بعد الزوال ؛ لأنّ حدوث هذا الوجوب لم يكن باليقين ، بل بالأمارة أي أنّه لا يقين بالحدوث.

ولو كان اليقين بالحدوث معرّفا ونحو ذلك فالأمارة الكاشفة عن الوجوب إنّما

٢٠٢

تكشف عنه مقيّدا ومحدّدا بالزوال لا أكثر ، أي أنّ الوجوب لا يحتمل بقاؤه بعد الزوال بل يعلم بارتفاعه ، والشكّ في وجوب آخر غير ما قامت عليه الأمارة.

والأفضل في علاج هذا الإشكال هو ما ذكرناه من إنكار ركنيّة اليقين بالحدوث استنادا إلى رواية عبد الله بن سنان التي ذكرت الحالة السابقة فقط ، والتي تصلح لحمل اليقين في سائر الروايات على اليقين الطريقي لا الموضوعي.

وبهذا ينتهي الكلام عن الركن الأوّل من أركان الاستصحاب.

* * *

٢٠٣
٢٠٤

الشكّ في البقاء

٢٠٥
٢٠٦

ب ـ الشكّ في البقاء

والشكّ في البقاء هو الركن الثاني ، وذلك لأخذه في لسان أدلّة الاستصحاب.

وقد يقال : إنّ ركنيته ضروريّة بلا حاجة إلى أخذه في لسان الأدلّة ، لأنّ الاستصحاب حكم ظاهري والحكم الظاهري متقوّم بالشكّ ، فإن فرض الشكّ في الحدوث كان مورد قاعدة اليقين ، فلا بدّ إذن من فرض الشكّ في البقاء.

ولكن سيظهر أنّ ركنيّة الشكّ في البقاء بعنوانه لها آثار إضافيّة لا تثبت بالبرهان المذكور ، بل بأخذه في لسان الأدلّة ، فانتظر.

الركن الثاني هو الشكّ في البقاء : ويدلّ عليه أمران :

الأوّل : الروايات الدالّة على الاستصحاب حيث أخذ في لسانها عنوان الشكّ كما في ( لا تنقض اليقين بالشكّ ) ، وكما في ( كان على يقين ثمّ شكّ ) ، فإنّ الظاهر كون الشكّ في البقاء لا في نفس اليقين.

والثاني : على ما قيل : من أنّ ركنيّة الشكّ ضروريّة ومفروغ عنها ، ولا حاجة إلى الاستدلال عليها أو أخذها في لسان الأدلّة ؛ وذلك لأنّ الاستصحاب حكم ظاهري والحكم الظاهري متقوّم بالشكّ ؛ لأنّه مجعول في مقام الشكّ في الواقع.

وعليه فإن كان الشكّ راجعا إلى نفس الحدوث فهذا يعني أنّ اليقين والشكّ متعلّقان بشيء واحد في زمان واحد ، وهو مورد قاعدة اليقين التي يكون الشكّ فيها ساريا إلى نفس اليقين ، وإن كان الشكّ متعلّقا بالبقاء فهو مورد الاستصحاب ، وهو المطلوب.

إلا أنّ الصحيح وجود فرق بين النحوين من الاستدلال ، ولا يكفي الدليل الثاني لإثبات كون الشكّ راجعا الى البقاء ؛ لأنّه لا يثبت أكثر من لزوم أخذ الشكّ وكونه غير سار إلى اليقين ، وأمّا كونه متعلّقا بالبقاء فهذا لا يثبت به.

٢٠٧

مضافا إلى وجود بعض الآثار والثمرات التي لا تترتّب إلا إذا كان عنوان الشكّ بالبقاء مستظهرا من نفس روايات الاستصحاب كما سيأتي لاحقا.

وتتفرّع على ركنيّة الشكّ في البقاء قضيّتان :

ثمّ بعد التسليم والفراغ عن ركنيّة الشكّ في البقاء يوجد هنا ثمرتان مترتّبتان على ذلك وهما :

الأولى : أنّ الاستصحاب لا يجري في الفرد المردّد ، ونقصد بالفرد المردّد حالة القسم الثاني من استصحاب الكلّي ، كما إذا علمنا بوجود جامع الإنسان في المسجد وهو مردّد بين زيد وخالد ، ونشكّ في بقاء هذا الجامع ؛ لأنّ زيدا نراه الآن خارج المسجد ، فإن كان هو المحقّق للجامع حدوثا فقد ارتفع الجامع ، وإن كان خالد هو المحقّق للجامع فلعلّه لا يزال باقيا.

وفي مثل ذلك يجري استصحاب الجامع إذا كان لوجود الجامع أثر شرعي. ويسمّى بالقسم الثاني من استصحاب الكلّي ، كما تقدّم في الحلقة السابقة (١) ، ولا يجري استصحاب بقاء زيد ولا استصحاب بقاء خالد بلا شكّ.

القضيّة الأولى : في جريان الاستصحاب في الفرد المردّد وعدم جريانه ، وتوضيحه :

المقصود من الفرد المردّد هو القسم الثاني من استصحاب الكلّي ، حيث يعلم بالجامع ويشكّ بالفرد ، كما إذا علم بدخول الإنسان إلى المسجد ولكنّه مردّد بين كونه متمثّلا بزيد أو بخالد ، ثمّ يعلم بخروج زيد من المسجد ، فهنا سوف يشكّ في بقاء الجامع من جهة الشكّ في الفرد الذي حقّق هذا الجامع ، فإنّه إذا كان زيد هو المحقّق لجامع الإنسان فحيث إنّ زيدا يعلم بخروجه من المسجد فلا شكّ في البقاء ؛ لأنّه سوف يعلم بخروج الجامع أيضا ، إذ لا وجود له إلا ضمن زيد ، وأمّا وجوده ضمن خالد فيكون مشكوك الحدوث فضلا عن البقاء ، ولكن إذا كان خالد هو المحقّق لجامع الانسان ، فحيث إنّه لا يعلم بخروج خالد من المسجد ؛ لأنّ الخارج هو زيد فسوف يحتمل بقاء جامع الإنسان في المسجد لعدم العلم بخروج خالد منه.

__________________

(١) في النقطة الثالثة من بحث التطبيقات في الاستصحاب ، تحت عنوان : استصحاب الكلّي.

٢٠٨

وفي هذه الحالة يقال : إنّ استصحاب الجامع يجري إذا كان هناك أثر شرعي مترتّب عليه بقاء ، فلو فرض وجود حكم شرعي مترتّب على موضوع الإنسان كأن قيل مثلا : ( تصدّق على الفقير إذا كان هناك إنسان في المسجد ) ، فهاهنا حيث إنّ جامع الإنسان معلوم الحدوث في المسجد ويشكّ في ارتفاعه عند خروج زيد بسبب الشكّ في كون الإنسان الموجود هو زيدا أو خالدا ، فيجري استصحاب بقاء جامع الإنسان ويترتّب عليه الأثر المفروض ، وهذا ما يسمّى باستصحاب القسم الثاني من الكلّي والذي تقدّم سابقا وسيأتي أيضا.

وأمّا استصحاب الفرد فلا يجري وذلك :

أمّا استصحاب بقاء زيد في المسجد فهو غير تامّ الأركان ؛ للعلم بخروجه من المسجد ، فلا شكّ في البقاء فضلا عن أنّه لا علم بحدوثه تفصيلا.

وأمّا استصحاب بقاء خالد في المسجد فهو غير تامّ أيضا ؛ لأنّه وإن كان لا يعلم بارتفاعه فهو محتمل البقاء إلا أنّه لا يقين بحدوثه ليجري استصحاب بقائه. نعم ، هو مشكوك البقاء على تقدير حدوثه ، وهذا يعني أنّ اليقين ليس فعليّا بل هو تقديري ، وسيأتي البحث حول هذه النقطة عند الحديث عن استصحاب الكلّي.

فكلّ واحد من زيد وخالد لا يمكن جريان الاستصحاب فيهما بعنوانهما الخاصّ ؛ لعدم تماميّة أركان الاستصحاب.

وأمّا استصحاب الفرد المردّد بين زيد وخالد فهل يجري استصحابه أم لا؟

والجواب :

ولكن قد يقال : إنّ الآثار الشرعيّة إذا كانت مترتّبة على وجود الأفراد بما هي أفراد أمكن إجراء استصحاب الفرد المردّد على إجماله ، بأن نشير إلى واقع الشخص الذي دخل المسجد ونقول : إنّه على إجماله يشكّ في خروجه من المسجد ، فيستصحب.

قد يقال : إنّ استصحاب الفرد المردّد يجري فيما إذا كان الأثر الشرعي مترتّبا على وجود الأفراد بما هي أفراد لا على الأفراد بما هي مصاديق وتعيّنات للجامع ، فلو فرض وجود أثر شرعي مترتّب على عنوان دخول زيد أو خالد إلى المسجد فباستصحاب الفرد المردد سوف يترتّب هذا الأثر.

٢٠٩

فلو فرض وجود حكم على عنوان زيد وخالد كما إذا فرض ( تصدّق بدرهم إذا كان زيد في المسجد وتصدّق بدرهمين إذا كان خالد في المسجد ).

فهنا إذا جرى استصحاب الفرد المردّد على إجماله ، سوف يثبت لدينا وجود أحد هذين الفردين في المسجد ، وهذا علم إجمالي منجّز فتجب موافقته القطعيّة ، وذلك بالتصدّق مرّتين مرّة بدرهم ومرّة بدرهمين.

والوجه في جريان هذا الاستصحاب : هو أنّ الفرد المردّد على إجماله معلوم الحدوث ؛ وذلك لأنّه يعلم بدخول شخص أو فرد إلى المسجد ثمّ بعد خروج زيد منه سوف يشك في ارتفاع هذا العنوان الإجمالي فيستصحب بقاؤه ، والمفروض أنّ لبقائه أثرا شرعيّا مترتّبا على الأفراد بما هي أفراد لا بما هي تعيّنات للكلّي ، وحيث لا يعلم أي الفردين هو الداخل والباقي ، فسوف يحصل لدينا علم إجمالي منجّز لكلا الأثرين.

ولكنّ الصحيح : أنّ هذا الاستصحاب لا محصّل له ؛ لأنّنا حينما نلحظ الأفراد بعناوينها التفصيليّة لا نجد شكّا في البقاء على كلّ تقدير ، إذ لا يحتمل بقاء زيد بحسب الفرض ، وإذا لاحظناها بعنوان إجمالي وهو عنوان الإنسان الذي دخل إلى المسجد فالشكّ في البقاء ثابت.

فإن أريد باستصحاب الفرد المردّد إثبات بقاء الفرد بعنوانه التفصيلي فهو متعذّر ، إذ لعلّ الفرد هو زيد ، وزيد لا شكّ في بقائه فيكون الركن الثاني مختلاّ.

وإن أريد به إثبات بقاء الفرد بعنوانه الإجمالي فالركن الثاني محفوظ ، ولكنّ الركن الرابع غير متوفّر ؛ لأنّ الأثر الشرعي غير مترتّب بحسب الفرض على العنوان الإجمالي ، بل على العناوين التفصيليّة للأفراد.

والصحيح : أنّ استصحاب الفرد المردّد لا محصّل ولا معنى له ؛ وذلك لأنّ الفرد المردّد إمّا أن يراد به واقع الفرد المردّد أو مفهوم الفرد المردّد.

فإن كان المراد به واقع الفرد المردّد أي أنّنا لاحظنا الأفراد بعناوينها التفصيليّة كزيد بعنوانه الخاصّ وخالد كذلك ، فنكون أردنا من استصحاب الفرد المردّد التوصّل إلى استصحاب بقاء زيد أو خالد ، فهذا الاستصحاب غير تامّ ؛ لأنّه لا يوجد لدينا شكّ في بقاء زيد للعلم بخروجه من المسجد ، ولا يوجد علم بدخول خالد فهو مشكوك الحدوث لا البقاء.

٢١٠

وإن كان المراد به مفهوم الفرد المردّد أي أنّنا لاحظنا العنوان الإجمالي للفرد وهو الفرد الواقعي الذي دخل إلى المسجد من دون تعيين وتشخيص هويّته ظاهرا ، فهذا الاستصحاب وإن كان يتوفّر فيه اليقين والشكّ ؛ لأنّ الفرد بالعنوان الإجمالي معلوم الحدوث ومشكوك البقاء عند خروج زيد ، إلا أنّه مع ذلك لا يجري لاختلال ركنه الرابع.

وبتعبير آخر : إنّ أريد باستصحاب الفرد المردّد إثبات بقاء الفرد بعنوانه التفصيلي أي بقاء زيد أو خالد بعنوانهما ، فهذا الاستصحاب لا يمكن إجراؤه لاختلال الركن الثاني بالنسبة لزيد إذ لا شكّ في بقائه ، ولاختلال الركن الأوّل بالنسبة لخالد إذ لا يقين بحدوثه ليتعلّق الشكّ في بقائه ، وإنّما الشكّ في بقائه على تقدير حدوثه.

وإن أريد باستصحاب الفرد المردّد إثبات بقاء الفرد بعنوانه الإجمالي أي الفرد الواقعي الذي دخل إلى المسجد ، فهو وإن كان متيقّن الحدوث ومشكوك البقاء إلا أنّ الركن الرابع مختلّ ؛ وذلك لأنّ المفروض كون الأثر الشرعي مترتّبا إمّا على الأفراد بعناوينها التفصيليّة الخاصّة ، وإمّا عليها بما هي مصاديق وتعيّنات للجامع الكلّي ، ولا يوجد أثر شرعي مترتّب على عنوان الفرد المردّد ؛ لأنّه لا وجود له في نفسه في الخارج وإنّما الموجود في الخارج الفرد بعنوانه الخاصّ.

فظهر أنّه لا مجال لجريان الاستصحاب في الفرد المردّد لا بعنوانه التفصيلي ولا بعنوانه الإجمالي.

ومن هنا نعرف أنّ عدم جريان استصحاب الفرد المردّد من نتائج ركنيّة الشكّ في البقاء الثابتة بظهور الدليل ، ولا يكفي فيه البرهان القائل بأنّ الحكم الظاهري متقوّم بالشكّ ؛ إذ لا يأبى العقل عن تعبّد الشارع ببقاء الفرد الواقعي مع احتمال قطعنا بخروجه.

وعلى هذا تظهر الثمرة الأولى بين كون الشكّ الذي هو ركن في الاستصحاب هو الشكّ في البقاء المستفاد من أدلّة الاستصحاب ، وبين كون الشكّ الركن هو الشكّ المقوّم للحكم الظاهري.

فإن قيل : إنّ الركن هو الشكّ في البقاء استنادا إلى ظاهر الأدلّة التي أخذ في لسانها عنوان الشكّ ، فلا يمكن جريان استصحاب الفرد المردّد لا بعنوانه التفصيلي

٢١١

ولا بعنوانه الإجمالي ؛ لأنّه لا يوجد شكّ في البقاء على أحد الوجهين ولا يوجد يقين بالحدوث على الوجه الآخر.

وأمّا إن قيل : إنّ الركن هو الشكّ المستفاد من كون الاستصحاب حكما ظاهريّا وهو متقوّم بالشكّ ، فهذا الشكّ لا يشترط أن يكون متعلّقا بالبقاء لعدم الدليل على ذلك ، حيث لم يستند في ركنيّته إلى الروايات ، بل إلى هذا البرهان ، وهو لا يثبت أكثر من ركنيّة الشكّ فقط.

ولذلك فيمكن إجراء استصحاب الفرد المردّد بعنوانه الواقعي أي واقع الفرد الذي دخل إلى المسجد ، ولا يوجد محذور أو مانع عقلي في أن يعبّدنا الشارع بالحكم ببقاء هذا الفرد ، وإلغاء احتمال الارتفاع وإن كان من الممكن أن يكون منطبقا على الفرد المعلوم خروجه والمقطوع ارتفاعه.

فيكون مفاده التعبّد بالبقاء وإلغاء احتمال الارتفاع ، وبالتالي تترتّب الآثار على الفرد الواقعي المستصحب بقاؤه ، وحيث إنّه مردّد بين فردين فيتكوّن علم إجمالي منجّز ، فيجب ترتيب الآثار على كلا الفردين ، ولكن حيث يعلم بخروج زيد فالآثار المترتّبة عليه ترتفع فتبقى الآثار المترتّبة على خالد.

وهذا يتصوّر على المبنى القائل بأنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالواقع لا بالجامع ، كما هو مسلك المحقّق العراقي.

والقضيّة الثانية : هي أنّ زمان المتيقّن قد يكون متّصلا بزمان المشكوك وسابقا عليه ، وقد يكون مردّدا بين أن يكون نفس زمان المشكوك أو الزمان الذي قبله.

ففي الحالة الأولى يصدق الشكّ في البقاء بلا شكّ.

وأمّا الحالة الثانية فمثالها أن يحصل له العلم إجمالا بأنّ هذا الثوب إمّا تنجّس في هذه اللحظة أو كان قد تنجّس قبل ساعة وطهّر ، فالنجاسة معلومة التحقّق في هذا الثوب أساسا ولكنّها مشكوكة فعلا ، وزمان المشكوك هو اللحظة الحاضرة ، وزمان النجاسة المتيقّنة لعلّه نفس زمان المشكوك ولعلّه ساعة قبل ذلك.

القضيّة الثانية : في جريان الاستصحاب مع عدم اتّصال زمان المتيقّن بزمان المشكوك.

وتوضيحه : أنّ زمان المتيقّن تارة يكون متّصلا بزمان المشكوك وسابقا عليه ، كما

٢١٢

إذا علم بنجاسة الثوب صباحا ثمّ شكّ في تطهيره عند الزوال ، فهنا لا إشكال في جريان الاستصحاب لتماميّة أركانه.

أمّا اليقين بالحدوث فهو ثابت عند الصباح ، وأمّا الشكّ في البقاء فهو ثابت عند الزوال ، وزمان المتيقّن أي الصباح متّصل بزمان المشكوك أي الزوال ، إذ لا يوجد فترة زمنيّة لم يكن فيها الثوب متّصفا بأحد الأمرين أي اليقين بالنجاسة والشكّ في بقائها ، وزمان المتيقّن أيضا سابق على زمان المشكوك ومتقدّم عليه.

وأخرى يكون زمان المتيقّن مشكوك الاتّصال بزمان المشكوك ، أي أنّه مردّد بين أن يكون زمانه سابقا على زمان المشكوك أو أنّهما حدثا معا ، كما إذا علم إجمالا بأنّ الثوب قد تنجّس إمّا الآن وإمّا قبل ساعة ، إلا أنّه إذا كان قد تنجّس قبل ساعة فيحتمل ارتفاع النجاسة عنه وذلك لاحتمال تطهيره قبل هذا الآن ، وأمّا إن كان قد تنجّس الآن فنجاسته مستمرّة ، وهذا ما يسمّى بتوارد الحالتين.

فهنا أصل حدوث النجاسة في الثوب معلوم من حيث إنّها قد حدثت في الثوب إمّا الآن وإمّا قبل ساعة ، فالشكّ ليس في حدوثها وإنّما الشكّ والترديد في تاريخها ، وأمّا زمان المشكوك فهو في هذا الآن الزماني أي اللحظة الحاضرة الحاليّة ؛ لأنّه إن كانت النجاسة حادثة قبل ساعة فيحتمل ارتفاعها بالطهارة الآن ؛ لأنّه يحتمل طروّ الطهارة على الثوب قبل هذا الآن ، وإن حدثت في هذا الآن فهذا يعني أنّ النجاسة لا تزال باقية ؛ لأنّها حدثت بعد الطهارة المعلومة سابقا.

وحينئذ حيث إنّ زمان المشكوك هو اللحظة الحاليّة وحيث إنّ زمان المتيقّن مردّد ، أي أنّه يحتمل أن يكون سابقا على زمان المشكوك ومتّصلا به ، ويحتمل أن يكون نفس زمان المشكوك ، فهذا يعني أنّ زمان المتيقّن لم يتّصل بزمان المشكوك أو على الأقلّ لا يحرز اتّصاله به وسبقه عليه ، وهذا يسبّب مشكلة في جريان الاستصحاب كما يظهر من اشتراط اتّصال الزمانين وعدم انفصالهما في جريان الاستصحاب.

وفي مثل ذلك قد يستشكل في جريان الاستصحاب ؛ لأنّ من المحتمل وحدة زمانيّ المشكوك والمتيقّن ، وعلى هذا التقدير لا يكون أحدهما بقاء للآخر ، فالشكّ إذا لم يحرز كونه شكّا في البقاء ، وبذلك يختلّ الركن الثاني ، فلا يجري

٢١٣

الاستصحاب في كلّ الحالات التي يكون زمان المتيقّن فيها مردّدا بين زمان المشكوك وما قبله.

وهنا إشكال ذكره صاحب ( الكفاية ) وهو ما يسمّى بشبهة انفصال زمان اليقين عن الشكّ.

وحاصله : أنّ الاستصحاب في الحالات المذكورة ـ التي يكون زمان المتيقّن فيها مردّدا بين أن يكون سابقا على زمان المشكوك أو نفس زمان المشكوك والتي تسمّى بتوارد الحالتين ـ لا يمكن إجراؤه وذلك لاختلال ركنه الثاني وهو عنوان ( الشكّ في البقاء ).

ببيان : أنّ زمان المتيقّن لو فرض سابقا على زمان المشكوك فلا إشكال في جريان الاستصحاب ؛ لأنّ عنوان الشكّ في البقاء يكون محقّقا ، حيث إنّه على هذا الفرض يكون قبل ساعة لدينا يقين ثمّ الآن نشكّ في بقائه.

وأمّا لو فرض كون زمان المتيقّن هو نفس زمان المشكوك ، أي أنّه في هذا الآن الزماني واللحظة الحاضرة هل الثوب تنجّس الآن أو لا يزال متنجّسا سابقا؟ فإذا تنجّس الآن فهذا يعني أنّه متنجّس بنجاسة غير مشكوكة البقاء ؛ بل مشكوك الحدوث ؛ لأنّ النجاسة المشكوكة البقاء هي نجاسة أخرى غير هذه التي يشكّ في حدوثها الآن ، إلا أنّ هذه النجاسة المشكوكة البقاء إنّما هي مشكوكة كذلك على تقدير حدوث هذه النجاسة قبل ساعة لا حدوثها الآن ، فالشكّ في البقاء تقديري لا فعلي.

والحاصل : حيث إنّنا نحتمل أن يكون زمان المتيقّن هو نفس زمان المشكوك فهذا يعني أنّنا لا نحرز عنوان ( الشكّ في البقاء ) ؛ لأنّ النجاسة الحادثة الآن ليست بقاء لنجاسة سابقة وإنّما هي نجاسة جديدة طارئة ، ولأنّ النجاسة المشكوكة ليست هي هذه النجاسة التي تحدث الآن ، بل يفترض أن تكون نجاسة أخرى غيرها موجودة قبل الآن ، وهذه النجاسة السابقة غير معلومة لكي يتعلّق الشكّ ببقائها.

ففي مثل هذا الفرض لا نحرز عنوان الشكّ في البقاء فلا يجري الاستصحاب لاختلال ركنه الثاني.

ومن هنا تظهر لنا الثمرة الثانية بين المسلكين في الاستدلال على الشكّ بالبقاء.

٢١٤

فإذا أخذنا بالروايات فلا بدّ من إحراز عنوان الشكّ بالبقاء وهو غير محرز في المقام ، فالإشكال وارد لاختلال الركن الثاني.

وإذا أخذنا بذاك البرهان فإنّه يفترض ضرورة وجود الشكّ لا أكثر ، ولا يقتضي لزوم كون الشكّ في البقاء ، وعنوان الشكّ هنا محرز وجدانا فيجري الاستصحاب لتماميّة الأركان من اليقين بالحدوث والشكّ.

ويمكن دفع الاستشكال : بأنّ ( الشكّ في البقاء ) بعنوانه لم يؤخذ صريحا في لسان روايات الاستصحاب ، وإنّما أخذ ( الشكّ ) بعد ( اليقين ) ، وهو يلائم كلّ شكّ متعلّق بما هو متيقّن الحدوث سواء صدق عليه ( الشكّ في البقاء ) أو لا.

وجواب الإشكال : أن يقال : إنّ عنوان الشكّ في البقاء لم يؤخذ صريحا في روايات الاستصحاب ، وإنّما المأخوذ فيها عنوان الشكّ بعد اليقين ، أي لا بدّ أن يكون لدينا عنوانان ( اليقين والشكّ ) وكلاهما متعلّقان بموضوع واحد أو بقضيّة واحدة ، فإذا كان لدينا يقين بنجاسة الثوب فلا بدّ أن يكون لدينا شكّ في نجاسته أيضا لكي يجري الاستصحاب ، فالركن هو أن يتعلّق الشكّ بنفس ما تعلّق به اليقين.

وفي مقامنا حيث نعلم بنجاسة الثوب إمّا الآن وإمّا قبل ساعة فعنوان اليقين بالحدوث متحقّق ، وحيث إنّنا نعلم بطروّ المطهّر قبل هذا الآن ، فهذا يعني أنّنا نشكّ في نجاسة هذا الثوب وطهارته في هذا الآن فيجري الاستصحاب.

إلا أنّ استصحاب النجاسة المتيقّنة يتعارض باستصحاب الطهارة المعلومة أيضا قبل هذا الآن ، وهذا يعني أنّه في موارد توارد الحالتين يجري كلّ من استصحاب النجاسة واستصحاب الطهارة ويتعارضان ويتساقطان.

فظهر أنّ هذه الثمرة غير تامّة ؛ لأنّ عنوان ( الشكّ في البقاء ) لم يذكر صريحا في الروايات ، بل المأخوذ فيها عنوان الشك فقط ، وهذا ثابت بالبرهان المذكور أيضا ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية.

والاستشكال المذكور إذا لم يندفع بهذا البيان يؤدّي إلى أنّ الاستصحاب في موارد توارد الحالتين لا يجري في نفسه لا من أجل التعارض.

فإذا علم بالحدث والطهارة وشكّ في المتقدّم منهما ، فهو يعلم إجمالا بالحدث إمّا الآن أو قبل ساعة ويشكّ في الحدث فعلا ، فزمان الحدث المشكوك هو الآن

٢١٥

وزمان الحدث المتيقّن مردّد بين الآن وما قبله ، فلا يجري استصحاب الحدث ، ومثل ذلك يقال في استصحاب الطهارة.

وهذا بعض معاني ما يقال من عدم اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين.

ثمّ إنّ الإشكال المتقدّم إن تمّ في مقامنا وقلنا بأنّ الاستصحاب لا يجري لعدم إحراز عنوان الشكّ في البقاء ، فسوف يرد نفس هذا الإشكال في سائر موارد توارد الحالتين ، فيكون الاستصحاب ساقطا من نفسه لا أنّه يسقط بسبب التعارض ، وأمّا إن لم يتمّ الإشكال وقبلنا العلاج الذي ذكرناه فالاستصحاب في موارد توارد الحالتين تام ويجري إلا أنّه يسقط بسبب المعارضة.

وتوضيح ذلك : إذا علم المكلّف بالطهارة والحدث وشكّ في المتقدّم منهما والمتأخّر ، فهذا ما يسمّى بتوارد الحالتين ، أي أنّه يعلم بطروّ الحدث ويعلم بحصول الطهارة ولكنّه لا يدري أيّهما المتقدّم والمتأخّر ، فإن كان الحدث هو المتقدّم فهذا يعني أنّه الآن على طهارة ، وإن كانت الطهارة هي المتقدّمة فهذا يعني أنّه الآن محدث.

والسؤال هنا هل يجري استصحاب الحدث في نفسه وكذا استصحاب الطهارة في نفسها أو لا؟

والجواب عن ذلك يختلف باختلاف الصياغة للركن الثاني للاستصحاب ؛ وذلك إن كان الركن هو ( الشكّ في البقاء ) فسوف لا يجري كلا هذين الاستصحابين ؛ لأنّه يشترط حينئذ أن يكون زمان المشكوك متّصلا بزمان المتيقّن ، أي أنّه متأخّر عنه ، وهذا الشرط لا يحرز تحقّقه في المقام ، وذلك أنّ المكلّف يعلم إجمالا في هذا الآن واللحظة الحاضرة إمّا أنّه محدث الآن وإمّا أنّه قد أحدث قبل ساعة مثلا.

ففي هذا الآن يشكّ فعلا في الحدث ؛ لأنّ الحدث إن كان قبل ساعة فقد ارتفع بطروّ الطهارة عليه ، وإن كان الحدث الآن فهو باق لتأخّره عن الطهارة ، فزمان الشكّ هو الآن واللحظة الحاضرة بينما زمان المتيقّن مردّد بين أن يكون الآن وبين أن يكون قبل ساعة ، ولذلك لا يحرز اتّصال زمان المتيقّن بزمان المشكوك ؛ لأنّ زمانه إمّا الآن أو قبل ساعة.

وهذا يعني أنّ عنوان ( الشكّ في البقاء ) غير محرز ؛ إذ على تقدير كون الحدث

٢١٦

متحقّقا قبل ساعة فالشكّ في الحدث يكون بقاء ، ولكنّه على تقدير كونه متحقّقا الآن فالشكّ في الحدث ليس بقاء.

فبناء على كون الركن هو الشكّ في البقاء لا يجري استصحاب الحدث ؛ لأن هذا العنوان غير محرز.

وأمّا بناء على كون الركن ما ذكرناه من كون الشكّ متعلّقا بنفس ما تعلّق به اليقين فيجري الاستصحاب ؛ لأنّ اليقين متعلّق بالحدث والشكّ متعلّق بالحدث أيضا.

وهكذا يقال بالنسبة للطهارة حيث إنّ المكلّف يعلم بالطهارة إمّا الآن وإمّا قبل ساعة ، فهو على شكّ فعليّ الآن لكن زمان المتيقّن لا يحرز كونه متّصلا بزمان المشكوك ؛ لأنّه مردّد بين هذا الآن وبين ما قبل ساعة ، فإن كان الآن فلا اتّصال وإن كان قبل ساعة فهناك اتّصال ، فلا يجري الاستصحاب لعدم إحراز كون الشكّ شكّا في البقاء ، بينما يجري لو أنكرنا ركنيّة الشكّ في البقاء.

والنتيجة : أنّه في حالة توارد الحالتين إن قلنا بركنيّة الشكّ في البقاء سوف لا يجري استصحاب الحدث أو الطهارة ، فيكون الاستصحاب ساقطا في نفسه لعدم توفّر أركانه ، وإن قلنا بركنيّة تعلّق الشكّ بنفس ما تعلّق به اليقين فسوف يجري كلا الاستصحابين ولكنّهما يتعارضان ويتساقطان.

وبهذا ظهر أنّ من ثمرات القول باتّصال زمان المتيقّن بزمان المشكوك هو عدم جريان الاستصحاب في نفسه في موارد توارد الحالتين ، وسيأتي مزيد تفصيل للمسألة لاحقا.

ثمّ إنّ هذا الركن الثاني قد يصاغ بصياغة أخرى ، فيقال : إنّ الاستصحاب متقوّم بأن يكون رفع اليد عن الحالة السابقة نقضا لليقين بالشكّ ، ويفرّع على ذلك : بأنّه متى ما لم يحرز ذلك واحتمل كونه نقضا لليقين باليقين ، فلا يشمله النهي في عموم دليل الاستصحاب.

وقد مثّل لذلك : بما إذا علم بطهارة عدّة أشياء تفصيلا ثمّ علم إجمالا بنجاسة بعضها ، فإنّ المعلوم بالعلم الإجمالي لمّا كان مردّدا بين تلك الأشياء فكلّ واحد منها يحتمل أن يكون معلوم النجاسة ، وبالتالي يحتمل أن يكون رفع اليد عن

٢١٧

الحالة السابقة فيه نقضا لليقين باليقين ، فلا يجري الاستصحاب بقطع النظر عن المعارضة بين الاستصحاب هنا والاستصحاب هناك.

الصياغة الثانية لركنيّة الشكّ هي ما ذكره الميرزا من كون الركن هو أن يكون رفع اليد عن الحالة السابقة يصدق عليه أنّه نقض لليقين بالشكّ ، ففي كلّ حالة يحرز ذلك يجري الاستصحاب.

وأمّا إذا كان رفع اليد عن الحالة السابقة يصدق عليه عنوان نقض اليقين باليقين ، أو كان يحتمل ذلك فلا يجري الاستصحاب.

أمّا الأوّل فواضح ؛ لأنّه القدر المفروغ عنه ، فإذا علم بالنجاسة ثمّ علم بالطهارة بعدها فلا إشكال في أنّ اليقين بالطهارة ينتقض باليقين بالنجاسة ؛ لأنّه نقض لليقين باليقين.

وأمّا الثاني ؛ فلأنّ احتمال صدق عنوان نقض اليقين باليقين معناه أنّه لا يحرز كون رفع اليد هنا من باب نقض اليقين بالشكّ ، وما دام هذا العنوان غير محرز فلا يجري الاستصحاب لعدم تماميّة أركانه أو لعدم تحقّق موضوعه ؛ وذلك لأنّ الحكم وهو حرمة النقض إنّما تثبت على موضوعها فقط وهو أن يكون رفع اليد عن الحالة السابقة ينطبق عليه عنوان نقض اليقين بالشكّ ، فما لم يحرز ذلك سوف لا يحرز موضوع الحرمة فلا تثبت.

ثمّ ذكروا مثالا لذلك وهو : فيما إذا علم بطهارة عشرة إناءات بنحو تفصيلي ثمّ علم إجمالا بنجاسة إناء منها.

فهنا لا يجري استصحاب الطهارة في أيّ واحد من الإناءات ، وذلك لعدم إحراز عنوان نقض اليقين بالشكّ ؛ وذلك لأنّ المعلوم بالإجمال يحتمل انطباقه على كلّ واحد من هذه العشرة ، فكلّ واحد منها يحتمل أن يكون هو النجس فيكون رفع اليد عن الحالة السابقة نقضا لليقين باليقين لا بالشكّ ، وما دام هذا الاحتمال موجودا فلا يمكن إجراء الاستصحاب لعدم إحراز موضوعه أو أركانه ، وهو كون رفع اليد عن الحالة السابقة يصدق عليه عنوان نقض اليقين بالشكّ ، ولذلك فلا يجري استصحاب الطهارة في كلّ واحد من هذه الإناءات العشرة في نفسه لعدم تماميّة أركانه ، لا أنّه يجري ويسقط بالمعارضة مع الاستصحاب في الآخر.

٢١٨

وأمّا إذا لم نأخذ بهذه الصياغة وأخذنا بما تقدّم من كون الركن هو ( الشكّ في البقاء ) فكلّ واحد معلوم الطهارة سابقا ويشكّ في نجاسته لاحقا فيجري الاستصحاب ، ولكن لا يمكن الأخذ بالاستصحاب فيها جميعا ؛ لأنّ ذلك يؤدّي إلى المخالفة القطعيّة للمعلوم بالإجمال وهو نجاسة أحد العشرة ، ولا يمكن الأخذ به في بعضها دون البعض الآخر فتتعارض وتتساقط.

ونلاحظ على ذلك :

أوّلا : أنّ العلم الإجمالي ليس متعلّقا بالواقع بل بالجامع ، فلا يحتمل أن يكون أيّ واحد من تلك الأشياء معلوم النجاسة.

ويرد على هذا : أوّلا : أنّنا لو سلّمنا هذه الصياغة إلا أنّ المثال المذكور غير تامّ ؛ لأنّ أركان الاستصحاب فيه تامّة حتّى على الصياغة الجديدة ، حيث إنّنا كنا على يقين بطهارة كلّ واحد من الإناءات العشرة ، فاليقين بالحدوث متحقّق ثمّ علمنا إجمالا بنجاسة أحدها ، وهذا العلم الإجمالي بناء على ما هو الصحيح والمختار متعلّق بالجامع لا بالواقع ، أي أنّنا نعلم بوجود كلّي النجاسة وجامع النجاسة بين هذه العشرة ، ولكن كلّ فرد منها مشكوك كونه النجس بخصوصيّاته ، وهذا يعني أنّنا إذا أخذنا كلّ إناء وحده فقد كنّا على يقين من طهارته ثمّ شككنا فيها فيجري استصحاب بقائها ؛ لأنّ رفع اليد عنه معناه رفع اليد عن الحالة السابقة المتيقّنة بالشكّ ، فهو من نقض اليقين بالشكّ.

ولا يحتمل أن يكون من باب نقض اليقين باليقين ؛ لأنّ اليقين بالنجاسة متعلّق بالجامع لا بالفرد ولا يسري هذا العلم من الجامع إلى الفرد إلا بعد حصول العلم التفصيلي.

وعليه فيجري الاستصحاب في كلّ الإناءات ولكنّه لا يمكن الأخذ به فيها جميعا ، ولا في بعضها دون البعض بسبب العلم الإجمالي المنجّز فيقع التعارض بينها ويحكم بتساقطها.

وثانيا : لو سلّمنا أنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالواقع فهو يتعلّق به على نحو يلائم مع الشكّ فيه أيضا ، ودليل الاستصحاب مفاده أنّه لا يرفع اليد عن الحالة السابقة في كلّ مورد يكون بقاؤها فيه مشكوكا ، وهذا يشمل محلّ الكلام حتّى لو انطبق العلم الإجمالي بالنجاسة على نفس المورد أيضا.

٢١٩

وثانيا : أنّنا لو سلّمنا المبنى القائل بأنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالواقع كما هي مقالة المحقّق العراقي ، إلا أنّه مع ذلك يجري الاستصحاب لتماميّة أركانه في المقام ؛ وذلك لأنّ العلم بالفرد ليس علما وجدانيّا ، وإنّما هو علم إجمالي.

وهذا العلم الإجمالي على ما فسّره المحقّق العراقي يتلاءم مع الشكّ ، أي أنّه يجتمع مع الشكّ أيضا ، فكلّ واحد من الإناءات يحتمل فيه أن يكون هو المعلوم بالإجمال ، لكن رفع اليد عن الحالة السابقة فيه يعتبر نقضا لليقين بالشكّ لا باليقين ، فيجري الاستصحاب فيه مع ملاحظة الشكّ المصاحب لليقين.

وحيث إنّ دليل الاستصحاب مفاده عدم جواز رفع اليد عن الحالة السابقة التي يصدق عليها أنّها من باب رفع اليقين بالشكّ ، فالمهمّ حينئذ كون البقاء مشكوكا أو كون رفع اليد مشكوكا سواء كان إلى جانب هذا الشكّ يقين أم لا ، إذ لا يضرّ وجوده ما دام عنوان النقض بالشكّ متحقّق وما دام النقض لم يستند إلى اليقين.

وبتعبير آخر : أنّ مفاد دليل الاستصحاب هو عدم جواز رفع اليد عن الحالة السابقة حيث يكون رفع اليد عنها يصدق عليه أنّه نقض لليقين بالشكّ ، فما دام هذا العنوان موجودا حرم النقض وجرى الاستصحاب لإثبات البقاء التعبّدي ، سواء كان إلى جانب هذا الشكّ يقين أم لا ؛ لأنّ وجوده إلى جانب الشكّ لا يضرّ ، وإنّما الذي يضرّ هو أن يكون النقض مستندا إلى اليقين نفسه فإنّه حينئذ لا يجري الاستصحاب.

وفي مقامنا حيث إنّ العلم الإجمالي المتعلّق بالواقع عبارة عن العلم المشوب بالشكّ لا العلم وحده ، فيكون كلّ واحد من الأفراد ـ وإن كان من المحتمل انطباق الواقع عليه ـ مشكوك البقاء ، ويكون رفع اليد عن حالته السابقة ـ أي الطهارة في موردنا ـ نقضا لليقين السابق بالشكّ اللاحق ، إذ لا يوجد يقين لكي ننقض به اليقين السابق ، وإنّما الموجود هو اليقين المشوب بالشكّ لا اليقين وحده. وما دام الشكّ موجودا فيصدق نقض اليقين بالشكّ.

نعم ، هذا الاستصحاب يجري في كلّ الأطراف ولذلك يقع التعارض والتساقط بسبب العلم الإجمالي المنجّز.

فإن قيل : بل لا يشمل ؛ لأنّنا حينئذ لا ننقض اليقين بالشكّ بل باليقين.

كان الجواب : أنّ ( الباء ) هنا لا يراد بها النهي عن النقض بسبب الشكّ ، وإلا

٢٢٠