تذكرة الفقهاء - ج ٢١

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

تذكرة الفقهاء - ج ٢١

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٩

تذكره الفقهاء المجلد ٢١

كتاب الوصايا

و فيه مقدّمة و مقاصد:

أمّا المقدّمة ففي ماهيّتها و تسويغها.

الوصيّة تمليك عين أو منفعة بعد الموت تبرّعا.

و هي مشتقّة من قولهم: وصى إليه بكذا يصيه صيتة إذا وصل به، و أرض واصية، أي: متّصلة النبات، فسمّي هذا التصرّف وصيّة؛ لما فيه من وصلة القربة الواقعة بعد الموت بالقربات المنجّزة في الحياة، فكأنّه وصل تصرّفه في حياته بتصرّفه بعد مماته، يقال: أوصيت لفلان بكذا و وصّيت، و أوصى إليه: إذا جعله وصيّه(١).

و هي جائزة بالنصّ و الإجماع.

قال اللّه تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢).

و قال تعالى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ (٣).

و قال تعالى: إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ الآية(٤).

و ما رواه العامّة عن سعد بن [أبي وقّاص](٥) قال: جاءني

١- في «ل»: «وصيّا».

٢- سورة البقرة: ١٨٠.

٣- سورة النساء: ١١.

٤- سورة المائدة: ١٠٦.

٥- بدل ما بين المعقوفين في النّسخ الخطّيّة و الحجريّة: «معاذ». و المثبت كما في المصادر.

١

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله يعودني عام حجّة الوداع من وجع اشتدّ بي، فقلت:

يا رسول اللّه قد بلغ بي من الوجع ما ترى و أنا ذو مال و لا يرثني إلاّ بنيّة أفأتصدّق بثلثي مالي ؟ قال: «لا» قلت: فالشطر يا رسول اللّه ؟ قال: «لا» قلت: فالثّلث ؟ قال: «الثّلث، و الثّلث كثير، إنّك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكفّفون الناس»(١).

و عن عليّ عليه السّلام قال: «إنّكم تقرؤون هذه الآية مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ و إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و اله قضى أنّ الدّين قبل الوصيّة»(٢).

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله: «ما حقّ امرئ [مسلم] له شيء [يوصى فيه] يبيت ليلتين إلاّ و وصيّته مكتوبة عنده»(٣).

و قدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله المدينة فسأل عن البراء بن معرور، فقيل: إنّه هلك و أوصى لك بثلث ماله، فقبل ثمّ ردّ على ورثته(٤).

و قال عليه السّلام: «إنّ اللّه أعطاكم ثلث أموالكم في آخر أعماركم زيادة في٦.

١- صحيح البخاري ١٠٣:٢، و ٣:٤، صحيح مسلم ١٢٥٠:٣-١٦٢٨/١٢٥١، سنن أبي داود ٢٨٦٤/١١٢:٣، الجامع الصحيح (سنن الترمذي) ٢١١٦/٤٣٠:٤، سنن النسائي (المجتبى) ٢٤١:٦-٢٤٢، سنن ابن ماجة ٩٠٣:٢-٢٧٠٨/٩٠٤، سنن الدارمي ٤٠٧:٢، السنن الكبرى - للبيهقي - ٢٦٨:٦، مسند أحمد ٢٩١:١ - ١٥٤٩/٢٩٢، الموطّأ ٤/٧٦٣:٢، المغني و الشرح الكبير ٤٤٤:٦.

٢- سنن ابن ماجة ٢٧١٥/٩٠٦:٢، السنن الكبرى - للبيهقي - ٢٣٢:٦، المغني ٦: ٤٤٤، الشرح الكبير ٤٤٥:٦.

٣- الموطّأ ١/٧٦١:٢، مسند أحمد ٥٤٨٧/٢٠٠:٢، صحيح البخاري ٢:٤، صحيح مسلم ١٦٢٧/١٢٤٩:٣، سنن أبي داود ٢٨٦٢/١١٢:٣، سنن النسائي (المجتبى) ٢٣٩:٦، السنن الكبرى - للبيهقي - ٢٧٢:٦، و ما بين المعقوفين أثبتناه منها.

٤- المستدرك - للحاكم - ٣٥٣:١، السنن الكبرى - للبيهقي - ٢٧٦:٦.

٢

أعمالكم»(١).

و من طريق الخاصّة: ما رواه حمّاد بن عثمان - في الصحيح - قال:

قال الصادق عليه السّلام: «ما من ميّت تحضره الوفاة إلاّ ردّ اللّه عليه من بصره و سمعه و عقله للوصيّة أخذ الوصيّة أو ترك، و هي الراحة التي يقال لها:

راحة الموت، فهي حقّ على كلّ مسلم»(٢).

و في الصحيح عن محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السّلام، قال: «الوصيّة حقّ على كلّ مسلم»(٣).

و عن عليّ عليه السّلام قال: «الوصيّة تمام ما نقص من الزكاة»(٤).

و قال الصادق عليه السّلام: «مرض عليّ بن الحسين عليهما السّلام ثلاث مرضات في كلّ مرضة يوصي بوصيّة، فإذا أفاق أمضى وصيّته»(٥).

و قد أجمع العلماء كافّة في جميع الأمصار و الأعصار على صحّة الوصيّة و جوازها.

إذا عرفت هذا، فعندنا أنّ الوصيّة واجبة لمن عليه حقّ؛ للآيات السابقة(٦).

و لما رواه الصادق عليه السّلام عن الباقر عليه السّلام قال: «من لم يوص عند موته لذوي قرابته ممّن لا يرثه فقد ختم عمله بمعصية»(٧).٩.

١- الحاوي الكبير ٣٢٠:٨، العزيز شرح الوجيز ٤:٧.

٢- الفقيه ٤٦٠/١٣٣:٤.

٣- التهذيب ٧٠١/١٧٢:٩.

٤- الفقيه ٤٦٤/١٣٤:٤، التهذيب ٧٠٦/١٧٣:٩ و ٧٠٧.

٥- الكافي ١٤/٥٦:٧، الفقيه ٦٠١/١٧٢:٤، التهذيب ٩٥٥/٢٤٦:٩.

٦- في ص ٥.

٧- الفقيه ٤٦٦/١٣٤:٤، التهذيب ٧٠٨/١٧٤:٩.

٣

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله: «من لم يحسن وصيّته عند الموت كان نقصا في مروءته و عقله»(١).

و عن أبي حمزة عن أحدهما عليهما السّلام، قال: «إنّ اللّه تعالى يقول: ابن آدم! تطوّلت عليك بثلاثة: سترت عليك ما لو علم به أهلك ما واروك، و أوسعت عليك و استقرضت منك لك فلم تقدّم خيرا، و جعلت لك نظرة عند موتك في ثلثك فلم تقدّم خيرا»(٢).

و الأخبار في ذلك أكثر من أن تحصى.

و لأنّ ذمّته مشغولة بالحقّ الذي عليه، فإذا لم يوص فقد فرّط في أداء الحقّ الواجب عليه، فكان مأثوما.

و لا فرق بين أن يكون الحقّ الذي وجب عليه للّه تعالى، كالزكاة و الخمس و الحجّ، أو دين لآدميّ.

و هل تجب على من ليس عليه حقّ؟ الأقرب: العدم؛ لأصالة براءة الذمّة.

و قيل بالوجوب مطلقا(٣).

و الأفضل تعجيل الصدقة في الحياة؛ لقوله عليه السّلام: «أفضل الصدقة أن تتصدّق و أنت صحيح شحيح تأمل الغنى و تخشى الفقر، و لا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت: لفلان كذا و لفلان كذا»(٤).٢.

١- الكافي ١/٢:٧، الفقيه ٤٨٢/١٣٨:٤، التهذيب ٧١١/١٧٤:٩.

٢- التهذيب ٧١٢/١٧٥:٩.

٣- الاستذكار ٣٣٢١١/٧:٢٣، التمهيد ٢٩٢:١٤، المحلّى ٣١٢:٩، الجامع لأحكام القرآن ٢٥٩:٢، ذيل تفسير الآية ١٨٠ من سورة البقرة، المغني ٤٤٥:٦، الشرح الكبير ٤٤٥:٦-٤٤٦.

٤- صحيح البخاري ١٣٧:٢، صحيح مسلم ١٠٣٢/٧١٦:٢.

٤

و إذا أراد الوصيّة، فالأفضل تقديم من لا يرث من أقاربه، و يقدّم منهم المحارم ثمّ غير المحارم ثمّ يقدّم بالرضاع.

٥

المقصد الأوّل: في أركان الوصيّة و فيه فصول:

الفصل الأوّل: في الصيغة و فيه مباحث:

البحث الأوّل: الإيجاب.

لا بدّ من الإيجاب في الوصيّة، و لفظه الصريح: أوصيت له بكذا، أو أعطوا فلانا بعد موتي كذا، أو ادفعوا إليه بعد موتي، أو جعلت له بعد موتي أو لفلان بعد موتي كذا، و كذا كلّ لفظ دلّ على ذلك القصد، مثل: ملّكته بعد موتي، أو وهبته بعد موتي.

و لو اقتصر على قوله: وهبت منه، و نوى الوصيّة، فالأقرب: أنّه يكون وصيّة؛ لأنّه أبلغ في التمليك من قوله: أوصيت.

و أظهر وجهي الشافعيّة: أنّه لا يكون وصيّة؛ لأنّه أمكن تنفيذه في موضوعه، و هو التمليك الناجز(١).

و لو قال: هو له، فهو إقرار يؤاخذ به، و لا يجعل كناية عن الوصيّة؛ لأنّه لا يصلح إقرارا.

١- الوسيط ٤٢٩:٤، العزيز شرح الوجيز ٦١:٧، روضة الطالبين ١٣٣:٥-١٣٤.

٦

و يحتمل أن يرجع إلى نيّته، فإذا قال: نويت أنّه له بعد الموت، كان وصيّة؛ لاحتمال اللفظ له، و هو أعرف بنيّته و قصده، فيرجع إليه فيه.

و لو قال: عيّنته له، فهو كناية؛ لأنّه يحتمل التعيين للتمليك بالوصيّة و التعيين للإعارة و الإخدام في الحال، فلا ينصرف إلى الوصيّة إلاّ بالتعيين، فإن عيّن صحّت بالكناية مع النيّة.

و للشافعيّة و جهان، أحدهما: تنفذ(١).

و تتعيّن الوصيّة بالكنايات جزما؛ لأنّ الوصيّة في نفسها تقبل التعليق بالأغرار، فأشبهت ما يقبل التعليق بالأغرار، كالكتابة، و الخلع [فإنّه] ينعقد بالكناية مع النيّة، فالوصيّة أولى؛ لأنّها إذا قبلت التعليق بالأغرار فبأن تقبل الكنايات أولى، و لأنّ الوصيّة لا تفتقر إلى القبول في الحال، فيشبه ما يستقلّ به الإنسان من التصرّفات.

مسألة ١: لا تنعقد الوصيّة إلاّ باللفظ مع القدرة عليه،

فلو كتب بخطّه: إنّي قد أوصيت لفلان بكذا، لم ينفذ إذا كان الشخص ناطقا - قاله بعض الشافعيّة(٢) - كما لو قيل له: أوصيت لفلان بكذا؟ فأشار أن نعم.

و يحتمل القبول مع قيام الإشارة مع الكتابة مقام التصريح باللفظ في العلم بما دلّ اللفظ عليه من الوصيّة، و لأنّ الكتابة بمثابة كنايات الألفاظ، و قد بيّنّا جواز الوصيّة بالكناية التي ليست صريحة في دلالتها عليها مع القرينة، فإذا كتب و قال: نويت الوصيّة لفلان، أو اعترف الورثة بعد موته به، وجب أن تصحّ.

أمّا لو اعتقل لسانه و لم يتمكّن من النطق فكتب الوصيّة أو أشار بما

١- الوجيز ٢٧٣:١، العزيز شرح الوجيز ٦٢:٧، روضة الطالبين ١٣٤:٥.

٢- العزيز شرح الوجيز ٦٢:٧، روضة الطالبين ١٣٤:٥.

٧

يدلّ على الرضا بها، أو قيل له: أوصيت بكذا؟ فيشير برأسه: نعم، أو يقرأ عليه كتاب الوصيّة فأشار بها، فإنّها تصحّ - و به قال الشافعي(١) - لما رواه العامّة: أنّ أمامة بنت أبي العاص أصمتت، فقيل لها: لفلان كذا و لفلان كذا، فأشارت أن نعم، فجعل ذلك وصيّة(٢).

و من طريق الخاصّة: ما رواه الحلبي - في الصحيح - عن الصادق عليه السّلام أنّ أباه حدّثه: «أنّ أمامة بنت أبي العاص ابن الربيع، و أمّها زينب بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله تزوّجها عليّ عليه السّلام بعد فاطمة عليها السّلام، فخلف عليها بعد عليّ عليه السّلام المغيرة بن نوفل، و أنّها توجّعت وجعا شديدا حتى اعتقل لسانها، فأتاها الحسن و الحسين عليهما السّلام و هي لا تستطيع الكلام، فجعلا يقولان - و المغيرة كاره [لما] يقولان -: أعتقت فلانا و أهله ؟ فتشير برأسها: نعم، أم: لا» قلت: فأجازا ذلك، قال: «نعم»(٣).

و عن سدير عن الباقر عليه السّلام قال: «دخلت على محمّد بن الحنفيّة و قد اعتقل لسانه فأمرته بالوصيّة، فلم يجب» قال: «فأمرت بالطشت فجعل فيه الرمل فقلت له: فخطّ بيدك» قال: «فخطّ وصيّته بيده إلى رجل و نسخت أنا في صحيفة»(٤).

و لأنّه غير قادر على النطق فصحّت وصيّته بالإشارة، كالأخرس.

و قال أبو حنيفة و أحمد: لا تصحّ الوصيّة إلاّ أن يكون مأيوسا منر.

١- العزيز شرح الوجيز ٦٣:٧، روضة الطالبين ١٣٥:٥، المغني ٥٦١:٦، الشرح الكبير ٤٥١:٦.

٢- مختصر المزني: ٢٠٨، التهذيب - للبغوي - ١٩١:٦، البيان ٤٠٢:١٠، العزيز شرح الوجيز ٦٣:٧، المغني ١٢:٩-١٣، الشرح الكبير ١١:٩.

٣- التهذيب ٩٣٦/٢٥٨:٨، و ما بين المعقوفين أثبتناه منه.

٤- التهذيب ٩٣٤/٢٤١:٩، و في الفقيه ٥٠٥/١٤٦:٤ بتفاوت يسير.

٨

نطقه؛ لأنّه لو لم يؤيس من نطقه فلا تقوم إشارته مقام نطقه، كالساكت(١).

و الفرق: أنّ الساكت قادر على الكلام.

مسألة ٢: إذا وجدت وصيّة بخطّ الميّت و لم يكن أشهد عليها و لا أقرّ بها،

لم يجب على الورثة العمل بها، بل لهم ردّها و إبطالها، سواء عملوا بشيء منها أو لا.

و قال الشيخ رحمه اللّه: يتخيّر الورثة بين العمل بها و بين ردّها و إبطالها، فإن عملوا بشيء منها لزمهم العمل بجميعها(٢) ؛ لما رواه إبراهيم بن محمّد الهمداني قال: كتبت إلى أبي الحسن عليه السّلام: رجل كتب كتابا فيه ما أراد أن يوصي به هل يجب على الورثة القيام بما في ذلك الكتاب بخطّه و لم يأمرهم بذلك ؟ فكتب: «إن كان ولده ينفذون (شيئا منه وجب عليهم أن ينفذوا)(٣) كلّ شيء يجدون في كتاب أبيهم في وجه البرّ و غيره»(٤).

و تحمل هذه الرواية على أنّهم اعترفوا بصحّة هذا الخطّ، فحينئذ يجب العمل بالجميع.

و اختلفت الشافعيّة:

فقال أكثرهم: لا تنفذ بذلك وصيّته(٥).

و قال بعضهم: إذا وجد له كتاب وصيّة بعد موته و لم تقم بيّنة على

١- الهداية - للمرغيناني - ٢٦٩:٤، المغني ٥٦٠:٦-٥٦١، الشرح الكبير ٦: ٤٥٠-٤٥١.

٢- النهاية: ٦٢١-٦٢٢.

٣- ما بين القوسين لم يرد في المصدر.

٤- الفقيه ١٤٦:٤-٥٠٧/١٤٧، التهذيب ٩٣٦/٢٤٢:٩.

٥- العزيز شرح الوجيز ٦٢:٧، روضة الطالبين ١٣٤:٥.

٩

مضمونه، وجب العمل به(١).

و قال أحمد: من كتب وصيّة و لم يشهد فيها و عرف خطّه و كان مشهورا بالخطّ حكم بها ما لم يعلم رجوعه عنها؛ لقول النبيّ صلّى اللّه عليه و اله: «ما حقّ امرئ مسلم له شيء يوصى فيه يبيت ليلتين إلاّ و وصيّته مكتوبة عنده»(٢)في «ر، ل»: «يصحّ».(٣) و لم يذكر شهادته، و لأنّ الوصيّة يتسامح فيها، و لهذا صحّ(٣) تعليقها على الخطر و الغرر، و صحّت الوصيّة للحمل و به و بما لا يقدر على تسليمه و بالمعدوم و المجهول، فجاز أن يتسامح فيها بقبول الخطّ، كرواية الحديث(٤).

و لا دلالة فيه؛ فإنّ المراد كتبة وصيّة تفيد العمل بها، و ذلك إنّما يتمّ بالإشهاد فيها، و التسامح فيها بما ذكر لا يوجب ثبوتها بغير بيّنة، و لهذا نصّ اللّه تعالى على وجوب الإشهاد بقوله: اِثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ (٥).

مسألة ٣: لو كتب وصيّة و قال للشهود: اشهدوا عليّ بما في هذه الورقة،

و لم يطلعهم على ما فيها، أو أشهد جماعة أنّ الكتاب خطّي و ما فيه وصيّتي، و لم يطلعهم على ما فيه، فأكثر الشافعيّة على أنّه لا تنفذ الوصيّة بذلك، و لا يعمل بما فيه حتى تشهد به الشهود مفصّلا(٦).

و قال بعضهم: يكفي الإشهاد عليه مبهما(٧).

و بعضهم اكتفى بالكتاب من غير إشهاد(٨).

١- العزيز شرح الوجيز ٦٢:٧-٦٣، روضة الطالبين ١٣٤:٥.

٢- تقدّم تخريجه في ص ٦، الهامش

٣- .

٤- المغني ٥٢١:٦ و ٥٢٢، الشرح الكبير ٤٥٢:٦.

٥- سورة المائدة: ١٠٦.

٦- العزيز شرح الوجيز ٦٢:٧، روضة الطالبين ١٣٤:٥.

٧- العزيز شرح الوجيز ٦٢:٧، روضة الطالبين ١٣٤:٥.

٨- العزيز شرح الوجيز ٦٢:٧-٦٣، روضة الطالبين ١٣٤:٥.

١٠

و الوجه: الأوّل.

و حكي عن أحمد: أنّ الرجل إذا كتب وصيّة و ختم عليها و قال للشهود: اشهدوا عليّ بما في هذا الكتاب لا يجوز حتى يسمعوا منه ما فيه، أو يقرأ عليه فيقرّ بما فيه، و بعض أصحابه قبله - و العجب من أحمد أنّه قبل الخطّ المجرّد عن الختم و الإشهاد(١) ، فمعهما أولى بالقبول - و ممّن قبل ذلك مكحول و مالك و الليث و الأوزاعي و محمّد بن مسلمة و أبو عبيد و إسحاق؛ لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و اله كان يكتب إلى عمّاله و أمرائه في أمر ولايته و أحكامه و سننه، ثمّ [ما] عمل به الخلفاء بعده من كتبهم إلى ولاتهم بالأحكام التي فيها الدماء و الفروج و الأموال يبعثون بها مختومة، و لا يعلم حاملها ما فيها، و أمضوها على وجوهها(٢).

و الوجه: الأوّل؛ لأنّه كتاب لا يعلم الشاهد ما فيه، فلم يجز أن يشهد عليه، مثل كتاب القاضي، و تلك المراسلات اعتمد فيها البناء على العادة و غلبة الظنّ بأمر الكاتب بما فيها مع معرفة الخطّ و قلّة الخطر فيها.

تذنيب: إذا ثبتت الوصيّة إمّا بالإشهاد أو بالإقرار، فإنّ حكمها يثبت و يعمل بها ما لم يعلم رجوعه عنها و إن طالت مدّته و تغيّرت أحوال الموصي، مثل أن يوصي في مرضه فيبرأ منه ثمّ يموت بعد؛ لأنّ الأصل بقاؤه، فلا يزول حكمه بمجرّد الاحتمال و الشكّ، كسائر الأحكام.

مسألة ٤: و يستحبّ أن يكتب الموصي وصيّته و يشهد عليها؛

لأنّه أحفظ لها و أحوط لما فيها.

١- راجع: الهامش (٤) من ص ١٥.

٢- المغني ٥٢٢:٦-٥٢٣، الشرح الكبير ٤٥٣:٦، و ما بين المعقوفين أثبتناه منهما.

و قد روي عنهم عليهم السّلام: «ما ينبغي لمسلم أن يبيت ليلة إلاّ و وصيّته تحت رأسه»(١).

و ينبغي تصديرها بالعهد الذي رواه الصادق عليه السّلام عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله: من لم يحسن وصيّته عند الموت كان نقصا في مروءته و عقله، قيل: يا رسول اللّه و كيف يوصي الميّت ؟ قال: إذا حضرته وفاته و اجتمع الناس إليه، قال: اللّهمّ فاطر السموات و الأرض عالم الغيب و الشهادة الرحمن الرحيم، إنّي أعهد إليك في دار الدنيا أنّي أشهد أن لا إله إلاّ أنت وحدك لا شريك لك، و أنّ محمّدا عبدك و رسولك، و أنّ الجنّة حقّ و النار حقّ، و أنّ البعث حقّ و الحساب حقّ و القدر و الميزان حقّ، و أنّ القرآن كما أنزلت، و أنّك أنت اللّه الحقّ المبين، جزى اللّه محمّدا (صلّى اللّه عليه و اله) خير الجزاء، و حيّى اللّه محمّدا و آل محمّد بالسلام، اللّهمّ يا عدّتي عند كربتي و يا صاحبي عند شدّتي و يا وليّ نعمتي، إلهي و إله آبائي لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدا فإنّك إن تكلني إلى نفسي أقرب من الشرّ و أبعد من الخير، و آنس في القبر وحشتي، و اجعل لي عهدا يوم ألقاك منشورا، ثمّ يوصي بحاجته، و تصديق هذه الوصيّة في القرآن في السورة التي تذكر فيها مريم في قوله عزّ و جلّ: لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٢) فهذا عهد الميّت، و الوصيّة حقّ على كلّ مسلم أن يحفظ هذه الوصيّة و يعلّمها، و قال أمير المؤمنين عليه السّلام: علّمنيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله، و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله: علّمنيها جبرئيل»(٣).٥.

١- المقنعة: ٦٦٦.

٢- سورة مريم: ٧٨.

٣- الكافي ٢:٧-١/٣، الفقيه ١٣٨:٤-٤٨٢/١٣٩، التهذيب ١٧٤:٩-٧١١/١٧٥.

١١

مسألة ٥: قال ابن الجنيد: لو وصّى رجل بغير خطّه و لم يشهد إلى أن يحضره الموت

فقال لجماعة من الشهود بحضرته: قد كتبت وصيّتي و تركتها عند زيد فاشهدوا عليّ بما فيها، ثمّ مات، كانت شهادتهم كلّهم كشهادتهم على شهادة زيد على الموصي.

فإن قال: قد جعلتها على نسختين عند زيد واحدة و عند عبد اللّه أخرى فاشهدوا عليّ بما فيهما، فأحضر زيد و عبد اللّه النسختين، قامت شهادة الشهود عليه مقام شهادتهم على شاهدين غير الآخرين.

و لو كانت ممّا كتبها بخطّه و لم يسترب به، جاز للشاهدين أن يشهدا عليه بما فيها إذا أمرهما بذلك.

و لو لم يشهد فيها ثمّ ذكر حالها و أخرجها المعدّلة عنده بعد موته، أنفذت.

و لو لم يقرأ الوصيّة على الشهود و طواها ثمّ قال: اشهدوا عليّ بما تضمّنته، فكتبوا، جازت الشهادة، و لو طبع عليها و قال لهم: اشهدوا عليّ بما فيها، فطبعوا مع طابعه، جاز لهم أن يشهدوا عليه بما فيها.

و في هذه الأحكام كلّها نظر، و الوجه: المنع من الجميع؛ لما سبق(١) من أنّه لا يجوز للشاهد أن يشهد بمجرّد معرفة خطّه.

البحث الثاني: في القبول.

مسألة ٦: الموصى له إن كان معيّنا،

كولده و زوجته و أجنبيّ معيّن، اشترط القبول، فلا يملك الموصى له الوصيّة إلاّ بالقبول؛ لأنّ الوصيّة عقد،

١- في ص ١٥-١٦، المسألة ٣.

فلا يتحقّق إلاّ بين اثنين عن تراض منهما، و الرضا من الأمور الباطنة، فلا بدّ من لفظ يدلّ عليه، و لأنّ الوصيّة تمليك مال لمن هو من أهل الملك متعيّن، فاعتبر قبوله، كالهبة.

و للشافعيّة خلاف(١) يأتي.

و إن كانت لغير معيّن، كالفقراء و المساكين و من لا يمكن حصرهم، كبني هاشم و بني تميم، أو على مصلحة، كمسجد أو قنطرة أو حجّ، لم تفتقر إلى القبول، و لزمت بالموت ما لم يكن قد رجع عنها؛ لأنّ اعتبار القبول من جميعهم متعذّر، فسقط اعتباره، كما لو وقف عليهم، و لا يتعيّن واحد منهم، فيكفي قبوله، و لأنّ الملك لا يثبت للموصى لهم، و إنّما يثبت لكلّ واحد منهم بالقبض، فيقوم قبضه مقام قبوله.

أمّا الآدمي المعيّن فيثبت له الملك، فيعتبر قبوله، و لا يشترط القبول لفظا، بل يكفي من الأفعال ما يدلّ عليه، كالأخذ و الفعل الدالّ على الرضا، كما في الهبة.

و يجوز القبول على الفور، أي: قبل الموت على خلاف، و على التراخي، أي: حين موت الموصي إجماعا.

مسألة ٧: اختلف علماؤنا،

فبعضهم(٢) اشترط وقوع القبول بعد موت الموصي، و لا يصحّ قبول الوصيّة و لا ردّها في حياة الموصي، و له الردّ و إن قبل في الحياة، و بالعكس - و هو المشهور عند الشافعيّة(٣) - لأنّه

١- العزيز شرح الوجيز ٦٣:٧، روضة الطالبين ١٣٥:٥.

٢- السيّد ابن زهرة في الغنية: ٣٠٦.

٣- المهذّب - للشيرازي - ٤٥٩:١، نهاية المطلب ٢٠٤:١١، الوسيط ٤٢٩:٤، حلية العلماء ٧٥:٦، التهذيب - للبغوي - ٩٢:٥، البيان ١٤٩:٨، العزيز شرح الوجيز ٦٣:٧، روضة الطالبين ١٣٥:٥.

١٢

لا حقّ له قبل الموت، لأنّ الوصيّة تحقيق ملك الموصى له بعد الموت، و قبل الموت باق على ملك الموصي.

و قال أبو حنيفة: إذا قبل في الحياة لم يكن له الردّ بعد الموت، و إذا ردّ في الحياة كان له القبول بعد الموت(١).

و قال بعض علمائنا: لو قبل قبل الوفاة جاز، و بعد الوفاة آكد(٢).

فعلى هذا إذا مات الموصي بعد قبول الموصى له في حياته، لم يحتج إلى تجديد قبول آخر، و كفى الأوّل في تماميّة الملك و استقراره، و لو مات [الموصى له] قبل موت الموصي بعد قبوله، لم يحتج الوارث إلى قبول بعد موت الموصي.

إذا عرفت هذا، فإنّه لا يشترط الفور في القبول بعد الموت؛ لأنّ الفور إنّما يشترط في العقود الناجزة التي يعتبر فيها ارتباط القبول بالإيجاب.

مسألة ٨: لو مات الموصى له قبل موت الموصي و قبل القبول،

فالمشهور بين علمائنا: أنّ الموصي إذا مات بعد ذلك قبل رجوعه عن الوصيّة فإنّ الوصيّة تنتقل إلى ورثة الموصى له، و ينتقل القبول إليهم - و به قال الحسن البصري(٣) - لأنّه مات بعد عقد الوصيّة، فيقوم الوارث مقامه، كما لو مات بعد موت الموصي و قبل القبول.

و لما رواه محمّد بن قيس عن الباقر عليه السّلام قال: «قضى أمير المؤمنين عليه السّلام

١- العزيز شرح الوجيز ٦٣:٧.

٢- المحقّق الحلّي في شرائع الإسلام ٢٤٣:٢.

٣- الحاوي الكبير ٢٥٧:٨، حلية العلماء ٧٧:٦، المغني ٤٦٦:٦، الشرح الكبير ٤٧٤:٦.

١٣

في رجل أوصى لآخر و الموصى له غائب فتوفّي الذي أوصي له قبل الموصي، قال: الوصيّة لوارث الذي أوصي له، إلاّ أن يرجع في وصيّته قبل موته»(١).

و لأنّ القبول حقّ للموروث(٢) ، فيثبت للوارث بعد موته، كخيار الردّ بالعيب.

قال المفيد رحمه اللّه: إذا أوصى الإنسان لغيره بشيء من ماله فمات الموصى له قبل الموصي، كان ما أوصى به راجعا على ورثته، فإن لم يكن له ورثة رجع إلى مال الموصي، إلى أن قال: و لصاحب الوصيّة إذا مات الموصى له قبله أن يرجع فيما أوصى له به، فإن لم يرجع كان ميراثا لمخلّفي الموصى له(٣).

و رواه ابن بابويه في كتابه(٤) ، و هو مذهب اشتهر بين الأصحاب.

و قال ابن الجنيد: لو كانت الوصيّة لأقوام بعينهم مذكورين يشار إليهم، كالذي يقول: لولد فلان هؤلاء، فإن ولد لفلان غيرهم، لم يدخل في الوصيّة، و إن مات أحدهم قبل موت الموصي بطل سهمه.

و هو يعطي بطلان الوصيّة إذا مات الموصى له قبل الموصي، و لا بأس به - و هو قول أكثر العامّة، و روي(٥) عن عليّ عليه السّلام، و به قال الزهري و حمّاد ابن أبي سليمان و ربيعة و مالك و الشافعي و أحمد و أصحاب الرأي(٦) - لأنّها -

١- الكافي ١/١٣:٧، التهذيب ٢٣٠:٩-٩٠٣/٢٣١، الاستبصار ١٣٧:٤-٥١٥/١٣٨.

٢- في الطبعة الحجريّة: «للمورّث».

٣- المقنعة: ٦٧٧.

٤- الفقيه ٥٤١/١٥٦:٤.

٥- في «ر، ص»: «و رووه».

٦- المغني ٤٦٥:٦-٤٦٦، الشرح الكبير ٤٧٣:٦-٤٧٤، الحاوي الكبير ٨: -

١٤

عطيّة صادفت المعطي ميّتا فلم تصح، كما لو وهب ميّتا، و ذلك لأنّ الوصيّة عطيّة بعد الموت، فإذا مات قبل القبول بطلت الوصيّة أيضا.

و لما رواه أبو بصير و محمّد بن مسلم - في الصحيح - جميعا عن الصادق عليه السّلام، قال: سئل عن رجل أوصى لرجل فمات الموصى له قبل الموصي، قال: «ليس بشيء»(١).

و في الموثّق عن منصور بن حازم عن الصادق عليه السّلام، قال: سألته عن رجل أوصى لرجل بوصيّة إن حدث به حدث، فمات الموصى له قبل الموصي، قال: «ليس بشيء»(٢).

قال الشيخ رحمه اللّه: الوجه في هذين الخبرين أحد شيئين:

أحدهما: أن يكون قوله: «ليس بشيء» يعني ليس بشيء ينقض الوصيّة، بل ينبغي أن تكون على حالها في الثبوت لورثته.

و الثاني: أن يكون المراد بذلك بطلان الوصيّة إذا كان غيّرها الموصي في حالة حياته؛ لقول عليّ عليه السّلام في الخبر الذي رواه محمّد بن قيس أوّلا:

«إلاّ أن يرجع في وصيّته قبل موته»(٣)(٤).

مسألة ٩: إذا ردّ الموصى له الوصيّة،

فإن كان قبل موت الموصي فقد قلنا: إنّه لا اعتبار بالردّ، لكن لو مات الموصى له قبل موت الموصي و بعد ردّه و قلنا: إنّ القبول ينتقل إلى الوارث، ففي انتقاله هنا نظر، أقربه:

١- التهذيب ٩٠٦/٢٣١:٩، الاستبصار ٥١٨/١٣٨:٤.

٢- التهذيب ٩٠٧/٢٣١:٩، الاستبصار ٥١٩/١٣٨:٤.

٣- راجع: الهامش (١) من ص ٢١.

٤- الاستبصار ١٣٨:٤-١٣٩، ذيل ح ٥١٩.

١٥

الانتقال، و إن كان بعد موت الموصي، فأقسامه أربعة:

الأوّل: أن يردّ الوصيّة قبل القبول، فتبطل الوصيّة، و يستقرّ الملك للورثة، و لا نعلم فيه خلافا؛ لأنّه أسقط حقّه في حال يملك قبوله و أخذه، فأشبه عفو الشفيع عن الشفعة بعد البيع، و إبراء المديون بعد الاستدانة، بخلاف ما لو ردّ قبل القبول في حياة الموصي؛ لأنّ الوصيّة هناك لم تقع بعد، فأشبه ردّ المبيع قبل إيجاب البيع، و لأنّ ذلك الوقت ليس محلاّ للقبول، فلا يكون محلاّ للردّ.

هذا إذا كان الموصى به عين مال أو منفعة و العين للورثة، أمّا لو أوصى بالعين لواحد و بالمنفعة لآخر فردّ الموصى له بالمنافع، فهي للورثة، و هو أظهر وجهي الشافعيّة، و الثاني: أنّها للموصى له بالعين(١).

و لو أوصى بخدمة عبد لإنسان سنة، و قال: هو حرّ بعد سنة، فردّ الموصى له، لم يعتق قبل السنة، و به قال الشافعي(٢).

و قال مالك: يعتق قبل السنة(٣).

الثاني: أن يقع بعد القبول و قبض الموصى له، فلا يصحّ الردّ إجماعا؛ لأنّ ملكه قد استقرّ و لزم، فلا يخرج عنه، إلاّ بعقد ناقل، و ليس الردّ منه، فأشبه ردّه لسائر ملكه، إلاّ أن ترضى الورثة بذلك، فيكون هبة منه لهم، و يشترط جميع شرائط الهبة من العقد و القبض.

الثالث: أن يقع الردّ بعد القبول و قبل القبض.

قال الشيخ رحمه اللّه: يجوز الردّ، قال: و في الناس من قال: لا يصحّ الردّ؛ لأنّه لمّا قبل ثبت ملكه إمّا بالموت أو بالشرطين، و إذا حصل في ملكه٧.

١- العزيز شرح الوجيز ٦٣:٧، روضة الطالبين ١٣٥:٥.

٢- العزيز شرح الوجيز ٦٣:٧، روضة الطالبين ١٣٥:٥.

٣- العزيز شرح الوجيز ٦٣:٧.

١٦

لم يكن له الردّ، ثمّ قال: و الصحيح أنّ ذلك يصحّ؛ لأنّه و إن كان قد ملكه بالقبول إلاّ أنّه لم يستقر ملكه عليه ما لم يقبضه، فصحّ منه الردّ، كما أنّ من وقف عليه شيء فإنّه متى ردّ صحّ ذلك و إن كان قد ملك الرقبة و المنفعة أو أحدهما(١).

و للشافعيّة و جهان، هذا أحدهما؛ لأنّه تمليك من آدميّ بغير عوض، فصحّ ردّه قبل القبض، كما لو وقف، و هو نصّ الشافعي في الأمّ، و أظهرهما عندهم: المنع؛ لأنّ الملك حاصل بعد القبول، فلا يرتفع بالردّ، كما في البيع، و كما بعد القبض(٢).

و هذا هو الوجه عندي؛ لأنّ الموصى له قد ملك بالوصيّة الجامعة للشرائط، فلا يزول ملكه عنه، إلاّ بسبب ناقل، و ليس الردّ ناقلا.

و قول الشيخ: «لم يستقر ملكه عليه» ممنوع؛ فإنّه عقد لا خيار فيه بحيث ينقسم إلى مستقرّ و غير مستقرّ، و القياس على الوقف باطل؛ لفساد القياس في نفسه، و قيام الفرق فيه؛ لأنّه إذا ردّ لم يحصل القبول الذي هو شرط أو جزء. نعم، لو قبل ثمّ ردّ لم يكن للردّ حكم.

و للحنابلة تفصيل، فقالوا: إن كان الموصى به مكيلا أو موزونا صحّ الردّ؛ لأنّه لا يستقرّ ملكه عليه قبل القبض، و إن كان غير ذلك لم يصح الردّ؛ لأنّ ملكه قد استقرّ عليه، فهو كالمقبوض، و لأنّه لمّا ملك الردّ من غير قبول ملك الردّ من غير قبض(٣).٦.

١- المبسوط - للطوسي - ٣٣:٤.

٢- المهذّب - للشيرازي - ٤٥٩:١، حلية العلماء ٧٦:٦، البيان ١٥٠:٨، العزيز شرح الوجيز ٦٤:٧، روضة الطالبين ١٣٥:٥، المغني ٤٦٨:٦، الشرح الكبير ٤٧٥:٦.

٣- المغني ٤٦٨:٦، الشرح الكبير ٤٧٥:٦.

١٧

و الملازمة ممنوعة.

الرابع: أن يردّ بعد القبض و قبل القبول، فإنّها تبطل؛ لأنّ القبول جزء السبب و قد حصل الردّ قبله، فيبطل العقد، كما لو لم يكن قبض؛ إذ القبض لا عبرة به، و لا مدخل له في التملّك.

مسألة ١٠: إذا ردّ الموصى له الوصيّة،

ففي كلّ موضع يصحّ ردّه فيه فإنّ الوصيّة فيه تبطل بالردّ، و يرجع إلى التركة، فيكون لجميع الورثة؛ لأنّ الأصل ثبوت الحقّ لهم، و إنّما خرج بالوصيّة، فإذا بطلت الوصيّة رجع إلى ما كان عليه، كأنّ الوصيّة لم توجد.

و لو عيّن بالردّ واحدا و قصد تخصيصه بالمردود، لم يكن له ذلك، و كان لجميعهم؛ لأنّ ردّه امتناع من تملّكه، فيبقى على ما كان عليه، و لأنّه لا يملك دفعه إلى أجنبيّ فلم يملك دفعه إلى وارث يخصّه به.

و كلّ موضع امتنع الردّ؛ لاستقرار ملكه عليه، فله أن يخصّ به واحدا من الورثة؛ لأنّه ابتداء هبة و تمليك، و لأنّه يملك أن يدفعه إلى أجنبيّ فملك أن يدفعه إلى وارث.

فإذا قال: رددت هذه الوصيّة لفلان، قيل له: ما أردت بقولك:

«لفلان»؟ فإن قال: أردت تمليكه إيّاها و تخصيصه بها، فقبلها، اختصّ بها إذا أتى بإيجاب الهبة، و إن قال: أردت ردّها إلى جميعهم لرضا فلان، عادت إلى جميعهم إذا قبلوها، و لو قبلها بعضهم دون بعض فللقابل حصّته منها خاصّة، و حصّة غيره للرادّ.

و قالت الشافعيّة: إذا قال الموصى له: رددت الوصيّة لفلان، يعني أحد الورثة، ففي الأمّ: إن قال: أردت لرضاه، كان ردّا على جميع الورثة،

و إن قال: أردت تخصيصه بالردّ عليه، فهو هبة منه خاصّة(١).

قال بعضهم: هذا مفرّع على تصحيح الردّ بعد القبول، و إلاّ فما لا يملكه لا يمكنه أن يملّكه غيره، ثمّ لم يعتبر لفظ الهبة و التمليك، و لا بدّ منه، و هو القياس عندهم(٢).

و لو مات و لم يبيّن مراده، جعل ردّا على جميع الورثة، فإذا لم يقبل الموصى له و لم يردّ فللوارث مطالبته بأحد الأمرين، فإن امتنع حكم عليه بالردّ.

تنبيه: يحصل الردّ بقول الموصى له: رددت الوصيّة، أو: لا أقبل الوصيّة، و ما يقوم مقام ذلك من ألفاظه و يؤدّي معناه.

آخر: لو كانت الوصيّة لاثنين فقبل أحدهما و ردّ الآخر، رجع نصيب الرادّ إلى جميع الورثة، كالواحد.

و قال ابن الجنيد: لا يرجع نصيب الرادّ إلى الورثة. و ليس بجيّد.

البحث الثالث: في سبب التملّك.

مسألة ١١: اختلف علماؤنا في أنّ الموصى له متى يملك ما أوصي له به ؟

قال في المبسوط: الأقوى أن يقال: إنّ الشيء الموصى به ينتقل إلى ملك الموصى له بوفاة الموصي، و قد قيل: إنّه بشرطين: بالموت، و قبول الموصى له. و قيل: إنّه مراعى، فإن قبل علم أنّه انتقل بالموت إليه، و إن ردّ علم أنّه بالموت انتقل إلى الورثة.

١- العزيز شرح الوجيز ٦٤:٧، روضة الطالبين ١٣٥:٥-١٣٦.

٢- العزيز شرح الوجيز ٦٤:٧، روضة الطالبين ١٣٦:٥.

ثمّ قال: و على ما قلناه لو أهلّ هلال شوّال و قد مات الموصي و قد أوصى له بجارية و لم يقبل الموصى له بعد، لزمه فطرتها، و على القولين الآخرين لا تلزمه، و إنّما رجّحنا الأوّل؛ لقوله تعالى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ (١) فأثبت الميراث بعد الوصيّة و الدّين، و لم يقل: بعد وصيّة و قبول الموصى له، فوجب أن لا يعتبر ذلك(٢).

و قال قبل ذلك: إذا مات الموصي متى ينتقل الملك إلى الموصى له ؟ قيل: فيه قولان:

أحدهما: إنّه ينتقل بشرطين: بوفاة الموصي، و قبول الموصى له، فإذا وجد الشرطان انتقل الملك عقيب القبول.

و القول الثاني: إنّه مراعى، إن قبل الوصيّة تبيّنا أنّه انتقل إليه الملك بوفاته، و إن لم يقبل تبيّنا أنّ الملك انتقل إلى الورثة بوفاته.

و قيل: فيه قول ثالث، و هو: إنّ الملك ينتقل إلى الموصى له بوفاة الموصي، مثل الميراث يدخل في ملك الورثة بوفاته، فإن قبل ذلك استقرّ ملكه عليه، و إن ردّ ذلك انتقل عنه إلى ورثته، و هذا قول ضعيف لا يفرّع عليه(٣) ، مع أنّه قال أوّلا: إنّه ينتقل بموت الموصي.

و قال في الخلاف: إذا أوصى له بشيء فإنّه ينتقل إلى ملك الموصى له بوفاة الموصي(٤).

و قال ابن الجنيد: فإن اكتسب العبد بعد موت السيّد و قبل قبول٨.

١- سورة النساء: ١١.

٢- المبسوط - للطوسي - ٣٣:٤-٣٤.

٣- المبسوط - للطوسي - ٢٨:٤.

٤- الخلاف ١٤٦:٤، المسألة ١٨.

١٨

الموصى له إيّاه، كان ما اكتسبه تابعا له. و هو يدلّ على الانتقال بالموت.

و قال ابن إدريس: الأقوى: أنّه لا ينتقل بالموت، بل بانضمام القبول من الموصى له، لا بمجرّد الموت(١).

و المعتمد أن نقول: إن كانت الوصيّة لغير معيّن لم يفتقر إلى القبول، و لزمت بالموت، و حصل الانتقال به، و إن كانت لمعيّن انتقل الملك إليه بوفاة الموصي انتقالا غير مستقرّ، بل متزلزلا قابلا للزوال، و إن ردّ ذلك انتقل عنه إلى ورثته؛ لأنّ الملك بعد موت الموصي إمّا أن يكون باقيا على ملكه، و هو باطل؛ لأنّ الميّت لا يملك شيئا، و استمرار الملك مع الموت بعيد جدّا، و إمّا أن ينتقل إلى الورثة، و هو باطل، و إلاّ لكان الموصى له يتلقّى الملك من الوارث لا من الميّت، و هو بعيد، و لأنّ الوارث لو كره الانتقال إلى الموصى له لم يعتد بكراهيّته في الانتقال و حكم به بغير اختيار الوارث، و إمّا أن يكون ملكا للّه تعالى، فلا يختصّ بالموصى له، بل يجب انتقاله إلى سبل الخير؛ لأنّها مصبّ حقّ اللّه تعالى، و إمّا أن يبقى بلا مالك، و هو بعيد؛ لاستحالة بقاء ملك بغير مالك، فتعيّن انتقاله إلى الموصى له.

فنقول حينئذ: لا يجوز انتقاله إليه على وجه اللزوم و الاستقرار، و إلاّ لما ارتدّ عنه بالردّ، و التالي باطل بالإجماع فالمقدّم مثله، و الملازمة ظاهرة؛ فإنّ الأملاك المستقرّة على أربابها لا تزول عنهم بردّهم إيّاها، و لا يمكن القول بالوقف؛ لأنّه إنّما يثبت الوقف بالنسبة إلينا؛ لعدم علمنا بالحكم، لا في نفس الأمر، و نحن قسمنا بالنسبة إلى ما في نفس الأمر، فلم يبق إلاّ ما ادّعيناه.٣.

١- السرائر ٢٠٢:٣.

١٩

و أمّا العامّة فقد اختلفوا:

فللشافعي أقوال ثلاثة:

أحدها: أنّه يدخل الموصى به في ملك الموصى له بموت الموصي بغير اختياره، كما يدخل الميراث في ملك الورثة، و يستقرّ بقبوله.

و هو قول غير مشهور بينهم.

و وجهه: أنّه يستحقّه بالموت، فأشبه الميراث، و لأنّه لا يجوز أن يبقى على ملك الميّت؛ لأنّه صار جمادا، و لا يجوز أن ينتقل إلى الورثة؛ لأنّ اللّه تعالى قال: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ (١) فثبت أنّه ينتقل إلى الموصى له.

و الثاني: أنّ الموصى له يملك ما أوصي له بالقبول؛ لأنّه تمليك بعقد، فيتوقّف الملك فيه على القبول، كما في البيع و نحوه، و به قال مالك و أبو حنيفة و أحمد و أهل العراق(٢).

و على هذا فالملك قبل القبول للوارث، أو يبقى للميّت ؟ فيه للشافعيّة و جهان، أصحّهما: الأوّل.

و الثالث - و هو أصحّ الأقوال عند الشافعيّة، و به قال المزني -: أنّ الملك موقوف في الحال، فإن قبل تبيّنّا أنّه ملك من يوم الموت، و إلاّ تبيّنّا أنّه كان ملكا للوارث من يومئذ؛ لأنّه لو ملك بالموت لما ارتدّ بالردّ، كالميراث، و بتقدير أن يرتدّ وجب أن يكون انتقاله إليهم بحسب الهبة منه، لا بحسب الإرث من الموصي.٦.

١- سورة النساء ١١:٤.

٢- المغني ٤٧١:٦، الشرح الكبير ٤٧٨:٦.

٢٠