تذكرة الفقهاء - ج ١٦

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

تذكرة الفقهاء - ج ١٦

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-437-x
الصفحات: ٤١٨

١
٢

٣
٤

المقصد الثامن : في الصلح‌

وفيه فصول :

الفصل الأوّل : في ماهيّته وأركانه‌

وفيه بحثان :

البحث الأوّل : في ماهيّته.

الصلح عقد شُرّع لقطع التنازع بين المتخاصمين.

وهو عقد سائغ بالنصّ والإجماع.

قال الله تعالى : ( وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ) (١) وقال تعالى : ( وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما ) (٢).

ومن طريق العامّة : عن أبي هريرة أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « الصلح جائز بين المسلمين إلاّ صلحاً أحلّ حراماً أو حرّم حلالاً » (٣).

وعن عبد الله بن كعب بن مالك أنّ كعب بن مالك أخبره أنّه تقاضى ابنَ أبي حَدْرَدٍ دَيْناً كان له ـ على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في المسجد ،

__________________

(١) النساء : ١٢٨.

(٢) الحجرات : ٩.

(٣) سنن أبي داوُد ٣ : ٣٠٤ / ٣٥٩٤ ، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان ٧ : ٢٧٥ / ٥٠٦٩ ، موارد الظمآن : ٢٩١ / ١١٩٩.

٥

فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو في بيته ، فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليهما حتى كشف سجف (١) حجرته ونادى : « يا كعب » قال : لبّيك يا رسول الله ، فأشار بيده أنْ ضَعِ الشطرَ من دَيْنك ، قال كعب : قد فعلتُ يا رسول الله ، قال : « قُمْ فاقبضه » (٢).

ومن طريق الخاصّة : ما رواه حفص بن البختري ـ في الحسن ـ عن الصادق عليه‌السلام قال : « الصلح جائز بين الناس » (٣).

وفي الصحيح عن الباقر والصادق عليهما‌السلام أنّهما قالا في رجلين كان لكلّ واحدٍ منهما طعام عند صاحبه لا يدري كلّ واحدٍ منهما كم له عند صاحبه ، فقال كلّ واحدٍ منهما لصاحبه : لك ما عندك ولي ما عندي ، فقال : « لا بأس بذلك » (٤).

وقد أجمعت الأُمّة على جواز الصلح في الجملة ، ولم يقع بين العلماء فيه خلاف.

مسألة ١٠٢٢ : الصلح عند علمائنا أجمع عقدٌ قائم بنفسه ليس فرعاً على غيره‌ ، بل هو أصل في نفسه منفرد بحكمه ، ولا يتبع غيره في الأحكام ؛ لعدم الدليل على تبعيّته على الغير ، والأصل في العقود الأصالة.

وقال الشافعي : إنّه ليس بأصلٍ ينفرد بحكمه ، وإنّما هو فرع على غيره. وقسّمه على خمسة أضرُب :

ضرب هو فرع البيع ، وهو أن يكون في يده عينٌ أو في ذمّته دَيْنٌ‌

__________________

(١) السجْف : الستر. النهاية ـ لابن الأثير ـ ٢ : ٣٤٣ « سجف ».

(٢) صحيح البخاري ٣ : ٢٤٦ ، صحيح مسلم ٣ : ١١٩٢ / ١٥٥٨ ، سنن البيهقي ٦ : ٦٣ ـ ٦٤ ، المعجم الكبير ـ للطبراني ـ ١٩ : ٦٧ ـ ٦٨ / ١٢٨.

(٣) الكافي ٥ : ٢٥٩ / ٥ ، التهذيب ٦ : ٢٠٨ / ٤٧٩.

(٤) التهذيب ٦ : ٢٠٦ / ٤٧٠.

٦

فيدّعيها إنسان فيُقرّ له بها ثمّ يصالحه على ما يتّفقان عليه ، وهو جائز فرع على البيع ، بل هو بيع عنده تتعلّق به أحكامه.

وضرب هو فرع الإبراء والحطيطة ، وهو أن يكون له في ذمّته دَيْنٌ فيُقرّ له به ثمّ يصالحه على أن يسقط بعضه ويدفع إليه بعضه ، وهو جائز ، وهو فرع الإبراء.

وضرب هو فرع الإجارة ، وهو أن يكون له عنده دَيْنٌ أو عينٌ فيصالحه من ذلك على خدمة عبدٍ أو سكنى دارٍ مدّةً ، فيجوز ذلك ، ويكون فرعَ الإجارة.

وضرب هو فرع الهبة ، وهو أن يدّعي عليه دارين أو عبدين وشبههما في يده ، فيُقرّ له بهما ، ويصالحه من ذلك على إحداهما ، فيكون هبةً للأُخرى.

وضرب هو فرع العارية ، وهو أن تكون في يده دار فيُقرّ له بها ، فيصالحه على سكناها شهراً ، وهو جائز ، ويكون ذلك عاريةً (١).

وقال بعض الشافعيّة : الصلح فرعٌ للبيع والإبراء والهبة خاصّةً. ثمّ فسّر الإبراء والهبة بما ليس بصلحٍ ، فقال : إذا كان له في ذمّته ألف درهم فقال : قد أبرأتك من خمسمائة ، ويدفع إليه خمسمائة ، فإن كان بلفظ الصلح ، لم يصح. وكذا إذا قال : أبرأتك من خمسمائة على أن تعطيني خمسمائة ، فإنّه لا يجوز (٢).

وقال بعضهم : يجوز بلفظ الصلح (٣).

ثمّ قال القائل الأوّل : لو ادّعى عليه عينين فأقرّ له بهما فوهب له‌

__________________

(١) البيان ٦ : ٢٢١ ـ ٢٢٤.

(٢ و ٣) لم نعثر عليه في مظانّه.

٧

إحداهما وأخذ الأُخرى جاز ، ولا يجوز بلفظ الصلح أو بالشرط ؛ لأنّ لفظ الصلح يقتضي المعاوضة ، فأمّا إذا صالحه على بعض الدَّيْن ، كان كأنّه قد باع ألفاً بخمسمائة ، وهو حرام (١).

وأمّا في الهبة فإذا كان بلفظ الصلح ، فكأنّه قد باع ماله بماله ، فلهذا لم يجز.

والمشهور عندهم : الجواز (٢) ؛ لأنّ لفظ الصلح إذا ذكر فيما كان معاوضةً اقتضى ذلك أن يكون معاوضةً ، فأمّا أن يكون لفظه يقتضيه فليس بصحيحٍ ؛ لأنّ الصلح إنّما معناه الاتّفاق والرضا ، والاتّفاق قد يحصل على المعاوضة وعلى غيرها ، كما أنّ لفظ التمليك إذا كان فيما طريقه المعاوضة ـ مثل : أن يقول : ملّكتك هذا بهذا ـ فإنّه يكون بيعاً ، فإذا قال : ملّكتك هذا ، كان هبةً حيث تجرّد عن العوض ، كذا هنا أيضاً.

وعلى القول الثاني يخرج قائله من أن يكون صلحاً ، ولا يبقى له ثَمَّ تعلّقٌ ؛ لأنّه إذا ادّعى عليه شيئاً ، فأقرّ به وأبرأه من بعضه وأخذ بعضه بغير لفظ الصلح ، فذلك براءة وقبض دَيْنه ، ولو أبرأه من جميعه لم يُسمّ صلحاً ، ولو قبض جميعه فكذلك ، فأمّا إذا كان بلفظ الصلح سُمّي بذلك ؛ لوجود لفظه وإن لم يوجد معناه ، كما تُسمّى الهبة المشروطة بالثواب هبةً ؛ لوجود لفظها وإن لم يوجد في ذلك معناها ، وهذا خلاف ما تقدّم ؛ لأنّه معاوضة إجماعاً.

فأمّا إذا قال : أبرأتك من خمسمائة على أن تعطيني خمسمائة فإنّ الشافعيّة منعوا منه ؛ لأنّ هذا الاشتراط يجعله بحكم العوض عن المتنازع‌

__________________

(١) لم نعثر عليه في مظانّه.

(٢) راجع الحاوي الكبير ٦ : ٣٦٨ ، والتهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ١٤٣ ، والبيان ٦ : ٢٢٤.

٨

وذلك لا يجوز (١).

وإذا ورث رجلان من أبيهما أو أخيهما فصالح أحدهما الآخَر على نصيبه ، كان ذلك صحيحاً عندنا مستقلاًّ بنفسه.

وعندهم أنّه فرع البيع ، فإذا شاهدا التركة وعرفا المعوّض ، صحّ الصلح (٢).

مسألة ١٠٢٣ : الصلح إمّا أن يجري بين المتداعيين ، أو بين المدّعي وبين أجنبيٍّ‌. والأوّل قسمان : أحدهما : ما يجري على الإقرار عند الشافعيّة (٣) ، وهو نوعان :

أحدهما : الصلح عن العين.

والثاني : الصلح عن الدَّيْن.

النوع الأوّل : الصلح عن العين.

وهو قسمان : صلح معاوضةٍ ، وصلح حطيطةٍ.

أمّا صلح المعاوضة فهو الذي يجري على العين المدّعاة ، كما لو ادّعى داراً فأقرّ له المتشبّث بها ، وصالحه منها على عبدٍ أو ثوبٍ. وحكمه حكم البيع عند الشافعي (٤) وإن عقد بلفظ الصلح ، وتتعلّق به جميع أحكام البيع ، كالردّ بالعيب ، والشفعة ، والمنع من التصرّف قبل القبض ، واشتراط‌

__________________

(١) الحاوي الكبير ٦ : ٣٦٧ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٣٤٠ ، البيان ٦ : ٢٢٢.

(٢) البيان ٦ : ٢٢٤.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٨٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٢٧.

(٤) مختصر المزني : ١٠٥ ، الحاوي الكبير ٦ : ٣٦٧ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٣٤٠ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ١٤١ ، البيان ٦ : ٢٢١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٨٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٢٨ ، منهاج الطالبين : ١٢٥.

٩

القبض إن كان المصالَح عنه والمصالَح عليه متوافقين في علّة الربا ، واشتراط التساوي في الكيل والوزن إن اتّحد جنسهما من أموال الربا ، وجريان التحالف عند الاختلاف ، وفساد العقد بالغرر والجهل.

هذا إذا صالح منها على عينٍ أُخرى ، وإن صالح منها على منفعة دارٍ أُخرى أو خدمة عبدٍ سنةً جاز ، وكان إجارةً ، فتثبت فيه أحكامها.

وأمّا صلح الحطيطة ، وهو الجاري على بعض العين المدّعاة ، كما لو صالح من الدار المدّعاة على نصفها أو ثلثها ، فإنّه هبة بعض المدّعى ممّن هو في يده ، فيشترط القبول ومضيّ إمكان القبض ، ويصحّ بلفظ الهبة ـ إجماعاً ـ وما في معناها.

وفي صحّتها بلفظ الصلح وجهان عندهم :

أحدهما : المنع ؛ لأنّ الصلح يتضمّن المعاوضة ، ولا يقابل الإنسان ملك نفسه ببعضه.

وأظهرهما عندهم : الصحّة ؛ لأنّ الخاصّيّة التي يفتقر إليها لفظ الصلح ـ وهو سبق الخصومة ـ قد حصلت (١).

مسألة ١٠٢٤ : لو صالحه من أرش الموضحة ـ مثلاً ـ على شي‌ءٍ معلوم ، جاز إذا علما قدر أرشها‌ ، وبه قال الشافعي (٢).

ولو باعه ، لم يجز عند بعض الشافعيّة (٣).

وخالفه معظم الشافعيّة في افتراق اللفظين.

وقالوا : إن كان الأرش مجهولاً ـ كالحكومة التي لم تُقدَّر ولم تُضبط ـ لم يجز الصلح عنه ولا بيعه.

__________________

(١ ـ ٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٨٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٢٨.

١٠

وإن كان معلومَ القدر والصفة ـ كالدراهم والدنانير إذا ضُبطت في الحكومة ـ جاز الصلح عنها ، وجاز بيعها ممّن عليه.

وإن كان معلومَ القدر دون الصفة على الحدّ المعتبر في السَّلَم كالإبل الواجبة في الدية ، ففي جواز الاعتياض عنها بلفظ الصلح وبلفظ البيع جميعاً للشافعيّة قولان :

أحدهما : الصحّة ، كما لو اشترى عيناً ولا يعرف صفاتها.

وأظهرهما عندهم : المنع ، كما لو أسلم في شي‌ءٍ غير موصوفٍ (١).

هذا حكم الجراح الذي لا يوجب القود ، وإن أوجبه إمّا في النفس أو فيما دونها ، فالصلح عنها مبنيّ عندهم على الخلاف في أنّ مُوجَبَ العمد القصاصُ أو أحدُ الأمرين؟ وسيأتي إن شاء الله تعالى (٢).

مسألة ١٠٢٥ : لا يشترط عندنا سبق الخصومة في الصلح‌ ؛ لأصالة الصحّة ، فلو كان لواحدٍ ملكٌ فقال له غيره : بِعْني ملكك بكذا ، فباعه ، صحّ البيع إجماعاً.

ولو قال له : صالحني عنه بألف ، ففَعَل ، صحّ عندنا ؛ لأنّ الصلح عقد مستقلّ بنفسه.

وهو أحد وجهي الشافعيّة ؛ لأنّ مثل هذا الصلح معاوضة ، ولا فرق بين أن يعقده بلفظ الصلح أو بلفظ البيع.

وأظهرهما عندهم : المنع ؛ لأنّ لفظ الصلح إنّما يُستعمل ويُطلق إذا سبقت الخصومة (٣).

__________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٨٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٢٩ ـ ٤٣٠.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٨٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٣٠.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٨٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٢٩.

١١

وهو ممنوع ، ولا عبرة باللفظ.

هذا إذا أطلقا لفظ الصلح ولم ينويا شيئاً ، أمّا إذا استعملا ونويا البيع ، فإنّه يكون كنايةً قطعاً ، ويكون عند الشافعيّة مبنيّاً على الخلاف المشهور في انعقاد البيع بالكنايات (١).

وعندنا الأصل عصمة مال الغير ، وعدم الانتقال عنه بالكناية.

مسألة ١٠٢٦ : لو صالح الإمام أهلَ الحرب من أموالهم على شي‌ءٍ يأخذه منهم ، جاز‌ ، ولا يقوم البيع مقامه ، وبه قال بعض الشافعيّة (٢).

واعترض بعضهم : بأنّ هذا الصلح ليس عن أموالهم ، وإنّما يصالحهم ويأخذه منهم للكفّ عن دمائهم وأموالهم (٣).

وهذا الكلام ساقط عندنا ؛ لأنّ الصلح عقد مستقلٌّ بنفسه على ما تقدّم (٤).

النوع الثاني : الصلح عن الدَّيْن.

وهو قسمان :

صلح معاوضةٍ‌ ، وهو الجاري على ما يغاير الدَّيْن المدّعى ، كما لو صالحه على الدَّيْن الذي له عليه بعبدٍ أو ثوبٍ أو شبهه.

وهو صحيح عندنا مطلقاً ، سواء وقع الصلح على بعض أموال الربا الموافق في العلّة أو المخالف ، أو على غيره.

__________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٨٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٢٩.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٨٧ ـ ٨٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٢٩.

(٤) في ص ٦ ، المسألة ١٠٢٢.

١٢

ولا يشترط التقابض في المجلس. ولا يشترط تعيينه في عقد الصلح على أصحّ الوجهين عندهم (١).

وإن لم يكن العوضان كذلك ، فإن كان العوض عيناً صحّ الصلح.

ولا يشترط قبضه في المجلس في أصحّ الوجهين عندهم (٢) ، لكن يشترط التعيين في المجلس ، ولا يشترط القبض بعد التعيين في أصحّ الوجهين (٣).

وكلّ ذلك آتٍ في بيع الدَّيْن ممّن عليه الدَّيْن.

القسم الثاني : صلح الحطيطة‌ ، وهو الجاري على بعض الدَّيْن المدّعى ، وهو إبراء عن بعض الدَّيْن.

ثمّ لا يخلو إمّا أن يأتي بلفظ الإبراء أو ما يشبهه ، مثل أن يقول : أبرأتك عن خمسمائة من الألف الذي لي عليك وصالحتك على الباقي ، فإنّه يصحّ قطعاً ، ويكون إبراءً ، وتبرأ ذمّة المديون عمّا أبرأه منه.

وهل يشترط القبول؟ الأقرب عندي : عدم الاشتراط ، وهو أظهر وجهي الشافعيّة (٤).

ولهم وجهٌ آخَر بعيد مطّرد في كلّ إبراءٍ (٥).

ولا يشترط قبض الباقي في المجلس.

وإمّا أن لا يأتي بلفظ الإبراء ، ويقتصر على لفظ الصلح ، فيقول : صالحتك عن الألف التي لي في ذمّتك على خمسمائة ، صحّ عندنا أيضاً.

وللشافعيّة وجهان كما تقدّم في صلح الحطيطة في العين.

والأصحّ عندهم : الصحّة (٦).

__________________

(١ ـ ٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٨٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٣٠.

(٤ ـ ٦) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٨٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٣٠.

١٣

وهل يشترط القبول؟ إشكال ينشأ : من كونه عقداً مستقلاًّ ، ومن كونه في معنى الإبراء.

وللشافعيّة وجهان كالوجهين فيما إذا قال لمن له عليه الدَّيْن : وهبته منك.

والأظهر عندهم : الاشتراط ؛ لاقتضاء وضع اللفظ ذلك (١).

ولو صالح منه على خمسمائة معيّنة ، فللشافعيّة الوجهان (٢).

واختار الجويني هنا الفسادَ ؛ لأنّ تعيّن الخمسمائة يقتضي كونها عوضاً وكون العقد معاوضةً ، فيصير كأنّه قد باع الألف بنصفها ، وهو ربا (٣).

وهو ممنوع ؛ لأنّ الصلح على البعض المعيّن إبراءٌ للبعض واستيفاءٌ للباقي ، ولا يصحّ هذا الضرب بلفظ البيع ، كما في نظيره من الصلح على العين ؛ لأنّه ربا محقّق.

مسألة ١٠٢٧ : يصحّ الصلح على الأعيان المتماثلة جنساً ووصفاً‌ ، سواء كانت ربويّةً أو لا ، وسواء تفاوتت في المقدار أو الحلول أو التأجيل ، أو لا ، عندنا ؛ لما تقدّم (٤) من كون الصلح عقداً مستقلاًّ بنفسه ليس يجب أن تتبعه لواحق البيع.

فلو كان له ألف مؤجَّلة على غيره ، فصالحه منها على ألفٍ حالّ ، أو بالعكس ، صحّ ؛ لما مهّدناه من القاعدة.

وقالت الشافعيّة : لو صالح عن ألفٍ حالّ على ألفٍ مؤجَّل ، أو من ألفٍ مؤجَّل على ألفٍ حالّ ، كان لغواً ؛ لأنّ الأوّل وَعْدٌ من صاحب الدَّيْن‌

__________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٨٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٣٠.

(٢ و ٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٨٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٣١.

(٤) في ص ٦ ، المسألة ١٠٢٢.

١٤

بإلحاق الأجل ، والثاني وَعْدٌ من المديون بإسقاط الأجل ، والأجل لا يلحق ولا يسقط (١).

وهو ممنوع ؛ لأنّه مبنيّ على عدم استقلال عقد الصلح بنفسه.

أمّا لو عجّل المديون الدَّيْنَ المؤجَّل ودفعه إلى صاحبه ، لم يجب على المالك القبولُ ، فإن قَبِل ورضي بالدفع سقط الأجل إجماعاً ؛ لحصول الإيفاء والاستيفاء.

وكذا البحث في الصحيحة والمكسّرة.

ولو صالح عن ألفٍ مؤجَّل على خمسمائة حالّة ، صحّ عندنا ؛ عملاً بالأصل.

وبما رواه أبان بن عثمان عمّن حدّثه عن الصادق عليه‌السلام ، قال : سألته عن الرجل يكون له على الرجل الدَّيْن ، فيقول له قبل أن يحلّ الأجل : عجِّل لي النصفَ من حقّي على أن أضع عنك النصفَ ، أيحلّ ذلك لواحدٍ منهما؟ قال : « نعم » (٢).

وفي الصحيح عن محمّد بن مسلم عن الباقر عليه‌السلام ، وعن الحلبي عن الصادق عليه‌السلام أنّهما قالا في الرجل يكون عليه الدَّيْن إلى أجل مسمّى ، فيأتيه غريمه فيقول : أنقدني من الذي لي عليك كذا وأضع عنك بقيّته ، أو يقول : أنقدني بعضاً وأمدُّ لك في الأجل فيما بقي ، قال : « لا أرى به بأساً ما لم يزد على رأس ماله شيئاً ، يقول الله [ عزّ وجلّ ] : ( فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ ) (٣) » (٤).

__________________

(١) الوسيط ٤ : ٥٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٨٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٣١.

(٢) الكافي ٥ : ٢٥٨ ـ ٢٥٩ / ٣ ، التهذيب ٦ : ٢٠٦ / ٤٧٤.

(٣) البقرة : ٢٧٩.

(٤) التهذيب ٦ : ٢٠٧ / ٤٧٥.

١٥

وقال الشافعي : لا يصحّ الصلح عن ألفٍ مؤجَّل بخمسمائة حالّة ؛ لأنّه نزل عن بعض المقدار لتحصيل الحلول في الباقي ، والصفة بانفرادها لا تُقابَل بالعوض ، ثمّ صفة الحلول لا تلتحق بالمال المؤجَّل ، فإذا لم يحصل ما نزل عن القدر لتحصيله لم يصح النزول (١).

ونحن نمنع ذلك ؛ لعدم اتّحاد المالين بالشخص. ونمنع عدم التحاق صفة الحلول بالمال المؤجَّل في صورة النزاع ؛ لأنّ الصلح عقد أثره ذلك.

فروع :

أ ـ لو صالحه عن ألفٍ حالّ بألفين مؤجَّلة ، أو عن ألفٍ مؤجَّلة إلى سنةٍ بألفين مؤجَّلة إلى سنتين ، لم يجز‌ ؛ عملاً بحديث الباقر والصادق عليهما‌السلام ، وقد سبق (٢).

ب ـ لو صالح عن ألفٍ حالّ على خمسمائة مؤجَّلة ، جاز‌ ؛ لأنّه يتضمّن الإبراء ، ولزم الصلح والأجل ؛ عملاً بالشرط.

وقالت الشافعيّة : إنّ هذا الصلح ليس فيه [ شائبة ] (٣) المعاوضة ، وإنّما هو مسامحة من وجهين : حطِّ بعض القدر ، وهو سائغ ، فيبرأ عن خمسمائة ، ووعدٍ بالأجل ، وهو غير لازمٍ ، فله أن يطالبه بالباقي الحالّ (٤).

وقد بيّنّا فساده.

ج ـ لو صالحه عن الدراهم بالدنانير أو بالدراهم ، لم يكن ذلك صَرفاً‌

__________________

(١) الوجيز ١ : ١٧٨ ، الوسيط ٤ : ٥١ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ١٤٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٨٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٣١.

(٢) في ص ١٥.

(٣) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « سابقة ». والصحيح ما أثبتناه من « العزيز شرح الوجيز ».

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٨٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٣١.

١٦

عندنا ، فلا يشترط فيه ما يشترط في الصَّرف ، خلافاً للشافعي (١).

البحث الثاني : في الأركان.

مسألة ١٠٢٨ : أركان الصلح أربعة : المتصالحان ، والمصالَح عليه ، والمصالَح عنه.

أمّا المتصالحان فيشترط فيهما الكماليّة بأن يكون كلّ واحدٍ منهما بالغاً عاقلاً رشيداً جائزَ التصرّف فيما وقع الصلح عليه إجماعاً.

وأمّا المصالَح عليه والمصالَح عنه فيشترط فيهما التملّك ، فلو تصالحا على خمر أو خنزير أو استرقاق حُرٍّ أو استباحة بُضْعٍ لم يقع ، ولم يفد العقد شيئاً ، بل يقع باطلاً بلا خلافٍ.

وكذا يبطل لو صالحه على مال غيره ؛ لعدم الملكيّة بالنسبة إليهما.

مسألة ١٠٢٩ : لا يشترط العلم بما يقع الصلح عنه لا قدراً ولا جنساً‌ ، بل يصحّ الصلح ، سواء علما قدر ما تنازعا عليه وجنسه أو جهلاه ، دَيْناً كان أو عيناً ، وسواء كان أرشاً أو غيره ، عند علمائنا أجمع ـ وبه قال أبو حنيفة وأحمد (٢) ـ لعموم قوله تعالى : ( وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ) (٣).

وعمومِ قوله عليه‌السلام : « الصلح جائز بين المسلمين إلاّ صلحاً أحلّ حراماً‌

__________________

(١) الأُم ٣ : ٢٢٧ ، الحاوي الكبير ٦ : ٣٦٧ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ١٤٣ ، البيان ٦ : ٢٢٤.

(٢) التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ١٤٣ ، البيان ٦ : ٢٢٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٨٨ ، المغني ٥ : ٢٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٩.

(٣) النساء : ١٢٨.

١٧

أو حرّم حلالاً » (١).

ولأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال في رجلين اختصما في مواريث درست بينهما : « وتوخّيا ، وليحلّل أحدكما صاحبه » رواه العامّة (٢).

ومن طريق الخاصّة : ما رواه حفص بن البختري ـ في الحسن ـ عن الصادق عليه‌السلام قال : « الصلح جائز بين الناس » (٣).

وقول الباقر والصادق عليهما‌السلام في رجلين كان لكلّ واحدٍ منهما طعام عند صاحبه لا يدري كلّ واحدٍ منهما كم له عند صاحبه ، فقال كلّ [ واحدٍ ] منهما لصاحبه : لك ما عندك ولي ما عندي : « لا بأس بذلك إذا تراضيا » وقد تقدّم (٤).

ولأنّ مَنْ عليه حقٌّ يجهل قدره هو ومالكه ويريد إبراء ذمّته والخلاص من ذلك الحقّ الذي هو أمر مطلوب للعقلاء ، وجب أن يكون له طريق إلى ذلك ، ولا طريق إلاّ الصلح ، فوجب أن يكون سائغاً ، وإلاّ لزم الحرج والضيق في الأحكام ، وهو منفيّ شرعاً.

ولأنّ الصلح إسقاطٌ ، فيصحّ في المجهول ، كالطلاق.

ولأنّه إذا صحّ الصلح مع العلم وإمكان أداء الحقّ بعينه فلأن يصحّ مع الجهل أولى.

ولأنّه إذا كان معلوماً ، فلهما طريق إلى التخلّص وبراءة ذمّة أحدهما دون صاحبه بدون الصلح ، ومع الجهل لا يمكن ذلك ، فلو لم يجز الصلح‌

__________________

(١) تقدّم تخريجه في الهامش (٣) من ص ٥.

(٢) سنن البيهقي ٦ : ٦٦ ، المغني ٥ : ٢٦ ، الشرح الكبير ٥ : ٩.

(٣) تقدّم تخريجه في ص ٦ ، الهامش (٣).

(٤) في ص ٦ مع تخريجه في الهامش (٤).

١٨

أفضى إلى ضياع المال على تقدير أن يكون بينهما مال لا يعرف كلّ واحدٍ منهما قدر حقّه.

وقال الشافعي : لا يصحّ الصلح عن المجهول ، فلو ادّعى مالاً مجهولاً فأقرّ المدّعى عليه به وصالحه عليه ، لم يصح الصلح ؛ لأنّ ذلك نوع معاوضةٍ ، ولهذا تثبت في الشقص الشفعة فيه ، فلم يصح في المجهول ، كالبيع ، ولأنّ المُصالَح عليه يجب أن يكون معلوماً ، فكذا المُصالَح عنه قياساً (١).

وهو ممنوع.

مسألة ١٠٣٠ : يشترط في صحّة الصلح الرضا من المتصالحين‌ ، فلا يقع مع الإكراه ، عند علمائنا كافّة ، كغيره من العقود ؛ لقوله تعالى : ( لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ ) (٢).

ومن صُور الإكراه ما لو كان على غيره حقٌّ ماليّ ، فأنكره المديون ظاهراً ، فصالحه على بعضه أو على غيره توصّلاً إلى أخذ بعض حقّه ، لم يصح الصلح ، ولم يتمّ إبراء ذمّة المديون من الحقّ الذي عليه ، سواء عرف المالك قدر حقّه أو لا ، وسواء ابتدأ المالك بطلب الصلح عن حقّه المعلوم أو المجهول أو لا.

ولا يفيد مثل هذا الصلح ملكاً للآخَر ، إلاّ أن يحصل الرضا الباطن.

وكذا لو كان عليه حقٌّ غير معلوم القدر للمالك ، فصالح المديون مالكه على شي‌ءٍ ، لم يكن إبراءً للمديون ، إلاّ أن يُعلمه بقدره ويرضى‌

__________________

(١) الحاوي الكبير ٦ : ٣٦٨ ـ ٣٦٩ ، التنبيه : ١٠٣ ـ ١٠٤ ، البيان ٦ : ٢٢٥ ، المغني ٥ : ٢٦ ، الشرح الكبير ٥ : ٩.

(٢) النساء : ٢٩.

١٩

باطناً ، أو يرضى باطناً بالصلح عن أيّ مقدارٍ كان أُوقع عليه عقد الصلح ؛ لما رواه عليّ بن أبي حمزة عن أبي الحسن عليه‌السلام ، قلت له : رجل يهوديّ أو نصرانيّ كانت له عندي وديعة أربعة آلاف درهم فمات أيجوز لي أن أُصالح ورثته ولا أُعلمهم كم كان؟ قال : « لا يجوز حتى تُخبرهم » (١).

ولأنّ ذلك أكل مال الغير بالباطل ، فيدخل تحت النهي ، ومع الرضا بأيّ مقدارٍ كان يكون سائغاً.

القسم الثاني من الصلح ، وهو الواقع بين المدّعي والأجنبيّ.

مسألة ١٠٣١ : الصلح الواقع بين المدّعي والأجنبيّ إمّا أن يقع مع إقرار المدّعى عليه ظاهراً أو مع إنكاره.

أمّا الأوّل فإمّا أن يكون المدّعى به عيناً أو دَيْناً.

فإن كان عيناً بأن ادّعى داراً أو عبداً أو ثوباً أو غير ذلك من الأعيان في يد غيره ، فصدّقه المتشبّث ، فجاء الأجنبيّ وقال : إنّ المدّعى عليه قد وكّلني في مصالحتك له على نصف المدّعى أو على هذه العين الأُخرى من مال المدّعى عليه ، فصالحه على ذلك ، جاز ؛ لعموم قوله تعالى : ( وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ) (٢).

وقوله عليه‌السلام : « الصلح جائز بين المسلمين » (٣).

وكذا لو قال الأجنبيّ : إنّه وكّلني على مصالحتك عنه على عشرة دنانير في ذمّته.

__________________

(١) الكافي ٥ : ٢٥٩ / ٦ ، الفقيه ٣ : ٢١ / ٥٤ ، التهذيب ٦ : ٢٠٦ / ٤٧٢ بتفاوت.

(٢) النساء : ١٢٨.

(٣) سنن ابن ماجة ٢ : ٧٨٨ / ٢٣٥٣ ، سنن أبي داوُد ٣ : ٣٠٤ / ٣٥٩٤ ، سنن الترمذي ٣ : ٦٣٤ ـ ٦٣٥ / ١٣٥٢ ، سنن الدارقطني ٣ : ٢٧ / ٩٧ ، سنن البيهقي ٦ : ٦٥ ، مسند أحمد ٣ : ٥٤ / ٨٥٦٦ ، المستدرك ـ للحاكم ـ ٤ : ١٠١.

٢٠