مقتل الحسين للخوارزمي - ج ١

أبي المؤيّد بن أحمد المكّي أخطب خوارزم [ خوارزمي ]

مقتل الحسين للخوارزمي - ج ١

المؤلف:

أبي المؤيّد بن أحمد المكّي أخطب خوارزم [ خوارزمي ]


المحقق: الشيخ محمّد السماوي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-6223-01-X
الصفحات: ٣٦٠
الجزء ١ الجزء ٢

تلقفها يزيد عن أبيه

ودونكها معاوي عن يزيدا

أديروها ـ بني حرب ـ عليكم

ولا ترموا بها الغرض البعيدا

فإن دنياكم بكم اطمأنت

فأولوا أهلها خلقا جديدا

وإن عصفت عليكم فاعصفوها

عصافا تستقم لكم شديدا

ثم نزل يزيد في قبة خضراء لأبيه ، وهو معتم بعمامة خزّ سوداء ، متقلد بسيف أبيه ، فلما دخل نظر ، فإذا قد فرش له فيها فرش كثير ، بعضه على بعض ، فرقى عليها بالكرسي ، وصعد حتى جلس على تلك الفرش ، فدخل الناس عليه يهنونه بالخلافة ويعزونه ، وهو يقول : نحن أهل الحقّ ، وأنصار الدّين فابشروا يا أهل الشام! فإن الخير لم يزل فيكم ، وسيكون بينكم وبين أهل العراق ملحمة ، فإني رأيت في منامي قبل ثلاث ليال ، كأنّ بيني وبين أهل العراق نهرا يطرد بالدم العبيط ، ويجري جريا شديدا ، وجعلت أجهد في منامي أن أجوز ذلك النهر ، فلم أقدر على ذلك ، حتى جاءني ـ عبيد الله بن زياد ـ فجازه بين يدي وأنا أنظر إليه.

فأجابه أهل الشّام وقالوا : امض بنا يا أمير المؤمنين! حيث شئت ، فنحن بين يديك ، وسيوفنا هي التي عرفها أهل العراق في يوم «صفين» ، فقال لهم : أنتم لعمري ، كذلك ، ثمّ قال : أيها الناس! إن معاوية كان عبدا من عباد الله ، أنعم الله عليه ، ثمّ قبضه إليه ، وهو خير ممن كان بعده ، ودون من كان قبله ، ولا ازكيه على الله ، فهو أعلم به مني ، فإن عفا عنه فبرحمته ، وإن عاقبه فبذنبه ، وقد وليت هذا الأمر من بعده ولست اقصر عن طلب حقّ ، ولا أعتذر من تفريط في باطل ، وإذا أراد الله شيئا كان.

فصاح الناس من كل جانب : سمعنا وأطعنا ، يا أمير المؤمنين!

قال : وبايعه النّاس كلهم ، وبايعوا ابنه ـ معاوية بن يزيد ـ بعده ،

٢٦١

وفتح بيوت الأموال ، فأخرج لأهل الشام أموالا جزيلة وفرقها عليهم ، وكتب إلى جميع البلاد بأخذ البيعة له ، فكان على المدينة يومئذ مروان بن الحكم فعزله وولى مكانه ابن عمّه ـ الوليد بن عتبة بن أبي سفيان ـ وكتب إليه :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

من عبد الله يزيد أمير المؤمنين إلى الوليد بن عتبة :

أما بعد ، فإن معاوية كان عبدا من عبيد الله أكرمه واستخلفه ومكن له ، ثمّ قبضه إلى روحه وريحانه ورحمته وثوابه ، عاش بقدر ومات بأجل ، وقد كان عهد إلي وأوصاني : أن أحذر ـ آل أبي تراب ـ وجرأتهم على سفك الدّماء ، وقد علمت يا وليد أن الله تعالى منتقم للمظلوم عثمان بن عفان من آل أبي تراب بآل سفيان ، لأنهم أنصار الحقّ وطلاب العدل ، فإذا ورد عليك كتابي هذا ، فخذ البيعة لي على جميع أهل المدينة.

قال : ثمّ كتب ـ صحيفة صغيرة ـ كأنها اذن فارة فيها :

أما بعد ـ فخذ الحسين ؛ وعبد الله بن عمر ؛ وعبد الرحمن بن أبي بكر ؛ وعبد الله بن الزبير ، بالبيعة أخذا عنيفا ليست فيه رخصة ، فمن أبى عليك منهم ، فاضرب عنقه ، وابعث إلي برأسه والسّلام.

٧ ـ أخبرني سيد الحفاظ أبو منصور شهردار بن شيرويه الديلمي ـ فيما كتب إلي من همدان ـ ، أخبرني زاهر بن طاهر النيسابوري ، أخبرني عبد الرحمن بن محمد الخسروردي ، أخبرني أحمد بن محمد بن حمدان ، أخبرني أبو يعلى أحمد بن علي الموصلي ، عن الحكم بن موسى ، عن الوليد ابن مسلم ، عن الأوزاعي ، عن مكحول ، عن أبي عبيدة بن الجراح قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا يزال أمر امتي قائما بالقسط ، حتى يكون أول من

٢٦٢

يثلمه رجل من بني أميّة يقال له : يزيد». قال الحافظ : وأخرج هذا الخبر الحافظ ابن أبي اسامة ؛ وابن منيع في «مسنديهما».

٨ ـ أخبرني أبو منصور هذا ، أخبرنا أبو علي الحداد ، أخبرنا أبو نعيم الحافظ ، أخبرنا العتابي ، أخبرنا أبو بكر بن عاصم ، حدثنا عبيد الله بن معاذ ، حدثني أبي ، حدثني عوف ، عن المهاجر بن مخلد ، عن أبي العالية ، عن أبي ذرّ ، أنه قال ليزيد بن معاوية : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «أوّل من يبدل ديني رجل من بني اميّة».

٩ ـ قال أحمد بن أعثم الكوفي : فلمّا ورد الكتاب على الوليد بن عتبة وقرأه ، قال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، يا ويح الوليد! ممن أدخله في هذه الامارة؟ مالي وللحسين بن فاطمة؟ ثمّ بعث إلى مروان فدعاه وأقرأه الكتاب فاسترجع مروان ، ثمّ قال : يرحم الله أمير المؤمنين معاوية ، فقال له الوليد : أشر عليّ برأيك في أمر هؤلاء القوم ، فقال مروان : أرى أن تبعث إليهم الساعة فتدعوهم إلى البيعة والدخول في طاعة يزيد ، فإن فعلوا قبلت ذلك منهم ، وكففت عنهم ، وإن أبوا قدّمتهم وضربت أعناقهم قبل أن يعلموا بموت معاوية ، فإنهم إن علموا بذلك ، وثب كلّ واحد منهم ، وأظهر الخلاف ، ودعا الى نفسه ، فعند ذلك أخاف أن يأتيك من قبلهم ما لا قبل لك به وما لا تقوم به ، إلا عبد الله بن عمر فإنه لا أراه ينازع في هذا أحد ، إلّا أن تأتيه الخلافة فيأخذها عفوّا ، فذر عنك ابن عمر ، وابعث الى الحسين بن علي ؛ وعبد الرحمن بن أبي بكر ؛ وعبد الله بن الزبير ، فادعهم إلى ـ البيعة ـ ، مع أني أعلم أن الحسين خاصة لا يجيبك إلى بيعة يزيد أبدا ، ولا يرى له عليه طاعة ، وو الله ، إني لو كنت بموضعك لم اراجع الحسين بكلمة واحدة حتى أضرب عنقه كائنا في ذلك ما كان.

٢٦٣

فأطرق الوليد برأسه إلى الأرض ساعة ، ثمّ رفع رأسه ، وقال : ليت الوليد لم يولد ، ولم يكن شيئا مذكورا ، ثم دمعت عيناه ، فقال له مروان : أيها الأمير! لا تجزع ممّا ذكرت لك ، فإن ـ آل أبي تراب ـ هم الأعداء من قديم الدهر ، ولا يزالون ، وهم الذين قتلوا عثمان ، وهم الذين ساروا إلى أمير المؤمنين معاوية فحاربوه ، وبعد فإني لست آمن أيها الأمير! إن لم تعاجل الحسين بن علي خاصة ، أن تسقط منزلتك من أمير المؤمنين يزيد؟

فقال له الوليد : مهلا ، ويحك دعني من كلامك هذا ، وأحسن القول في ـ ابن فاطمة ـ فإنّه بقيّة ولد النبيين ، ثم بعث الوليد إلى الحسين بن علي ؛ وعبد الرحمن بن أبي بكر ؛ وعبد الله بن عمر ؛ وعبد الله بن الزبير ؛ فدعاهم وأقبل إليهم رسوله ، وهو عمرو بن عثمان ـ ، فلم يصب القوم في منازلهم ، فمضى نحو ـ المسجد ـ فإذا هم عند قبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فسلم عليهم ، ثم قال : الأمير يدعوكم فصيروا إليه.

فقال الحسين : «نفعل ذلك إذا نحن فرغنا من مجلسنا إن شاء الله».

قال : فانصرف الرسول إلى الوليد وأخبره بذلك ، وأقبل ـ عبد الله بن الزبير ـ على ـ الحسين ـ فقال : يا أبا عبد الله! إنّ هذه ساعة لم يكن الوليد بن عتبة يجلس فيها للناس ، وإني قد أنكرت بعثه إلينا ودعاءه إيانا في مثل هذا الوقت ، أفترى لما ذا بعث إلينا؟

فقال له الحسين : «أنا اخبرك : أظن أنّ معاوية قد مات ، وذلك إني رأيت البارحة في منامي كأنّ معاوية منكوس ، ورأيت النّار تشتعل في داره ، فتأولت ذلك في نفسي أن قد مات معاوية». فقال ابن الزبير : فاعلم أنّ ذلك كذلك ، فما ذا ترى نصنع يا أبا عبد الله! إن دعينا إلى ـ بيعة يزيد ـ.

فقال الحسين : «أما أنا فلا ابايع أبدا ، لأن الأمر كان لي بعد أخي

٢٦٤

الحسن ، فصنع معاوية ما صنع ، وكان حلف لأخي الحسن : أن لا يجعل الخلافة لأحد من ولده ، وأن يردّها عليّ إن كنت حيا ، فان كان معاوية خرج من دنياه ولم يف لي ، ولا لأخي بما ضمن ، فقد جاءنا ما لا قرار لنا به ، أتظن أبا بكر! أني ابايع ليزيد ، ويزيد رجل فاسق ، معلن بالفسق ، يشرب الخمر ، ويلعب بالكلاب والفهود ، ونحن بقية آل الرسول ، لا ، والله ، لا يكون ذلك أبدا».

قال : فبينا هما كذلك في المحاورة إذ رجع الرسول فقال : أبا عبد الله! إنّ الأمير قاعد لكما خاصة ، فقوما إليه ، فزبره الحسين وقال : «انطلق إلى أميرك لا أمّ لك ، فمن أحب أن يصير إليه منا فإنه صائر إليه ، فأما أنا فإني أصير إليه الساعة إن شاء الله ، ولا قوة إلّا بالله».

فرجع الرسول أيضا إلى الوليد ، فقال : أصلح الله الأمير ، أما الحسين ابن عليّ خاصة ، فإنه صائر إليك في أثري فقد أجاب ، فقال مروان : غدر والله الحسين ، فقال الوليد : مهلا ، فليس مثل الحسين يغدر ، ولا يقول شيئا ثمّ لا يفعل.

قال : ثمّ إن الحسين أقبل على من معه ، وقال : «صيروا إلى منازلكم ، فإني صائر إلى الرجل فانظر ما عنده ، وما يريد»؟ ، فقال له ابن الزبير : جعلت فداك! إني خائف عليك أن يحبسوك عندهم ، فلا يفارقونك أبدا ، دون أن تبايع أو تقتل.

فقال الحسين : «إني لست أدخل عليه وحدي ، ولكني أجمع إلي أصحابي وخدمي وأنصاري وأهل الحق من شيعتي ، ثمّ آمرهم أن يأخذ كلّ واحد منهم سيفه ، مسلولا تحت ثيابه ، ثم يصيروا بازائي ، فإذا أنا أومأت إليهم ، وقلت : يا آل الرسول! ادخلوا ، فعلوا ما أمرتهم به ، فأكون على

٢٦٥

الامتناع دون المقادة والمذلة في نفسي ، فقد علمت ، والله أنه جاء من الأمر ما لا أقوم به ، ولا أقرّ له ، ولكن قدر الله ماض ، وهو الذي يفعل في أهل بيت رسول الله ما يشاء ويرضى».

ثم قام وصار إلى منزله ، فدعا بماء فتطهر واغتسل ، وصلّى ركعتين ، ودعا ربه بما أحبّ أن يدعو به ، فلما انفتل من صلاته أرسل إلى فتيانه وعشيرته ومواليه وأهل بيته ، وأعلمهم شأنه ، وقال : «كونوا بباب هذا الرجل ، فإني ماض إليه ومكلّمه ، فإن سمعتم صوتي وكلامي قد علا مع القوم ، وصحت بكم : يا آل الرسول! فاقتحموا بغير إذن ، ثمّ اشهروا السيوف ولا تعجلوا ، فإن رأيتم ما تخشون فضعوا سيوفكم فيهم ، واقتلوا من أراد قتلي».

ثمّ خرج الحسين من منزله وفي يده قضيب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو في ثلاثين رجلا من أهل بيته ومواليه وشيعته ، فوقفهم على باب الوليد ، ثمّ قال : «انظروا ما أوصيتكم به ، فلا تعدوه ، وأنا أرجو أن أخرج إليكم سالما إن شاء الله» ، ثمّ دخل على الوليد فسلّم عليه بالإمرة ، وقال : كيف أصبح الأمير اليوم؟ وكيف حاله؟ فردّ عليه الوليد ردا حسنا ، ثمّ أدناه وقربه ، ومروان هنالك جالس ، وقد كان بين مروان والوليد منافرة ومنازعة ، فلما نظر الحسين إلى مروان جالسا في مجلس الوليد ، قال : «أصلح الله الأمير ، الصلاح خير من الفساد ، والصلة خير من الشحناء ، وقد آن لكما أن تجتمعا ، فالحمد لله الذي أصلح ذات بينكما» ، فلم يجيباه في هذا بشيء ، فقال الحسين : هل ورد عليكم من معاوية خبر ، فإنه كان عليلا ، وقد طالت علته ، فكيف هو الآن ، فتأوّه الوليد وتنفس الصعداء ، وقال : يا أبا عبد الله! آجرك الله في معاوية ، فقد كان لكم عمّ صدق ووالي عدل ، لقد ذاق الموت ،

٢٦٦

وهذا كتاب أمير المؤمنين يزيد.

فقال الحسين : «إنا لله وإنا إليه راجعون ، وعظّم الله لك الأجر أيها الأمير! ، ولكن لما ذا دعوتني»؟ فقال : دعوتك للبيعة التي قد اجتمع الناس عليها ، فقال الحسين : «أيها الأمير! إنّ مثلي لا يعطي بيعته سرا ، وإنما يجب أن تكون البيعة علانية بحضرة الجماعة ، فإذا دعوت النّاس غدا إلى البيعة دعوتنا معهم ، فيكون الأمر واحدا» ، فقال الوليد : أبا عبد الله! والله ، لقد قلت فأحسنت القول ، وأجبت جواب مثلك ، وهكذا كان ظني بك ، فانصرف راشدا ، وتأتينا غدا مع النّاس.

فقال مروان : أيها الأمير! إن فارقك الساعة ولم يبايع ، فإنك لم تقدر منه على مثلها أبدا ، حتّى تكثر القتلى بينك وبينه ، فاحبسه عندك ، ولا تدعه يخرج ، أو يبايع وإلا فاضرب عنقه.

فالتفتّ إليه الحسين وقال : «ويلي عليك ، يا ابن الزرقاء! أتأمر بضرب عنقي ، كذبت والله ، ولؤمت ، والله لو رام ذلك أحد لسقيت الأرض من دمه قبل ذلك ، فإن شئت ذلك فرم أنت ضرب عنقي إن كنت صادقا» ثمّ أقبل الحسين على الوليد ، فقال : «أيها الأمير! إنّا أهل بيت النبوّة ، ومعدن الرسالة ؛ ومختلف الملائكة ؛ ومهبط الرحمة ؛ بنا فتح الله وبنا ختم ؛ ويزيد رجل فاسق شارب خمر ؛ قاتل نفس ؛ معلن بالفسق ، فمثلي لا يبايع لمثله ولكن نصبح وتصبحون ؛ وننظر وتنظرون أينا أحق بالخلافة والبيعة»؟

قال : وسمع من بالباب صوت الحسين ، وقد علا فهمّوا أن يقتحموا عليهم بالسيوف ، ولكن خرج إليهم الحسين ، فأمرهم بالانصراف إلى منازلهم ، وذهب إلى منزله.

فقال مروان للوليد : عصيتني أيها الأمير! حتى أفلت الحسين من

٢٦٧

يديك ، أم والله ، لا تقدر منه على مثلها أبدا ، وو الله ، ليخرجنّ عليك وعلى أمير المؤمنين فاعلم ذلك ، فقال الوليد لمروان : ويحك ، إنك قد أشرت عليّ بقتل الحسين ، وفي قتله : ذهاب ديني ودنياي ، والله ، إني لا احب أن أملك الدّنيا بأسرها شرقها وغربها وإني قتلت ـ الحسين بن فاطمة ـ ، والله ، ما أظن أحدا يلقى الله يوم القيامة بدمه إلّا وهو خفيف الميزان عند الله ، لا ينظر إليه ولا يزكيه وله عذاب أليم.

قال : وأصبح الحسين من غده يستمع الأخبار فاذا هو بمروان بن الحكم قد عارضه في طريقه ، فقال : أبا عبد الله! إني لك ناصح فأطعني ترشد وتسدد ، فقال : «وما ذاك؟ قل أسمع» ، فقال : إني أرشدك لبيعة يزيد ، فإنها خير لك في دينك وفي دنياك ، فاسترجع الحسين ، وقال : «إنا لله وإنا إليه راجعون ، وعلى الإسلام السّلام إذا بليت الامة براع مثل يزيد ، ثم قال : يا مروان! أترشدني لبيعة يزيد ، ويزيد رجل فاسق ، لقد قلت شططا من القول وزللا ، ولا ألومك فإنك ـ اللعين ـ الذي لعنك رسول الله ، وأنت في صلب أبيك ـ الحكم بن العاص ـ ، ومن لعنه رسول الله فلا ينكر منه أن يدعو لبيعة يزيد ، إليك عني يا عدو الله! فإنّا أهل بيت رسول الله ، الحقّ فينا ينطق على ألسنتنا ، وقد سمعت جدّي رسول الله يقول : الخلافة محرّمة على آل أبي سفيان الطلقاء وأبناء الطلقاء ، فإذا رأيتم معاوية على منبري فأبقروا بطنه ، ولقد رآه أهل المدينة على منبر رسول الله فلم يفعلوا به ما امروا ، فابتلاهم بابنه يزيد».

فغضب مروان من كلام الحسين فقال : والله ، لا تفارقني حتّى تبايع ليزيد صاغرا ، فإنكم ـ آل أبي تراب ـ قد ملئتم شحناء ، واشربتم بغض ـ آل أبي سفيان ـ ، وحقيق عليهم أن يبغضوكم.

٢٦٨

فقال الحسين : «إليك عني ، فإنك رجس ، وإني من أهل بيت الطهارة قد أنزل الله فينا : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)» الأحزاب / ٣٣ ، فنكس رأسه ولم ينطق. ثمّ قال له الحسين : «ابشر ، يا ابن الزرقاء! بكل ما تكره من رسول الله ، يوم تقدم على ربّك فيسألك جدي عن حقي وحق يزيد» ، فمضى مروان الى الوليد وأخبره بمقالة الحسين.

قال : وكان ـ عبد الله بن الزبير ـ مضى إلى مكة حين اشتغلوا بمحاورة الحسين ، وتنكب الطريق ، فبعث الوليد بثلاثين رجلا في طلبه ، فلم يقدروا عليه ، فكتب الوليد إلى يزيد يخبره بما كان من أمر ابن الزبير ؛ ومن أمر الحسين ، وأنّه لا يرى عليه طاعة ولا بيعة.

فلما ورد الكتاب على يزيد غضب غضبا شديدا ، وكان إذا غضب احولّت عيناه ، فكتب إلى الوليد :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

من يزيد أمير المؤمنين إلى الوليد بن عتبة

أما بعد ، فإذا ورد عليك كتابي هذا ، فخذ البيعة ثانية على ـ أهل المدينة ـ توكيدا منك عليهم ، وذر عبد الله بن الزبير فإنه لن يفوتنا ، ولن ينجو منا أبدا ما دمنا أحياء ، وليكن مع جواب كتابي هذا رأس الحسين ، فإن فعلت ذلك ، جعلت لك أعنة الخيل ، ولك عندي الجائزة العظمى ؛ والحظ الأوفر ، والسّلام.

فلما ورد الكتاب على الوليد أعظم ذلك ، وقال : والله ، لا يراني الله ، وأنا قاتل الحسين بن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولو جعل لي يزيد الدنيا وما فيها.

قال : وخرج الحسين من منزله ذات ليلة وأتى قبر جدّه صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : «السلام عليك يا رسول الله! أنا الحسين بن فاطمة ، فرخك وابن فرختك ،

٢٦٩

وسبطك والثقل الذي خلفته في امتك ، فاشهد عليهم ، يا نبيّ الله! أنهم قد خذلوني ، وضيّعوني ، ولم يحفظوني ، وهذه شكواي إليك حتّى ألقاك ـ صلّى الله عليك». ثم صفّ قدميه ، فلم يزل راكعا ساجدا.

قال : وأرسل الوليد بن عتبة إلى منزل الحسين لينظر : أخرج من المدينة أم لا؟ فلم يصب في منزله ، فقال : الحمد لله إذ خرج ولم يبتلني الله في دمه ، قال : ورجع الحسين إلى منزله عند الصبح.

وذكر الثقة ، عن أبي سعيد المقبري ، أنه قال : رأيت الحسين يدخل مسجد المدينة معتمدا على رجلين يمينا وشمالا ، حين ورد خبر وفاة معاوية فسمعته ينشد :

لا ذعرت السوام في فلق الصبح

مغيرا ولا دعيت يزيدا

يوم اعطي مخافة الموت كفّا

والمنايا يرصدنني أن أحيدا

قال أبو سعيد : فعلمت حين سمعت ذلك منه أنّه سيمتنع.

رجعنا إلى حديث ابن أعثم الكوفي ، قال : فلما كانت الليلة الثالثة خرج إلى القبر أيضا ، فصلّى ركعات ، فلما فرغ من صلاته جعل يقول : «اللهمّ! إنّ هذا قبر نبيك محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنا ابن بنت نبيك ، وقد حضرني من الأمر ما قد علمت ، اللهمّ! إني احب المعروف وأنكر المنكر ، وإني أسألك يا ذا الجلال والإكرام! بحق هذا القبر ومن فيه إلّا اخترت لي من أمري ما هو لك رضى ، ولرسولك رضى ، وللمؤمنين رضى».

ثم جعل يبكي عند القبر حتى إذا كان قريبا من الصبح ، وضع رأسه على القبر فأغفى ، فإذا هو برسول الله قد أقبل في كتيبة من الملائكة عن يمينه وشماله ، وبين يديه ومن خلفه ، فجاء حتى ضم الحسين إلى صدره ، وقبّل بين عينيه ، وقال : «حبيبي يا حسين! كأني أراك عن قريب مرملا بدمائك ،

٢٧٠

مذبوحا بأرض كربلاء ، بين عصابة من امتي ، وأنت في ذلك عطشان لا تسقى ، وظمآن لا تروى ، وهم في ذلك يرجون شفاعتي ، ما لهم لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة؟ وما لهم عند الله من خلاق ، حبيبي يا حسين! إن أباك وامك وأخاك قدموا عليّ وهم إليك مشتاقون ، وان لك في الجنّة لدرجات لن تنالها إلّا بالشهادة».

قال : فجعل الحسين في منامه ينظر إلى جده محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ويسمع كلامه ، ويقول له : «يا جداه! لا حاجة لي في الرجوع إلى الدنيا ، فخذني إليك وأدخلني معك إلى قبرك» ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «يا حسين! لا بدّ لك من الرجوع الى الدّنيا حتى ترزق الشهادة ، وما قد كتب الله لك من الثواب العظيم ، فإنك ؛ وأباك ؛ وامّك ؛ وأخاك ؛ وعمك ؛ وعمّ أبيك ، تحشرون يوم القيامة في زمرة واحدة حتى تدخلوا الجنّة».

قال : فانتبه الحسين من نومه فزعا مرعوبا ، فقص رؤياه على أهل بيته ؛ وبني عبد المطلب ، فلم يكن في ذلك اليوم في شرق ولا غرب قوم أشد غماء من أهل بيت رسول الله ولا أكثر باكيا ولا باكية. قال : وتهيأ الحسين عليه‌السلام ، وعزم على الخروج من المدينة ، ومضى في جوف اللّيل الى قبر أمه ، فصلّى عند قبرها وودعها ، ثم قام من قبرها ، وصار إلى قبر أخيه الحسن عليه‌السلام ففعل كذلك ، ثم رجع إلى منزله في وقت الصبح ، فأقبل إليه أخوه ـ محمد بن الحنفية ـ ، فقال له : يا أخي! فديتك نفسي أنت أحبّ الناس إلي وأعزهم عليّ ، ولست والله أدخر النصيحة لأحد من الخلق ، وليس أحد أحق بها منك لأنك مزاج مائي ونفسي وروحي وبصري ، وكبير أهل بيتي ، ومن وجب طاعته في عنقي ، لأنّ الله تبارك وتعالى قد شرفك وجعلك من سادات أهل الجنّة ، إني اريد أن اشير عليك فاقبل مني.

٢٧١

فقال له الحسين : «قل ، يا أخي! ما بدا لك»؟ فقال : اشير عليك أن تتنحى بنفسك عن يزيد بن معاوية ، وعن الأمصار ما استطعت ، وأن تبعث رسلك إلى الناس فتدعوهم إلى بيعتك ، فإن بايعك الناس حمدت الله على ذلك ، وقمت فيهم بما كان يقومه رسول الله ، والخلفاء الراشدون المهديون من بعده ، حتى يتوفاك الله وهو عنك راض ، والمؤمنون عنك راضون ، كما رضوا عن أبيك وأخيك ، وإن اجتمع الناس على غيرك حمدت الله على ذلك وسكت ولزمت منزلك ، فإني خائف عليك أن تدخل مصرا من الأمصار ، أو تأتي جماعة من النّاس فيقتتلون ، فتكون طائفة منهم معك ، وطائفة عليك فتقتل بينهم.

فقال له الحسين : «يا أخي! فإلى أين أذهب»؟ قال : تخرج إلى مكة فإن اطمأنت بك الدار بها ، فذاك الذي تحب ، وإن تكن الاخرى خرجت إلى ـ بلاد اليمن ـ فإنهم أنصار جدك وأبيك وأخيك ، وهم أرأف وأرق قلوبا ، وأوسع الناس بلادا ، وأرجحهم عقولا ، فإن اطمأنت بك ـ أرض اليمن ـ فذاك ، وإلّا لحقت بالرمال ، وشعوب الجبال ، وصرت من بلد إلى بلد ، حتى تنظر ما يؤول إليه أمر الناس ، ويحكم الله بيننا وبين القوم الفاسقين.

فقال له الحسين : «يا أخي! والله ، لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى ، لما بايعت يزيد بن معاوية ، قد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : اللهمّ! لا تبارك في يزيد ، فقطع محمد الكلام وبكى ، فبكى معه الحسين ساعة ، ثم قال : «يا أخي! جزاك الله عني خيرا ، فلقد نصحت ، وأشرت بالصواب ، وأرجو أن يكون رأيك موفقا مسددا ، وأنا عازم على الخروج إلى مكة ، وقد تهيأت لذلك : أنا وإخوتي وبنو أخي وشيعتي ، ممن أمرهم أمري ورأيهم رأيي ، وأما أنت ، يا أخي! فلا عليك أن تقيم في ـ المدينة ـ فتكون لي عينا عليهم ،

٢٧٢

ولا تخف عليّ شيئا من امورهم». ثم دعا الحسين عليه‌السلام بدواة وبياض ، وكتب فيها هذه الوصية لأخيه محمد.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

«هذا ما أوصى به ـ الحسين بن عليّ بن أبي طالب ـ إلى أخيه ـ محمد ابن علي ـ المعروف «بابن الحنفية» ، إن الحسين بن علي يشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأنّ محمدا عبده ورسوله ، جاء بالحق من عند الحق ، وأن الجنّة والنار حقّ ، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها ، وأنّ الله يبعث من في القبور.

إني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما ، وإنما خرجت أطلب الإصلاح في أمّة جدي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله اريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ، وأسير بسيرة جدي محمد ، وسيرة أبي علي بن أبي طالب ، وسيرة الخلفاء الراشدين.

فمن قبلني بقبول الحق ، فالله أولى بالحقّ ، ومن ردّ عليّ هذا ، صبرت حتّى يقضي الله بيني وبين القوم بالحقّ ، ويحكم بيني وبينهم ، وهو خير الحاكمين. هذه وصيتي إليك ، يا أخي! وما توفيقي إلّا بالله عليه توكلت وإليه انيب ، والسلام عليك ، وعلى من اتّبع الهدى ، ولا قوّة إلّا بالله العلي العظيم».

ثمّ طوى الحسين كتابه هذا ، وختمه بخاتمه ، ودفعه إلى أخيه محمّد ، ثمّ ودّعه وخرج في جوف اللّيل يريد «مكّة» في جميع أهل بيته ، وذلك لثلاث ليال مضين من شهر شعبان سنة ستين ، فلزم الطريق الأعظم فجعل يسير وهو يتلو هذه الآية : (فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) القصص / ٢١.

٢٧٣

فقال له ابن عمه ـ مسلم بن عقيل بن أبي طالب ـ : يا بن رسول الله! لو عدلنا عن الطريق ، وسلكنا غير الجادة ، كما فعل ـ عبد الله بن الزبير ـ كان عندي خير رأي ، فإني أخاف أن يلحقنا الطلب.

فقال له الحسين : «لا ، والله يا ابن عم! لا فارقت هذا الطريق أبدا ، أو أنظر إلى أبيات مكة ويقضي الله في ذلك ما يحب ويرضى».

فبينا ـ الحسين ـ كذلك بين ـ مكة والمدينة ـ إذ استقبله ـ عبد الله بن مطيع العدوي ـ ، فقال له : اين تريد؟ يا أبا عبد الله! جعلني الله فداك ، فقال : «أما في وقتي هذا ، فإني اريد مكة فإذا صرت إليها استخرت الله في أمري بعد ذلك» فقال له عبد الله بن مطيع : خار الله لك ، يا ابن رسول الله! فيما قد عزمت عليه ، غير أني اشير عليك بمشورة فاقبلها مني ، فقال له الحسين : «وما هي؟ يا ابن مطيع! فقال : إذا أتيت مكة فاحذر أن يغرك ـ أهل الكوفة ـ فإنّ فيها قتل أبوك ؛ وطعن أخوك بطعنة كادت أن تأتي على نفسه فيها ، فالزم الحرم فأنت سيد العرب في دهرك هذا ، فو الله ، لئن هلكت ليهلكن أهل بيتك بهلاكك!.

فودعه الحسين ودعا له بالخير ، وسار حتى وافى مكة فلما نظر إلى جبالها من بعيد ، جعل يتلو هذه الآية : (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ) القصص / ٢٢ ، انتهى.

٢٧٤

الفصل العاشر

في ما جرى من أحوال الحسين عليه‌السلام مدة

مقامه بمكة وما ورده من كتب أهل الكوفة

وارسال مسلم بن عقيل الى الكوفة ومقتله بها قدس‌سره

٢٧٥
٢٧٦

١ ـ قال الإمام أحمد بن أعثم الكوفي : ولما دخل الحسين مكة ، فرح به أهلها فرحا شديدا ، وجعلوا يختلفون إليه غدوة وعشية ، وكان قد نزل بأعلى مكة وضرب هناك فسطاطا ضخما ، ونزل ـ عبد الله بن الزبير ـ داره «بقيقعان».

ثم تحوّل الحسين إلى ـ دار العباس ـ حوله إليها ـ عبد الله بن عباس ـ ، وكان أمير مكّة من قبل ـ يزيد ـ يومئذ ـ عمر بن سعد بن أبي وقاص ـ ، فأقام الحسين مؤذنا يؤذن رافعا صوته فيصلي بالناس ، وهاب ابن سعد أن يميل الحجاج مع الحسين لما يرى من كثرة اختلاف الناس إليه من الآفاق ، فانحدر إلى المدينة ، وكتب بذلك إلى ـ يزيد ـ ، وكان ـ الحسين ـ أثقل خلق الله على عبد الله بن الزبير لأنه كان يطمع أن يتابعه أهل مكة ، فلما قدم الحسين اختلفوا إليه وصلوا معه ، ومع ذلك فقد كان عبد الله يختلف إليه بكرة وعشية ويصلّي معه.

قال : وبلغ أهل الكوفة : إن الحسين صار إلى مكة ، وأقام الحسين بمكة

٢٧٧

باقي شهر شعبان ؛ وشهر رمضان ؛ وشوال ؛ وذي القعدة ، وبمكة يومئذ ـ عبد الله بن عبّاس ؛ وعبد الله بن عمر بن الخطاب ، فأقبلا جميعا وقد عزما أن ينصرفا إلى المدينة ، حتى دخلا على الحسين ، فقال عبد الله بن عمر : يا أبا عبد الله! اتّق الله ، رحمك الله الذي إليه معادك ، فقد عرفت عداوة هذا البيت لكم ؛ وظلمهم إياكم ؛ وقد ولي النّاس هذا الرجل يزيد بن معاوية ، ولست آمن أن يميل الناس إليه لمكان هذه الصفراء والبيضاء فيقتلوك ، ويهلك فيك بشر كثير ، فإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «حسين مقتول ، فلئن خذلوه ولم ينصروه ليخذلنهم الله إلى يوم القيامة» ، وأنا اشير عليك أن تدخل في صلح ما دخل فيه النّاس ، وتصبر كما صبرت لمعاوية من قبل ، فلعلّ الله أن يحكم بينك وبين القوم الظالمين.

فقال له الحسين : «يا أبا عبد الرّحمن! أنا ابايع يزيد ، وأدخل في صلحه ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيه وفي أبيه ما قاله».

فقال ابن عبّاس : صدقت ، يا أبا عبد الله! قد قال النبي : «مالي وليزيد ، لا بارك الله في يزيد ، فإنه يقتل ولدي ، وولد ابنتي الحسين بن علي ، فو الذي نفسي بيده ، لا يقتل ولدي بين ظهراني قوم فلا يمنعونه ، إلّا خالف الله بين قلوبهم وألسنتهم» ، ثمّ بكى ابن عباس وبكى معه الحسين.

ثمّ قال له : «يا بن عباس! أتعلم أني ابن بنت رسول الله»؟ فقال : اللهمّ! نعم ، لا نعرف في الدنيا أحدا هو ابن بنت رسول الله غيرك ، وإن نصرك لفرض على هذه الأمّة كفريضة الصيام والزكاة ؛ التي لا تقبل إحداهما دون الأخرى.

فقال الحسين : «يا بن عبّاس! فما تقول في قوم أخرجوا ابن بنت رسول الله من وطنه وداره ؛ وموضع قراره ومولده ؛ وحرم رسوله ؛

٢٧٨

ومجاورة قبره ؛ ومسجده ؛ وموضع مهاجرته وتركوه خائفا مرعوبا : لا يستقر في قرار ، ولا يأوي إلى وطن ، يريدون بذلك قتله ، وسفك دمه ، وهو لم يشرك بالله شيئا ، ولا اتخذ دون الله وليا ، ولم يتغير عما كان عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وخلفاؤه من بعده».

فقال ابن عباس : ما أقول فيهم ، إلّا أنهم كفروا بالله ورسوله (وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى) التوبة / ٥٤ ، (يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ) النساء / ١٤٢ و ١٤٣ ، فعلى مثل هؤلاء تنزل البطشة الكبرى ، وأما أنت أبا عبد الله! فإنّك رأس الفخار ، ابن رسول الله ، وابن وصيه ، وفرخ الزهراء نظيرة البتول ، فلا تظن يا ابن رسول الله بأنّ الله غافل عما يعمل الظالمون ، وأنا أشهد أنّ من رغب عن مجاورتك ومجاورة بنيك (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) البقرة / ٢٠٠.

فقال الحسين : اللهمّ! اشهد ، فقال ابن عباس : جعلت فداك ، يا ابن رسول الله! كأنك تنعى إليّ نفسك ، وتريد مني أن أنصرك ، فو الله ، الذي لا إله إلّا هو لو ضربت بين يديك بسيفي حتى ينقطع وتنخلع يداي جميعا لما كنت أبلغ من حقك عشر العشير ، وها أنا بين يديك فمرني بأمرك.

فقال ابن عمر : اللهمّ! عفوا ، ذرنا من هذا يا ابن عباس! ثم اقبل ابن عمر على الحسين ، وقال له : مهلا ، أبا عبد الله عما أزمعت عليه ، وارجع معنا إلى المدينة ، وادخل في صلح القوم ، ولا تغب عن وطنك ، وحرم جدّك ، ولا تجعل لهؤلاء القوم الذين لا خلاق لهم على نفسك حجّة وسبيلا ، وإن أحببت أن لا تبايع فإنك متروك حتّى ترى رأيك ، فإنّ يزيد بن معاوية عسى أن لا يعيش إلّا قليلا ، فيكفيك الله أمره.

فقال الحسين : «اف لهذا الكلام أبدا! ما دامت السماوات والأرض ،

٢٧٩

أسألك بالله يا أبا عبد الرّحمن! أعندك أني على خطأ من أمري هذا ، فإن كنت على خطأ فردني عنه ، فإني أرجع وأسمع وأطيع».

فقال ابن عمر : اللهمّ! لا ، ولم يكن الله تبارك وتعالى ليجعل ابن بنت رسوله على خطأ ، وليس مثلك في طهارته وموضعه من الرسول ، أن يسلم على يزيد بن معاوية باسم الخلافة ، ولكن أخشى أن يضرب وجهك هذا الحسن الجميل بالسيوف ، وترى من هذه الامة ما لا تحب ، فارجع معنا إلى المدينة ، وإن شئت أن لا تبايع فلا تبايع أبدا ، واقعد في منزلك.

فقال له الحسين : «هيهات ، يا بن عمر! إنّ القوم لا يتركوني ، إن أصابوني وإن لم يصيبوني ، فإنهم يطلبوني ابدا حتى ابايع وأنا كاره ، أو يقتلوني ، ألا تعلم ، أبا عبد الرحمن! أنّ من هوان هذه الدنيا على الله أن يؤتى برأس ـ يحيى بن زكريا ـ إلى بغي من بغايا بني إسرائيل ، والرأس ينطق بالحجة عليهم ، فلم يضر ذلك يحيى بن زكريا بل ساد الشهداء ، فهو سيدهم يوم القيامة؟ ألا تعلم ، أبا عبد الرحمن أن ـ بني إسرائيل ـ كانوا يقتلون ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ـ سبعين نبيا ـ ثمّ يجلسون في أسواقهم يبيعون ويشترون ، كأنهم لم يصنعوا شيئا ، فلم يعجل الله عليهم ، ثم أخذهم بعد ذلك أخذ عزيز مقتدر ذي انتقام؟ فاتّق الله ، يا أبا عبد الرحمن! ولا تدعن نصرتي ، واذكرني في صلاتك ، فو الذي بعث جدي محمدا بشيرا ونذيرا ، لو أن أباك ـ عمر بن الخطاب ـ أدرك زماني ، لنصرني كما نصر جدي ، ولقام من دوني كقيامه من دون جدي ، يا بن عمر! فإن كان الخروج معي يصعب عليك ويثقل ، فأنت في أوسع العذر ، ولكن لا تتركن لي الدعاء في دبر كلّ صلاة واجلس عن القوم ولا تعجل بالبيعة لهم ، حتّى تعلم ما تؤول إليه الامور». ثم أقبل على عبد الله بن عبّاس ، وقال له :

٢٨٠