السيد جعفر مرتضى العاملي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-204-8
ISBN الدورة:
الصفحات: ٣٦٨
ومن الذي قال : إنه «صلىاللهعليهوآله» يريد أن يأتي بتشريع جديد يضيفه إلى الدين ، فلعله أراد إلزامهم بالعمل ببعض ما بلغهم إياه ، وهو الوفاء ببيعتهم يوم الغدير ، وتوثيق ذلك بالكتاب حتى لا يدّعي مدع : أن ولاية علي لم تكن بوحي من الله ، بل هي اجتهاد من الرسول ، وقد غيّر النبي «صلىاللهعليهوآله» رأيه واجتهاده؟!
ب : آية بلغ .. وآية إكمال الدين :
ومما يضحك الثكلى أيضا الإستدلال بآية : (بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) وآية إكمال الدين ، على صحة فعل عمر .. فقد تقدم حين البحث في قضية الغدير ، أنهم يقولون : إن هناك أحكاما قد بلغها النبي «صلىاللهعليهوآله» بعد نزول هذه الآية ، مثل آية الكلالة ، وآيات الربا ، وأمره بإخراج المشركين من جزيرة العرب .. بالإضافة إلى أمور أخرى ذكروها ..
ج : لو كان وحيا لأصر على تبليغه :
وبالنسبة لقولهم : لو كان الكتاب وحيا من الله لكتبه النبي «صلىاللهعليهوآله» ، ولم يحفل بلغطهم .. نقول :
إن عدم كتابته للكتاب بعد اتهامه بالجنون والهذيان لا يدل على أن الله لم يأمره بكتابته ..
أولا : لأن الله تعالى يقول : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) ، وهو أمر مطلق ، ولم يقل : أطيعوه في بعض أوامره ، واعصوه في بعضها الآخر ..
ثانيا : إن كل ما يأمرهم به رسول الله «صلىاللهعليهوآله» هو بيوحى
من الله ، لقوله تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (١).
ثالثا : إنه قد يكون الأمر بالكتابة مشروطا بعدم صدور اتهام من أحد للنبي «صلىاللهعليهوآله» بالهذيان ، أو ما بمعناه ، لأن ذلك يبطل مفعول الكتاب ، ويقلب الأمور رأسا على عقب .. إذ لو كتب الكتاب مع وجود هذه التهمة ، لأوجبت كتابته الخلاف والفتنة ، بدل أن يكون سببا للمصونية من الضلال ..
وقد ظهرت هذه الأحوال في نفس ذلك المجلس ، حيث اختلف الحاضرون وتنازعوا ، فمنهم يقول : قدموا لرسول الله «صلىاللهعليهوآله» ما طلب ليكتب لكم .. ومنهم من يقول : القول ما قال عمر ..
فهل إذا ارتحل النبي «صلىاللهعليهوآله» إلى الرفيق الأعلى ، سوف يتفق المسلمون ، أم سوف يبقى هناك من يقول : القول ما قال عمر؟!
بل من الذي يضمن لنا تسليم عمر نفسه بمضمون ذلك الكتاب؟!
وإذا كانوا يعصون رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، ويخالفون أمر الله له بأن لا يرفعوا أصواتهم فوق صوته «صلىاللهعليهوآله» ، وبأن لا يتنازعوا عنده ، بل يردون الأمر الذي يتنازعون فيه إليه «صلىاللهعليهوآله» لكي يبينه لهم إذا كانوا يفعلون ذلك كله تحت سمع رسول الله «صلىاللهعليهوآله» وبصره ، فهل سيكون موته سببا لاتفاقهم ، وحل نزاعاتهم؟! في حين أن الله تعالى يقول : (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) (٢).
__________________
(١) الآيتان ٣ و ٤ من سورة النجم.
(٢) الآية ١٤٤ من سورة آل عمران.
إن وجود النبي «صلىاللهعليهوآله» بينهم كان رحمة لهم ، فهل أصبح وجوده نقمة ، وموته رحمة لهم ، ومن موجبات دفع تنازعهم وانتظام أمورهم؟! إن من يذهب إلى هذه المقالة ، لا يمكن أن يكون من أهل الإيمان ، ولا من الموصوفين بالإسلام ..
رابعا : لنفترض جدلا : أن كتابة الكتاب كانت اجتهادا من رسول الله «صلىاللهعليهوآله» .. فلماذا يصر هؤلاء على تخطئة النبي «صلىاللهعليهوآله» في اجتهاده ، وتصويب اجتهاد عمر بن الخطاب؟! مع أنهم يصرحون في سائر الموارد : بأن اجتهاد النبي «صلىاللهعليهوآله» صواب ، وكل اجتهاد يخالفه فهو خطأ ..
ولو كان الأمر كما يحلو لهم ، فلماذا لم يرسل الله عمر نبيا لهذه الأمة؟!
وهل يمكن أن يكون الله قد آثر الأخذ بمقالة المعتزلة ، فقدم المفضول وهو رسول الله «صلىاللهعليهوآله» على عمر الذي كان هو الأفضل؟!
ألا يعد ذلك من سفه القول ، ومن سوء التفكير ، ومن الوسوسات الشيطانية الخبيثة؟!
د : أراد أن يكتب خلافة أبي بكر :
ولا يكاد ينقضي تعجب من يملك أدنى ذرة من العقل والإنصاف ، من القول المنسوب إلى أهل العلم (!!) عند هؤلاء : أنه «صلىاللهعليهوآله» أراد أن يكتب استخلاف أبي بكر. اعتمادا على ما علم من تقدير الله الخ ..
فقد تقدم : أنه كلام باطل من أساسه .. إذ لم يكن ما فعله «صلىاللهعليهوآله» في يوم الغدير ـ والعياذ بالله ـ سفها ، ولا كانت أقواله التي تؤكد على
إمامة علي «عليهالسلام» بلا معنى ، ولم يكن قول عمر : إن النبي ليهجر صحيحا ، ولا كان «صلىاللهعليهوآله» يهذي منذ بعثه الله رسولا ، ومن يوم إنذاره لعشيرته الأقربين ، حيث جعل عليا «عليهالسلام» أخاه ، ووصيه ، وخليفته من بعده منذئذ ..
كما أن الله سبحانه لم يكن قد غلبه الوجع حين أنزل : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) (١).
ولا كان كذلك حين أنزل آية : (بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) (٢). وآية : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (٣).
وأي نبي هذا الذي يتردد في أعماله؟! ويتراجع عن أقواله .. فيريد أن يكتب كتابا يوقع به التنازع بين أصحابه ، ثم يظهر له أن الأصوب هو أن يترك ذلك ، لأن الله والمؤمنين يأبون إلا أبا بكر؟! ألم يكن يعرف ذلك من أول الأمر؟!
إن نسبة ذلك إلى الله وإلى رسوله خروج عن الدين ، بلا ريب .. ولا نريد أن نقول أكثر من ذلك.
ه : لا سنة عند عمر :
وأما ما زعمه البيهقي : من أن الله تعالى قد أكمل دينه ، وأنه لا تحدث واقعة إلى يوم القيامة ، إلا وفي كتاب الله تعالى وسنة رسوله بيانها نصا أو
__________________
(١) الآية ٥٥ من سورة المائدة.
(٢) الآية ٦٧ سورة المائدة.
(٣) الآية ٣ من سورة المائدة.
دلالة .. فيكذبه قول عمر نفسه : «حسبنا كتاب الله» ، حيث إنه استبعد بنفس هذه الكلمة سنة رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، وأسقطها عن أي اعتبار.
و: لا يريد صلىاللهعليهوآله كتابة الفقه :
إن قول عمر : «حسبنا كتاب الله» يدل على أنه قد عرف : أن ما يريد أن يقوله النبي «صلىاللهعليهوآله» يهدف إلى الحفظ من الضلال في تعاليم شريعة أكملها الله تعالى .. ولا يريد أن يضيف حكما جديدا إليها لكي يقال : إن الأحكام موجودة في الكتاب والسنة ، أو في الكتاب فقط ويمكن استفادتها نصا أو دلالة .. فإن الحافظ للشيء لا يجب أن يكون جزءا منه ، بل قد يكون خارجا عنه حافظا له ..
ولم يكن النبي «صلىاللهعليهوآله» بصدد كتابة السنة نفسها ولا شيئا يوجب الإرهاق والمشقة على النبي «صلىاللهعليهوآله» ، لكي يقول هؤلاء : «وفي نص رسول الله «صلىاللهعليهوآله» على جميع ذلك في مرض موته ، مع شدة وعكه ، مما يشق عليه ، فرأى عمر بن الخطاب الإقتصار على ما سبق بيانه ، نصا ، أو دلالة تخفيفا على رسول الله».
فإن قولهم هذا يدل على أنهم يريدون الإيحاء لنا : بأن النبي «صلىاللهعليهوآله» أراد أن يكتب الفقه كله أو جله في ذلك الكتاب. وهو على تلك الحال من المرض الشديد ..
مع أن الأمر ليس كذلك ، بل هو يريد أن ينص على الحافظ للكتاب والسنة ، والمانع من الضلال ، ولعل ذلك لا يتجاوز الثلاث كلمات ، فيكتب مثلا : «علي إمامكم (أو وليكم) بعدي» ..
وبذلك يظهر عدم صحة قولهم : إن عمر أراد حفظ فضيلة العلم ، والإجتهاد في الإستنباط ، وإلحاق الفروع بالأصول.
يضاف إلى ذلك : أن اجتهاد المجتهدين ، الذين قد يخطئون ، وقد يصيبون ، ليس من غايات الشريعة المقدسة ، ولا هو مما يهتم له النبي الأكرم «صلىاللهعليهوآله» ، غاية النبي «صلىاللهعليهوآله» وكل همه هو إيصال الأحكام الشرعية ، وحقائق الدين بعيدا عن الإجمال والإبهام. وأن تكون في منتهى الوضوح ، بلا حاجة إلى اجتهاد ، ولا إلى مجتهدين.
وإنما احتاج الناس إلى هذا الأمر ، حين تمردوا على الله ورسوله ، ومنعوا الإمام الحافظ للدين ، والمبين لأحكامه من أداء المهمات التي أو كلها الله إليه ، بعد أن نكثوا بيعتهم له ، ومنعوا النبي «صلىاللهعليهوآله» من معاودة التأكيد عليهم في شأنه .. ثم إنهم أقصوه ، ونابذوه وحاربوه ، واضطهدوه ، هو وكل من يتشيع له ، أو يدين بإمامته التي جعلها الله ورسوله له ..
ز : قرينة الترخيص عند المازري :
أما ما ادّعاه المازري : من أن أمر النبي «صلىاللهعليهوآله» للصحابة بإحضار الكتف قد قارنه ما نقله عن الوجوب إلى غيره.
فنقول فيه :
أولا : لنفترض صحة ما ذكره المازري ، لكن القرينة على عدم الوجوب ، لا تنفي ثبوت رجحان تنفيذ مراد رسول الله «صلىاللهعليهوآله».
ثانيا : إن القرينة على عدم الوجوب لا تعني أن يغضبوا رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، ولا أن يتهموه بالهذيان ، ولو على مستوى التعريض والإشارة.
ثالثا : لو كانت هناك قرينة على الترخيص ، لكان المفروض أن لا يحصل تنازع بين الحاضرين ، فيقول فريق : قربوا للنبي ما طلب ، ويقول فريق آخر : القول ما قال عمر ، ولكان ينبغي أن يفهم الجميع هذه القرينة ، أو أن يحتج بها عمر ومناصروه لإسكات الآخرين ..
رابعا : لو كانت هناك قرينة ، فلا معنى لغضب النبي «صلىاللهعليهوآله» منهم ، حتى قال لهم : «أنتم لا أحلام لكم». ولا معنى لأن يقول لهم : «قوموا عني» ، ولا أن يغضب منهم كما صرح به عدد من النصوص ..
خامسا : إنه لا مجال للترديد في عزم النبي «صلىاللهعليهوآله» بأنه إما أن يكون بالوحي أو بالإجتهاد ، وكذلك تركه .. فإن النبي «صلىاللهعليهوآله» (ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (١) ..
ولو سلم فإن الله قد أمر بطاعته (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) (٢) ولم يستثن من وجوب الطاعة ما إذا كان أمره عن اجتهاد.
ح : قد يكتب صلىاللهعليهوآله ما يعجزون عنه :
وأما ما ادّعاء النووي : من أن النبي «صلىاللهعليهوآله» قد يكتب ما يعجزون عنه ، فيستحقون العقوبة فمنع عمر له من ذلك كان من قوة فقهه ، ودقيق نظره .. فهو أوضح فسادا ، وأقبح استنادا ، وذلك لما يلي :
أولا : إن هذا الكلام يدل على أن عمر بن الخطاب كان أصوب رأيا ، وأصح نظرا للأمور من رسول الله «صلىاللهعليهوآله» .. وأن عمر قد
__________________
(١) الآيتان ٣ و ٤ من سورة النجم.
(٢) الآية ٥٩ من سورة النساء.
أدرك بثاقب فكره ، ودقيق نظره ما لم يدركه رسول الله «صلىاللهعليهوآله» .. فكيف جاز صرف النبوة عن صائب الرأي ، قوي الفقه ، دقيق النظر ، إلى من يفقد هذه الصفات ، أو يضعف عنه فيها؟!
ثانيا : هل يظن برسول الله الذي وصفه الله بأنه (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (١) بأنه يمكن أن يكتب أمورا يعجز المسلمون والمؤمنون عنها؟!
بل هل يظن بعاقل أن يكلف أحدا بما يعجز عنه؟!
وهل تقبل العقول بالتكليف بغير المقدور؟!
ثالثا : لو سلمنا بأنه «صلىاللهعليهوآله» قد كلفهم بما يعجزون عنه ، فهل يجوز على الله أن يعاقبهم على أمر منعهم العجز عن القيام به؟! وهل العاجز يستحق العقاب؟!
ط : النبي صلىاللهعليهوآله يصوب عمر فيما قال :
والأكثر مرارة هنا قولهم : إن ترك النبي «صلىاللهعليهوآله» الإنكار على عمر يتضمن الإشارة إلى تصويبه .. فهل يريد هؤلاء من النبي «صلىاللهعليهوآله» أن يقابل الشتيمة بالشتيمة؟!
وماذا يمكن أن يقول النبي «صلىاللهعليهوآله» لمن يقول له : إنك مجنون؟!
وقد قالت قريش عنه : إنه كاهن ، وساحر ، ومجنون ، و.. و.. ولم يجبهم
__________________
(١) الآية ١٢٨ من سورة التوبة.
«صلىاللهعليهوآله» ، فهل كان سكوته عنهم تصويبا لهم؟! أو إشارة إلى ذلك؟!
ألم يقل النبي «صلىاللهعليهوآله» لهم : أنتم لا أحلام لكم؟!
ألم يطردهم من محضره؟!
ألم يغضب من قولهم؟!
أليس هذا كله من تخطئة النبي «صلىاللهعليهوآله» لهم؟!
محاولات البشري باءت بالفشل :
وبعد أن كتبت ما تقدم وجدت العلامة آية الله السيد عبد الحسين شرف الدين «رحمهالله» قد أورد نصا عن الشيخ سليم البشري ، شيخ الأزهر في زمانه ، يحاول فيه أن يجد مخرجا لما صدر من عمر بن الخطاب في حق رسول الله «صلىاللهعليهوآله» .. مستفيدا من تلك التمحلات نفسها ، التي ذكرناها عنهم ، وناقشناها فيما سبق ، فلما وجد نفسه في مأزق لا يستطيع الخروج منه بادر إلى الإعتراف بالعجز تبرئة ساحة المتجرئين.
ثم إن السيد شرف الدين قد علق على هذه التمحلات بما لاح له من وجوه الضعف فيها.
فرأيت من المناسب نقل كلام هذين العلمين بعينه ، وفقا لما جاء في كتاب النص والإجتهاد ، فأقول :
قال الشيخ البشري حسبما أورده عنه السيد شرف الدين في النص والإجتهاد ما يلي :
لعل النبي «عليهالسلام» حين أمرهم بإحضار الدواة والبياض لم يكن
قاصدا لكتابة شيء من الأشياء ، وإنما أراد بكلامه مجرد اختبارهم لا غير ، فهدى الله عمر الفاروق لذلك دون غيره من الصحابة ، فمنعهم من إحضارهما ، فيجب ـ على هذا ـ عد تلك الممانعة في جملة موافقاته لربه تعالى ، وتكون من كراماته رضياللهعنه.
قال «رحمهالله» : هكذا أجاب بعض الأعلام (ثم قال) : لكن الإنصاف أن قوله «عليهالسلام» : لا تضلوا بعده يأبى ذلك ، لأنه جواب ثان للأمر ، فمعناه : أنكم إن أتيتم بالدواة والبياض ، وكتبت لكم ذلك الكتاب لا تضلوا بعده ، ولا يخفى أن الإخبار بمثل هذا الخبر لمجرد الإختبار إنما هو من نوع الكذب الواضح ، الذي يجب تنزيه كلام الأنبياء عنه ، ولا سيما في موضع يكون ترك إحضار الدواة والبياض أولى من إحضارهما.
(قال) : على أن في هذا الجواب نظرا من جهات أخر ، فلا بد هنا من اعتذار آخر.
قال : وحاصل ما يمكن أن يقال : أن الأمر لم يكن أمر عزيمة وإيجاب ، حتى لا تجوز مراجعته ، ويصير المراجع عاصيا ، بل كان أمر مشورة ، وكانوا يراجعونه «عليهالسلام» في بعض تلك الأوامر ، ولا سيما عمر ، فإنه كان يعلم من نفسه أنه موفق للصواب في إدراك المصالح ، وكان صاحب إلهام من الله تعالى.
وقد أراد التخفيف عن النبي «صلىاللهعليهوآله» إشفاقا عليه من التعب الذي يلحقه بسبب إملاء الكتاب في حال المرض والوجع ، وقد رأى رضياللهعنه أن ترك إحضار الدواة والبياض أولى.
وربما خشي أن يكتب النبي «عليهالسلام» أمورا يعجز عنها الناس ،
فيستحقون العقوبة بسبب ذلك ، لأنها تكون منصوصة لا سبيل إلى الإجتهاد فيها. ولعله خاف من المنافقين أن يقدحوا في صحة ذلك الكتاب. لكونه في حال المرض ، فيصير سببا للفتنة ، فقال : حسبنا كتاب الله لقوله تعالى : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) (١). وقوله : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (٢) ، وكأنه رضياللهعنه أمن من ضلال الأمة ، حيث أكمل الله لها الدين ، وأتم عليها النعمة.
قال «رحمهالله» : هذا جوابهم وهو كما ترى ، لأن قوله «عليهالسلام» : لا تضلوا ، يفيد : أن الأمر أمر عزيمة وإيجاب ، لأن السعي فيما يوجب الأمن من الضلال واجب مع القدرة بلا ارتياب ، واستياؤه «صلىاللهعليهوآله» منهم.
وقوله لهم : قوموا حين لم يمتثلوا أمره ، دليل آخر على أن الأمر إنما كان للإيجاب لا للمشورة.
قال : [فإن قلت :] لو كان واجبا ما تركه النبي «عليهالسلام» بمجرد مخالفتهم ، كما أنه لم يترك التبليغ بسبب مخالفة الكافرين.
فالجواب : أن هذا الكلام لو تم فإنما يفيد كون كتابة ذلك الكتاب لم تكن واجبة على النبي بعد معارضتهم له «عليهالسلام» ، وهذا لا ينافي وجوب الإتيان بالدواة والبياض عليهم حين أمرهم النبي به ، وبين لهم أن فائدته الأمن من الضلال ، إذ الأصل في الأمر إنما هو الوجوب على المأمور
__________________
(١) الآية ٣٨ من سورة الأنعام.
(٢) الآية ٣ من سورة المائدة.
لا على الأمر ، ولا سيما إذا كانت فائدته عائدة إلى المأمور خاصة ، والوجوب عليهم هو محل الكلام ، لا الوجوب عليه.
قال : على أنه يمكن أن يكون واجبا عليه أيضا ، ثم سقط الوجوب عنه بعدم امتثالهم ، وبقولهم : «هجر» ، حيث لم يبق لذلك الكتاب أثر سوى الفتنة كما قلت حرسك الله.
قال «رحمهالله» : وربما اعتذر بعضهم : بأن عمر رضياللهعنه ومن قالوا يومئذ بقوله لم يفهموا من الحديث أن ذلك الكتاب سيكون سببا لحفظ كل فرد من أفراد الأمة من الضلال على سبيل الإستقصاء ، بحيث لا يضل بعده منهم أحد أصلا ، وإنما فهموا من قوله : لا تضلوا ، أنكم لا تجتمعون على الضلال بقضكم وقضيضكم ، ولا تتسرى الضلالة بعد كتابة الكتاب إلى كل فرد من أفرادكم.
وكانوا رضياللهعنهم يعلمون أن اجتماعهم بأسرهم على الضلال مما لا يكون أبدا وبسبب ذلك لم يجدوا أثرا لكتابته ، وظنوا أن مراد النبي ليس إلا زيادة الإحتياط في الأمر لما جبل عليه من وفور الرحمة ، فعارضوه تلك المعارضة ، بناء منهم أن الأمر ليس للإيجاب ، وأنه إنما هو أمر عطف ومرحمة ليس إلا ، فأرادوا التخفيف عن النبي بتركه. إشفاقا منهم عليه «صلىاللهعليهوآله».
قال : هذا كل ما قيل في الإعتذار عن هذه البادرة ، لكن من أمعن النظر فيه جزم ببعده عن الصواب ، لأن قوله «عليهالسلام» : لا تضلوا ، يفيد : أن الأمر للإيجاب كما ذكرنا ، واستياؤه منهم دليل على أنهم تركوا أمرا من الواجبات عليهم ، وأمره إياهم بالقيام مع سعة ذرعه وعظيم تحمله ، دليل
على أنهم إنما تركوا من الواجبات ما هو أوجبها وأشدها نفعا ، كما هو معلوم من خلقه العظيم.
قال : فالأولى أن يقال في الجواب : هذه قضية في واقعة كانت منهم على خلاف سيرتهم كفرطة سبقت ، وفلتة ندرت ، لا نعرف وجه الصحة فيها على سبيل التفصيل ، والله الهادي إلى سواء السبيل.
ثم عقب آية الله السيد شرف الدين «رحمهالله» عليه بما يلي :
«قالوا في الجواب الأول : لعله «صلىاللهعليهوآله» حين أمرهم بإحضار الدواة لم يكن قاصدا لكتابة شيء من الأشياء ، وإنما أراد مجرد اختبارهم لا غير.
فنقول ـ مضافا إلى ما أفدتم ـ : إن هذه الواقعة إنما كانت حال احتضاره ـ بأبي وأمي ـ كما هو صريح الحديث ، فالوقت لم يكن وقت اختبار ، وإنما كان وقت إعذار وإنذار ، ونصح تام للأمة ، والمحتضر بعيد عن الهزل والمفاكهة ، مشغول بنفسه ومهماته ومهمات ذويه ، ولا سيما إذا كان نبيا.
وإذا كانت صحته مدة حياته كلها لم تسع اختبارهم ، فكيف يسعها وقت احتضاره؟
على أن قوله «صلىاللهعليهوآله» ـ حين أكثروا اللغو واللغط والاختلاف عنده ـ : «قوموا» ظاهر في استيائه منهم ، ولو كان الممانعون مصيبين لاستحسن ممانعتهم ، وأظهر الإرتياح إليها.
ومن ألمّ بأطراف هذا الحديث ، ولا سيما قولهم : «هجر رسول الله» يقطع بأنهم كانوا عالمين أنه إنما يريد أمرا يكرهونه ، ولذا فاجؤوه بتلك الكلمة ، وأكثروا عنده اللغو واللغط ، والإختلاف ، كما لا يخفى.
وبكاء ابن عباس بعد ذلك لهذه الحادثة وعدّها رزية ، دليل على بطلان هذا الجواب.
قال المعتذرون : إن عمر كان موفقا للصواب في إدراك المصالح ، وكان صاحب إلهام من الله تعالى. وهذا مما لا يصغى إليه في مقامنا هذا ، لأنه يرمي إلى أن الصواب في هذه الواقعة إنما كان في جانبه ، لا في جانب النبي ، وأن إلهامه يومئذ كان أصدق من الوحي الذي نطق عنه الصادق الأمين «صلىاللهعليهوآله».
وقالوا : بأنه أراد التخفيف عنه «صلىاللهعليهوآله» إشفاقا عليه من التعب الذي يلحقه بسبب إملاء الكتاب في حال المرض ، وأنت تعلم : أن في كتابة ذلك الكتاب راحة قلب النبي ، وبرد فؤاده ، وقرة عينه ، وأمنه على أمته «صلىاللهعليهوآله» من الضلال.
على أن الأمر المطاع ، والإرادة المقدسة مع وجوده الشريف إنما هما له ، وقد أراد ـ بأبي وأمي ـ إحضار الدواة والبياض ، وأمر به ، فليس لأحد أن يرد أمره ، أو يخالف إرادته (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) (١).
على أن مخالفتهم لأمره في تلك المهمة العظيمة ، ولغوهم ولغطهم واختلافهم عنده كان أثقل عليه وأشق من إملاء ذلك الكتاب الذي يحفظ أمته من الضلال ، وإذا كان خائفا من المنافقين أن يقدحوا في صحة ذلك
__________________
(١) الآية ٣ من سورة المائدة.
الكتاب ، فلماذا بذر لهم بذرة القدح ، حيث عارض ومانع وقال : «هجر»؟!
وأما قولهم في تفسير قوله : «حسبنا كتاب الله» : إنه تعالى قال : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) (١) ، وقال عز من قائل : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (٢) فغير صحيح ، لأن الآيتين لا تفيدان الأمن من الضلال ، ولا تضمنان الهداية للناس ، فكيف يجوز ترك السعي في ذلك الكتاب اعتمادا عليهما؟ ولو كان وجود القرآن العزيز موجبا للأمن من الضلال ، لما وقع في هذه الأمة من الضلال والتفرق ما لا يرجى زواله (٣).
وقالوا في الجواب الأخير :
إن عمر لم يفهم من الحديث أن ذلك الكتاب سيكون سببا لحفظ كل
__________________
(١) الآية ٣٨ من سورة الأنعام.
(٢) الآية ٣ من سورة المائدة.
(٣) وأنت تعلم أن النبي «صلىاللهعليهوآله» لم يقل : أن مرادي أن أكتب الأحكام ، حتى يقال في جوابه : حسبنا في فهمها كتاب الله تعالى.
ولو فرض أن مراده كان كتابة الأحكام ، فلعل النص عليها منه كان سببا للأمن من الضلال ، فلا وجه لترك السعي في ذلك النص اكتفاء بالقرآن.
بل لو لم يكن لذلك الكتاب إلا الأمن من الضلال بمجرده ، لما صح تركه والإعراض عنه ، اعتمادا على أن كتاب الله جامع لكل شيء.
وأنت تعلم اضطرار الأمة إلى السنة المقدسة وعدم استغنائها عنها بكتاب الله ، وإن كان جامعا مانعا ، لأن الإستنباط منه غير مقدور لكل أحد ، ولو كان الكتاب مغنيا عن بيان الرسول «صلىاللهعليهوآله» لما أمر الله تعالى ببيانه للناس ، إذ قال عز من قائل : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (منه قدس).
فرد من أمته من الضلال ، وإنما فهم أنه سيكون سببا لعدم اجتماعهم ـ بعد كتابته ـ على الضلال.
(قالوا) : وقد علم رضياللهعنه أن اجتماعهم على الضلال مما لا يكون أبدا ، كتب ذلك الكتاب أو لم يكتب ، ولهذا عارض يومئذ تلك المعارضة.
وفيه مضافا إلى ما أشرتم إليه : أن عمر لم يكن بهذا المقدار من البعد عن الفهم ، وما كان ليخفى عليه من هذا الحديث ما ظهر لجميع الناس ، لأن القروي والبدوي إنما فهما منه أن ذلك الكتاب لو كتب ، لكان علة تامة في حفظ كل فرد من الضلال ، وهذا المعنى هو المتبادر من الحديث إلى أفهام الناس.
وعمر كان يعلم أن الرسول «صلىاللهعليهوآله» لم يكن خائفا على أمته أن تجتمع على الضلال ، إذ كان يسمع قوله «صلىاللهعليهوآله» : لا تجتمع أمتي على الضلال ، ولا تجتمع على الخطأ ، وقوله : لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق.
وقوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) (١) إلى كثير من نصوص الكتاب والسنة الصريحة بأن الأمة لا تجتمع بأسرها على الضلال ، فلا يعقل مع هذا أن يسنح في خاطر عمر أو غيره أن النبي «صلىاللهعليهوآله» حين طلب الدواة والبياض كان خائفا من
__________________
(١) الآية ٥٥ من سورة النور.
اجتماع أمته على الضلال.
والذي يليق بعمر : أن يفهم من الحديث ما يتبادر منه الأذهان ، لا ما تنفيه صحاح السنة ، ومحكمات القرآن.
على أن استياء النبي «صلىاللهعليهوآله» منهم المستفاد من قوله : «قوموا» دليل على أن الذي تركوه كان من الواجب عليهم.
ولو كانت معارضة عمر عن اشتباه منه في فهم الحديث كما زعموا ، لأزال النبي «صلىاللهعليهوآله» شبهته. وأبان لهم مراده منه.
بل لو كان في وسع النبي أن يقنعهم بما أمرهم به لما آثر إخراجهم عنه.
وبكاء ابن عباس وجزعه من أكبر الأدلة على ما نقول.
والإنصاف : أن هذه الرزية لمما يضيق عنها نطاق العذر ، ولو كانت ـ كما ذكرتم ـ قضية في واقعة ، كفلتة سبقت ، وفرطة ندرت ، لهان الأمر ، وإن كانت بمجردها بائقة الدهر ، وفاقرة الظهر.
والحق أن المعارضين إنما كانوا ممن يرون جواز الإجتهاد في مقابل النص ، فهم في هذه المعارضة وأمثالها إذا مجتهدون ، فلهم رأيهم ، ولله تعالى رأيه؟ (١).
__________________
(١) النص والإجتهاد للسيد شرف الدين ص ١٥٦ ـ ١٦٣.
الفصل الخامس :
عزل أبي بكر عن الصلاة